قوة "الانتشار السريع"

في حقول نفط الخليج

 

الفريق عفيف البزري

 

لا حاجة بنا في بيان أن القيمة الكبيرة للخليج العربي في النظام الإمبريالي العالمي، فقد أصبح من المعرفة الشائعة كون البلاد المطلة على الخليج المذكور:

- تمتلك أكبر احتياطي نفطي عالمي.

- وتنتج معظم احتياجات الصناعة العالمية من الطاقة والمواد الأولية النفطية.

- وتمتلك أكبر حجم من السيولة النقدية العالمية. ومعظم هذا الحجم يستقر في مصارف زعيمة الإمبريالية العالمية الحديثة الولايات المتحدة الأميركية.

فالأخبار اليومية لا تخلو من الإشارة إلى هذه الأمور. كما أن تصريحات كبار المسؤولين في النظام الاستعماري العالمي حول الهيمنة الحاسمة لهذه المنطقة أصبحت صريحة لا تخفي شيئا، فهي تعبّر عن خوف المستعمرين بعد انقضاء مرحلة اطمئنانهم وركونهم إلى ضعف وقلة خبرة ضحاياهم فتأخذ أشكال التهديد وصور التكشير عن الأنياب أمام التقدم الكبير في وعي الجماهير أصحاب هذه الثروات المنهوبة.

لقد وقع ما لا بد من وقوعه. فاتضح لأبسط الناس في جماهيرنا أن تلك الهجمة الاستعمارية الضارية التي استهدفت بلادنا بدون انقطاع ولا توقف منذ نهاية الحرب العالمية الأخيرة لم تكن إلا من أجل السيطرة على منابع النفط وعلى السبل الموصلة إليها. ولم يتأخر ذلك اليوم الذي ستتقدم فيه جماهيرنا لملاقاة العدو الأصلي بعد أن بلغ فيها الوعي تلك الدرجة من الوضوح. وهذا ما يخشاه المستعمرون ويحاولون إجهاضه والحؤول بالقوة دون وقوعه، بعد أن سقطت كل تلك الأقنعة الكاذبة عن وجوه كل من حشدوه من خونة قومنا والمنافقين منها والجهلة. فأصبح الفلسطيني مثلا يدرك تماما أنه لم يغتصب منه وطنه ويعتدى على إنسانيته ويشرد في أنحاء الدنيا إلا بسبب وقوع أرض ذلك الوطن على طريق الثروات التي لم تجد بعد من يعصمها من الأشقياء الطامعين، وليس بسبب جشع يهودي خزري مرتزق تواق إلى إقامة بيارة برتقال في الأرض "الموعودة" ولا بأي سبب بعيد آخر كالهروب من الظلم (المبالغ فيه على كل حال) الذي أنزله النازيون باليهود إلى أرض يُذبح أهلها ويشردون لتتسع لأولئك "الهاربين من الظلم" فوعد بلفور الصادر بتصاعد روائح نفط المنطقة الذي "سبح" عليه تشرشل إلى النصر (حسب تعبيره في مذكراته) هذا الوعد "هبط " على اليهود المرتزقة قبل مجيء هتلر بزمن طويل. أما بيارات البرتقال وما شابهها فهي ما سلب بحراب المستعمرين ليقدم أجرا إلى أولئك اليهود المرتزقة لحراسة السبل إلى الثروات النفطية وغيرها من أن تطغى عليها ثورة توحد أمتنا وتعصم ثرواتها من المستعمرين. كذلك تدرك جماهير أمتنا في كل مكان أن ما يهدر من دماء شبابها ورجالها بالعدوان الصهيوني المستمر علينا وما يلاقيه أحرارها على أيدي زبانية المستعمرين من تقتيل وتعذيب ما هو في آخر الحساب إلا من أجل إبقاء وطننا الكبير جزءا من النظام الإمبريالي العالمي الذي تتزعمه الولايات المتحدة الأميركية، وهو جزء لا يقوم ذلك الكل إلا به بسبب ثرواتها النفطية قبل كل شيء ( الثروات التي لم توضع بعد بكل أسف لإعداد أسباب القوة لجماهير أمتنا المعذبة مع ذلك بسببها).

لقد صرح العدو الأميركي في الأيام الأخيرة من العام المنصرم أن قوة التدخل العدواني في الخليج ( تلك التي سماها "قوة الانتشار السريع") قد تم إعدادها وأنها جاهزة للعمل في أي وقت يطلب منها ذلك. ولكن ما هي الحال عندما نحن هدف تلك القوة العدوانية؟ لقد انعقد مؤتمر رؤساء الدول الإسلامية مؤخرا في الطائف واتخذ عددا من القرارات. ومما لا ريب فيه أن جمع كلمة المسلمين وتوحيدهم لمقاومة إسرائيل والصهيونية أمر جيد يعود بالفائدة عليهم جميعا من الناحيتين المادية والروحية، ونحن نأمل أن تتوحد راية الأمة الإسلامية في المعركة الكبرى التي تخوضها الإنسانية ضد المستعمرين قاهري الشعوب، لتصبح من أعز الرايات وأشدها منعة. إلا أنه كانت هناك نغمة قوية تتردد في هذا المؤتمر ومآلها:"ضرورة العمل على جعل الولايات المتحدة الأميركية "تتفهم" حقوقنا وتكف عن الانحياز إلى الطرف الإسرائيلي!". وهذه نغمة مستغربة لأننا نعتقد أنه لا يمكن أن يوجد بين أولئك المؤتمرين من لا يدرك جيدا أن المستعمرين اليانكي ليسوا من البساطة ليكونوا بحاجة إلى من يرشدهم إلى ما يفصل حقوقهم عن حقوق غيرهم من الأمم. فهم مثلا "يفهمون" جيدا كل حقوقنا ويرون بكل وضوح حدودها عندما يتجاوزون هذه الحدود لانتهاكها، وإنهم لا ينحازون إلى إسرائيل وإنما هو السبب الأول والأخير في قيامها على أرض وطننا فهي في مقدمة طلائعهم لتحقيق أغراضهم الاستعمارية. إنهم العدو الأصلي الذي يجب إسقاطه في المنطقة وفي العالم عند العمل على إسقاط قاعدته إسرائيل، وإنهم لا يشكلون طرفا ثالثا بيننا وبين هذه القاعدة التي هم أصحابها. ثم إن مثل هذا الظن بطبيعة النظام الأميركي كلفنا على الدوام الغالي من إنساننا وأرضنا وثرواتنا. وكان على المؤتمر المذكور أن يعبر بشكل جيد عن رأي جماهير المسلمين بالمستعمرين الأميركان، فيقوم مثلا بدراسة وافية لموضوع العدوان الأميركي على اختلاف أوجهه البارزة في العالم الإسلامي، ولا سيما منها وجهه المتستر بالقناع الإسرائيلي مع مكمله الآخر الذي هو "قوة الانتشار السريع" الآنفة الذكر، ثم صياغة استراتيجية العمل على مواجهة هذين الوجهين (على الأقل). من العدوان الأميركي المذكور بكل الوسائل الاقتصادية والسياسية وحتى العسكرية إذا لزم الأمر. ونحن متأكدون من أنه لو حصل هذا الأمر لتراجع الإمبرياليون الأميركيون بكل تأكيد عن الدخول في مجابهة جدية مع كل العالم الإسلامي. ولكن أنى لنا أن نأمل بوقوع مثل هذا الأمر وبين المؤتمرين مثلا رؤساء ساهموا في تهيئة ما يلزم من قواعد وظروف لتسهيل الأعمال العدوانية "لقوة الانتشار السريع" المذكورة. وبينهم أيضا من في مسؤولي دولهم من ينادي العدو الأميركي بزيادة تدخله في منطقة الخليج!..*[1]  وليس هنالك من "زيادة لمستزيد" من التدخل الأميركي غير احتلال بلاده وحقول نفطه ونفط جيرانه!؟..

إن على القائمين على شؤون النفط العربي أن يدركوا أخيرا أن شيمة الاستعمار: الغدر والغيلة، وهو لم يقدم على إقامة كل تلك التشكيلة العدوانية الضخمة في المحيط الهندي إلا لكونه لا يضمر لأنظمتهم أي احترام ولا يوليها أية ثقة. وهم لن يغيّروا من نياته المبيتة شيئا مهما رددوا القول برفض تدخّل القوى العظمى في شئون منطقتهم، ونياته واضحة كل الوضوح وهي تتلخّص بفرض المزيد من سيطرته على شئون نفطنا بحيث لا يترك للقائمين على شئونه أية حريّة تصرف حتى في نطاق نظامه الاحتكاري العالمي الحالي. أما ادعاؤه بأن تلك التشكيلة العدوانية الآنفة الذكر قامت لمواجهة السوفييت في هذا المسرح بعد دخول قواتهم إلى أفغانستان فهو ادعاء كاذب.لأن هذا البلد الصغير لا يشكل حاجزا أمام قوة عسكرية كتلك التي يتمتّع بها الاتحاد السوفييتي. فله من الناحية الاستراتيجية وجود فيه أدخلته جيوشه أم لم تدخله: إن الولايات المتحدة الأميركية جعلت من أفغانستان ومن شرقي إيران منطقة سد نووي ليأسها من إمكان السبق إلى احتلالها في حالة حرب مع الاتحاد السوفييتي*[2]. ثم إنه كان للاتحاد السوفييتي كغيره من الدول العظمى، وجود في المحيط الهندي، وكان له يوما وما يزال في هذه المنطقة بلاد صديقة أقرب بكثير إلى الخليج من أفغانستان. ومع ذلك ما كانت أميركا تفكّر حينذاك يحشد مثل تلك القوى الهائلة التي تحشدها اليوم. والسبب يكمن في : أن نظامها في الخليج أُصيب بعطب كبير بالثورة الإيرانية. فعندما كان نظام الشاه قائما كان لها من إيران قاعدة "مثالية" تطل بها من جهة على الخليج ومن جهة أخرى على الاتحاد السوفييتي. وفيها قوى كافية للقمع والتدخّل والتجسس والتخريب. إلا أنه عندما انهار ذلك النظام كان لا بدّ للاستعمار الأميركي من بديل له فلم يجد أفضل من أن تأتي قواته بذاتها لإقامة تشكيلة التدخّل العدواني، لما لهذا المسرح من أهميّة حاسمة في حياة النظام الاحتكاري العالمي. أما مسألة احتلال حقول النفط فإنها كانت قائمة دوما منذ أن برزت القوة النفطية لمنطقة الخليج، وعلى الأخص في أزمة النفط العالمية التي قامت في الحرب العربية الإسرائيلية عام 1973. وكان قد وقع بالفعل تدخّل لصالح المستعمرين في المنطقة المذكورة، وهو عدوان من داخلها بواسطة قوات الشاه التي نزلت في عنان لقمع الثورة الوطنية هناك. كما نزلت في الجزر العربية الثلاث: الطمب الكبرى والصغرى وجزيرة أبو موسى. ولننظر إلى ما قاله السوفييتي ألكسندر كراسنوف رئيس تحرير شئون الشرقين الأدنى والأوسط وأفريقيا في وكالة نوفوستي وكان من الأفضل لهذا الخبير بشئون منطقتنا أن يركز (لأغراض دعائية) على الخطر الذي يتعرّض له وطنه من تلك القوة العدوانية الأميركية المتنامية في المحيط الهندي، وأن يهمل الهدف الآخر لهذه القوة وهو نفط الخليج أو أن يقلل من أهميته، إلا أنه كإنسان تقدمي شريف اختار الالتزام بالواقع فقال*[3]:" إن ما يجري في منطقة الخليج من حشد للقوات المسلّحة الأميركية لم يسبق له مثيل في أي وقت من أوقات السلام. فهناك اليوم أكثر من 60 سفينة حربية أرسلتها الولايات المتحدة وحلفاؤها. إن مثل هذا الحشد الكبير للقوة الحربية ينطوي في ذاته على مخاطر جدية لاشتداد الوضع تعقيدا في هذه المنطقة التي هي من دون ذلك قابلة للانفجار. ولكن هذا ليس سوى مرحلة واحدة في رأينا من مراحل تحقيق أخطر المخططات الاستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط. وهدف هذه المخططات معروف جيدا وهو تحقيق سيطرة الولايات  المتحدة الأميركية على منابع النفط في المنطقة بكل الوسائل. وهذا المبدأ الذي صيغ في أواخر الأربعينات لا يزال منطلق كل نشاطات الإدارة الأميركية في منطقة الخليج. ويهدف ضمان ما يسمى "المصالح الحيوية الأميركية" وفي شكل أدقّ ضمان الامتيازات للاحتكارات النفطية الأميركية لاستغلال الثروات النفطية العربية. وشكّلت في الولايات المتحدة الأميركية "قوات الانتشار السريع" في الوقت الذي يجري فيه عمل مكثّف في تحسين وتجهيز قواعد عسكرية في مصر وعمان والصومال. ولا نشك في أن مثل هذه الأعمال موجهه بادئ ذي بدء ضد بلدان الخليج. وتجدر الإشارة إلى أن ممثلي الإدارة الأميركية لا يخفون ذلك. ولنأخذ كلمة أحد أعضاء لجنة مجلس الشيوخ لشؤون القوات المسلّحة الذي أعلن صراحة بقوله:" نظرا لتبعية الولايات المتحدة الأميركية للنفط الأجنبي للنفط الأجنبي قد نجد أنفسنا في وضع نضطر فيه إلى استخدام القوات المسلحة بهدف ضمان وصول هذا النفط" " وزكما ترى أن هذا القول واضح كفاية..!"نعم، الكلام واضح، فالنفط المراد أخذه بالقوة أجنبي لا تملكه الولايات المتحدة الأميركية حسب هذا الكلام. فنكون إذن (بالحشد الكبير القائم حاليا حول الخليج للقوى) أمام مشهد من مسلسل طويل لعمليات سطو تتم بمختلف الأشكال المألوفة لدى الأشقياء التي من جملتها التهديد بالسلاح. إن الرأسمالية التي يتظاهر قادتها وأصحابها نفاقا بالدفاع عن حق الملكية الخاصة هي أبعد الأنظمة عن احترام هذا الحق: في مجتمعها وفي المجتمع الإنساني. إنها النظام الأمثل لشرائع الغاب التي لا تعترف إلا "بملكية" القوي لحق الضعيف، اغتصابا أو احتيالا أو غيره من أساليب القهر والغدر.

1- العقيدة الأميركية "الشرق أوسطيّة"

  تشكل البرغماتية الغطاء الإيديولوجي للزعامة الرأسمالية الاحتكارية الحديثة المتمثّلة بالاحتكار الأميركي. وجوهر فلسفة الانتهاز هذه يتلخص في:" إن مقياس الحقيقة[4]* هو قيمتها العملية فقد. فائتها أو ضررها" وهذا الجوهر كما هو واضح يشكل أساسا للقاعدة المكيافلية الشهيرة:"الغاية تبرر الواسطة" بأحطّ ما يمكن أن يعطيها إنسان "البزنس مان" من معان وأشدها وحشية. وعلى هذا الأساس نجد أن الاحتكاري (الاحتكاري الأميركي على الأخص) لا يرى في إنسان مجتمعه إلا كائنا يحمل قيما من نوع ما: قوة عمل، أو مالا نقديا أو عينيا، كثمر شجر الغابات أو لحوم الصيد، يمتلكها الأقوى وسائلا والأبرع حيلة والأكثر حظا. أما الإنسان حامل تلك القيم فالنفع ليس فيه وإنما في قيمه، وبالتالي لا يشكل أية حقيقة تعترض الوصول إلى أخذ هذه القيم بأية وسيلة كانت، ولو بإزالته من عالم الوجود، أو استهلاكه إلى آخر قطرة من دمه. ولا لزوم لذكر ملايين المحرومين في المجتمع: العاطلين عن العمل وغيرهم من المساكين الذين ألقت بهم حظوظهم في مهاوي الفقر والحاجة، فإنهم "غير موجودين".. لا حقيقة لهم ما داموا مجردين من القيم المادية.. والأمر أشد مرارة عندما ننظر إلى العالم (خارج حدود الولايات المتحدة الأميركية) بمنظار الرأسماليين الاحتكاريين اليانكي. فهذا العالم هو مجرد "مصالح وفوائد" من المواد الأولية المختلفة وشتى الثروات والقيم والمواقع الاستراتيجية، في البلاد المقهورة، وأوساط "ضارة" تقاوم نهبهم وعدوانهم (كالقوى الوطنية الثورية في العالم الثالث وقوى المعسكر الاشتراكي) فيجب تدميرها لإزاحة ضررها عن الطريق إلى "الفوائد". وأخيرا جهات مزاحمة فيجب إخضاعها وضبطها دون تدميرها لأنها على كل حال شريكة في بناء النظام الرأسمالي العالمي. وهي الدول الاستعمارية الأخرى، وفي هذا الإطار يقوم جوهر العقيدة الأميركية، وهو واحد بطبيعة الحال في كل أنحاء العالم ويستند إلى الأمرين التاليين:

- التفوق المادي لهذه الدولة في النظام الرأسمالي الاحتكاري العالمي.

- إصرار الاحتكاريين الأميركان على التوهّم في كفاية التفوق الآنف الذكر لمحاولة فرض سيطرة مطلقة على العالم الرأسمالي (على الأقل) بشطريه المتقدم والمتخلّف. وبالتالي إيقاف مسيرة التاريخ نحو إنهاء مرحلة انتقال جملة المجتمعات الإنسانية إلى الطور الأعلى باندثار الرأسمالية الاحتكارية. وهذا على الرغم من فشلهم وهزائمهم في عدد من المواقع الحاسمة في العالم الثالث.

  ولكن العقيدة العدوانية للولايات المتحدة الأميركية تأخذ في كل منطقة من العالم الشكل المناسب لظروفها فيها. فنجدها في المشرق العربي تقوم على الأسس التالية:

أ- ترى الولايات المتحدة الأميركية أن نفط المشرق العربي هو "مُلك الصناعة الرأسمالية الاحتكارية. وليس ملك صاحبه الشعب العربي.وأن الأساس الأول لإمبرياليتها العالمية: أن تكون هي المكلّفة بقيادة كل تدبير يُتخذ لتوفير استمرار تدفقه إلى مستودعاتها ومستودعات شركائها الإمبرياليين الآخرين. فما من رئيس أميركي أتى إلى البيت الأبيض منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى اليوم إلا وقال بصريح العبارة: إن لدولته مصلحة حيوية في نفط الخليج العربي. وآخرهم كان الرئيس كارتر. قال هارولد ساندرز مساعد وزير الخارجية أمام لجنة مجلس النواب الفرعية*[5] :" ركزت التطورات التي حدثت في الأشهر الأخيرة الاهتمام على مناطق الخليج وجنوب غرب أسيا (أي الجزيرة العربية: من عندنا) والمحيط الهندي بقوة جديدة." ويوفّر بحثنا اليوم فرصة أخرى من هذه الفرض التي تشرّفت بمشاركة هذه اللجنة فيها لاستعراض وتطوير إطار العمل الذي تجري من ضمنه ملاحقة تحقيق المصالح الأميركية في هذه المنطقة الشديدة الأهمية. لقد حدد الرئيس كارتر بنفسه في خطابه عن حال الاتحاد ثلاثة تطورات أساسية ساعدت في تكوين شكل التحديات التي تواجهنا داخل هذه المنطقة:

أولا- النمو المضطرد والظهور المتزايد للقوة العسكرية السوفييتية خارج الاتحاد السوفييتي.

ثانيا- الاعتماد الساحق للديمقراطيات الغربية (اقرا من فضلك للإمبرياليين: من عندنا) على إمدادات نفطية من الشرق الأوسط*[6].

ثالثا- وجود تغيير اجتماعي وديني واقتصادي في العديد من دول العالم النامي. وثورة إيران مثال عليه.

إن الاهتمام الوطني الموجه الأول نحو هذه المنطقة يستلزم تكرارا لنقطتين جوهريتين تم إبداؤهما بصورة متكررة في مباحثاتنا حول الشرق الأوسط وجنوب غربي آسيا خلال السنتين المنصرمتين وهما:

أولاً: تجتمع من المصالح الأميركية المهمة في هذا الجزء من العالم أكثر ما تجتمع منها في أيّ منطقة أخرى من العالم النامي اليوم.

ثانياً: في واحدة من أسرع مناطق العالم تغييرا، فإن ما يهم صانعي السياسة الأميركية ليس كيفية العمل مع حكومات المنطقة من أجل توجيهه في وجهات بنّاءة.

" إن هدفنا اليوم التفكير بسياسة تلائم الولايات المتحدة.. سيكون علينا أن نسخّر مجموعة واسعة من الموارد بالتعاون مع أصدقائنا وحلفائنا في جهد قوي يومي إلى حماية مصالحنا."

  ويقول الجنرال كيللي قائد "قوات الانتشار السريع".[7] وهو يعبّر عن النيات المبيتة لأسياده الاحتكاريين:" للحفاظ على مصالح أجيالنا المقبلة، يتوجّب على القوات المسلحة الأميركية الوصول والسيطرة على المناطق النفطية في الشرق الأوسط، وعلى سواحل الخليج العربي."

  وقال نيكسون في تصريح له في تموز1970 : " إن البترول العربي يوفّر أكثر من80% من احتياجات أوروبا، وأكثر من 90% من احتياجات اليابان." ويقول هارولد براون وزير الدفاع الأميركي الأسبق: " حماية تدفق النفط من الشرق الأوسط هي بوضوح جزء من مصلحتنا الحيوية وهي تبرر أي فعل مناسب، بما في ذلك استخدام القوة..."

ب- إن خليط الرجعيين والانتهازيين والمخادعين والعملاء وكل الفئات الأخرى ذات المصلحة بدوام الارتباط بشبكة الرأسمالية الاحتكارية العالمية في المشرق العربي يشكل الحرس الأمامي لحماية الشبكة المذكورة من أن تنهار بفعل ثورات يتمخّض عنها وطننا العربي، ولصيانتها من التآكل بسبب تناقضاتها الداخلية ونتيجة للهجمات المستمرّة والمتنوعة عليها من قبل القوى الوطنية. والاستعمار الحديث يقوم كما نعلم على الارتباطات التي توفرها هذه الشبكة لاقتصاد البلاد الضحية باقتصاد المستعمرين الذي يستشف مختلف الثروات والقيم بواسطتها من تلك البلاد. كما يضمن بها القواعد والمواقع الاستراتيجية الموجّهة ضد كل ما يهدد مصالحه العدوانية. يقول هارولد سوندرز وزير الخارجية الأميركية في بيانه المار ذكره أعلاه: "إن تاريخ العلاقات بين الولايات المتحدة والعربية السعودية وجيرانها في الخليج يضمن نقل التكنولوجيا الأميركية إلى هذه البلدان (عجيبة هذه التكنولوجيا الأميركية المتقدمة التي تعجز عن إنتاج إبرة في تلك البلاد التي "يستطيع" مع ذلك بعض أهلها استعمال آخر ما تنتجه معامل أميركا من سيارات فارهة..: من عندنا) ونحن مستمرون من خلال القنوات الحكومية والقطاع الخاص، في لعب دور مهم في توفير المعرفة التقنية الأميركية لهذه البلدان من اجل مساعدتها على التطور بشكل منتظم. لقد أصبحت نشاطاتنا التجارية في هذه المنطقة مفيدة لاقتصادنا وتطورت لتصبح روابط قوية لمصلحة اقتصادية مشتركة تقوّي علاقاتنا العامة بدول هذه المنطقة الحيوية استراتيجيا. وعلينا أن نستمر كحكومة وكأمّة في اتباع هذا المفهوم الأساسي لعلاقتنا بالمنطقة.." فهل هنالك أبلغ من هذا الكلام في وصف شبكة الرأسمالية الاحتكارية؟.. هذه الشبكة التي يقع تحتها ذلك الصيد الهائل من الثروات والقيم العائدة إلى أولئك المقهورين من العالم الثالث، الذين تبحث شئونهم الخاصة بدون إذن منهم في مجلس نواب "عاصمة الإمبريالية" كما كانت تبحث شئون الإمبراطورية في مجلس شيوخ روما."

ج- رأينا أعلاه في تصريح نيكسون أن الإمبرياليين الآخرين في أوروبا واليابان يستوردون من المشرق العربي معظم الطاقة المحرّكة لمعاملهم ووسائل مواصلاتهم وما يلزم من نفط كمادة أولية للأغراض الصناعية الأخرى الكثيرة التنوّع. فاهتمامهم الاستعماري بالمنطقة كاهتمام أميركا إن لم نقل أكبر عندما يُقاس الاهتمام بمقدار الحاجة مجرّدة عن الإمكانات المادية العدوانية. إلا أننا نراهم في المعركة النفطية الحالية يسيرون في ركاب أميركا للأسباب التالية:

أولا: إن أميركا أقدر المستعمرين ماديا وهي زعيمتهم في النظام الرأسمالي الاحتكاري العالمي.

ثانيا- خوفهم من أن تنفرد أميركا بالسيطرة المطلقة على الخليج. وتحرمهم بالتالي مما بقي لهم من مجالات (ضيّقة على كل حال) للتحرّك في أسواق النفط العالمية. فالأمر الذي يشدد من تبعيتهم لهذا "الشريك الجشع".

ثالثا: رغبتهم في ملازمة أميركا في عملية الخليج. كي يحولوا دون انفرادها بعملية تؤدي إلى قطع النقط عنهم، بسبب ما يمكن أن يلحق بحقوله من دمار. أو بإغلاق طريق وروده إليهم. فالمهام الموكلة أو القوة البحرية الأميركية في المحيط الهندي حسبما جاء في تقرير وفد الكونغرس الأميركي عن تلك القوة هي: *[8].

- التحكّم في مياه الخليج العربي وإبقاؤه مفتوحا عند الضرورة (وقد تقتضي الضرورة الاحتكارية إغلاقه..: من عندنا)

- الاحتفاظ بالتفوّق البحري والجوي في المنطقة.

- تلغيم مضائق هرمز وفرض حصار على موانئ معيّنة في المنطقة (إن مضائق هرمو هي الباب الوحيد للخليج على المحيط، وتلغيمها يغلقها بطبيعة الحال)

وعلى الرغم من مساهمة دولتين أوروبيتين كبيرتين. إنجلترا وفرنسا، في الحشد البحري الكبير في بحر العرب، أمام مضائق هرمز، نجد أن الأوروبيين يخشون التدخّل المسلّح في الخليج ويعملون على معارضته وعرقلته، بينما تجد أميركا أن عليها أن تمضي قدما في تشكيل "قوة الانتشار السريع" ففي مقال دير شبيغل المشار إليه أعلاه نقرأ: "فقد أعرب الأوروبيون عن عدم تفهّمهم الكامل لفكرة قوات التدخّل السريع بأكملها. وقد علم ذلك وزير الدفاع الأميركي هارولد براون في الأسبوع قبل المنصرم، وحتى قبل زيارة الرئيس الفرنسي جيسكار ديستان إلى ألمانيا الاتحادية في الآونة الأخيرة، وذلك عندما ذهب إلى باريس ليعرض مشاريعه على الفرنسيين. وقد لمس براون خلال ذلك عدم تجاوب وتفهّم للمشاريع الأميركية.." ويذكر الناس جيّدا تلك الأزمة التي حدثت بين أميركا وبين كل من فرنسا وألمانيا الاتحادية، وزيارة رئيس وزراء الدولة الأخيرة هلموت شميدت لأميركا وتصريحاته المعادية للمشاريع الأميركية المذكورة.

رابعا: يخشى الأوروبيين واليابانيون أن يؤدي التدخّل الأميركي العسكري في الخليج إلى الاصطدام بالاتحاد السوفييتي وبالتالي توريطهم بحرب صاروخية- نووية عالمية تكون بلادهم طعما لها.

  أما الولايات المتحدة الأميركية فتقف مطالبة حلفاءها بتسهيل استعدادها للتدخّل العدواني في الخليج. وكان كارتر مثلا قد طلب إلى الأوروبيين "حمل جزء اكبر من أعباء الناتو ليتحرر منه بعض القوات الأميركية التي يمكن توجيهها نحو الخليج العربي عندئذ*[9]."

د- إن الاستعمار الاستيطاني الذي وفّر للمستعمرين القدماء (بحماية قواتهم) مهجرا للارتزاق على أنواعه لأبناء بلدهم. وأيّد عاملة مختصّة لغرض استشفاف قيم وثروات المستعمرة. وقوى غريبة هدّامة لبنية المجتمع الوطني فيها، تحوّل في الاستعمار الحديث بدولته التي قامت بأولئك المستوطنين الغرباء إلى امتداد لقوة النظام الإمبريالي العالمي الموحّد بزعامة الولايات المتحدة الأميركية، ليس في المستعمرة فقط، وإنما في المنطقة كلها. حيث يقوم على حراسة مصالح النظام المذكور هناك. وهذا التحول يوازي تحوّل المستعمرات القديمة وأشباه المستعمرات إلى دول تشكّل "العالم الثالث" موضوع استغلال وقهر المستعمرين الرأسماليين الاحتكاريين. والدولتان العنصريتان إسرائيل وجنوب أفريقيا. هما مثال امتداد قوة النظام الإمبريالي إلى منطقتي نفط الخليج وذهب وماس ونحاس وأورانيوم جنوب أفريقيا وروديسيا والكونغو.

أعد الاستعمار إسرائيل لتكون مع نظام الشاه جناحي قوة صدّام أمامية ضد كل حركة تحرر قد تقوم في منطقة الخليج وفي المناطق المطلّة على طريق النفط والمجاورة لأقطار الخليج، وذلك قبل سقوط نظام الشاه وبعد انسحاب بريطانيا من شرقي قناة السويس في عام 1971. فنظام الشاه المذكور كان يقوم بحراسة حقول النفط الخليجية من أن يطرأ أي تغير يهدد علاقاتها بالاحتكارات النفطية العالمية، وبالتدخّل لقمع كل ثورة تحرر: وقد تدخل بالفعل كما ذكرنا أعلاه لمساعدة الحكومة الرجعية العمانية، كما احتل الجزر العربية الثلاث: الطمب الكبرى والصغرى وجزيرة أبو موسى، وهي جزر تتحكم بمضائق هرمز. أما إسرائيل فكانت لضرب حركات التحرر في أكثر أقطار المشرق العربي كثافة بالسكان. وتقدما اجتماعيا، وقوة عسكرية: مصر وسورية ولبنان والأردن، ولتشكل سدا يفصل هذه الأقطار عن أقطار مناطق النفط ويلهيها بعدوانه المستمر يوميا عليها عن الالتفات بجدّية إلى غير أمورها القطرية الضيّقة، وذلك منذ قيام هذه الدولة العدوانية الغاصبة. فإذا أُضيف هذا الأمر إلى نشاطات المستعمرين التخريبي، وإلى تجاوب الرجعية والانتهاز والجهل مع هذا النشاط في كل المشرق العربي، ثم نظرنا إلى النمو السرطاني للمصالح الفردية الضيقة في كل قطر من أقطار هذا المشرق، وجدنا بسهولة الأسباب التي قامت عليها كل تلك الحواجز الفاصلة بين مختلف جماهير الأقطار المذكورة التي يصعب عليها في هذه الأوضاع توحيد مسيرتها للخلاص والتحرر الكامل. ثم إن إسرائيل أُقيمت في فلسطين لفصل مغرب الوطن العربي عن مشرقه كما هو معلوم، وللمساعدة على العمل للحيلولة ضد كل وحدة، جزئيّة أو شاملة، لهذا الوطن.

ولم تتغير المهام المذكورة لإسرائيل في النظام الرأسمالي الاحتكاري العالمي بعد انهيار نظام الشاه. وإن كان قادتها يطمحون إلى أن توكل إليهم الإمبريالية القيام بدور في منطقة الخليج العربي ليصبح لهم هناك موطئ قدم يسهل لهم المزيد من المشاركة في نهب الثروات الطائلة هناك وقد عبّر بعض قادتهم عن أن بإمكان قواتهم الوصول بسهولة إلى الكويت، بل إلى أبعد منها. إلى مناطق الخليج الأخرى. إلا أن ما تعرضه إسرائيل حاليا كتدبير عملي :" شراكة أمنية جديدة تضمّ إسرائيل ومصر والولايات المتحدة الأميركية تبرز على شكل فرقة عمل واسعة هدفها منع انتشار الخمينية والشيوعية (اقرأ من فضلك:هدفها إخماد الحركات الوطنية: من عندنا) والدور الأميركي يكون تقديم المساعدة العسكرية والاقتصادية والتنسيق السياسي. أما مصر فتقوم بفرض "الهدوء" بالقوة على المناطق العربية، بينما تقوم لإسرائيل بمخابراتها وجهازها العسكري بحماية النظام المصري.." إلا أن النظام الرأسمالي الاحتكاري العالمي. على الرغم من اشتراك أميركا بمباحثات جدّية مع الطرفين الآخرين (المصري والإسرائيلي) حول "فرقة العمل الواسعة" الآنفة الذكر، يرى أن إسرائيل لم تنضج بعد للقيام بدور مباشر في الخليج للأسباب التالية:

- على الرغم من عدم ثقته بالرجعية والانتهازية العربية وأنظمتها، واعتقاده بأن إسرائيل هي الامتداد الثابت له في المنطقة فلا خطر من انقلابها في يوم من الأيام لتقطع معه بفعل "ثورة شعبية فيها" إلا أنّه يرى أنه ما يزال بحاجة إلى أولئك العرب الذين يصرون على إدامة الارتباط بشبكته العالمية فيحرص لذلك على عدم فضحهم بالسماح لإسرائيل بالتدخّل مباشرة بشئون الخليج.

- إن على إسرائيل أن لا تبدد قواها في مساحات واسعة من المشرق العربي. وأن يقتصر واجبها بالتالي على مواجهة الأقطار العربية القريبة المشار إليها أعلاه.

- وجوب مجيء أميركا بالذات لسد الثغرة التي أحدثها سقوط نظام الشاه في منطقة الخليج.

ه- إن المستعمرتين الاستيطانيتين الأخريين: جنوب أفريقيا وأستراليا. تشكلان امتدادين هامين لنظام القهر الإمبريالي على مدى مسرح المحيط الهندي الغربي والشرقي. وقد طلبت الولايات المتحدة الأميركية من أستراليا في تشرين الأول من العام الماضي*[10]:"أن تشترك في المجهود العسكري المتمحور في منطقة الخليج".

و- إن جماهيرنا، وفي طليعتها الشعب الفلسطيني الذي اغتصبت أرض وطنه، إلى جانب جماهير الشعب الإيراني، تقع في خط المقاومة الأول لمشاريع النهب والعدوان الأميركي في منطقتنا، التي تحاذي أيضا الاتحاد السوفييتي العدو الآخر للمشاريع المذكورة.

ز- إن الجهاز العسكري العالمي الذي تسيطر عليه الاحتكارية الأميركية والذي يتألف من قواتها وقوات حلفائها وأتباعها في العالم. مع ما يتوفر لهذا الجهاز من وسائل وقواعد، ومع كل ما ورائه من صناعة واقتصاد. هذا الجهاز قائم وهو لا ينقطع عن التطور في ميدان السباق مع الجهاز الآخر القائم في المعسكر الاشتراكي. فالقول إذن أن "قوة الانتشار السريع" التي قامت مؤخرا موجهة إلى الاتحاد السوفييتي هو من باب التمويه الذي لا ينطلي حتى غلة البسطاء. فالإمبريالية بداهة لن تذهب لملاقاة المعسكر المذكور ببضعة فرق فقط ، ولا بد من كل جهازها العسكري وكل ملحقاته لفعل ذلك. وحتى قولنا أنها قامت مؤخرا لا يعني أنها لم تكن موجودة من قبل. وإنما يعني فقط أنها تحددت ماديا وعينت لها قيادات خاصة بها ومهام محددة. فالجهاز العسكري الأميركي كما أسلفنا كان موجودا دائما، وكان باستطاعته في كل وقت تجريد قوة لتنفيذ مهمة طارئة (ولو بشيء من التأخير). يقول الجنرال فيكتور كرولاك القائد الأسبق لمشاة البحرية في المحيط الهادي*[11]:" إننا عندما نتحدث عن قوات التدخل السريع فإننا في الواقع لا نتحدث عن قوات فعلية على الإطلاق، بل حالة عقلية ونفسية ينبغي توافرها لدى القيادتين العسكرية والسياسية. فالولايات المتحدة الأميركية لا تحتاج إلى إنشاء قوات للتدخل السريع من جديد، إذ أن مثل هذه القوات موجودة أصلا منذ زمن بعيد. بل إن ما نحتاجه هو توافر العزم والقدرة على اتخاذ القرار، وإعادة ترتيب الأولويات الاستراتيجية على أسس جديدة.."

يقوم الاستعمار الحديث على شبكته الاحتكارية التي نشرها على كل العالم الرأسمالي بشقيه المتقدّم والمتخلف، والتي تتكفّل بحراستها قوى الرجعية والانتهاز والخداع والجهل في العالم الثالث، بدلا من جيوش الاحتلال التي كان الاستعمار القديم يرسلها إلى مستعمراته. وكانت طيلة الفترة الماضية مخابراته مع أدوات الضغط المختلفة: السياسية والاقتصادية والعسكرية ( أي وسائل نظامه الإمبريالي) المنتشرة في العالم تساعد تلك القوى المحليّة الخانعة على صيانة الشبكة المذكورة ورأب كل صدع فيها: بالتآمر، والتهديد، والتدخّل المباشر أحيانا (كما حدث في الفييتنام وكوريا مثلا) وكان على العموم لدى الإمبرياليين الأميركان في كل أزمة واجهوها في شبكتهم العالمية وقت كاف لعلاج الضرر الحاصل أو للتكيّف معه. إن الزلزال الذي حصل في منطقة النفط الخليجية بسقوط الشاه فاجأهم وبهر أنفاسهم وهدد (وما تزال أشباهه تهدد) بسقوط إمبراطورية النفط العالمية. وبالتالي زعزعة النظام الاحتكاري العالمي من أسسه واقترابه من نهايته المحتومة. لذلك عجّل الاحتكاريون الأميركان بإنشاء تلك القوة للتدخل بسرعة في الخليج للحؤول دون وصول الأمور عند اللزوم الحد الذي بلغته إيران. وهذا لا يعني أن هؤلاء الإمبرياليين لم يفكّروا بمثل هذا الأمر قبل سقوط الشاه. فمنذ قيام الأوبك بدأت الأصوات ترتفع هنا وهناك في بلاد المستعمرين "ناصحة" بوضع اليد على منطقة الخليج. وقد اشتد ارتفاع هذه الأصوات "بتجربة" قطع النفط عن أوروبا عام 1973. ثم تحولت إلى صيحات بطلب اغتصاب حقول النفط بعمل عسكري. ولكن نظام الشاه كان ينظر المستعمرين، وخاصّة منهم الأميركان ضمانا جيدا لبقاء تلك الحقول مرتبطة بمجاري شبكة الاحتكارات العالمية. فتأخر لذلك تشكيل القوة المذكورة إلى ما بعد انهيار ذلك النظام:" لقد كانت فكرة قوة الانتشار السريع تراود الحكومة الأميركية منذ شهر آب 1977. عندما أمر توجيه كارتر الرئاسي رقم 18 بتشكيل قوة متحركة يمكن أن تستجيب لحرب خاطفة دون تحويل القوات الأميركية من الساحات التقليدية في أوروبا وآسيا. لكن المر الهام لم ينفذ إلى أن هزّت ثورة إيران مركز الزاوية للنفوذ الأميركي قي منطقة النفط.."*[12].

وقد مرّ تشكيل "قوة الانتشار السريع" وشكل استعمالها، وتجهيزها بالوسائل، بالعديد من المناقشات والتجارب إلى أن استقر الرأي على قرار نهائي بشأن هذه الأمور وأعلن عن الانتهاء من بنائها في أواخر العام الماضي. فالوصول مثلا إلى الخليج انطلاقا من الولايات المتحدة الأميركية يتطلب المدد الزمنية التالية، وذلك حسب حجم القوة المراد نقلها، والوسائل المتاحة للعملية*:

- إن القدرة الأميركية الحالية لا تتعدى تركيز كتيبة واحدة أو كتيبتين على الأكثر خلال مدة 5-6 أيام. ويقول الجنرال كيلي قائد "قوة الانتشار السريع" إن الولايات المتحدة لن تمتلك قدرات النقل الجوي والبحري الكافية لتمكين القوة المذكورة من تنفيذ مهامها على الشكل المطلوب قبل عام 1985.

- يحتاج البنتاغون إلى ثلاثة أسابيع لوضع فرقة ممكنة (تعدادها 13 ألف رجل وفيها 300 مدرّعة) في منطقة الخليج، على أن تكرّس كل طائرة عسكرية وطائرة نقل مدنية متوفّرة لدى القيادة الأميركية لهذه العملية.

- لوضع قوة التدخّل برمتّها في الخليج يحتاج البنتاغون إلى ستة أشهر.

- إن إرسال الإمدادات من المقاتلات يشكّل "كابوسا" سوقيا. فقد احتاج مثلا سلاح الطيران إلى خمس ناقلات من طراز سي 141 و 28 من طراز سي 15 لنقل أكثر من أربعة ملايين باوند و450 شخصا لتدعيم سرب المقاتلات المكون من اثنتي عشرة طائرة ف-4 للاشتراك في المناورات التي جرت في مصر في نهاية العام الماضي.

- يحتاج الرئيس الجديد ريغن إلى إنفاق ما يزيد على سبعة مليارات دولار لبناء أسطول جوي جديد من طائرات النفط (130سي اكس). وذلك لنقل القوات إلى المنطقة المستهدفة. ويحتاج كذلك إلى خمسة مليارات دولار لبناء عشر سفن لنقل الأعتدة الحربية الثقيلة إلى منطقة العمليات*[13].

ولا تستطيع الولايات المتحدة الأميركية سحب قواتها من حلف الأطلسي لاستعمالها في منطقة الخليج. فتلك القوات تشكل ركنا أساسيا في هذا الحلف. وللحفاظ على قدراته لا بد من بقائها فيه أو بقاء بعضها على الأقل. على أن يحل أوروبيون مكان ما يُسحب منها ليوجه إلى الخليج. وقد مرّ معنا أعلاه كيف أن أميركا طالبت حلفاءها بزيادة مساهمتهم في الحلف ليحرروا بعض قواتها فيه للغرض المذكور*[14]. ثم إنه من غير المعقول إعطاء مهمتين: واحدة في أوروبا والأخرى في المحيط الهندي، لقوة عسكرية واحدة. لذلك أصبح من الضروري أن تعتمد الولايات المتحدة على احتياطها الموجود حاليا على أرضها للقيام بتدخل في الخليج. وهنا تبرز الصعوبات المارّة أمثلتها أعلاه التي لا يمكن القبول بها والوقوع تحت وطأتها في الحالات الطارئة. ونجد بالتالي (من خلال ما يبلغ علمنا من أخبار ووقائع) أن العقيدة الأميركية توقفت أخيرا عند رأي الجنرال جون كولينز، الذي يقوم حاليا بإدارة قسم الدراسات العسكرية في الكونغرس الأميركي. ويتلخص الرأي المذكور بما يلي*[15]:

- تكون أرض الولايات المتحدة الأميركية قاعدة انطلاق "قوة الانتشار السريع" ضمن الشروط التالية:

أولا: شحن القواعد القريبة من الخليج بكل ما يلزم القوة المذكورة من أسلحة وذخائر وآليات ومختلف المعدات الأخرى والمؤن. وقد أقلعت أول سفينة تحمل نحو 21 ألف طن من الإمدادات والذخيرة مع ناقلتي نفط ضخمتين تحملان النفط والمياه الصالحة للشرب وثلاث شاحنات تحمل المدرعات والمدفعية والجرافات ومعدات حربية ثقيلة أخرى من  الولايات المتحدة إلى جزيرة دييغو غارسيا. في منتصف السنة الماضية. ويقول ضابط البحرية هارولد جلاسجو:" إنني لم أر شيئا من ذلك القبيل في حياتي.. لقد صعدت السفينة ورأيت تراكتور برمائي كانت رائحته تشبه رائحة الكاديلاك"*[16].

ثانيا: تشكيل قوة بحرية خاصة بالمحيط الهندي.

ثالثا: توفير سفن النقل اللازمة لحمل مختلف الإمدادات من القواعد المذكورة آنفا إلى مسرح العمليات.

رابعا: عند الإحساس باقتراب الأزمة نقل الوحدات العسكرية المناسبة من قوة التدخل بالسفن والطائرات من أميركا إلى قواعد في دولة أو دول صديقة: كإسرائيل ومصر وعمان والصومال، للمرابطة فيها بانتظار التدخّل.

خامسا: عند وقوع الأزمة، قيام بعض الطلائع المتواجدة في الدولة أو الدول القريبة المار ذكرها باحتلال مساحة أو عدد من المساحات الأرضية الخالية القريبة من ساحة العمليات، لتحولها إلى مهابط موقتة تصلح لهبوط الطائرات المحملة بالجنود ومختلف الأسلحة والعتاد والوسائل الأخرى. وتستند العقيدة الأميركية الخليجية في هذا الأمر على أن الأراضي الخالية الصالحة لهبوط أنواع مناسبة من الطائرات منتشرة بكثرة في صحارى الجزيرة العربية وإيران.

سادسا: تدفق قوات التدخل على المهابط المهيأة الآنفة الذكر وبدء عمليات التدخل.

وقد جرت اختبارات عديدة لفكرة التدخل، فتناولت مختلف أطوار العملية ومختلف وسائلها، نذكر منها:

مناورة "العلم الأحمر" *[17]:

وقد بدأت بالاستيلاء على قطاع صحراوي مهجور في صحراء نيفادا يبعد حوالي مائة ميل شمال غرب لاس فيغاس. وقد انطلق فريق خاص من كوماندوس القوات البحرية على متن طائرة نقل من طراز (سي130هيركوليز). ونزل في القطاع المذكور وأحاط به. ثم تتالت الطائرات من ذلك الطراز محملة بالمواد والوسائل اللازمة لإعداد مهبط موقت. وقد انتهت العملية خلال أربع وعشرين ساعة، حيث أصبح المهبط المذكور قابلا لاستقبال الطائرات الحربية. ثم استمرت المناورة بتدفّق قوات التدخل وبمهاجمة أهداف افتراضية كرتل للدبابات المعادية، ومطار معاد الخ.

المناورات المشتركة في مصر:

كان هدفها دراسة الظروف الواقعية لعملية تدخل محتملة من كل النواحي: اللوجستية والتقنية والتكتيكية. فتم نقل كتيبة بتعداد 1400 جندي: منهم 800 مقاتل و600 من عناصر المساندة والإدارة والتنسيق، خلال ستة أيام استخدمت فيها ربع القوة الإجمالية الأميركية من طائرات (سي141) وهو 69 طائرة. و11طائرة (سي 15) من أصل 74 طائرة يملكها البنتاغون. ولم يتم تزويد القوة المذكورة بأية أسلحة مدرعة أو مدفعية ثقيلة. واقتصر دعمها الجوي على 26 طائرة هليوكوبتر متوسطة من طراز (1-7 كورسير). تم فرزها جميعها من قوات الحرس الجوي الوطني*[18]. وكما هو واضح هدفت هذه المناورات إلى اختبار الإمكانات المصرية للمساعدة على تنفيذ القسم الرابع الآنف الذكر من مشروع الجنرال جون كولنز، مع قياس المدة اللازمة لوصول القوات الأميركية إلى مصر.

مناورات مشاة البحرية في عمان: 

وقد أعلن عن انتهائها في 19 شباط 1981 واختبرت فيها عمليات الإنزال البرمائي. ففي 17/7/1980. عبرت قناة السويس خمس سفن حربية أميركية، بينها سفينة الاقتحام البرمائي "غواد القنال" وفيها مدمرتان وسفينتان أخريان. وكانت هذه السفن تحمل 1800 جندي من مشاة البحرية مع عشرين طائرة هليكوبتر (لتفريغ السفن على شاطئ مهجور بدون أرصفة ومعدّات تفريغ). ودبابات م-60، ومدافع هاوتزر عيار 105مم الخ..**[19].

عملية إنقاذ الرهائن:

  بدأت باحتلال مطار مهجور في الصحراء الإيرانية. ثم تعثّرت وفشلت فشلا مخزيا كما هو معلوم.

2- الستراتيجية الأميركية "الشرق أوسطية".

إن المفاهيم المشار إليها أعلاه للعقيدة الأميركية "الشرق أوسطية" هي التي توجه استراتيجية الولايات المتحدة الأميركية في هذه المنطقة. وهذا على اعتبار أن الأخيرة[20] تتولد من الأولى فتبني على تلك المفاهيم المواضيع التفصيلية المتعلقة بطبيعة أعمال التدخل الأميركي على اختلافها:السياسية والاقتصادية والعسكرية، في شئون الخليج والأقطار المجاورة*. وتقوم بإعداد الوسائل المادية للتدخّل، وتعمل على تهيئة الجو النفسي والسياسي لتبريره وقبوله من قبل الحلفاء والأصدقاء. والسكوت عنه والحياد من قبل غير الأصدقاء. وتلتزم الستراتيجية بالقوانين العامة والخاصة للصراع، وأهم مواضيع الصراع في منطقتنا هب التالية:

أولا: المصالح الاقتصادية وتأتي في مقدمتها المصالح النفطية.

ثانيا: الوضع الستراتيجي للنظام الإمبريالي العالمي. على اعتبار أن المنطقة التي تحاذي الاتحاد السوفييت من جهة، وتطل على العالم الثالث (عالم الثروات والقيم) وتتحكم بسبله من جهة أخرى، هي أهم منطقة ستراتيجية في النظام الآنف الذكر.

ثالثا: الحفاظ على إسرائيل.

رابعا: صيانة الرجعية وكل مؤسسات التخلف والخنوع للمستعمرين في المنطقة.

وإن أشد قوانين الصراع العامة خطورة بالنسبة إلى منطقتنا هو: أن ستراتيجية الحرب لا تناقض الستراتيجية السياسية أو الاقتصادية، فالحرب هي استمرار للسياسة ولكن بوسائل أخرى، حسب تعبير كلاوزفتزر. فسنستخلص من هذا القانون ما يلي:

أ- إن إسرائيل، امتداد النظام الإمبريالي العالمي الحديث الذي بنته وتزعمته وما تزال تتزعمه أميركا، عدو يغتصب أرضنا ويشن علينا حربا عدوانية دائمة ترمي إلى إبادة جزء من أمتنا هو الشعب الفلسطيني، كهدف أساسي تتلوه أهداف أخرى معروفة في ارض وطننا. فتكون مواقف أميركا إذن من امتداد نظامها هذا، عندما تمده بكل أسباب القوة المادية والمعنوية، وتسانده في المحافل الدولية بدون قيد أو شرط*.[21] نقول تكون تلك المواقف منسجمة تماما مع طبيعة علاقتها به: لا يمكن للسياسة الأميركية أن تكون بجانبنا، كما بشّر ويبشّر به بعضنا، في الوقت الذي تضربينا فيه بذراعها الإسرائيلي.

ب- عندما تكون أميركا عدوة في جزء من وطننا العربي فإنها لا تكون صديقة وحليفة في أي جزء آخر من هذا الوطن، لا يمكنها مثلا أن تكون صادقة عندما تدعي بأنها تعمل على "إنقاذ" الخليج من "الشيوعية الدولية" في الوقت الذي تنهب فيه ثروات هذا الخليج: نفطه ونقوده، بامتداد نظامها الرأسمالي الاحتكاري المثبت في منطقتنا بذراعها الإسرائيلي أولا، ثم بحشودها العدوانية القائمة في المحيط الهندي مؤخرا.. والواقع: أن مجموع تشكيلتها العدوانية القائمة على إسرائيل وعلى حشودها الآنفة الذكر وعلى مختلف أعوانها وذيولها في منطقتنا ما هي إلا لغرض إدامة ذلك النهب الذي تمارسه. وقد قلنا أن طموحات جماهيرنا في التقدم (الذي لن يتم إلا بالقطع مع شبكتها الرأسمالية الاحتكارية العالمية) هي ما تسميه "بالشيوعية الدولية" وما تحاول قتله تحت هذا الاسم.

إن الصراع يبدو في منطقتنا معقدا وفيه يتلون العداء والعدوان الأميركيين بألوان مختلفة تبعا للمكان والزمان. ففي فلسطين وما حولها يتجلى العداء الأميركي بالعدوان الإسرائيلي المستمر على الشعب الفلسطيني وعلى شعوب الأقطار العربية المجاورة، في الوقت الذي تتظاهر فيه أميركا بالحياد وتدفع أتباعها (الذين يصرون على إدامة ارتباطنا بشبكتها الاستعمارية العالمية) إلى العمل على "الفصل بينها وبين امتدادها العدواني الإسرائيلي، وبالتالي السكوت على ما تقوم به من نهب في الخليج. وهذا ما يسمح أيضا للرجعية هناك بأن تتظاهر بالعداء لإسرائيل دون التخلي عن الارتباط بأميركا. أما في منطقة الخليج فهي (بعد سقوط الشاه) تستعد للتدخل المباشر، إلا أنها بدلا من ان تضع على وجهها قناعا كالقناع الإسرائيلي، فإنها تفرض على الحركة الوطنية قناعا كاذبا فتتهمها "بالشيوعية الدولية"، لتأني بهذه الحجة بوجه سافر لمحاولة القضاء عليها".

ونقول للقائمين على شئون النفط مرة أخرى: إن الأميركان الذين قتلوا شعوبا برمتها، وشرّدوا بإسرائيل الشعب الفلسطيني (بأغنيائه وفقرائه، بأصحاب العمل والعمال، بملاّكيه وفلاّحيه، لن يسمحوا لهم بالبقاء أبدا في ديارهم إذا قدّر لهم يوما (لا سمح الله) تحقيق هدفهم الكبير باحتلال حقول النفط بقواتهم العسكرية سيحوّلون عندئذ هذه الحقول إلى "مشيخات" كل حقل "مشيخة" وسيستبدلون عربها بالأغراب من الأميركان والكوريين والتايوانيين وغيرهم من خليط الأمم، لتبقى لهم وحدهم دون منازع أوشريك. أما حفظ هذه الثروات والقيم لنا ، فلن يكون إلا بالجماهير العربية الكثيفة في أعماق الوطن العربي، وليس حول الخليج فقط.

خواص العدوان الأميركي:

إن الخاصة الأساسية للعدوان الأميركي هي التي نجدها في كل أرض يتناولها الاستعمار العالمي بنظامه الرأسمالي الاحتكاري فيغطيها بشبكته. ويولي عليها أعوانه، ويعمل بشتى الوسائل على حرف وتعطيل تقدمها نحو أهدافها الوطنية، ويمارس فيها نهب ثرواتها وقيمها وفي منطقتنا يتميز العدوان الأميركي بدعواه الهمجية بأن له مصلحة في نفطنا فوق مصلحتنا، وأن علينا أن نضمن وصول هذا النفط إلى مستودعاته، وإلا فهو على استعداد لأخذه منا "قوة واقتدارا".. إن العدوانيين على مرّ تاريخ الأمم المتمدنة كانوا يبررون عدوانهم، ولو كذبا، ببعض الذرائع "المثالية" فكنا نرى مثلا المستعمرين القدماء الفرنسيين يغطون همجية عدوانهم بذريعة "تمديننا".. وكان النازيون يدعون أن العالم سيكون بحالة أفضل لو قاموا هم "كعرق متفوّق" بترتيب أموره.. أما "البزنس مان اليانكي" فقد عاد بالإنسان وبعلاقاته الدولية إلى ما قبل أربعة آلاف من السنين عندما كان مثلا ملك أكد منشتوسو يعلن ببساطة، تماما كما يعلن اليانكي "حقه" في نفطنا، أنه يغزو بلاد عيلام ليستولي على مناجم الفضة فيها، وليحصل منها على حجر الديوريت لتصنع منه تماثيل تخلّد ذكره في الأعقاب"*[22]... نقول إذن أن العدوان الأميركي الأساسي لا يدلّ إلا على تخلّف مدبريه وقادته وعدم انسجام مخططاتهم مع المعطيات المادية لعصرنا. فبلاد النفط من جهتها لا تفكر أبدا بقطع إمداداتها النفطية على محتاجيها، وما تطمح إليه جماهير هذه البلاد هو الحصول على حقوقها من النفط وفي أراضيها المغتصبة. ومن ناحية أخرى نجد أن السوية التقنية الحالية في العالم تفرض التعاون بين الأمم، وليس الاغتصاب والقرصنة، لا سيما في حقول النفط "السريعة الاشتعال" ونجد في النتيجة أن النظام الرأسمالي الاحتكاري العالمي يسير بقيادة الاحتكاريين في طريق لا تؤدي إلا إلى هلاكه. فالصناعة المتقدمة في العالم (على عكس القائمين عليها الاحتكاريين) ليست بحاجة إلى إسرائيل وإلى حشود العدوان في المحيط الهندي كي يصلها نفط الخليج، بل إن ما يدبره احتكاريو أميركا من خطط العدوان لن يؤدي إلا إلى إلحاق الضرر البليغ في الصناعة العالمية بإشعال حقول النفط وتخريبها. و "مهما كانت الظروف، يعتقد بعض الخبراء، أن بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية سيكون من شأن إرسال غواصاتها وسائر قواتها إلى المنطقة أن يحقق الكابوس الخطير الذي تحاول ستراتيجية الانتشار السريع تجنبه وهو: الخفض الحاد في موارد النفط إلى الغرب. والشيء الوحيد الذي يبدو مؤكدا هو أنه إذا نشبت الحرب في منطقة الخليج، فإن الأهداف الأولى المعرضة للدمار، سواء على أيدي قوات داخلية أو أجنبية، هي المرافق الحيوية والتسهيلات المتعلقة بالنفط.. كما قال مستشار شئون النفط الأميركي والتر ليفي في مقاله في مجلة الشئون الخارجية"*[23].

والخاصة الهامة الأخرى للعدوان الأميركي علينا هي وقوعه في منطقة لا تتشابك فيها طرق المواصلات الحيوية العالمية فقط، وإنما تتشابك فيها أيضا مصالح عالمية:إمبريالية وغير إمبريالية. فما من دولة في العالم إلا وتتأثر بما يحدث عندنا، أكان العدوان المذكور على شكل حرب إسرائيلية تشن ضدنا، أم على شكل تدخّل مباشر واسع النطاق للقوات الأميركية، وهذا يعود إلى ما نشير إليه يوما وهو: تفرّد وطننا العربي باحتياطه النفطي الهائل وبموقعه الجغرافي الحسّاس.

لقد كان التأثر العالمي بالعدوان الاستعماري على فييتنام مثلا لا يقوم على الآثار المادية العالمية لهذا العدوان مثلما كان يقوم على انعكاسه المعنوي في المجتمع الإنساني، الذي استفظع واستنكر تلك الهجمات الوحشية من قوى عظمى كانت آخرها قوة أميركا، على شعب صغير باسل قليل الوسائل، والذي مجّد في ذات الوقت وحيّا بطولة هذا الشعب وانتصاره على تلك القوى العملاقة الواحدة تلو الأخرى. أما الآثار العالمية للمخططات العدوانية التي تدبّرها أميركا ذدنا، وآثار  عدوان هذه الدولة القائم باستمرار بشتى الأشكال في منطقتنا، فهي آثار مادية تتناول كل المجتمعات الإنسانية، بسبب أن النفط يشكل حاجة ملحّة لكل مجتمع إنساني، بل لكل فرد من بني الإنسان.ولأن توقفالمواصلات العالمية المارة ببلادنا بسبب الزعازع التي تحدثها تلك الدولة القرصان عندنا من وقت إلى آخر تؤثر بتجارة وصناعة كل الأمم تقريبا. ويُضاف إلى هذا بطبيعة الحال وقوف الإنسانية المنصفة (وخاصة منها المقهورة مثلنا) إلى جنبنا، كما يُضاف أيضا انزعاج وخوف شركاء أميركا الإمبرياليين الآخرين من فرط شراهة وأنانية هذه الدولة المغامرة.

  ونضيف أيضا خاصة هامة أخرى للعدوان الأميركي علينا وهو أن هذه العدوان يأتي في سياق صراع حضاري قديم يتجدد باستمرار بتجدد الظروف والأطوار التي تمر بها جملة المجتمعات الإنسانية. فالأميركان الصهاينة ورثوا عن أجدادهم البدائيين (الذين كانوا يعانون شظف العيش في مجاهل الصقيع الأوروبي وفيما وراء القفقاس وقزوين) شهواتهم الجامحة الجيّاشة في ثروات ودفء العالم الحضاري الذي كان عالم الإسلام. وقد تتالت حملاتهم الصليبية علينا أو حملاتهم الصهيونية لا فرق*[24].إلى أن أتت الإمبرياليات الرأسمالية الاحتكارية القديمة واقتسمت فيما بينها وطننا العربي في القرن الماضي وفي أوائل هذه القرن. ثم أتت الإمبريالية الموحّدة المتعددة الأطراف بزعامة الولايات المتحدة الأميركية. لتفتتح حلقة جديدة في هذا الصراع الطويل، وهي الحلقة التي نعيشها حاليا والتي يأمل فيها المستعمرون، كما أملوا دوما في كل غزواتهم الماضية وارتدّوا خائبين، إنهاء وجودنا كأمّة، في الوقت الذي تتقدم فيه جملة المجتمعات الإنسانية بقدم ثابتة نحو إنهاء هذا النظام الشائن، بنظام الرأسمالية الاحتكارية العالمية لصالح الطور الأعلى. طور النظام الاشتراكي العالمي. وهذا يعني أننا نساهم حاليا مساهمة فعّالة حاسمة في دفع عجلة الخلاص والتقدم الإنساني عندما نرد الموجات المتتابعة لعدوان هؤلاء البرابرة، وعندما نسعى في ذات الوقت بهذه الأفعال إلى تحقيق مطامحنا الوطنية.

الجهاز العسكري العالمي الأميركي:

إن القوّة العسكرية الأميركية ليست مجرد عدد من الجيوش يفرزها مجتمعها، كما كان الأمر في ماضي الزمان حتى قيام الإمبريالية الموحّدة المتعددة الأطراف في نهاية الحرب العالمية الثانية، وإنما هي جهاز حي معقّد ينتشر في كل العالم الرأسمالي الاحتكاري، متقدمة ومتخلفة. وهو يقوم على هيكل يتألّف من نحو ألفي قاعدة تنتشر في أكثر من ثلاثين بلدا موزّعة توزيعا ستراتيجيا في مختلف مناطق الأرض. وحسب مواصفات البنتاغون: هنالك 340 قاعدة منها مصنّفة قواعد أساسية أو رئيسية بالنسبة إلى ما حولها من قواعد. ويرابط نحو ربع القوات المسلّحة الأميركية، أي قرابة نصف مليون جندي، في تلك القواعد، مع نحو 1500 طائرة حربية، و250 سفينة قتال ومساندة. وعدد من وحدات مشاة البحرية، بالإضافة إلى ما فيها من مختلف المستودعات وورش الصيانة والمخابئ*[25]. الخ وتتنوع مهام القواعد الأميركية فمنها للجيوش البرية، وأخرى للأساطيل البحرية، وثالثة للأساطيل الجوية، وبعضها للاتصالات المباشرة أو عبر الأقمار الصناعية، والبعض الآخر للتصنّت لأو للتشويش على مخابرات الغير أو للمراقبة على أنواعها والإنذار الخ..

وأكبر قاعدة بين هذه القواعد هي بطبيعة الحال أرض الولايات المتحدة الأميركية، وتليها أراضي الدول الاستعمارية الشريكة، ثم المستعمرات الاستيطانية كإسرائيل وجنوب أفريقيا وغيرها.

 وترتبط القوى العسكرية الأميركية على اختلافها، مع ملحقاتها بتلك القواعد، في إقامتها الثابتة أو في تحركاتها في العالم، فتتلقى خدماتها: أي ا، الجهاز العسكري العالمي الأميركي يتمكن على العموم من توفير ما تحتاجه كل قوة فيه من إمداد بالسلاح والذخيرة والمؤن والوسائل الأخرى من القواعد التي تصادفها على طريقها أثناء تحركها لأداء مهمة ما، مع ما تحتاجه من مختلف المساعدات والمعلومات المتعلقة بهذه المهمة. فالإمداد (اللوجستيك) لا يأتي فقط من مؤخرات الجيوش (كما كان عليه الأمر على العموم في الماضي) بل إن هذه الأخيرة تتحرك في "ساحة" إمدادات وتسهيلات ومعلومات تنطلق من مختلف القواعد المحيطة بطريق وبمنطقة عمليات الوحدة العسكرية المستفيدة. وهذا ما ينسجم مع أشكال الصراع الحديث الذي يدور على سطح منطقة أو دولة أو مجموعة دول الخ.. بالإضافة إلي قيامه على حبهات قتال. والولايات المتحدة الأميركية ليست وحدها التي تمتلك مثل هذه الجهاز العسكري العالمي، وهنالك ما يضاهيه أيضا بالضرورة في المعسكر الاشتراكي. مع فارق حاسم هو: أن جهاز الولايات المتحدة يقوم كله على أرض نظام تجرف أسسه تيارات التاريخ، على أرض تهتز بالزلازل.

إن المجموعة التي تضم البنتاغون بما فيه من ارتكازات ومصالح، وما يرتبط به من مكاتب أبحاث متنوعة، ودوائر تجسس واتصال واستطلاع عادي أو بواسطة الأقمار الصناعية، ومختلف قيادات المسارح والجيوش والأساطيل في العالم مع وسائلها، ومكاتب الملحقيات العسكرية في سفارات دول العالم وغير هذا من الأنظمة الموجهة واللاقط، تشكل "الجملة العصبية" للجهاز العسكري الأميركي الذي نحن بصدده. ويعمل البنتاغون، دماغ الجملة المذكورة، تحت إشراف مكتب الأمن القومي ذي التركيب والامتدادات المعقدة في الولايات المتحدة الأميركية وفي العالم والمرتبط مباشرة برئيس الولايات المتحدة الأميركية، كما تعمل دائرة مخابراته العسكرية بالتنسيق مع دائرة المخابرات المركزية (سي.أي.إي) وله صلة وثيقة مع الاحتكارات ورجال الأعمال بطبيعة الحال، فهو "زبونهم الأول" *[26]. لا في أميركا فقط وإنما في العالم أجمع بسبب المبالغ الهائلة التي تخصص له لينفقها على التسلح.

ويسيطر الجهاز العسكري الأميركي بمختلف الأحلاف والمعاهدات والعلاقات التي تقيمها وتعقدها دولته "الولايات المتحدة الأميركية" على أجهزة عسكرية وجيوش ومواقع الدول الأخرى في العالم الرأسمالي، ويجعلها امتدادا له في أصقاع هذه الدول*.[27]

أ- يوفر له حلف الأطلسي غطاء عسكريا يمتد على أوروبا الرأسمالية وعلى تركيا شرقا، وعل كندا: وجزيرتيغروئنلندا وايسلندا غربا. وبذلك فإن هذا الجهاز العسكري يمتد على دول وأراض تشكل قوسا يدور حول النصف الشمالي للمحيط الأطلسي بأكمله. ويُضاف إلى هذا، بطبيعة الحال، السواحل المطلة على البحر الأبيض المتوسط لأوروبا وتركيا وإسرائيل (ومصر مؤخّرا بكل أسف).

ب- يمتد بالمعاهدات المعقودة مع اليابان، وبالعلاقات التي تفرضها دولته على كل من كوريا الجنوبية، وتايوان، والفلبين، وسنغفورة، وتايلند، إلى شرقي آسيا وجنوب شرقها. فإذا نظرنا إلى الموقع الجغرافي للولايات المتحدة الأميركية ولحلفائها وأتباعها في المحيط الهادي، نجد أن جهازها العسكري يشمل قوسا هائلا يدور حول المحيط المذكور، ذاهبا من السواحل الغربية لهذه الدولة، فسواحل كندا، فألاسكا، ثم شرقي آسيا حتى أستراليا ونيوزلندا.

ج- بعلاقات أميركا بأستراليا وجنوب أفريقيا وإسرائيل ومصر والصومال وكينيا وبدول الخليج العربي وبالمستعمرين القدماء الافرنسيين والإنجليز، يتوفر للجهاز العسكري المذكور وجودا راسخا في المحيط الهندي.

د- تحصل أميركا على قواعد، "وتسهيلات" مختلفة في العديد من الدول الإفريقية، كما أن وجودها في أميركا اللاتينية لا يحتاج إلى الشرح.

هذه هي ملامح الجهاز العسكري العالمي الأميركي وخطوطه العامة، فهو إذن بهذا الاتساع والضخامة لن يتغير نوعيا إلا بوقوع تطور حاسم في أسلحته ووسائله يدعو إلى انقلاب في علاقاته الداخلية وفي ستراتيجيته وتكتيكاته، وليس بظهور "قوة انتشار سريع" فيه مثلا.

وهو ما قصده الجنرال الأميركي فيكتور كرولاك بقوله الذي استشهدنا به أعلاه، ونعيد منه هنا العبارة التالية:" إننا عندما نتحدث عن قوات التدخل السريع فإننا في الواقع لا نتحدث عن قوات فعلية على الإطلاق.. فالولايات المتحدة الأميركية لا تحتاج إلى إنشاء قوات للتدخل السريع من جديد، إذ أن مثل هذه القوات موجود أصلا منذ زمن بعيد.." وهذا القول ينطبق على الواقع، فمثل الجهاز العسكري الذي رأينا ملامحه أعلاه له، على العموم، إمكان الرد ( ولو بشيء من البطء والتردد) على كل أمر طارئ بالقوة المناسبة. وسنرى فيما يلي مثال ذلك في الشكل الذي ستقوم به "قوة الانتشار السريع".

قوة الانتشار السريع:

إنها تجريدة "مستعارة" من صلب جيوش برية وأساطيل بحرية وجوية ومصالح قائمة في الجهاز العسكري العالمي الأميركي لاداء مهمة محددة. في المكان والزمان، ثم تعود إلى "منابعها" فور انتهاء هذه المهمة. تقول دير شبيغل الألمانية في مقالها الذي أشرنا إليه سابقا عن هذه القوة ما يلي:".. ومن مركز قيادته الواقع في أحد العنابر الموجودة في قاعدة ماك ديل الجوية في ولاية فلوريدا، يستطيع الجنرال كيللي قائد قوات التدخّل السريع في أي وقت كان إصدار أوامره إلى حوالي مائتي ألف رجل من القوات المسلحة الأميركية على اختلاف فروعها- وهذا العدد يعادل عشر عدد القوات الأميركية الإجمالي- وسحبهم من وحداتهم المتواجدين فيها لتنفيذ أوامره.. ومركز قيادته الواقع بالقرب من مدينة تاميا. مرتبط مباشرة بقيادته القوى الاحتياطية العائدة للقوات المسلحة الأميركية. وكلاهما مرتبط بمجمع يحتوي على شبكة معقّدة من أجهزة الكومبيوتر التي "تنظم العمل العسكري في أكبر بقعة في العالم بين مدينتي هايدلبرغ وهونولولو"..

إن أول ما نلاحظه هنا هو أن هذه القوة لا يمكن إلا أن تكون موجهة ضد جماهير العالم الثالث الثائرة ضد نظام القهر العالمي الأميركي. ذلك لأن تعدادها الذي يساوي عشر القوات الأميركية البرية بأكملها، يتجاوز بداهة بكثير عشر قوات الاحتياط التي تفرزها، والتي تعسكر على أرض الولايات المتحدة الأميركية، الأمر الذي يعطّل جاهزية هذه القوات الأخيرة تعطيلا كاملا. وتصبح غير ذات فائدة. وبالتالي لا يمكن أن تكون قوة الانتشار موجهة ضد المعسكر الاشتراكي، لأن مواجهة قوى هذا المعسكر تتطلب أول ما تتطلب الاحتفاظ بالاحتياطي الأميركي جاهزا. ثم إنه من غير المحتمل أن تشتعل الثورات في كل العالم الثالث في آن واحد ضد النظام الإمبريالي الحديث (وهو أمر فيه الخلاص السريع من قهر هذه النظام وحبذا لو وقع). لذلك لا يكون في حساب الأميركان اشتباك ضد ثورة في اكثر من عدد محدود جدا من الأمكنة في العالم الثالث (في مكان أومكانين مثلا) فتكون القوة المذكورة بالتالي باعتقادهم كافية ولا يطول انشغالها لتعود عناصرها إلى أمكنتها في قطعات الاحتياط الذي يسترد عندئذ جاهزيته (وكم خاب فأل المستعمرين أمام تصميم الثوار!.. ألم تشغل الثورة الفييتنامية أميركا برمتها، فضلا عن اشغالها مئات ألوف الجنود الأميركيين، على مدى سنين طويلة؟..)

  وهنالك مختلف أشكال الدعم "لقوة الانتشار السريع"، وأنواع الوسائل المهيأة لتكون بخدمتها عندما تؤدي مهمتها، وشتى التسهيلات التي تتلقاها في طريقها إلى ساحات التدخل نذكر منها ما يلي، وهي تخص التدخل في منطقة الخليج:

أ- القواعد العسكرية:

يسير بدون انقطاع خط القواعد العسكرية الأميركية الذي يمكن أن تتحرك عليه "قوة الانتشار السريع" من أميركا إلى الخليج في أحد الاتجاهين المتكافلين جغرافيا: اتجاه أميركا-الخليج، عبر الأطلسي. فالمتوسط، فالبحر الأحمر، فالمحيط الهندي، فالخليج، واتجاه أميركا-الخليج-عبر المحيط الهادي، فالهندي، فالخليج. ولكن الخط الأول يبدو من ناحية التسهيلات هو المفضّل لكثافة القوات العسكرية والقواعد والمستودعات (المجاورة لمنطقة الهدف) التي يمر بها.ففي الاتجاه تتوزع القواعد على مسرحين:

الأول: مسرح البحر الأبيض المتوسط. وتنتشر فيه القواعد الأميركية على الشكل التالي:

- قواعد إسبانيا في سارغوسة، وتوريخون ديس أوردوس قرب مدريد. وفورنتيرا قرب إشبيلية، وروتا الشهيرة التي هي مجمّع ضخم يتضمّن الأرصفة لاستقبال السفن الحربية من كل الحجوم، والمطارات الكبيرة والمستودعات الواسعة التي منها مستودعات الأسلحة الصاروخية النووية. وورشات التصليح والصيانة من كل الدرجات، وأماكن الاستراحة لأعداد ضخمة من الجنود. وهنالك قواعد عديدة أخرى.

  إن كل القواعد الأميركية في هذا البلد مترابطة فيما بينها ومع عدد من الموانئ بشبكة من الأنابيب الضخمة، وخطوط الإنذار الراداري والاتصال والتوجيه.

ولبريطانيا قاعدة جبل طارق، كما أن لحلف الناتو قواعد في جزر الخالدات التابعة للبرتغال وهي التي مرّ فيها الجسر الجوي الأميركي إلى إسرائيل في حرب تشرين 1973.

- قواعد إيطاليا في: فاينزة للطيران، ونابولي للأسطول السادس، ولامدلينا في سردينيا للأسطول السادس أيضا، وسيغونيللا في صقلية لمختلف المهام الجوية كالتموين بالوقود وبطائرات الصهريج وللرصد والاستطلاع في الأجواء المتاخمة وللتشويش الراديو أليكتروني ضد الطائرات والسفن على اختلافها. وهنالك أيضا قاعدة التجارب للصواريخ وللقنابل النووية (تحت الأرض) في سانتو دي كويرا في جنوب شرقي سردينيا الخ.. وفي إيطاليا قواعد خاصة بحلف الناتو كما يوجد فيها تجمعات جوية ضخمة، ومستودعات للذخائر والوقود وورشات التصليح. وتقيم فيها هيئة أركان الأسطول الأميركي السادس (في شمال ميناء نابولي). وهي وإسبانيا تشكلان جسري الناتو إلى الشمال الإفريقي الذي يُعتبر جزءا متمما لجنوب هذا الحلف، ما دام العرب ممزقين.

- قواعد اليونان وقبرص في: جوار أثينا للطيران الحربي على أنواعه، والبيرة للأسطول السادس، وكريت للتدريب على الصواريخ والدبابات، وفاماغوستا، في قبرص للطيران. وهنالك قواعد أخرى في هذين البلدين.

- قواعد تركيا: أقام الأميركان في تركيا أكثر من خمس وعشرين قاعدة أهمّها في: اسكندرون للبحرية، وأضنة للطيران، وأنجرلك في سهل العمق للطيران، وإزمير للبحرية، وإزميت للبحرية أيضا، وطربزون وقه مورسل على البحر الأسود للتصنت والتشويش.

ويرابط في تركيا نحو سبعة آلاف جندي وضابط أميركي، وعدد من أسراب الطيران التكتيكي، وتنتشر عليه شبكة واسعة لعملاء وكالة المخابرات المركزية الأميركية.

الثاني: مسرح المحيط الهندي، وتعمل الولايات المتحدة حاليا بدأب كبير لتكثيف وجودها فيه. وبالإمكان تصنيف قواعد هذا المسرح بحسب طرق النفط العالمية الآتية من الخليج في أربع مجموعات:مجموعة قواعد الخليج الذي يشكل بطبيعة الحال هدف كل هذه الإعدادات التي نشاهدها اليوم. نذكر منها ما يلي، مع العلم أنها من مخلفات المستعمرين القدماء الإنكليز: قاعدة جوية في الكويت، وقاعدة بحرية في المنامة (البحرين) وأخرى في الدوحة (قطر) وقواعد جوية وبحرية في الشارقة (رأس الخيمة) ومسقط (عمان).

- وقاعدة جوية في الظهران أقامها الأميركان عندما حصلوا على امتيازات النفط في السعودية.

- وفي الخليج مئات الألوف من الأغراب الأميركان وسواهم ممن تخضع بلادهم لهؤلاء المستعمرين. ولا ينقصهم سوى الأسلحة ليصبحوا جيش احتلال للمنطقة النفطية.

- مجموعة قواعد البحر الأحمر وفيها منطقة إيلات والنقب وسيناء التي ستضم مجمّعا ضخما من القواعد البرية. والبحرية والجوية لا يضاهيه بميزاته الستراتيجية أي مكان آخر في العالم.ففي هذه المنطقة حاليا قاعدة بحرية في إيلات وقاعدتان جويتان ضخمتان في سيناء. وقد رصدت الحكومة الأميركية في أواخر شباط 1981. مبلغ ثلاثة مليارات دولار، لإقامة قاعدتين جويتين في النقب تحت اسم "تعويض إسرائيل عن قاعدتي سيناء الآنفتي الذكر اللتين ستسلمان إلى مصر بموجب اتفاقية كمب ديفيد" ثم إن مصر "تمنح" حاليا أميركا تسهيلات على أراضيها ومن جملتها استخدام ميناء الغردقة الهام، كما تسعى إلى دفع أميركا لتقيم قاعدة لها في منطقة خرائب البرنس التي يمتد منها في البحر رأس بنعاس فيحصر خليجا عميقا يوفر شروطا جيدة لقاعدة بحرية.

ويمكن أن نلحق بهذه المجموعة قاعدة جيوبوتي الفرنسية، وقاعدة بربرة الصومالية، وقاعدة مومباسا في كينيا.

- مجموعة قواعد شرق وجنوب أفريقيا وهي من مخلفات المستعمرين القدماء وفيها: القواعد في أرخبيلات المحيط: مالديف وسيشل والمدمرة البحرية، وقاعدة دييغو سواريس البحرية في مدغشقر وقاعدة تموين الغواصات في الرينيون وهما فرنسيتان، وقواعد جنوب أفريقيا التي منها: القاعدتان البحريتان في دربان وسايمنستون.

- مجموعة جنوب وجنوب شرق آسيا، وفيها قاعدة دييغو غارسيا الشهيرة التي تصاعدت تكاليف إقامتها منذ عام 1971 حتى الآن إلى أكثر من عشرة مليارات دولار وهي بحرية وجوية وبرية وتحتوي على المخابئ الذرية والمستودعات على أنواعها وورشات التصليح وغيره. وهي مهيأة لتكون المقر العام لقيادة مسرح عمليات المحيط الهندي، القيادة التي شكلت وعينت في مطلع 1981. وفي هذه المجموعة قاعدة جزر كوكس البحرية وقاعدة سنغفورة للبحرية والطيران. والشاطئ الغربي لأستراليا وعليه قاعدة كوكبورن البحرية وقاعدة نورث للمراقبة الألكترونية.

ب- الأساطيل البحرية الحربية:

قال مسئول في وزارة الدفاع الأميركية:" إن الولايات المتحدة الأميركية ستعمل على تخفيض عدد سفنها الحربية المرابطة في البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهادي بهدف الإبقاء على وجود بحري ضخم في المحيط الهندي (بما في ذلك بحر العرب وخليج عُمان والخليج العربي)من الآن وحتى موعد غير محدد في المستقبل"*.[28] ويقول تقرير وفد الكونغرس الأميركي الذي أشرنا إليه أعلاه أن القوة البحرية الأميركية في المحيط الهندي تتألف من 25 سفينة حربية تنقسم إلى مجموعتين مقاتلتين تتزعم كل منهما حاملة طائرات. وفي الوقت الذي زار فيه الوفد المذكور القوة المذكورة وجدها تتألف من حاملة الطائرات نيمتز (التي تُدار بالطاقة النووية) وحاملة الطائرات كورال سي (التي تُدار بالطاقة العادية، مع 5 بوارج، و5 طائرات، و4 مدمّرات، وعدّة غواصات، و5 سفن معاونة، وسفينة قيادة. ويقول التقرير المذكور أن القوة الرئيسية لهذه الحملة البحرية تتمثل في مقدرتها الجوية التكتيكية. فهناك على الحاملتين حوالي 160 طائرة، منها أكثر من 100 طائرة قتال. وتحمل نيمتز الطائرات المتقدمة ف-14 التي تطلق صواريخ جو/جو فينيكس البعيدة المدى، بينما تحمل كورال سي طائرات الفانتوم ف-4 كما أن كليهما تحملان الطائرات الهجومية أ-6  و أ-7  وللقوة البحرية إمكانات لتزويد الطائرات بالوقود أثناء الطيران، الأمر الذي يزيد من المدى القتالي للطائرات ويتيح لها تغطية منطقة الخليج بأسرها*.[29]

ج- الأساطيل البحرية للنقل:

 للولايات المتحدة 64 سفينة برمائية معدة للعمل عند الطلب في منطقة الشرق الأوسط. ويتضمن مبدأ كارتر للتدخل في الخليج تزويد الأسطول البحري الأميركي بأربع عشرة سفينة سريعة لنقل المؤن والأسلحة والمتفجّرات*.[30]

د: الأساطيل الجوية للقتال:

من بين 77 سربا من الطائرات القاذفة والمقاتلة التابعة لسلاح الجو الأميركي المرابط على أرض الولايات المتحدة الأميركية، تتمكن هيئة الأركان هناك من تخصيص عدد من الأسراب يتراوح بين 16و21 سربا بينها ثمانية أسراب من طراز ف-15 للعمل في الخليج عند اللزوم. وقد قامت في العام الماضي الطائرات المقاتلة، والطائرات التي تحمل أجهزة رادارات للإنذار المبكر بمناورات في مصر والسعودية*[31]. لكسب الخبرة في المنطقة.

ه- الأساطيل الجوية للنقل:

لدى الولايات المتحدة الأميركية نحو 70 طائرة سي-5أ عابرة للقارات، ونحو 234 طائرة سي-141 ستار ليفتر عابرة للقارات أيضا، ونحو 500 طائرة نقل تكتيكي سي-130 للمسافات المتوسطة بين إسرائيل والخليج مثلا. وكل هذه الطائرات تنقل جنودا بكامل أسلحتهم، أو حمولات من الأسلحة والذخائر ومختلف الإمدادات الأخرى. وهنالك مشاريع لزيادة عدد هذه الطائرات ولتعديل الموجودة منها لرفع قابليتها في الحمل وزيادة مدى طيرانها.

و- بعض مواصفات النقل البحري والجوي الأميركي: *[32]

إن السفن البر مائية المذكورة آنفا دخلت الخدمة بين عامي 1961 و1980 فمنها ما يستخدم الهليوكبتر فقط للتفريغ بنقل الأثقال من السفينة إلى البر. ومنها ما تحتوي الواحدة على حوض يقوم في مؤخرتها ليُملأ بالماء الذي تطفو عليه الزوارق البرمائية التي يمكنها عندئذ أن تخرج إلى البحر من أبواب تفتح لها لتذهب إلى البر وتفرغ حمولتها وتعود إلى حوضها في السفينة لتأخذ حمولة أخرى وهكذا. وعلى هذه السفن أيضا مهابط لطائرات الهليوكوبتر التي تشترك مع الزوارق البرمائية في عملية التفريغ والشحن. وهنالك أيضا سفن حديثة تحمل (بالإضافة إلى الأحواض ومهابط الحوامات) رافعات وأرصفة عائمة مفككة يمكن تركيبها أمام ساحل الاقتحام لتنزل عليها بالرافعات المذكورة الدبابات والمركبات والمعدات الهندسية وغيره مما تحمله السفينة. وذلك عندما يتعذر استخدام الزوارق والحوامات في عملية التفريغ. ثم إن الأربع والستين- سفينة التي تؤلف أسطول النقل المذكور تتسع لحمل فرقتين ونصف من مشاة البحرية بتعداد إجمالي يساوي نحو خمسين ألف جندي دفعة واحدة، وذلك عدا تعزيزاتها المعتادة بالدبابات والمدفعية ذاتية الحركة من عيارات 155 مم و175 مم و203 مم.

  أما بالنسبة إلى قدرة النقل الجوي الستراتيجي المتوفرة حاليا لدى سلاح الجو الأميركي فإنها تنحصر في 304 طائرات من طرازي سي-5 أ وسي-141. والحمولة القصوى لهذه الطائرات هي ستة عشر ألف طن من المعدات والذخائر والمؤن، أو ستون ألف جندي في الرحلة الواحدة ومداها يتراوح بحسب حمولتها بين ستة وعشرة آلاف كيلومتر.

ز- القواعد الجوية المسبقة الصنع*[33]:

تشتمل القاعدة على عشرات المستودعات مبنية بهياكل من الألمنيوم تضم كافة معدّات الصيانة والاتصالات وإدارة القاعدة وغيره. وعلى ثلاث حظائر للطائرات عرض الواحدة منها 58 قدما وطولها 80 قدما، يمكنها أن تستوعب طائرتين ف-4 فانتوم وتحملها طائرة واحدة من طراز سي-130 هيركوليز. فضلا عن 34 ملجأ للأفراد يتسع الواحد منها نحو عشرين رجلا. وأربع مطابخ يستطيع الواحد منها تجهيز 250 وجبة في الساعة، ومهبط معدني مفكك وأضواء لتشغيله ليلا على امتداد تسعة آلاف قدم، وبرج توجيه وحمامات ودورات مياه تخدم نحو 125 رجلا. وكل هذه المنشآت مفككة بطبيعة الحال وتُركب في أمكنة الاقتحام خلال يوم أو يومين من قبل فرق هندسة مختصّة.

3- عمليات الانتشار السريع في الخليج:

لا يرد في حساب المستعمرين جعل حقول النفط في هذه العمليات ميادين حربية واسعة النطاق تخربها وتأتي على منشآتها بأجمعها بحيث يتوقف استخراج النفط فيها سنوات عديدة. فهذه الحقول هي "البقرة الحلوب" بنظر المستعمرين، فيجب وضع اليد عليها إذن وهي سليمة على العموم. وقد تلحق بها أضرار توقفها عن العمل بعض الوقت. وهذا أمر غير خطير بنظرهم ما دام بالإمكان إصلاح الصرر وإعادة ضخ النفط "بمعرفتهم" سريعا لهذه الأسباب ستكون العمليات بموجب مخططات المستعمرين في الإطار التالي:

أولا- عزل كل حقل يٌراد الاستيلاء عليه بمحاصرته برا وجوا ومنع كل قوة عسكرية معادية من الاقتراب منه.

ثانيا- مع عملية العزل المذكورة، مهاجمة النقاط الحساسة في الحقل ومحاولة وضع اليد عليها بقوات معدة لهذا الغرض ومدرّبة تدريبا عاليا على نماذج مماثلة لها، وذلك لضمان سرعة التنفيذ القصوى.

ثالثا: إتمام عملية الاستيلاء على الحقل.

  ومن الواضح أن تحقيق المفاجأة التامة أمر متعذر جدا في هذه الأيام. إلا أننا كنا أشرنا فيما مضى من البحث إلى أن أصحاب النفط الأصليين مهما كانت صفتهم لن يقوموا بتدمير حقوله إلا في حال عجزهم عن الدفاع عن هذه الحقول مع تيقنهم من أن العدو يهاجمها أو يوشك أن يهاجمها. أو أن المدافعين يختارون فيما يختارونه من مناطق دفاعية حقول النفط بالذات، وبذلك يشنون حربا دفاعية في كل حقل منها وهم يستخدمون فيه نفطه بأساليب مناسبة لإقامة جحيم يحرقون بناره المعتدين. وفي كل الأحوال ستكون حينئذ فترة زمنية تفصل بدء الأزمة عن لحظة القيام بالعدوان قد تمتد أسابيع أو أشهرا، تماما كما حدث عند اندلاع الثورة الإيرانية ثم قيام الأميركان بمحاولتهم الفاشلة للعدوان على هذا البلد. وهي فترة ضرورية لقيام المستعمرين بالاستعدادات العسكرية اللازمة، لا سيما عندما يكون بدء الأزمة مفاجئا لهم. وهي ضرورية أيضا في كل الظروف ليقوموا "باصطناع" الحجج و"تركيب" المناخ النفسي في بلدهم وبين حلفائهم وأصدقائهم، ليكون العدوان مبررا و "نتيجة لعدوان مزعوم للضحية عليهم" وفي أثناء ذلك يقومون كالعادة بتغطية استعداداتهم العسكرية بشتى الوسائل السياسية: إحالة المسألة إلى الأمم المتحدة مثلا، وتقديم شكوى إلى محكمة العدل الدولية، وتمثيل الوساطات الكاذبة، (بينهم وبين الضحيّة) وكل ما يؤدي إلى خداع هذه الأخيرة وتنويمها. ثم إن العدو المستعمر يسفر عن وجهه ويبدأ بالعدوان عند استكمال استعداداته العسكرية.

وقد كشفت صحيفة معاريف الإسرائيلية عن وجود وثيقة أميركية خاصة وضعها خبراء الكونغرس جول احتمال التدخل الأميركي في الخليج*.[34] وحسب ما ذكرته الصحيفة المذكورة، جرى بحث تفصيلات هامة في تلك الوثيقة، بعد الأخذ بعين الاعتبار كل الاحتمالات ومن ضمنها وضع إسرائيل ومصر كقاعدتين عسكريتين إداريتين أميركيتين تنطلق منهما القوات المظلية الأميركية باتجاه الخليج.. وجاء في الوثيقة أن العملية الناجحة يجب أن تحقق الأهداف التالية كلها وإذا أخطأت إحداها فإنها جميعها ستفشل:

أولا: الاستيلاء على حقول النفط بكافة معداتها.

ثانيا: تأمين مرور النفط في السبل المؤدية إلى العالم الغربي.

إن حقول النفط العربية على الخليج ليست موحدة سياسيا لذلك فإنه من المستبعد أن تتناولها جميعها أزمة واحدة في آن واحد. إلا أنه عندما يحدث تدخل عدواني من قبل المستعمرين على دولة عربية خليجية يسبب أزمة تقع فيها، فإن هذا العدوان سيعم على الأغلب كل دول النفط العربية بحجة الدفاع الكاذبة عنها. وليس من المستبعد (في هذا الوضع) أن يفتعل المستعمرون أزمة في دولة نفطية عربية ثانوية، ليقوموا بوضع يدهم على أغنى الدول العربية النفطية (مع الدول الأخرى الخليجية) بتلك الحجة. وهذه عملية مريحة لهم للأسباب التالية:

أولا: إن المستعمرين هم الذين سيفتعلون الأزمة. فيكون إذن لديهم ما يشاءون من وقت للإعداد للعدوان وحشد كل ما يلزم من قوات لاحتلال الخليج برمته.

ثانيا: إن تدمير حقول نفط تلك الدولة التي يختارها المستعمرون لافتعال الأزمة فيها ثانوية بالفرض، فلا ضير (عليهم) من وقوع الدمار فيها أثناء احتلالها بالقوة.

ثالثا: إن الدول الأخرى غير المعنية بالأزمة ستفاجأ بعدوان الأميركان الذين سيتمكنون من احتلال حقول نفطها سليمة في حالة خضوعها للعدوان وعدم مقاومتها له.

إن استعمال الآليات (الدبابات وعربات المشاة والسيارات) للهجوم على حقل نفط يشكل صعوبة كبيرة على المهاجم، لاحتمال وقوعها فريسة سهلة للحرائق التي قد تشب في الحقل وتحاصرها أثناء القتال، أو التي يشعلها المدافعون ليوقعوها بها. يضاف إلى هذا تحقيق المفاجأة بالقوات التي تقوم على استخدامها: إن تنفيذ الهجوم بعملية بحرية فقط يحتاج إلى أسطول كبير من السفن البرمائية يرافقه أسطول حربي بالإضافة إلى حماية جوية كثيفة طيلة عملية التقرب من الهدف (من مياه القواعد الأمامية للعدوان في عُمان مثلا حتى مياه الدمام) فهذه الحركة التي تستغرق ما يقرب من يومين من الزمن. مضافا إليها النشاط الكبير للتسخين في منطقة الانطلاق، ولشحن السفن بالآليات ومختلف الحمولات الضرورية، وحركة الإعداد الكبيرة من الجنود. كل هذا وغيره يستحيل إخفاؤه وستتأكّد الضحية من العدوان بزمن كاف لإعداد تدمير حقول النفط في وجه المهاجم (بزمن يزيد على الأسبوعين لضحية تؤمن بالأميركان وتصر على عدم القطع معهم) أما نقل الآليات المذكورة جوا للبدء بالهجوم بها على حقول النفط فأمر غير وارد، ما لم يحقق المهاجم بغيرها من الوسائل قدما ثابتة في الحقول المذكورة، كالاستيلاء على بعض المطارات في منطقتها. لهذه الأسباب وغيرها نجد أن المهاجم سيعتمد على تشكيلات المغاوير المحمولة بالحوامات وعلى المظليين: على المغاوير مدعمين بنيران الحوامات الهجومية للاستيلاء على حقول النفط، وعلى المظليين مدعمين بالطيران الهجومي للاستيلاء على المطارات.

وتكون الخطوط العريضة المحتملة لصورة العدوان كالآتي:

أولا: يقوم المستعمر بتغطية استعداداته للعدوان بالتحركات السياسية المشار إليها أعلاه: إحالة القضية إلى مجلس الأمن، ومحكمة العدل الخ..

ثانيا: تنتقل بمختلف الوسائل البحرية والجوية قوات التدخل من الولايات المتحدة إلى قواعد الانطلاق حول الخليج: إسرائيل ومصر السادات وعُمان قابوس.

ثالثا: يكمل شحن القواعد حول الخليج وعلى طريقه بكل ما يلزم التدخل من أسلحة وذخائر ووسائل ومؤن.

رابعا: توضع طائرات وسفن الاتصال، والرصد، والتشويش الأليكتروني في مواقعها الملائمة حول الخليج.

خامسا: تحشّد السفن الحربية والبرمائية في بحر العرب وخليج عُمان، وفي قواعد الإمداد القريبة من الخليج. وهذه الحركة تتوزع على منطقة واسعة في المحيط الهندي. كما أن السفن البرمائية لن تكون كثيرة العدد كحالة جعل التدخل بأجمعه من البحر، مما يقلل من حجم النشاط ويوزعه على عدد من الأمكنة، وبالتالي يقلل من الانتباه إليه.

سادسا: عند إتمام الاستعدادات الآنفة الذكر في مناطق التقرب، وقيام الظروف الدولية والمحلية (التي منها تراخي الضحية) الملائمة للبدء بالعدوان (وذلك بحسب تقدير القيادة العليا الأميركية المتمثلة بالرئيس الأميركي ومجلس الأمن القومي والبنتاغون ومختلف الأجهزة القيادية للتجسس والتخريب) نقول عند قيام هذه الظروف تنطلق أول موجة من طائرات سي-130 محملة بالمعدات اللازمة والفنيين وكتائب الحماية، إلى الصحراء المحيطة بحقول النفط (السعودية مثلا) لإقامة عدد من المهابط على غرار تلك التي مرت معنا أعلاه بعملية "العلم الأحمر" وفي اقل من يومين يمكن أن تتدفق على المهابط المذكورة مختلف قوات التدخل محمولة بأسطول طائرات سي-130 وتكون هذه القوات متمركزة في إسرائيل ومصر وعُمان.

سابعا: تدخل السفن الحربية تتبعها السفن البرمائية (المتواجدة في المياه العمانية والمهيأة للمشاركة في أول موجة للعدوان) مياه الخليج مع انطلاق أول موجة من طائرة سي-130 الآنفة الذكر لإقامة المهابط فتصل أمام السواحل النفطية خلال يومين، وتفرض عليها الحصار.

ثامنا: إن وصول الأسطول البحري إلى مياه حقول النفط يتفق مع أول هجوم للمغاوير والمظليين على الحقول المذكورة ومطاراتها (في السعودية والإمارات) وفي ذات الوقت يتم إنزال برمائي على الساحل لقوات برية تقوم بالاستيلاء على المواقع اللازمة لإتمام محاصرة الحقول وعزلها، وللاتصال بالمظليين المهاجمين للمطارات، كما يقوم طيران الأسطول البحري بتغطية سماء العملية وبدعم أولئك المظليين.

تاسعا: تتوالى موجات التدخل (في أثناء جريان عمليات الاستيلاء على الحقول) على المهابط الصحراوية الآنفة الذكر، لإتمام محاصرة منطقة الحقول وقطعها عن بقية الجزيرة العربية، ولدعم الهجمات على الحقول وتوسيعها، ولتحويل المهابط المذكورة آنفا إلى مجمّع يشكل قاعدة قوية معززة بكل أنواع القوات المحاربة.

عاشرا: يستفيد المعتدون من الأجانب المتواجدين حاليا كخبراء وفنيين وعمال في بلاد النفط كطابور خامس للتخريب والاستطلاع ومساعدة المعتدين، وبالإمكان تجنيدهم عند الضرورة، كما أنهم مفيدون في إعادة تشغيل حقول النفط.

  إن عملية إقامة المهابط يمكن أن تجري في تلك الصحراء بعيدا عن الأنظار، وبالتالي يمكنها أن تحقق المفاجأة المطلوبة من العدو. وليكون تحرك الأسطول البحري إلى مياه الخليج لمحاصرة سواحل النفط غير ملفت للنظر حتى لحظة التدخّل، يستمر هذا الأسطول (خلال الفترة الزمنية التي أشرنا إليها أعلاه والتي تفصل بدء الأزمة عن بدء عمليات العدوان) برحلاته ومناوراته الاعتيادية التي كان يقوم بها في مياه الخليج قبل تلك الفترة المذكورة، فيظن المراقب أن التحرك الأخير الذي يرافق العملية "السرية" في الصحراء لإقامة المهابط المذكورة آنفا هو من جملة تلك التحركات السابقة التي لم تنته بالهجوم على حقول النفط.

 

انتهى

 

 

 



[1]  انظر تصريحات مانع سعيد العتيبة وزير النفط في دولة الإمارات، المنشورة في الصفحة 12 من جريجة السفير في 6/2/1981.

[2]  نرى هنا مبلغ نفاق الإمبرياليين الأميركيين حين يظهرون في هذه الأيام الغيرة على استقلال أفغانستان في الوقت الذي يخططون للإبادة الوحشية لشعب هذا البلد الذي لا ناقة له ولا جمل في الحرب النووية التي يمكن أن يشعلوها.

[3]  النهار العربي والدولي. 12كانون الثاني 1981 ص 30

[4]  لإزالة كل غموض في سياق هذا الكلام نستعيد هنا تعريف الحقيقة، فنقول: إنها تطابق أو اتفاق ما نقوله أو ما نحس به مع ما هو واقع.

[5]  نشرة السفارة الأميركية في دمشق بتاريخ 13/4/1980

[6]  إن تسمية الشرق الأوسط تجمع المصالح الاستعمارية في هذه المنطقة كما تجمع المشرق العربي مع إيران وتركيا.

[7]  عن دبر شبيغل الألمانية. نقلتها القبس في عدد 18/7/1980

[8]  الشرق الأوسط 7/8/1980.

[9]  من سلسلة مقالات اشترك فيها كل من ستيفن ستراسر، كيم ويلسون، فريد كولمان، دافيد مارتن، وليم شميدت، مارتن كازندوف. الرأي العام اعتبارا من 16/7/1980.

 

[10]  أميركا والخليج العربي. اللواء 4/10/1980.

[11]  النشرة الاستراتيجية. الأنباء 27/12/1980.

[12]  البناء العسكري الكبير في الخليج. المار قببلا.ىن

[13]  اللواء22/8/1980.

[14]  يرى الأوروبيون ضرورة وجود قوات أميركية برّية في جيوش حلف الأطلسي، كي يطمئنّوا إلى أن أميركا لن تخذلهم وتتركهم وحدهم تجاه الاتحاد السوفييتي في حالة اندلاع الحرب.

[15]  بين الجنرال جون كولينز رأيه في بحث كتبه حول استخدام القوات الأميركية المسلحة لتأمين التزود بالنفط. وهذا البحث من محفوظات مكتبة الكونغرس، شعبة الشئون الخارجية والدفاع القومي.

[16]  البناء العسكري الكبير في الخليج.

[17]  السفير 19/7/1980.

[18]  النشرة الاستراتيجية. عدد الأنباء28/12/1980.

 

[19]  الكفاح العربي28/7/1980.مناورة أميركية بقلم السيد محمود عزمي.

  [20]الاستراتيجية العسكرية بإشراف المارشال سوكولوفسكي ص69ع.  

[21]  صرح هيغ وزير خارجية ريجن مؤخرا (معلقا على توصية مؤتمر وزراء خارجية دول عدم لانحياز المنعقد في دلهي بطرد إسرائيل من الأمم المتحدة) بأن وضع هذه التوصية موضع التنفيذ يعرض كيان هذه المنظمة الدولية للخطر، مهددا بهذا بتخريبها.

[22]  قصة الحضارة. ديورانت ج2 ص27 ع.

[23]  الرأي العام من مقال بعنوان:قوة الردع. عدد11/7/1980.

 

[24]  شتّان ما بين من يحمل الصليب ليفدي بنفسه الحق، وبين من يحمله ليزهق به الحق. والصهيونية حملته دوما، كما حملته للسيد المسيح، لتُزهق به الحق.

[25]  بيلاشينكو، قواعد الإمبريالية أداة العدوان ص18-19.

[26]  هدفه أيضا الصلات "الاجتماعية" بين جنرالات البنتاغون وبين رجال الأعمال، وينتج عن هذه الصلات مختلف "الفوائد المادية" للأولين، بالإضافة إلى أكل "طيب" منهم له عمل مجز في مشاريع الاحتكاريين أو في المجالات السياسية، أو التربوية أو غيرها عند تقاعده من الخدمة، ومن أولئك الجنرالات "الطيبين" الجنرال هيغ وزير الخارجية في عهد ريجن..

[27]  عقب اجتماع تاتشر بريغن في أواخر شباط 1981 صرّحت الأولى بأن على بريطانيا أن تساهم مساهمة كبيرة في "قوة الانتشار السريع" وأكدت هذا التصريح في مجلس العموم عندما ردت على الحملة العنيفة التي قامت عليها بسببه، وبينت أن هذه القوة لا تخص الخليج فقط بل العالم بأسره.. إن هذه الذئبة  العجوز المفلسة تحنّ على الأيام الخوالي، فتستعير أسنان ريغن.. الاصطناعية.

[28]  الوطن. 18/4/1980.

[29]  الشرق الأوسط. 7/8/1980.

[30]  الأنباء. عن دير شبيغل 24/7/1980.

[31]  اللواء. 22/8/1980

[32]  الكفاح العربي 11/8/1980 من مقال بقلم السيد محمود عزمي.

[33]  الكفاح العربي 11/8/1980

[34]  القبس 9/12/1980