مذكرات الفريق عفيف البزري

 

أنا من الجيل الذي ولد في الحرب العالمية الأولى وشاهد تغيرات الإنسانية الحاسمة في القرن العشرين. عشت في بيت محافظ شديد التمسك بالتقاليد المتفتحة غير الوثنية. من عائلة كالعشيرة في اتساعها إلا أنها كثيرة الارتباطات متعددة القرابات في بلدها. أصولها في صيدا، مسقط رأسي عام 1914، وفروعها في أكثر من قطر عربي مشرقي. وجدّي لأمي الشيخ يوسف الأسير أحد مشاهير رواد النهضة العربية الفكرية والأدبية في القرن التاسع عشر. وأبي وارث لثروة لم يعمل على تنميتها ولا على حفظها، وإنما استهوته مشاكل الدفاع عن المسلمين ونظامهم في زمان كان بنيان الخلافة في تهافته وانحلاله قد وصل إلى نهايته. فكان في تيار المدافعين عن الخلافة العثمانية حتى سقطت فانضم إلى الحركة الفيصلية في لبنان وكافح مع من كافح ضد من عملوا على تأييد مجيء المستعمرين الفرنسيين واحتلالهم لوطننا. وبعد سقوط لبنان في قبضة هؤلاء المستعمرين وإغلاق المعتمدية الفيصلية في بيروت نزح إلى دمشق مع من نزح من العاملين في تلك المعتمدية التي كان الشهيد البطل يوسف العظمة على رأسها قبل أن يصبح وزيراً لدفاع الحكومة الفيصلية السورية. وعمل والدي في القضاء السوري في الحكومة العربية الفيصلية ثم في عهد الانتداب، ومع مرور الزمن تضخمت عائلته وقلّت موارده، إلا أنه ظلّ يكافح بشرف وإباء حتى آخر حياته جاعلاً من الاستقامة والصدق مع فرائض الدين والتلاوة الدائمة للقرآن عالمه المفضّل.

وكان لأمي، ككل الأمهات، أثر حاسم في تكوين نفسيتي وبناء أسس حياتي الروحية، فهي إذ نشأت في بيت علم أسّسه جدها الشيخ يوسف الأسير كانت تتمتع بثقافة إسلامية واسعة فتقرأ القرآن وتحفظ قسماً كبيراً منه وتلمّ بشكل جيد بأشعار العرب وأمثالهم وسيرهم وتتعلق تعلقاً شديداً بالحضارة الإسلامية فكان حديثها لا يخلو أبداً من لمحة من تاريخنا المجيد توردها على مسامعنا بلغتها السهلة المحببة. وإن أنسى لا أنسى مواقف ثلاثة لها:

الأول: عندما لاقتني أول مرة إثر عودتي إلى البيت في حلب من محاولة للالتحاق بثورة رشيد عالي الكيلاني. إنّ اللسان والقلم ليعجزان عن وصف ما استولى عليها في تلك اللحظات من أحاسيس كانت مزيجاً من الشوق الجارف والحب العارم والرضى الممزوج بالفخر بما أقدم عليه ولد من أولادها في باكورة شبابه. كان القلق والتوتر النفسي قد استوليا على الأهل منذ سماعهم من الناس بتركي الجيش الذي كان حينذاك بقيادة فرنسية للالتحاق بثورة قومنا في العراق على الإنجليز في ظروف الحرب العالمية الثانية. وكان يزيد في قلقهم مجيء الدرك الفرنسي لتفتيش البيت والبحث عني عدداً من المرات أثناء غيابي الطويل نسبياً والتجائي عند بعض الأصدقاء في بلد آخر (حماة) بعد محاولتي تلك. وكان ظهوري المفاجئ في البيت بعد تلك الغيبة مثيراً عند الأهل شعورين متناقضين: الارتياح بمشاهدة الابن حياً يرزق والخوف عليه من سلطات الاحتلال التي أصبحت إنجليزية ديغولية في تلك الأثناء بعد احتلال الإنجليز ومعهم الديغوليون للقطر السوري. فكان الهمّ الأول للوالدة بعد هدوء عواطف اللقاء أن تبعدني عن خطر الوقوع في أيدي الإنجليز الذين كنا نسمع ما كانوا يرتكبونه في بغداد من فظائع ضد كل من أيّد ثورة الكيلاني عليهم. فهبت كاللبؤة تفتش لي عن مخرج ينقذني من وضعي الحرج في تلك الظروف الصعبة. فتارة تقدم لي "مصاغ" شقيقتي الكبرى كي أستعين به للسفر إلى تركيا ومنها إلى أوربا، وأخرى تضيف على ذلك "المصاغ" مقترحات ببيع بعض أشياء البيت الثمينة (بالنسبة إلينا فقط) بسبب ما تتطلبه تلك الرحلة من مصاريف يعجز أبي الذي كان يرزح تحت ثقل ظروفه المادية عن مواجهتها. لقد كان كرمها يصل إلى التضحية بكل ما في البيت لإنقاذ ولدها. إلا أنه بعد التفكير والسؤال تبين أن تلك الرحلة كانت أقل ضماناً لسلامتي من بقائي متخفياً هنا وهناك عند الأصدقاء في حلب. ثم إن العائلة بغرض تغيير عنوانها والتعمية على المستعمرين قامت بتغيير سكنها فانتقلت من حلب، حيث كان والدي يعمل بعد تقاعده من القضاء في المحاماة ، إلى دمشق.

الثاني: قبل العدوان الفرنسي على دمشق بعشرة أيام، أي في التاسع عشر من أيلول عام 1945، أوقفت مع شقيقي صلاح من قبل الفرنسيين ونقلنا إلى السجن العسكري في بيروت. وكنا نعمل في القطعات السورية التي كانت بقيادة الفرنسيين: شقيقي صلاح كضابط في سلاح الهندسة وأنا كضابط في سلاح المدفعية. وكنا نسعى لتأليب قطعاتنا السورية على الفرنسيين في تلك الظروف التي اشتعلت فيها سورية من أقصاها إلى أقصاها ضد المستعمرين واحتلالهم. وعند وقوع العدوان على البرلمان السوري أخذ المستعمرون يمطرون دمشق بقنابلهم ورصاصهم فهبت والدتي إلى أشقائي الباقين عندها وقالت لهم: إن عليكم أن تخرجوا لمساعدة المواطنين بما تستطيعون فأنا لا أطيق بقاءكم في البيت في مثل هذه الظروف، وعليكم أن تتذكروا أن شقيقيكم في سجون العدو ومصيرهما مجهول، فهيا اذهبوا!..

الثالث: في الليلة التي كان عليّ فيها أن ألتحق بالمقر العام لجيش الإنقاذ الذاهب إلى فلسطين في مطلع عام 1948 حاولت أن أخرج من البيت دون أن أقلق راحتها وأن أوفر عليها موقف الوداع وهي التي كانت في تلك الأثناء في صحة متداعية أفنتها في خدمة عائلتها التي كانت تعد أحد عشر فرداً. وكان ذلك قبل وفاتها بسنة واحدة وفي الثانية والستين من عمرها. وقد أحسّت ولا أدري كيف بأن غيبتي ستطول في هذه المرة وأنني ذاهب إلى ساحات القتال، مع أنني كنت قد عودتها طويلاً على السفر إلى فلسطين والغياب بها عدداً من الأيام في ذلك الزمن الذي كنت أعمل فيه في أركان طه باشا الهاشمي المفتش العام لجيش الإنقاذ. لقد فاجأتني في غرفتي وأنا أتهيأ للخروج للسفر. ونظرت إليّ بعينين عاتبتين وقالت: أهكذا يا أحمد (وهو اسمى الأول الذي أعرف به في البيت) تريد أن تذهب دون أن تودعنا؟ نحن نحبك ونقلق من أجلك إلا أننا نتفهم أنّ عليك أن تذهب وعلينا أن نصبر. ولسنا وحدنا فهنالك كثيرون غيرنا من أمتنا الذين أرسلوا ويرسلون أبناءهم إلى ساحات الكفاح في فلسطين، فاذهب ولا تنظرن أبداً إلى خلفك ولا يشغلنك إلا واجبك. سر يا ولدي على بركات الله.. وقد سرت ولحق بي ولدان آخران لها: شقيقاي صلاح وكمال.

إن العائلة التي أنتمي إليها معروفة بامتهان القضاء والافتاء والإمامة منذ مئات السنين وذلك بحسب ما جاء في التواريخ التي كتبت عن صيدا. وكان والدي قاضياً في الحكومة العثمانية ثم انتقل إلى سورية كما ذكرت أعلاه مع العاملين الآخرين في المعتمدية الفيصلية التي أغلقها الفرنسيون في بيروت عام 1918. وقام والدي بمهمة سياسية في حاصبيّا ووادي التيم فعمل على تنظيم الأهالي وحشدهم للتوقيع على عريضة تطالب بإبقاء منطقتهم تلك ضمن سورية ضد رغبة الفرنسيين في ضمّها إلى لبنان. وكان هؤلاء بالاشتراك مع الإنجليز قد تآمروا على تمزيق سورية الطبيعية إلى سورية ولبنان والأردن وفلسطين. وقدمت العريضة إلى لجنة كراين الأميركية التي جاءت للتحقيق. ولكن مساعي فيصل لم تنجح ووقعت سورية إثر معركة ميسلون تحت الاحتلال الفرنسي الذي انتدبته عصبة الأمم حينذاك عليها. وحدث الانفصال بين سورية ولبنان فأخذ والدي الجنسية السورية وتبعناه في جنسيتنا. وتنقلت وظيفة الوالد في المدن السورية في القضاء: دمشق وحمص وحماة وحلب. وتبعاً لذلك تنقلت في المدارس السورية الحكومية من ابتدائية وإعدادية وثانوية وحصلت على البكالوريا السورية بتفوق في الرياضيات. وكنت حينذاك في حلب ثم ذهبت إلى بيروت وانتسبت إلى الجامعة اليسوعية لدراسة الرياضيات الخاصة التي أفادتني فيما بعد في إتمام دراستي كمهندس جغرافي في المعهد الجغرافي الفرنسي في باريز. كما انتسبت قبل ذلك إلى الجامعة السورية في كلية الحقوق. ولكن ظروف والدي المادية لم تسمح لي حينذاك في إتمام دراستي الجامعية، فالتحقت بالكلية العسكرية التي كان شقيقي صلاح قد سبقني إليها، ثم لحق بنا أخ أصغر فكنا في الجيش ثلاثة. وفي الكلية العسكرية كنت أكسب احترام الأساتذة الفرنسيين بسبب تفوقي وعلى الأخص في الرياضيات.

 

                                 الحرب العالمية الثانية

 

اندلعت الحرب العالمية الثانية في الثالث من أيلول من عام 1939 بإعلان كل من بريطانيا وفرنسا الحرب على ألمانيا التي اجتاحت بولونيا في الأول من هذا الشهر. وكان هذا اليوم يوم عودتنا نحن طلاب الصف المتقدم في الكلية العسكرية من العطلة الصيفية. وأذكر أننا فتحنا في المساء راديو قاعة الملهى للاستماع إلى نشرة الأخبار من برلين. وإذا بصوت المذيع العراقي المشهور يونس بحري يلعلع بترجمة لخطاب هتلر الذي ألقاه بمناسبة اجتياحه لبولونيا لاسترداد ممر دانتزيغ وفيه يدعو "بالويل والثبور وعظائم الأمور" ويتهدد الإنجليز والفرنسيين ويقول لهم أنه أعد الملايين من الرجال في جيوش أنفق عليها تسعين ملياراً من الماركات. والحق يقال أننا نحن طلاب الدورة المتقدمة العائدة للتو من عطلتها الصيفية، إذ ما كانت دورة مستجدّينا قد تكونت حينذاك، استبشرنا بأكثريتنا بذلك الحدث وأملنا كان أن يتلقى الإنجليز والفرنسيون الذين طال اضطهادهم لنا وتمزيقهم لأوطاننا ضربة تكون بداية خلاصنا من قهرهم واستعمارهم. وقد تحقق بالفعل هذا الأمل فانهار الاستعمار القديم بنتيجة تلك الحرب. وإذا كان الاستعمار الأميركي قد أتى ليحل مكان القديم بشكل أشد نكاية بالإنسان فإن ذلك كان بسبب تقصير قادة التقدم والكفاح الوطني وجرائمهم عندما ألهتهم شهواتهم عن الانتباه لهذا الاستعمار الجديد وخنقه في مهده بدلاً من أن يمدوا له يد المساعدة لمجرد كونه ضد القديم وهذا أمر بديهي لم تدركه بلاهة أولئك القادة.

وانحلت الكلية نتيجة للحرب ووزعتنا القيادة على القطعات كتلاميذ مرشحين ضباط. وكان من نصيبي، أنا ورفيق لي حليم داغر، أن عيّنا في أركان لواء مدفعية من عيار 155 مم. يرابط في دمشق في الثكنة التي تحولت في الاستقلال فغدت ثكنة التسليح وهي الآن مقر لنقابة العمال، وذلك من أجل أن نتبع دورة تأهيل لقيادة فصيل مدفعية. وبقيت ورفيقي داغر في ذلك اللواء قرابة الستة أشهر ثم أعدنا إلى القطعات الخاصة، فعينت أنا قائد مدفع 75 مم في البطارية الأولى من الكتيبة الثالثة لمدفعية القطعات الخاصة المعسكرة في خانات حي باب جنين في حلب. ثم نقلت إلى بطارية جبلية يقودها الكابتن نولو وهو من خريجي البوليتكنيك في باريز. فانعقدت بيني وبينه صداقة كان أساسها "غرامنا" نحن الاثنين بالرياضيات فكان كلما وجد فراغاً يرسل من يناديني إليه لنتناقش في مختلف المسائل الرياضية والفنية وفي النسبية "موضة" الثقافة في تلك الأيام. فكان يكن لي كل صداقة واحترام وكنت أرى فيه الإنسان الفرنسي الشريف سليل أولئك الثوار على الظلم من أمته، وقد جنيت فائدة كبيرة في تلك الكتيبة التي ما كانت تنقطع عن المناورات والتدريب المكثف ليلاً ونهاراً في ظروف الحرب تلك.

وانتقلت كتيبتنا من حلب إلى اللاذقية لمواجهة هجوم محتمل من إيطاليا التي كان واضحاً أنها ستدخل الحرب إلى جانب ألمانيا وقد دخلتها بالفعل في العاشر من حزيران سنة 1940. ولكن الألمان كانوا قد نزلوا في النروج في الرابع عشر من نيسان بتكتيك حربي يبرز لأول مرة في تاريخ الحروب وهو احتلال ذلك البلد بجيوش محمولة بالطيران بعد أن قصموا ظهر الأسطول البريطاني سيد البحار في تلك الأيام بطيرانهم الهجومي. ثم إنهم احتلوا كلاً من الدنمرك وهولندة وبلجيكا وحطموا الجيش الفرنسي وألقوا بالانجليز في البحر واحتلوا باريز خلال هجوم بري ـ جوي صاعق دام أقل من أربعين يوماً: من 10 مايس إلى 14 حزيران 1940 عندما رفعوا العلم الألماني على برج إيفل. واستسلمت فرنسا عندئذ وقامت حكومة فيشي بقيادة المارشال بِتّان. ولكن الجنرال ديغول لم يقبل بالاستسلام ولجأ إلى إنجلترة معلناً قيام فرنسا الحرة الديغولية في الثامن عشر من حزيران 1940.

وبقيت سلطات الاحتلال الفرنسية في سورية ولبنان مخلصة لبِتّان ولم تستجب لنداء ديغول بالاستمرار في الحرب إلى جانب الإنجليز ضد الألمان. وقررت هذه السلطات إعادة افتتاح الكلية العسكرية للقطعات الخاصة. فعدت مع رفاقي في دورة المتقدمين كمرشحين ضباط إلى الكلية لاستكمال ثقافتنا العسكرية، وعاد معنا مستجدّونا في دورة الشهيد البطل إحسان كم ألماس الذي ترك الجيش والتحق فيما بعد بالمجاهدين في فلسطين حيث استشهد في الجليل بعد أن أرعب الصهاينة بغاراته البطولية على مستعمراتهم. وجاء شهر أيار من عام 1941 وقامت الثورة العراقية، ثورة رشيد عالي الكيلاني التي أثارت حماس طلاب الكلية العسكرية الذين ما كانوا يخفون مشاعرهم المؤيدة للثوار العراقيين. ولو أن الوصول إلى بغداد كان سهلاً لكان عدد كبير من عسكريي القطعات الخاصة، وفي مقدمتهم طلاب كليتنا، قد التحقوا بتلك الثورة ومع ذلك قررت ورفيق لي هو صبحي العقيلي أن نلتحق بتلك الثورة. فتركنا الكلية في يوم أحد، وهو يوم عطلة في ذلك العهد. وذهبنا إلى رجل فاضل من صناعيي مدينة حمص ومن أصدقاء والدي وهو الحاج يحيى الدالاتي (أبو رفعت) وطلبت مساعدته في إيصالنا إلى الحدود العراقية. فدمعت عيناه تأثراً عند طلبي هذا الذي ذكّره بوالدي وبفوزي القاوقجي الذي كان ضابطاً في القطعات الخاصة في موقع حمص وكان يجتمع إليه وإلى والدي وغيرهما من رجالات البلد الموثوقين ويبحث معهم موضوع الخروج والثورة على الفرنسيين قبل أن ينقل إلى موقع حماة حيث نفّذ ما كان يعتلج في صدره فخرج بسريته ووسّع الثورة السورية الكبرى من جبل العرب وغوطة دمشق إلى مناطق سورية الوسطى، إلى مناطق النبك وحمص وحماة. واستدعى الحاج يحيى ولده رفعت وطلب منه تغيير ثيابنا العسكرية بثياب مدنية واستضافتنا في داره التي كانت سكناً لعائلتي عندما كان والدي قاضياً في حمص، ودراسة مسألة الوصول إلى الحدود العراقية واجتياز هذه الحدود للوصول إلى بغداد. لقد كانت مسألة عويصة ومفاجئة: لم يكن هنالك لجان مهيأة لمثل هذا الأمر. فقررنا في النتيجة الذهاب إلى دير الزور حيث كان لي أصدقاء من أيام الدراسة الثانوية في حلب. فقام رفعت بإيصالنا بسيارته إلى تلك المدينة غير البعيدة عن الحدود العراقية. وهناك بلغنا أن ثورة بغداد قد أخمدها الإنجليز بجيش غلوب فعدنا أدراجنا ولكن إلى حماة حيث التجأت إلى بعض الأصدقاء ومنهم صديقي الشهم وجيه البرازي الذي استضافني ورفيقي في مزرعة له وفي بيت المجاهد المناضل (أبو رميح) الذي اشترى لي ولرفيقي بطاقتي قطار ركبناه إلى حلب حيث استقبلني الأهل كما وصفت أعلاه.

كانت تكاليف هذه المغامرة ثقيلة على حياتي فيما بعد. فقد لوحقت مدة تقرب من العامين من قبل سلطات المستعمرين: من قبل الفيشيين أولاً ثم من قبل السلطات الإنجليزية والديغولية التي احتلت سورية فيما بعد في شهر حزيران عام 1941 بعد طرد الفيشيين منها. وفي النتيجة وبوساطة من أخي صلاح الذي كان في الخدمة وبدعم من المرحوم اللواء رفعت خانكان الذي كان برتبة كولونيل يعمل في قيادة القطعات الخاصة عدت إلى الخدمة ولكن بعد خسارتي لأقدميتي التي استرديتها في مطلع عهد الاستقلال. فقد أوقف هذا العهد كل الترفيعات عندما استرد سلطته على القطعات الخاصة وشكل منها الجيش السوري. وفي التصنيف الذي أجرته الحكومة الوطنية وبموجب قانون صدر عن المجلس النيابي أعيد إليّ قدمي وصنفت برتبة رائد مع رفاق دورتي في الكلية، الدورة التي كنت الأول فيها.

ما كان الاستعمار، ولم يزل، ليميز في علاقته بالأمم بين مختلف أشكاله التي يجعل منها جميعها تحكّماً مطلقاً لعدوانيته واغتصابه. فالمعاهدة الفرنسية السورية التي أبرمت في عام 1936 وصدقتها المراجع الدستورية السورية على الفور بعد توقيعها تجمدت بتلكؤ الحكومة الفرنسية في إتمام تصديقها ثم مزقتها فرنسا هذه بالعمل على إلغاء الحكم الوطني السوري في عشية اندلاع الحرب العالمية وتعيين حكومة تتألف من مديري الوزارات برئاسة مدير الداخلية بهيج الخطيب وهو من أصل لبناني صيداوي، من جحيم. ثم عينت بعد إعلان الحرب حكومة برئاسة خالد العظم. وفي عهد هذه الحكومة في شهر حزيران 1941 أعلن التحالف الإنجليزي الديغولي استقلال سورية وإنهاء الانتداب الفرنسي والقوا مناشير بهذا الإعلان على المدن السورية كمقدمة للهجوم على السلطات الفرنسية الفيشية وطرد من لا يقبل بالانضمام إلى ديغول وإعادته إلى فرنسا. وفي أثناء ذلك هرب الكولونيل كوله باللواء الذي بقيادته إلى فلسطين والتحق بالديغوليين الذين منحوه رتبة الجنرال وعينوه مكافأة له مندوباً للمفوض السامي في سورية بعد احتلالهم لها وطرد الفيشيين. وكان هذا الاستعماري الشقي العريق بظلم الإنسان هو الذي وقع عليه اختيار المستعمرين الفرنسيين ليعمل على تهيئة لواء الاسكندرون بالقهر والتزوير لسلخه عن سورية وتسليمه لتركيا، وقد قام بتنفيذ هذه الجريمة بعد سجن وتشريد الآلاف من سكان هذا اللواء. وهو الذي قام فيما بعد بتحطيم البرلمان السوري وذبح حرسه من الشرطة العزّل وضرب دمشق بالمدافع في التاسع والعشرين من أيلول عام 1945.

وقام الفرنسيون الديغوليون بعد طرد الفيشيين واحتلالهم لسورية إلى جانب الإنجليز، بتنصيب عميل قديم لفرنسا، وهو تاج الدين الحسيني، ليبينوا أن إعلان استقلال سورية المذكور أعلاه لا يعني شيئاً جدّياً وأنهم أتوا مستعمرين لا محررين، تماماً كعدم جدية الأميركان في كلامهم وتصريحاتهم وإعلاناتهم عن التحرر والديموقراطية وحق الناس في تقرير مصيرهم وهم في الواقع لا يعنون بالحرية إلا "تحرير" خونة شعوبهم من قوانين بلادهم التي تمنعهم من خدمة الأغراض الاستعمارية الصهيونية المعاصرة، ولا يعنون بالديموقراطية إلا "ديموقراطية" اللصوص في اقتسام منهوباتهم من الغنائم، ولا يقصدون في تقرير المصير إلا تقرير عملائهم الصهاينة لاغتصاب الحقوق التاريخية للأمم في أوطانها كحق الشعب الفلسطيني مثلاً في أرض فلسطين. ولكن هذا الشيخ تاج لم يعش طويلاً ومات في عام 1943 في أجواء معارضة وطنية شديدة وسخرية لحكمه وحكم الديغوليين من ورائه. وأذكر مرة أثناء مروري بحي الصالحية أن شاهدت منظراً غير اعتيادي فرأيت عدداً كبيراً من الكلاب الهاربة خوفاً من متتبعيها من الشرطة الإضافية الذين كانوا راكضين للامساك بها وهم يتصايحون بشكل هستيري مضحك. وكان معلقاً في رقبة كل كلب يافطة مكتوب عليها "شرطي إضافي". وقد جمع من رتّب هذا الأمر من الكتلة الوطنية هذه الكلاب وأطلقها على الضفة اليمنى لنهر بردى أمام سراي المرجة، مقر الحكومة في تلك الأيام، حيث كان يعسكر الشرطيون الإضافيون استعداداً لصد المظاهرات التي ما كانت تنقطع ضد حكم الشيخ تاج المذكور. فلما شاهدها أولئك الشُرَط وفهموا الكتابة المعلقة برقابها قاموا بكل حماقة بملاحقتها وسببوا ذلك المشهد الساخر المضحك. والشيخ تاج هذا هو قاضي شرع سابق في دمشق وعضو سابق في الكتلة الوطنية قبل أن ينحاز إلى المستعمرين الفرنسيين وابن المجتهد الأكبر الشيخ بدر الدين الذي لقّب بشيخ الإسلام. وأذكر وأنا صبي في المدرسة الابتدائية في حمص في أعقاب الثورة السورية الكبرى أن الشيخ بدر الدين مرّ في مدينتنا أثناء جولة له في سورية نشر فيها موضة العمامة البيضاء حتى بين الصبيان وذلك للدعاية لولده تاج الدين الذي نصّبه الفرنسيون بعدها رئيساً للدولة السورية بعد الداماد أحمد نامي الذي وعدوه بإقامة عرش له في سورية.

واضطر الفرنسيون بعد موت الشيخ تاج إلى إجراء انتخابات نيابية فازت فيها الحركة الوطنية بقيادة شكري القوتلي بمجمل المقاعد النيابية كما فاز فيها بعض النواب التقدميين كالأستاذ أكرم الحوراني عن مدينة حماة. وانتخب المغفور له القوتلي رئيساً للجمهورية الذي عين سعد الله الجابري رئيساً للوزارة وجميل مردم وزيراً للدفاع. وتقدمت كل من سورية ولبنان في طريق الاستقلال، وتَسَلَّمَ الحكم الوطني فيهما المصالح المشتركة من يد الفرنسيين الذين ماطلوا مع ذلك في تسليم القطعات الخاصة وإعادتها إلى أصحابها العرب واشترطوا لذلك إبرام معاهدة معهم تضمن بقاء النفوذ الاستعماري لدولتهم قبل تخليهم عن قيادة تلك القطعات. فكانت الحكومتان الوطنيتان في دمشق وبيروت ترفضان هذا الأمر وتصران على الجلاء الفرنسي بدون قيد أو شرط.

ففي تلك الأثناء كانت أبعاد الحرب قد اكتملت بانخراط بقية الدول العظمى فيها: شنت ألمانيا هجومها على الاتحاد السوفييتي في 22 حزيران 1941، وانقضت اليابان على الأسطول الأميركي في بيرل هاربر ودمرته في 7 كانون أول من عام 1941، بحيث وقفت كل من الولايات المتحدة الأميركية وإنجلترة ومعها الديغوليون والاتحاد السوفييتي والصين في مواجهة ألمانيا وإيطاليا واليابان. وكان قد أعلن ميثاق الأطلسي من قبل رئيس الولايات المتحدة الأميركية روزفلت ورئيس وزراء بريطانيا تشرشل على ظهر باخرة تقف في مواجهة الساحل الأميركي في المحيط الأطلسي في 14 آب 1941، الميثاق الذي كان القصد منه تأسيس نظام عالمي كانت الولايات المتحدة تحلم به منذ عهد ولسن في أعقاب الحرب العالمية الأولى لتقيم شركة عالمية استعمارية بزعامتها ولكنها ما كانت حينذاك من القوة بحيث تتمكن من فرض زعامتها على قدماء المستعمرين أما في ظروف الحرب العالمية الثانية فقد اختلف الأمر بعد أن دمر هتلر جيوش فرنسا وإنجلترة. نقول إذن أن الحرب في عام 1943 عند قيام الحكم الوطني في كل من سورية ولبنان بلغت أقصى نضجها واتضحت تماماً ملامح أربابها المؤثرين في سيرها والحاسمين في أمورها والدافعين لها نحو نهاياتها. ففرنسا الديغولية ما كانت في تلك الأيام قد اكتملت بهيكلها الاستعماري وكانت تعيش على مائدة حلفائها المستعمرين الآخرين. فكانت إذن على عجلة من أمرها لربط قطري لبنان وسورية بالمعاهدة المنشودة التي تحفظ لها سلطاتها الاستعمارية فيهما قبل أن تتطور الأحوال إلى نهايات مجهولة قد لا يكون للديغوليين فيها قدرات كافية تمكنهم من فرض استعمارهم. أما الحركة الوطنية العربية في القطرين المذكورين والحكومتان الممثلتان لها في هذين القطرين فإنهما ما كانتا على عجلة من أمرهما وكان لديهما كل الوقت لتعزيز مواقعهما الوطنية وتصعيد كفاحهما ضد المستعمر بالشكل الملائم دون الوقوع في غلط التعاقد معه وهو المفلس ودون إعطائه الفرصة لتعزيز مواقعه وإنما السعي إلى جعله بعجلته الهوجاء يرتكب الأخطاء المميتة الأمر الذي حدث كما سنرى في سياق حديثنا.

 

                             العسكريون في الكفاح الوطني

 

هناك أمر يغفله الكثيرون عند التحدث أو الكتابة عن الجيش السوري ودوره في الكفاح للخلاص من الاحتلال الفرنسي. فاستقلال كل من سورية ولبنان كان دوماً معترفاً به عالمياً من الناحية النظرية، على الأقل، وإنما وضع هذان القطران تحت الانتداب الفرنسي من قبل عصبة الأمم بهدف مساعدتهما على تأسيس نظام وبناء مؤسسات حكومية لهما والأخذ بيدهما لإدخالهما في محفل الدول المستقلة. ولكن الاستعمار في تلك الأيام، وهو القديم الذي كان متحكماً في عصبة الأمم التي انتدبته على بلادنا، كالجديد الذي تتزعمه أميركا التي جعلت حالياً من مجلس الأمن في الأمم المتحدة مكتباً من مكاتب وزارة خارجيتها فلا يتحرك إلا برضاها وأمرها وبالتالي تحكمت بالنظام العالمي وأوصلت دول العالم المتخلفة والفقيرة إلى أحوال هي أسوأ من أحوال المستعمرات القديمة وهي نظرياً مستقلة، نقول أن ذلك الاستعمار القديم جعل من الانتداب من الناحية العملية استعماراً يتولى به الكبيرة والصغيرة في الأقطار الواقعة تحت حكمه ويعمل على تأجيل استقلالها إلى ما لانهاية له من الدهور. فكان مستشاروه في كل مكان يحركون الأمور بحسب منافعهم وفي إطار المخططات الاستعمارية لدولتهم المنتدبة.

ولقد انتهى القطران السوري واللبناني في عهد الانتداب إلى كيانين منفصلين الواحد عن الآخر إلا في مجالات جعلتها سلطات الانتداب الفرنسي تضم ما سمته المصالح المشتركة بين سورية ولبنان وأتبعت هذه المصالح بها مباشرة بعد أن فصلتها عن أصحابها السوريين واللبنانيين وعينت لها إدارة فرنسية لا تأتمر إلا بأوامر المفوض السامي الفرنسي المشرف على الانتداب. وهذه المصالح كانت تضم جيشي سورية ولبنان والجمارك وإصدار النقد وصناعة التبغ وما شابه من الأمور المشتركة بين القطرين التي يمكن توحيدها بيد الفرنسيين لضمان أمن الاحتلال وتغطية نفقاته: كان جيشا البلدين موحدين بما كانوا يسمونه القطعات الخاصة (تروب سبسيال) التي تتفرع فيها القيادة الفرنسية بعناصرها في جميع الرتب بحجة التدريب، وكانت الجمارك وإدارة التبغ تغطي نفقات الاحتلال. وما كان في النتيجة هنالك من حدود وحواجز تمنع التنقل بحرية تامّة بين القطرين.

كان الفرنسيون يتولون بطبيعة الحال مهمة انتقاء كادرات القطعات الخاصة من ضباط وصف ضباط. وقد أسسوا كلية عسكرية لتخريج الضباط في دمشق في البدء ثم نقلوها إلى حمص في بدايات الثلاثينات. وقد انخرط كثير من خريجي المعاهد العسكرية العثمانية في الخدمات المسلحة وخاصة في الدرك السوري اللبناني وفي القطعات الخاصة مثل عبد الله عطفة وحسني الزعيم والنجم اللامع في الثورات العربية في القرن العشرين البطل فوزي القاوقجي الذي خرج على المستعمرين مع السرية التي كان يقودها في حماة والتحق بالثورة السورية الكبرى في عام 1924. وفي الثلاثينات من هذا القرن، وعلى الأخص بعد المعاهدة السورية الفرنسية لعام 1936، اتسع الوعي في صفوف عسكريي القطعات الخاصة واشتد التيار الوطني بمختلف اتجاهاته بين أولئك العسكريين. وقامت حلقات وخلايا متفرقة في صفوف الضباط العرب هنا وهناك في مختلف المواقع في سورية ولبنان. أذكر على سبيل المثال أسماء بعض من انتموا إلى تلك التنظيمات. كان مثلاً أديب الشيشكلي مع أخيه صلاح ينشطان في شرق وشمال سورية، في الجزيرة ودير الزور، وقد انضم إليهما محمد صفا وهو من جنوب لبنان والمرحوم فتحي الأوبري. وقد حاول هذان الأخيران، مثلي أنا ورفيقي صبحي العقيلي، الالتحاق بالثورة العراقية ضد الإنجليز ولكن الثورة أخمدت قبل وصولهما للانخراط في صفوفها. وكان كل من مأمون بيطار الذي استشهد فيما بعد في ساحات جهاد فلسطين أمام مشمار هاعمك وصلاح البزري وأنا عفيف البزري وسرّي الربّاط وابراهيم أتاسي وشقيقه فتحي أتاسي الشهيد في معركة مشمار هايردن وعدنان المالكي ومحمد الحسيني وهو من جنوب لبنان ومحمد آني الشهيد في المالكية عام 1948 ومحمد زغيب الشهيد في ذات المعركة وهو من لبنان وشوكت شقير وغيرهم بالعشرات، أقول كان هؤلاء الضباط في مواقعهم المختلفة المتغيرة على العموم: من السويداء فدمشق فبيروت فطرابلس فحمص فتل كلخ فاللاذقية فحلب إلخ.. ينشطون بين رفاقهم لنشر الوعي والاستعداد للالتحاق بسلطات الوطن في بيروت ودمشق عندما يأتي الظرف ويؤون الأوان. وقد أتى هؤلاء الضباط بمعظمهم من الثانويات التي كانت تشكل قواعد المقاومة للاحتلال الفرنسي وقواعد انطلاق المظاهرات ضد هذا الاحتلال.