دراسات فلسفية

عفيف البزري

الحرية المنشودة

 

 يمكن القول باختصار ان النظام الاجتماعي هو جملة علاقات المجتمع التي تحدد السلوك العام للناس فتبين شرائعه ما هو مباح من السلوك وما هو محرم منه . ويقوم النظام بنتيجة استقرار حالة تفرضها المرحلة التي يبلغها المجتمع من مسيرة نشوئه وارتقائه. وتتحدد هذه المسيرة بالمحصلة العامة لمختلف الدوافع الموجهة نحو مختلف اشكال الوجود الفردي والجماعي. ونجد في النتيجة ان جملة المجتمعات الانسانية مرت بطبيعة الحال بمسيرة نشوئها وارتقائها بالاطوار المناسبة لظروفها المادية والروحية. وكان من هذه الاطوار طورا عبودية الرق وعبودية الرأسمالية. وعلاقات مثل هذين الطورين تولد نظاما عبوديا لايرعى بطبيعته وتعريفه حرمة الذات الانسانية الفردية والجماعية بل على العكس من هذا فهو قائم للعدوان على هذه الذات وسحقها فهو عدوها في جوهره. ولاتختلف انظمة الوثنيات التي تقوم على اطلال ثورات تاريخية تجمدت لمصلحة اقليات تستغل شعاراتها وشعائرها بعد افراغها من مضمونها الانساني عن انظمة العبوديات الاخرى في سحقها للذات الانسانية. فالثورة في الاصل وضعت عقيدتها لبلوغ نظام يحرر الانسان ويخدم ذاته بنوعيها الفردي والجماعي فتأتي الوثنية بعد أن تجمد عقيدتها لتجعل من الانسان، فردا وجماعة، وقودا لتسيير امور نظام وثنييها. ونجد في النتيجة بعد ازاحة كل وهم وظاهر خادع ان الشرع الذي يسمح بانتقاص ذات الفرد هو دوما شرع نظام الاقلية التي تسحق الجماعة ايضا اذ لاتوجد ابدا جماعة حرة تسحق افرادها كما لايوجد افرادا احرار في جماعة مسحوقة.

يقول جان جاك روسو، الفيلسوف الشهير وكبير رواد الاشتراكية الطوباوية، في واحد من ابحاثه المعروفة، "العقد الاجتماعي" الذي كان في مقدمة اسس عقيدة الثورة الفرنسية: "تقوم الحياة الجتماعية على عقد يتنازل بموجبه الفرد للجماعة عن حريته ويتعهد بالخضوع لما يعرب عن الارادة العامة". انتهى قول روسو. ولكننا نقول بهذه المناسبة ان المجتمع لايحدث صنعيا وانما يقوم بعملية تاريخية طويلة، اما افراده فتتسلسل اجيالهم في هذه العملية ويخلف بعضها بعضا في الحياة. فنجد اذن ان الفرد يأتي الى مجتمع بنظام قائم يقدم له دورا يقوم به في حدود هذا النظام. ولابد للفرد من ان يقوم بهذا الدور الممكن المتاح له بحسب ظروفه وامكاناته ليتم له وجود مناسب "كحيوان اجتماعي"، اذ لا وجود لانسان بمعزل عن الجماعة تماما كما لا وجود لحياة منفردة بمعزل عن عالم الاحياء. اما صيرورة المجتمع المستمرة، اما حياته المتنقلة من حال الى حال، ومن طور الى طور، بالتحول الدائم الخالي من الانقطاع او بالتحول الثوري، بالثورة التي تقطع وتنفي ماسبق ليقوم الجديد، هذه الصيرورة او الحياة فتتم قبل نضوج المجتمع للطور الاعلى (او انها تمت حتى الآن) بنتيجة تنافس وصراع القوى الاجتماعية القائمة للتحكم بنظام المجتمع وليس بنتيجة مسعى فردي بطبيعة الحال. ونرى في كل هذا: ان لامكان لاي "عقد اجتماعي" بين الفرد والمجتمع لانعدام اسباب وظروف هذا العقد. ذلك لأن العقد يجري بين جهتين مستقلتين الواحدة عن الاخرى لاقامة علاقة فيما بينهما بجعلهما في وحدة تناسب هذا العقد. اما في حالتنا فان الوحدة بين الفرد والجماعة قائمة بالطبيعة ولالزوم لعقد من اي نوع كان لاتمامها: لقد قلنا ورددنا ان الفرد "حيوان اجتماعي" فلا يحيا الا في المجتمع ولا وجود له ابدا بمعزل عن المجتمع الذي يلد ويعيش فيه، وان كانت له ذاته الخاصة ولكن في حدود كيانه. كما ان المجتمع هو بداهة جماعة افراد والحرية المطلقة التي يتنازل عنها الفرد "بالعقد الاجتماعي" لجان جاك روسو لقاء انتمائه لهذه الجماعة هي وهم لا وجود له ولا يبنى عليه اي شيء لانعدام وانتفاء كل ظرف بشكل مطلق لوجود حياة انسانية مفردة معزولة عن المجتمع. ثم ان "تعهد الفرد بالخضوع لما يعرب عن الارادة العامة" هو امر زائد لالزوم له مادام هذا الفرد يعيش دوره في المجتمع ولابد له من السلوك المناسب كي يستمر هذا العيش الذي لا مكان له ولا وجود بمعزل عن المجتمع.

ويقتضينا الأمر هنا العودة الى مسألة الضرورة والحرية. فالفرد ككل جزء من كل، لابد له، كما أسلفنا، من ان يقوم بدور في الجماعة في حدود سلوك يناسب علاقته بنظامها ليتم وجوده فيها. ولكن هذا النظام يتراوح بحسب التقدم المادي والروحي للجماعة بين شكل من اشكال العبودية المنتقصة للذات الانسانية لمصلحة قلة ظالمة تمسك به وبين ذلك الذي تكون فيه القوى الاجتماعية الغالبة مصممة بصدق على الاتجاه نحو تحقيق مجتمع التعارف والتعاون والتكامل والتكافل في اطار تكافؤ الفرص بين مختلف افراد واجزاء الجماعة. فنجد بالنتيجة ان كلا من الذات الفردية والجماعية تتقدم نحو الكمال والازدهار بين هذين الحدين لأنواع النظام الاجتماعي. وتقوم بشائر هذا الازدهار وذلك الكمال عند ظفر الانسان بتحقيق الاحوال والاطوار الاكثر ايغالا في الطريق الصاعد نحو الغاية اللانهائية  للكمال المادي والروحي. هذا هو طريق الحياة الانسانية وليس هناك من طريق آخر لقيام الحياة الا العدم والأوهام.وتقوم على هذا الطريق أنظمة المراحل والأطوار الانسانية وقوانينها وحدودها التي توجد خلالها ساحات النشاط الانساني التي تضيق وتتسع فتضيق فيها وتتسع حرية الانسان. فالحرية الحقيقية هي غير تلك التي لاتوجد الا في التصورات التعسفية الطائرة في أجواء الأوهام، انها تقوم على ادراك الموانع والعقبات وفهم القوانين الطبيعية والجتماعية وبالتالي على تحديد المجال الممكن للنشاط الانساني فيتسع هذا المجال او يضيق وتتسع مع الحرية او تضيق: يكون الاختيار بحسب سعة هذا المجال.

وتقوم الضرورة على ارتباط النتائج باسبابها على منوال واحد فتكون ذات النتيجة دوما لذات الاسباب، فنقول مثلا ان بدء وتطور ظاهرة ما هما ضروريان عندما ينتجان عن العلاقات الجوهرية التي هي في اساس الظاهرة المعطاة. او ان التطور الضروري هو الذي لابد من حدوثه، هو الحتمي في شروط معينة. وتقوم مختلف العلاقات الكمية والكيفية والقوانين على الضرورة. وكذلك تتغير النتائج بتغير الاسباب. فالاسباب المختلفة لا تعطي ذات النتائج. فنجد ان النظام القائم على مجموعة العلاقات الاجتماعية وله قوانينه المفروضة لايمكن ان يكون ابديا ولابد من تغيره بتغير الظروف والاسباب التي يقوم عليها. فضرورته تقوم على اسبابه التي لا بد من ان تتغير وتتغير معها تلك الضرورة لصالح قيام نظام مناسب للتغير. ثم ان الحرية والضرورة لاتعنيان شيئا بالنسبة الى الحاضر القائم والماضي المنصرم ودورهما يأتي بداهة لما هو مقبل من الاحداث. فالحاضر أو الماضي قد تم ومال الى الزوال او زال. اما المقبل من الاحداث فان اسبابه تهيأ بما يتاح من امكانات لا يجمدها النظام فيقوم بضرورة نتائج اسبابه المهيأة بالحرية المتاحة.

نرى اذن الاهمية الحاسمة للحرية التي تهيئ اسباب المستقبل وضرورته الناشئة عن اسبابه هذه. ونرى ايضا خطورة الطغيان، او سلب الحرية، عندما يهيئ اسباب القهر المدمر للذات الانسانية ويمهد لضرورة هذا الدمار وذلك القهر بعد قيام الاسباب. فالحرية الاجابية البناءة، الحرية بكل اختصار، هي حرية الذات الانسانية، بكل انواعها الفردية والجماعية، للقيام بدورها في بناء المستقبل بشكل ينميها ويوسع ويزيد ازدهارها، بينما الطغيان يفعل العكس. ونجد في النتيجة مع ذلك: ان الحرية في النظام الاجتماعي القائم تبقى دوما كالامكان المتاح للماء ليتسرب بين مختلف العوائق المعترضة. وعند تفاقم التراكم واستفحال اعتراض العقبات والسدود يقوم الطوفان الجارف، تقوم الثورة لنفي النظام وعقباته وسدوده. ثم تقوم الذات الانسانية بكل اشكالها الفردية والجماعية عند قيام النظام الجديد باستئناف نشاطها بالبناء والتركيم في ساحات الحريات المتاحة مجددا، في مسالك ومنافذ وتسهيلات هذا النظام الجديد، وهكذا دواليك. هذا هو الشكل الاوحد لوجود الحياة وليس هنالك اي شكل آخر ممكن كأن يكون الاصل مثلا في الحياة الحرية المطلقة من كل عائق وحد فأتت قوة خارقة وقيدتها بالنظام الاجتماعي ليحق لنا بالتالي تبرير الوثنيات المتناقضة التي تطرح الواحدة منها مذهبا لتعارضه الاخرى بمذهب لايقل عنه ظلما ووثنية: ان الجبر الوثني ينفي كل حرية بشكل مطلق فينفي نفسه بالتالي كمقترح لمذهب، فيأتي مذهب الاختيار المطلق لينفي هذا الجبر بوهم وجود للحرية المطلقة.

ان من الطبيعي لكل قوة اجتماعية في كل مرحلة من المراحل التي تمر بها جملة المجتمعات الانسانية افكارها وعقيدتها المناسبة للدور الذي تقوم به في المرحلة القائمة. فيكون للوثنيات بداهة كل نظرة مفيدة في اعطاء صورة جامدة للحياة. اننا نجد مثلا ان الرجعية الرأسمالية، في المرحلة التي بلغت فيها مقدرة الانسان النظرية والعملية ذلك المبلغ الذي يتحتم معه انطلاقه من عبوديتها، تذهب في محاولات احباط كل مسعى في هذا الاتجاه الى التشكيك بمقدرة الوسيلة الاساسية للتقدم المادي والروحي للانسان، الى التشكيك بمقدرة الفكر، الذي لايتوقف عن الاتساع وتطوير مناهجه عبر الدهور، على ادراك الواقع الناضج للوضوح كحقيقة في دائرة المعرفة الانسانية. فرأت مثلا في عصر الثورة العلمية التي حققت هذا التقدم المادي الهائل للعلوم الفيزيائية خلال القرن العشرين أن المبدأ القائل بامكان تحديد الواقع المادي ومعرفة قدراته عند توفر المعطيات اللازمة (التحديدية) هو مبدأ مهزوز ان لم يكن وهما وباطلا من اساسه. وقد استند هذا الشك على الفشل في استخدام قوانين الميكانيك الكلاسيكي في غير ميدانها وخاصة في فيزياء "عالم الصغائر". والمفارقة هنا أن المفكرين، ومنهم علماء وفلاسفة ولكن في خدمة العبودية الرأسمالية امتهنوا عددا من الحقائق البسيطة يأتي في مقدمتها: ان الفكر الانساني الذي حاولوا انكاره والتشكيك بمقدرته على السير قدما في استجلاء اسرار الكون هو الذي فتح ابواب "عالم الصغائر" المذكور وأخذ بالكشف عن حقائقه بالنهج الملائم لواقعه، وان لكل ميدان من ميادين البحث نهجه الضروري الخاص به. ثم ان المعرفة الانسانية لا تتوقف ولاتنتهي الى نهاية ومنها معرفة قوانين الميكانيك الكلاسيكي مثلا التي تتقدم وتتسع باستمرار في ميدانها الذي هو واحد من ميادين المعرفة الذي يزداد عددها باستمرار الحياة وتقدم البحوث فيها.

 

المطلق والنسبي في الحقائق

 

ان الوجود المادي لانهائي بكل ابعاده وان الحياة والافكار الانسانية تتقدم وتتسع بلا تناهي في هذا الوجود. فنجد نتيجة لهذا الامر ان الانسان امام هذا الوجود اللانهائي يميز بين نوعين اساسيين له من السهل تبينهما: الوجود الملموس المدرك، وهو الذي يبقى صغيرا بلا تناهي امام النوع الآخر اللامتناهي في اتساعه واغواره الذي لم يلمس بعد ولم تتقدم المعرفة في خضمه وظلماته. ولنصطلح مبدئيا على اعتبار الجزء الملموس من الوجود منطبقا على عالم الظواهر الذي نسميه الطبيعة بينما الجزء الآخر غير الملموس يأخذ تسمية ماوراء الطبيعة وذلك دون الالتزام بما قد يوحي به هذا الاصطلاح من معاني اورثتنا اياها الفلسفة الكلاسيكية. فالحياة، وفي مقدمتها الحياة الانسانية، اذ تلمس الطبيعة التي ادركتها وتقدمت فيها بمعارفها تحس ايضا، تلمس سلبيا، ماوراء الطبيعة الذي لم تدركه بعد وعليها ان تتقدم بمعرفتها فيه مادامت مستمرة. ونجد انفسنا هنا امام فراغ في المعرفة يشبه فراغ المجاهيل في حساب الجبر. ولكن الحياة الانسانية في تقدمها للكشف عن هذه المجاهيل لها ارادتها واهدافها وطموحاتها فتملأ الفراغ المذكور برموز عالم الطموحات والاحلام الذي تصنعه من كائنات سبق لها ان مستها وادركتها في عالم الطبيعة ولكن بعلاقات بين هذه الكائنات الخيالية تنسجها بحسب رغباتها وطموحاتها وباشكال غيبية مناسبة. ثم ان عالم ماوراء الطبيعة هذا، الذي يتكشف شيئا فشيئا امام تقدم الحياة الانسانية فيه فتدخل حقائق كائناته الواقعية في ساحة معارفنا عند ملامستها وادراكها، تعود صوره وخيالاته لتؤثر في مسيرة الحياة بالترغيب والترهيب وبمقارنتها بذكريات صور التجارب الماضية التي مرت فيها الحياة عبر الطبيعة الملموسة المدركة.

اننا نرى ان الحقيقة هي المعنى الذي ينطبق على الواقع في ظرف من الظروف وبشكل من الاشكال وليس هناك امر غير هذا جدير بهذه التسمية. ووصف الحقيقة بالموضوعية عند انطباقها على الواقع هو وصف زائد لالزوم له، لأن مالا ينطبق على الواقع من المفاهيم لايكون حقيقيا وانما وهما ينقلب الى خطأ او غلط عند تداوله او الى كذب عند تداوله بقصد الغش والخداع. والواقع الذي نعنيه دوما هو جزء مقصود من الوجود المادي للكون. ثم اننا سوف لانمتنع عن وصف الحقيقة بالموضوعية لشيوع هذا الوصف ومن باب التأكيد ودفعا للالتباس.

قلنا أن الوجود المادي غير محدود في اتساعه وفي اغواره فهو لامتناه في كل الاتجاهات. وتتقدم المعرفة اثناء تقدم الحياة وارتقائها بدون توقف ابدا، وبالتالي فان تمام الحقيقة لايكون الا بتمام الغرض المقصود: في قولي مثلا انا عطشان والماء يروي عطشي حقيقة تامة من جهة صفة الماء في ارواء العطش، ولكنها لا تتضمن الصفات الاخرى للماء ولا مختلف حالاته ولا تركيبه. فاستجلاء حقائق الواقع لايتوقف ابدا مهما كان الواقع محدودا وصغيرا في حجمه.

والحقيقة قد تكون مطلقة من كل قيد وشرط، او مطلقة باختصار، او تكون مقيدة بشرط او ظرف فتنسب الى قيدها وتكون نسبية. فحقيقة عالمي الطبيعة وماوراء الطبيعة المشار اليهما اعلاه مثلا هي حقيقة مطلقة ودائمة. وكذلك التغير المستمر الذي لايتوقف ابدا في الوجود المادي هو من الحقائق المطلقة ايضا حتى انه بالامكان تعريف هذا الوجود المادي بالمتغير فنقول: ان لا وجود مادي لثابت مطلق والمتغير هو المادة سواء بسواء. والحياة هي من اشد اشكال المادة تغيرا وحركة. ومن الحقائق المطلقة ايضا ان المادة لاتأتي من العدم ولاتنعدم وانما تتحول باشكالها. وان التحول كذلك له اسباب ويرتبط بقوانين مناسبة. كما ان الانسان "حيوان اجتماعي" ولا وجود له بمعزل عن الجماعة امر من الحقائق المطلقة الخ.. اما الحقائق المقيدة بشرط او ظرف فتقوم مثلا في قوانين مختلف فروع المعرفة حيث يشكل القانون في كل فرع من هذه الفروع حقيقة نسبية لا تقوم في فرع آخر. ونجد بصورة عامة ان الحقيقة النسبية تقوم في واقع محدد بشكل مناسب من اشكال التجريد: ان الهندسة الأوقليدية مثلا تقوم في وجود مجرد من كل مادة فيزيائية، تقوم في فراغ اوقليدي لا يؤثر فيه محتواه الفيزيائي. فحقائقها تقوم حصرا في هذا الفراغ وهي بالتالي حقائق نسبية لا تقوم على العموم في اوساط مادية اخرى غير هذا الفراغ. وعندما يتعقد الفراغ بالمواد المتحركة بسرعات كبيرة فانه يصبح غير اوقليدي وتبرز فيه حقائق نسبية غير اوقليدية. ويتعقد الوسط اكثر فاكثر حتى يصل في تعقده مستوى الاوساط الحية، وتتنوع محتوياته فنلجأ في بحوثنا الى تحليل الوسط المعقد الى عدد مناسب من المجالات التي يتحدد المجال الواحد منها بحقائقه النسبية وقوانينه الخاصة ومنهج البحث فيه: ان المجتمع الانساني مثلا يعطينا كل مجالات المعرفةالانسانية الفيزيائية وغير الفيزيائية، وكل مجال منها مجرد من حقائق المجالات الاخرى. ففي مجال الاقتصاد مثلا نجد الشكل الملتزم بحقائق الاقتصاد على العموم دون الاهتمام بشكل خاص بحقائق الطب والكيمياء والمساحة والتاريخ وغيره من مجالات المعرفة. اي ان مجال الاقتصاد يكون عندئذ مجردا من حقائق المجالات الاخرى التي ليس لها علاقة بالاقتصاد. وهكذا يكون الامر في المجالات الاخرى.

وتتكامل الحقائق جميعها، المطلقة والنسبية، لبناء المعرفة الانسانية، ويصعب حصر عدد مجالاتها. لذلك فان المعرفة الانسانية لا تحصر في فرد ولا في جماعة محدودة ولا في مجتمع واحد او امة واحدة، بل تكون لجملة المجتمعات الانسانية بكاملها وهي تتقدم من جيل الى جيل ومن حضارة الى اخرى: كل فرد وكل مجتمع وكل امة، كل هؤلاء، يبحثون عن الحقيقة خلال البحث عن معاشهم في مسيرة حياتهم. ويقوم تبادل المفاهيم الحاصلة لديهم بمختلف الطرق والاشكال والوسائل المناسبات: يقوم التعليم مثلا، تقوم المناقشات، وتعرض الآراء والآراء المعاكسة، تقوم التجارب، تقوم الحياة الانسانية برمتها باختصار، فتسقط التوافه والاغلاط والكذب في الساحة العامة للمعرفة الانسانية وتبقى الحقائق بضوئها الهادي للمسيرة العامة لجملة المجتمعات الانسانية.

الطبيعة وماوراءها

 

قلنا ان التغير هو حقيقة مطلقة للوجود المادي فهو ملموس مدرك في عالم الطبيعة ولم ينتف بتقدم الحياة والمعرفة في عالم ماوراء الطبيعة. والتغير هو الحركة وانتفاء الاشكال القديمة لصالح الجديد دون الجواهر المادية فلا تزول هذه الجواهر ولا تنعدم لتظهر غيرها من العدم. وقلنا ان الحقيقة بانواعها واشكالها تشكل دوما مفهوما يطابق الواقع المادي والا فهي وهم ينقلب الى خطأ او غلط او كذب عند تداوله. فالمعرفة الانسانية الايجابية في النتيجة المعرفة الايجابية المجردة من الاوهام الناشئة عن عدم ادراك الظواهر المادية لعالم الطبيعة، تنطبق اذن تمام الانطباق على عالم الطبيعة هذا فهي صورة صادقة له.

وقلنا ايضا ان الانسانية الواقفة بوعي في عالم الطبيعة من ارض الوجود الذي لامسته وادركته، في عالم الظواهر والشهادة، اطلت على عالم ماوراء الطبيعة بخيالها فاقامت له شتى الصور الذهنية تشبيها بما لامسته وادركته في عالم الطبيعة. ثم ان الحقائق الحاضرة والماضية هي التي تشكل المعرفة الايجابية الحاصلة والمنطبقة على عالم الطبيعة (في ماضيه وحاضره). اما المستقبل فهو، مع كل مالم تدركه المعرفة الانسانية من الوجود الماضي والحاضر، عائد الى عالم الغيب، عالم ماوراء الطبيعة الذي قلنا ان الحياة تندفع بمسيرة احداثها نحوه. واختلاف الناس في تصوير عالم الغيب، في تصوير المستقبل في الجوهر، يرتبط بتناقض مصالح الفئات المختلفة بينهم ويشدده قصور المعرفة الانسانية في تقدمها والقصور الحضاري على العموم فيبلغ في حدته درجة العداء فالاقتتال والتفاني في كثير من الاحيان. ذلك لأن صور المستقبل تمثل دوافع الناس وآمالهم المتناقضة المتضاربة في عهود التخلف والعبودية. وان بالامكان اجمال صور ماوراء الطبيعة في تصورين عامين: التصور الوثني الذي يحاول ان يجمد الحياة في حدود رغبات القلة الممسكة بالنظام القائم، والتصور الثوري الذي يعمل على اطلاق الحياة من كوابح تقدمها على الطريق الصاعد ويجاهد في سبيل توجيهها في اتجاه اطوارها العليا المستقبلية. ولننظر فيما يلي عن قرب الى كل من هذين التصورين:

 

1. ماوراء الطبيعة الوثني

 

تفصل الوثنية عالم ماوراء الطبيعة عن الوجود المادي وتملؤه بخيالاتها المحبطة لكل امل في خلاص المقهورين من عبودية انظمتها، لخلاص الانسان من التخلف في النتيجة. ولطالما ملئ هذا العالم بآلهة الوثنية التي نقول دوما، في هذه الدراسة وفي غيرها مما سبق لنا ان نشرناه، انها في الواقع كانت تجريدا للاسياد الممسكين بنظام الرق، وان هؤلاء الاسياد كانوا تجسيدا لتلك الالهة، فلامناص ولاخلاص للمستضعف من سطوة نظام الالهة هذا حاضرا ومستقبلا الى ابد الآبدين. وقد ذهبت وثنية الظالمين في نشر الاحباط مذاهب شتى اثناء تقدم الحياة المادية للانسان فوصلت في مبالغاتها في كثير من الاحيان الى حد التشكيك بواقعية عالم الشهادة، بواقعية العالم الملموس المدرك بالمعرفة الانسانية، وذلك بانكار مقدرة العقل الانساني على ادراك الواقع وبالتشكيك بالتالي بقيمة المعرفة الانسانية وقيمة حقائقها الموضوعية المطلقة والنسبية. هنا، في هذه الدرجة من الانكار، ينقطع كل سبيل للأخذ والرد والمناقشة، المنهج الاساسي في استجلاء الحقيقة، وعلى الانسان في هذه الحال ان يقبل او يقطع. ومثال هذا الامر نجده في "اللاادرية" القديمة الجديدة وعند اصحاب النظرة القائلة بنسبية المعرفة كاتباع الفيلسوف الالماني كنط الذي يقول:"ان المعرفة الانسانية لاتقوم الا على الظلال الغامضة للواقع الذي تبقى ماهيته ممتنعة عن الادراك". فالشئ بحسب هذه الفلسفة له الظاهر الملموس او المدرك فقط في الوقت الذي تبقى فيه ماهيته غير ملموسة ولامدركة. ولكن ادراك الاشياء كما اشرنا اعلاه يتدرج في التقدم بلاتناهي اثناء تقدم الحياة الانسانية في المعرفة فتتالى ظواهر الشئ بعضها اثر بعضها الآخر: ان الماء مثلا له ظاهرة الارواء، ثم تأتي ظاهرة كونه جسما مركبا من عنصري الاكسجين والهيدروجين، ثم ظاهرة نوى وذريرات هذين العنصرين الخ.. فكل هذه الظواهر تكشفت الواحدة تلو الاخرى بتقدم المعرفة وهي بدون ادنى ريب اجزاء من "ماهية" مادة الماء، او اذا شئنا طبقات الماهية تتكشف للمعرفة الواحدة بعد الاخرى. ولا عيب في تدرج المعرفة بهذا الشكل الذي لا حقيقة سواه غير الوهم والعدم. فالكمال المطلق هو في السير الدائم نحو غاية لانهائية. اما الماهية الجامدة التي لاتتكشف شيئا فشيئا بلاتناهي فهي العدم بذاته، وبالتالي فان عالمها، عالم ماوراء الظاهرة، ماوراء الطبيعة، بحسب الفلسفة الكنطية، هو عالم وهمي لا وجود له. هنا علينا ان نشير الى ان  "الظاهرة" في فلسفة كنط ماهي في النتيجة سوى صورة الشيء  في الجملة العصبية التي تسجن العقل بحسب هذه الفلسفة وتمنعه من ادراك ماهية الشيء مباشرة دون وساطتها. اما نحن فنقول: ان الظاهرة لا بد من ان تكون جزءا من ماهية الشيء، الجزء الذي توصل اليه اللمس والادراك وله صورة في الجملة العصبية تنطبق عمليا تماما عليه كأي صورة وهمية تقوم في الجمل الفيزيائية للأشياء. ولنا عودة الى هذا الامر بعد قليل.

 

وهنالك نوع من الوثنية يقوم اصحابه بفرض احكام نهائية على الوجود بالاستناد الى المعارف الانسانية القائمة التي يزعم بانها بلغت الحد الكافي من الكمال لاصدار مثل تلك الاحكام. وهذه الوثنية هي الالحاد بشقيه الرجعي والتقدمي، وهي تعارض وثنيات دينية فتنكر مع ذلك الطموح الانساني الى الخلاص والتحرر المطلق، الطموح الذي بنته الثورات الدينية في نفوس المؤمنين عند اندلاعها. ثم ان الكائن الانساني في تطور مسيرته اللانهائية في التكون من التراب الى الجنان لايمكن تشبيهه بآلة ولا باي تكون آخر مادي في الكون فهو بنوعه يحتل قمة التفوق في عالم الاحياء الذي بدوره يوجد في طليعة الصيرورة العامة للكون. وندرة الحياة في هذا الكون، مع خواصها التي تميزها من كل احداث الوجود المادي، وخاصة منها خواص الحياة الانسانية وفكرها ومعارفها، كل هذا برهان لا يدحض على انها لم تحدث نتيجة سلسلة بسيطة لاحداث مادية تافهة وانما قامت بنتيجة صيرورة كونية متصلة لانهائية في اتساعها ومدتها. ونقول متصلة لنفي الصدف اطلاقا في هذه الصيرورة. فالصدفة تعني بدءا لحدث في اعقاب انقطاع سلسلة احداث منطقية، في الوقت الذي تكون فيه اسباب الحياة لانهائية في اتساعها وعمقها وتسلسلها فلاتقبل الانقطاعات اللاغية لآثار السابق في اللاحق، لاتقبل تعطيل لانهائية التطور في الاتجاهين الماضي والمستقبل. هنا نكرر ونؤكد ان الوجود بشطريه، عالم الشهادة وعالم الغيب، الطبيعة وماوراء الطبيعة، هو وجود معقد ولاتحل عقده بالالحاد، بانكار النعامة التي تضع رأسها في الرمال كي لاتتعب نفسها بالمشاهدة. فالوثنيات، التي انحرفت بالتوحيد الى تأجيل تحرير الذات الانسانية الفردية والجماعية لمصلحة كهنتها واسيادها الى يوم القيامة، فصلت عالم الغيب عن الوجود المادي وملأته بخيالاتها الوثنية ومنعت النفوذ اليه الابالارواح بدلا من الجهاد لتكون المسيرة على الصراط المباشر اليه وليس في جحيم الفراعنة والكفرة الاحتكاريين قاهري الانسان. ثم اتى الالحاد بشقيه الرجعي والتقدمي ليزعزع الايمان بوجوب الجهاد من اجل تحقيق تلك المسيرة نحو الخلاص. ولكن ثورات التوحيد وخاصة منها الاسلام كانت، بعقائدها النافية للوثنية وخيالاتها اكثر حذرا في تقدمها في عالم ماوراء الطبيعة فلم تصوره الا بالشكل الايجابي الذي يدعم تقدم الذات الانسانية في مسيرتها اللانهائية نحو الخلود في الحرية والكمال، ويقمع كل عائق مادي في سبيل هذا التقدم. كما ان الثورات المجيدة ترى في عقائدها ان انتصار التقدم على طريق الخلود لا بد من ان يتحقق دوما مع صدق الجهاد في حدود القوانين الموضوعية، الامر الذي ينفي بشكل مطلق كل مزاعم الوثنيات المنحرفة عن التوحيد حول المعجزات والخوارق المناقضة لنواميس الطبيعة.

 

2. ماوراء الطبيعة المادي

 

نقول اذن ان الوجود المادي الشامل، او ان الكون الكلي القائم موضوعيا بشكل مستقل اطلاقا عن تصوراتنا هو وجود موحد بشقيه: عالم الطبيعة وعالم ماوراء الطبيعة. اما قسمته الى هذين العالمين فنقول فقط في تصوراتنا كوصف لمعارفنا وليس صورة لأي واقع مادي: انها تحدد مانلمسه وندركه من الوجود المادي الكلي وتميز من هذا الوجود الواحد الموحد كل تلك العوالم التي لم يصل اليها لمسنا وادراكنا. واللمس هو بطبيعة الحال كل ما يفعلَ حاسة من حواس الجملة العصبية بشكل من اشكال التفعيل. ثم ان جملة المجتمعات الانسانية، التي وصلت حاليا في مسيرة نشوئها وارتقائها الى نهايات الطور الرأسمالي واصبح نظامها العالمي يتجاوز بتحكمه عالم الانسان الى عالم الاحياء بكليته وذلك بعد ان كانت الحياة الانسانية محكومة بصدف عالم الاحياء غير العاقلة، هذه الجملة الانسانية بوضعها الحالي تستمرفي التقدم في عالم ماوراء الطبيعة انطلاقا من عالم الطبيعة وبمعونة ماحصلت عليه من معارف وامكانات مادية ضخمة. ولكنها بهذه الامكانات الهائلة الكافية لتدمير الحياة على الكرة الارضية وتدمير نفسها مضطر لحسم الصراع العدائي بين اكثرية البشر واقليتهم الضئيلة المتحكمة بهم ظلما وقهرا بتحرير الذات الانسانية بكل اشكالها الفردية والجماعية والاقتراب ماامكن من النظام الانساني الذي تشيع فيه روح التعارف والتعاون والتكامل والتكافل في حدود قانون تكافؤ الفرص بين الناس والمجتمعات كلها. وبهذه الصورة يتحول جهد الانسان من التناحر فيما بين مختلف فئاته الى التركيز على توسيع رقعة الحياة في منظومتنا الشمسية ثم ابعد فابعد في اغوار الوجود المادي لما وراء الطبيعة.

البيان والتبيين

 

مثل هذا العنوان بحاجة الى مجلد ضخم بحجم ذلك الذي الفه ابوعثمان عمر بن بحر الجاحظ فابدع في بنائه ايما ابداع حتى نطح به السحاب. ولكننا سنقتصر هنا على ما نحن بحاجة اليه من هذا البحث لمحاولة التنبيه الى الدور الاساسي للجملة العصبية في اتصال الناس بعضهم ببعض عند تكوينهم مجتمعاتهم وبنائهم معارفهم، وسنستهل محاولتنا هذه بالمختصر التالي لباب البيان من بحث البيان والتبيين. يقول ابوعثمان الجاحظ في هذا الباب مامفاده: "ان المعاني القائمة في صدور العباد، المتصورة في اذهانهم، المختلجة في نفوسهم، والمتصلة بخواطرهم، والحادثة عن فكرهم، مستورة خفية وبعيدة وحشية ومحجوبة مكنونة، فلايعرف الانسان ضمير صاحبه، ولاحاجة اخيه وخليطه، وانما تحيا تلك المعاني في ذكرهم لها واخبارهم عنها واستعمالهم اياها. وهذه الخصال هي التي تقربها من الفهم وتجلبها للعقل، وتجعل الخفي منها ظاهرا، والغائب شاهدا والبعيد قريبا.. وعلى قدر وضوح الدلالة وصواب الاشارة وحسن الاختصار ودقة المدخل، يكون اظهار المعنى..".

"..البيان اسم جامع لكل شيء كشف لك قناع المعنى، وهتك الحجب عن الضمير حتى يفضي السامع الى حقيقته، ويهجم على محصوله كائنا ماكان ذلك البيان، ومن اي جنس كان ذلك الدليل. لأن مدار الامر والغاية التي يجري اليها القائل والسامع انما هو الفهم والافهام. فباي شيء بلغت الافهام، واوضحت عن المعنى فذلك هو البيان في ذلك الموضع".

"ثم اعلم حفظك الله.. ان جميع اصناف الدلالات على المعاني هي خمسة اشياء لاتنقص ولا تزيد: اولها اللفظ ثم الاشارة، ثم العقد (او الحساب)، ثم الخط، ثم الحال وتسمى النصبة. وتكون الاشارة باليد وبالرأس وبالعين والحاجب والمنكب، او بالثوب والسيف اذا تباعد الشخصان.. والاشارة واللفظ شريكان، ونعم العون له هي..".

"..وقالوا القلم (الخط) ابقى اثرا واللسان اكثر هذرا، وقال ابن كيسان: استعمال القلم اجدر ان يحض الذهن على تصحيح الكتاب من استعمال اللسان على تصحيح الكلام. واللسان مقصور على القريب الحاضر. والقلم مطلق في الشاهد والغائب وهو للغابر الكائن مثله للقائم الراهن..".

"..اما النصبة فهي الحال الناطقة بغير اللفظ، والمشيرة بغير اليد. وذلك ظاهر في خلق السموات والارض، وفي كل صامت وناطق، وجامد ونام، ومقيم وظاعن، وزائد وناقص. فالدلالة في الموات الجامد، كالدلالة التي في الحيوان الناطق. فالصامت ناطق من جهة الدلالة، والعجماء معربة من جهة البرهان. لذلك قال الأول: سل الارض من اجرى انهارك وغرس اشجارك وجنى ثمارك؟ فان لم تجبك حوارا اجابتك اعتبارا.. وقال خطيب من الخطباء حين قام على سرير الاسكندر وهو ميت: الاسكندر كان امس انطق منه اليوم، وهو اليوم اوعظ من امس. ومتى دل الشيء على معنى فقد اخبر عنه وان كان صامتا واشار اليه وان كان ساكنا..". انتهى قول الجاحظ. ثم ان البحوث تقوم اكثر ماتقوم على النصبة واستنطاق مالا يتفوه باللفظ الا انه يخبر بالدلالات والاحوال. بل ان حياة الاحياء لاتجري الا من خلال مختلف الدلالات والاحوال.

ان الكائنات المادية تخلف عند تفاعلها آثار تلك التفاعلات في بعضها بعضا. والكائنات الحية، ككائنات مادية، وعلى الاخص منها الكائن الانساني، تتفاعل مع محيطها وتتولد فيها آثار هذا التفاعل بشكل مناسب. وللكائن الحي الانساني جملة عصبية تولد الطاقات المفيدة لاحياء تلك الاثار المتولدة من ذلك التفاعل مع المحيط وذلك للرد الانعكاسي وللتبصر ولفائدة الحياة على العموم. ونجد في النتيجة ان الجسم الانساني، كنظام لمادة حية، يولد بحواسه الصور المناسبة للمواضيع (للاشياء) التي يتفاعل معها. فهناك الفرد وحواسه واحساساته التي يشاهد بها محيطه فتنتقل صور كائنات هذا المحيط الى ذهنه الذي يحولها الى الذاكرة: للحفظ اذا كانت المشاهذة هي الأولى من نوعها، اوللتذكر وتأكيد الحفظ اذا كانت المشاهدة تكرارا لمثيلات لها سبقت. ويمكن وصف هذه العملية الفيزيائية بقولنا: ان كائنات المحيط المختلفة هي مواضيع بالنسبة الى جملة الفرد العصبية التي تشكل لها باحساساتها المختلفة صورا على صفحة الذهن ومن ثم تحيلها الى مختلف مراكز الحفظ والادراك لاستثمارها بالشكل المطلوب المناسب في نشاط الفرد. ثم ان صورة الموضوع الحية المتحركة وصورة علاقات هذا الموضوع بمحيطه وبالفرد المشاهد على صفحة الذهن تشكل مفهومية هذا الفرد وتبين ادراكه للمعاني التي تحملها وتعبر عنها مجمل العلاقات القائمة في الصورة المذكورة. واما حفظ الصورة في الذاكرة فتشكل معلومية الفرد المشاهد. ويقوم المعنى في الاصل على التمايز بين مختلف الصور الحية لمواضيع المحيط المختلفة على ارضية كامل تجارب الفرد وتجارب محيطه واسلافه الذين اورثوه صفاته. اي باختصار على مفاهيمه وادراكه. والمعنى يبقى مستورا خفيا في ضمير الفرد مالم تبرز عنه في الفرد ردود افعال محسوسة من قبل الافراد الاخرين تنبئ عنه: ان الجائع مثلا ينبئ محيطه عن المعنى المتولد في ذهنه عند رؤية الطعام باقدامه على تناوله، وشكل هذا الاقدام ينبئ عن شدة هذا المعنى.

والصورة العصبية المتولدة في الذهن لها ابعادها وحياتها التي تعكس ابعاد وحياة موضوعها في المحيط المشاهد المادي، الابعاد المكانية والزمانية التي هي ابعاد مادية حقيقية بطبيعة الحال لمواضيع عالم الطبيعة المشاهدة ولكن صورها في الذهن موهومة بالمعنى الفيزيائي: ان الصورة في المرآة المستوية مثلا هي كائن موهوم يتشكل من امتدادات وهمية الى ماوراء المرآة للاشعة الاتية من موضوعها لتنعكس على صفحة المرآة. وهذا يعني ان المرآة تعطي لنصف العالم المادي القائم امامها صورة وهمية تقوم في النصف الآخر للعالم القائم ورائها. فالحيوانات الراقية مثلا عندما تشاهد الصور في المرآة لأول مرة تذهب الى خلف المرآة لتبحث عن "مادة" هذه الصور فلا تجد شيئا بطبيعة الحال. ويمكن القول ان الذهن الذي تتشكل على صفحاته صور المحيط المادي للمشاهد هو عالم وهمي، كعالم صور المرآة المستوية (فراغ وهمي بابعاد مكانية زمانية وهمية)، يتشكل من الامتدادات الوهمية لردود افعال الجملة العصبية على اختلاف انواعها ودرجاتها، اي باختصار يتشكل من الاحساسات على اختلافها بمواضيع المحيط. ولكن الصورة الوهمية لموضوع المحيط التي تشكلها الجملة العصبية لا تنفصل عن موضوعها وانما تنطبق عليه وتتلبسه بينما تكون صورة الموضوع في المرآة المستوية نظيرته بالنسبة لمستوى المرآة. ولواختلفت الصورة عن موضوعها في الجملة العصبية فلم تتلبسه عند وقوع الاحساس (عند وقوع المشاهدة) لما تمكن الفرد المشاهد من الاهتداء الى موضوعه والالتقاء به عندما يستدل، كما هي الطبيعة، بصورته الذهنية اليه. وكذلك ينطبق في النتيجة العالم الوهمي الذهني الذي هو صورة العالم المحيط المشاهد بمختلف الاحساسات على هذا العالم المادي تمام الانطباق في الاحوال العادية، عند وقوع الاحساس لدى الفرد السوي، فاذا لم يحدث هذا الامر فان هذا يعني ان الفرد المشاهد المذكور مصاب بشكل من اشكال مرض انفصام الشخصية: ان الدائخ مثلا الذي تضطرب صور العالم في ذهنه يكون مصابا بهذا الخلل العصبي الذي يزول بزوال الدوخة.

اشرنا اعلاه الى تفاعلات الكائنات المادية بعضها في بعضها الآخر وقلنا ان هذه التفاعلات لها اثارها فيها. ولكن فعل كائن بآخر لايتم آنيا ولابد له من زمن يستغرقه لينطلق من الكائن الأول ليصل الى الآخر ويفعل به. وكذلك رد الفعل له زمنه اللازم لتمامه. ولايتوقف التفاعل وتبادل المواد بين الكائنات المادية التي لاتتوقف ابدا عن الحركة والتغير، اذ لاشيء ثابت لا يتحرك ولا يتغير الا العدم. ثم ان المسافات التي يقطعها الضوء  في انتقاله الكوني تقاس بالعديد من السنين الضوئية وهو يتحرك بالسرعة التي لاتبلغها أي مادة أخرى من مواد الكون الا أن انتقاله لا يكون أبدا آنيا كما كان يظن . بل ان بعض ما نشاهده من نجوم في الكون قد يكون اندثر من ملايين السنين بعد أن عاش ملايين السنين قبل وصول ضوئه الينا. وهذا يعني أن الصور الذهنية للأشياء المشاهدة في الطبيعة في مشهد واحد في لحظة واحدة ، أي المتزامنة ذهنيا في هذا المشهد، تكون على عكس مواضيعها في الطبيعة ، على عكس تلك الأشياء المشاهدة، التي لا تتزامن في أفعالها لتكوين المشهد المذكور في الذهن، التي لا تنطلق أضواؤها في آن واحد لتصل وتؤثر في الجملة العصبية للفرد المشاهد. ذلك لأن أبعاد تلك الأشياء عن الفرد المشاهد تتراوح في الطبيعة الكونية من التماس (من الفرد المشاهد الذي هو جزء من الطبيعة أيضا) الى اللانهاية في أغوار الكون السحيقة . وبالتالي فان أفعال هذه الأشياء المادية في الجملة العصبية للفرد المشاهد المذكور، الأفعال التي يقوم بها المشهد الواحد، تنطلق بأزمنة مختلفة تتراوح بين الماضي السحيق اللامتناهي في أزمنة التاريخ حتى الآني الذي قامت فيه الصورة الذهنية للمشهد. ولكن تأثيرات هذه الأفعال المختلفة المصدر في الجملة العصبية للفرد المشاهد هي التي تكون الصورة الذهنية للمشهد المادي عندما تلتقي في آن واحد بالجملة العصبية لتؤثر فيها وتقوم صورة المشهد بنتيجة هذه التأثيرات أو الاحساسات المتزامنة. فالصورة الذهنية، كصورة المرآة، تعبر اذن عن فعل ورد فعل وليس عن صورة ماهية جامدة لشيء قائم في الطبيعة. كما أن عالم الذهن الموهوم هو عالم ينطبق على العالم المادي للأفعال والتفاعلات المادية المتزامنة، على العالم المادي القائم بالفعل، وليس على عالم غير موجود الا بالتصورات الوثنية الجامدة الكاذبة: ان ضوء النجم القائم مثلا في أغوار الكون السحيقة عندما انطلق من هذا النجم ليؤثر في شبكيتنا في الحال الراهن فان ماحولنا من أشياء مادية ما كانت حينذاك موجودة فلا يمكن اذن أن تشكل هذه الأشياء مع النجم في تلك الأثناء مشهدا واحدا، وكذلك في الحالة الراهنة فان النجم ككائن مادي قد غير مكانه من زمن بعيد جدا فهو قد خرج من المشهد (وربما من الوجود) فلم يبق سوى فعله، سوى ضوئه، ليؤثر حاليا مع بقية أفعال الكائنات الأخرى في جملتنا العصبية لتقوم في الذهن صورة المشهد المذكور القائم في عالم تلك الأفعال.

ان العالم الوهمي الذهني هو اذن الصورة الذهنية الوهمية لعالم الظواهر الفاعلة فينا، أو عالم المشاهدة الذي ينمو ويتسع ويتعمق باستمرار بازدياد قدرة الانسان على الاحساس بالواقع، على مشاهدته بمختلف الحواس والوسائل المساعدة، على الخوض فيه وتكوين معارف جديدة عنه فيتسع الذهن، وتتسع كذلك الذاكرة التي تحفظ تلك الصور الذهنية وتتكون فيها المعلومية عن العالم حاضرا وماضيا. وقد قلنا أن المعنى يقوم على التمايز بين مختلف الصور الحية لمواضيع المحيط المختلفة، فهو من عنى ودل، وموضوعه في الواقع مختلف الظواهر والأحوال التي تعبر عن كل كيان مادي مشاهد وتميزه من غيره، انه صورة تعبير كائن المحيط المشاهد، صورة تعبير الواقع برمته، بتمايزه ومختلف علاقاته وأفعاله، صورة بيان وإفصاح الواقع عن حقائقه بمختلف أشكال الإفصاح: من النصبة الى البيان بمختلف الأصوات والأفعال المادية والحركة. وبالاختصار: ان المعاني القائمة على مفاهيم الفرد وادراكه تشكل لدى الفرد عالم المفاهيم والادراك، وهو عالم ذاتي كعالم الذهن ينطبق بمقدار صحته على التعبير المادي للمحيط كانطباق الصورة الذهنية على موضوعها في المحيط المادي، وهو كهذا التعبير المادي للمحيط مجرد من كل بعد مكاني وزماني. فلا مكان ولا قبل ولا بعد في المعاني والحقائق: ان معاني الخير والشر مثلا والجمال والمساواة والنظريات العلمية والمقولات وغيره مما لا يحصى هي من الأمور التي تصور في الادراك حقائق موضوعية تقوم في العالم المادي المدرك، وهي كموضوعاتها هذه لا ترتبط بمكان ولا بزمان: ان الذهن مثلا مكان موهوم لصور الواقع المتحركة المتغيرة في الزمان، أما الادراك أو الفهم فلا مكان ولا زمان له. ثم ان الجمل العصبية للانسان متشابهة وان اختصت كل واحدة منها بمؤهلات تناسب تاريخ نشوئها وارتقائها، وهي تتركب في العائلة ثم في الجماعات الأكبر فالأكبر حتى يعم هذا الأمر جملة المجتمعات الانسانية وتتركب معها المشاهدات والمفاهيم وغيره من عناصر المعرفة الانسانية. ويجب أن لا يغرب عن البال أن الأفراد وجملهم العصبية هم بالنسبة الى الفرد الواحد كائنات مادية طبيعية يصدر عنها أهم أنواع الأفعال المادية التي تفعل في جملته العصبية وتشحنها بمختلف الصور الذهنية والمعلوميات المحفوظة ومعاني الادراك.

نقول اذن باختصار أن عالما وهميا ينشأ في الفرد هو انعكاس يقابل عالم الواقع تعطيه الجملة العصبية لهذا الواقع وكائناته وحقائقه على شكل صور ومعان، وذلك بمقدار يتناسب مع اتساع وعمق الاحساس بالواقع. والفرد، كما سبق وأشرنا اليه، جزء من الواقع المادي ويتحدد بمكان وزمان أفعال العالم المحيط به ورده على هذه الأفعال. ويميز ادراك الفرد ومعلوميته في المعاني التي يكتسبها مختلف أجزاء الواقع المادي، مختلف كائنات الطبيعة وتفاعلاتها بعضها ببعضها الآخر بحدود تتناسب مع امكاناته العصبية العقلية، ويميز الفرد على الأخص أنه هو ذاته من بقية الواقع بحدوده القائمة بأفعال المحيط فيه ورده على هذه الأفعال. فيقوم اذن في وهم الانسان الفرد، في ادراكه ومعلوميته، معاني الأنا والأنت والهو، يقوم تمييز المدرك والمدرك: أنا للذات المدركة ، وأنت كل ما هو من عالم الظواهر، وهو كل ما يغيب عن المشهد الطبيعي ويلحق به كل ما وراء الطبيعة.

الطاقة والمادة

 

ان قانون المصونية للمادة القائل: "لاشيء يفنى ولا شيء يأتي من لاشيء"، هذا القانون الذي هو في الواقع مسلمة مطلقة تشكل امتدادا لبديهية "أن لا بد من سبب لكل شيء" يقودنا الى حقيقة مطلقة مآلها أن المادة كجوهر لا تفنى وانما شكل الأشياء والحوادث هو الذي يتغير فينتفي شكل ليقوم مكانه شكل أو أشكال تتوزع عليها المادة بتمام كميتها دون زيادة أو نقصان.وهذه الحقيقة المطلقة تعارض تماما المزاعم التي راجت عند ظهور النتائج الأولى لبحوث لورنز وأنشتاين في النسبية وما تزال تتردد بشكل أو بآخر حتى يومنا هذا وتتلخص بالقول أن المادة تنحل لتأخذ شكل طاقة أو قدرة. وسند هذه المزاعم لايعدو سوء التفسير الذي لا يؤول الا الى البطلان. فالمادة التي يدور حولها هذا الجدل هي في الأشياء التي تلمس مباشرة أو بمختلف الوسائل الوسيطة ليتم ادراكها ومعرفتها في النتيجة، أي التي تفعل وترد الفعل وتقاوم، فما لا يفعل ولا يقاوم بشكل مطلق هو الذي لا وجود له.

يمكن البدء بطرح مسلمة أن القدرة أو الطاقة هي قدرة المادة على الفعل أو طاقتها للفعل، مع الانتباه الى أن المقاومة ورد الفعل وغيره من الأشباه هي، بطبيعة الحال، من الأفعال. فالقدرة أو الطاقة لإمكان الفعل هي صفة الفاعل الذي لا يقوم الا بها وليست وسيلة منفصلة عنه: انها بهذا التعريف صفة وجود الفاعل، وجود المادة، فلا فعل ولا فاعل، ولا مادة، بدون طاقة للفعل. وبالتالي فان قولنا أن المادة تنحل لتتحول الى طاقة ، أو لتحرر مقدارا كبيرا من الطاقة، أو أن الطاقة تتجسد مادة، كما يزعم العديد من كتب وبحوث الفيزياء الحديثة، هو كلام لا معنى له كقولنا أن الشيء يتحول الى واحدة من خواصه أو أن صفته تتجسد لتصبح شيئا، أو أن شكل وجوده يمكن أن يتحرر أو أن يتجسد عندما يستقل بذاته ويتحرر من محتواه أو ما يشبه هذا من اللغو والهذيان.

ان من الثابت من قديم الزمان وحتى الآن، وهو ثبوت كاف للتعميم، أن عناصر المادة وذريراتها هي ذاتها في الأشياء والظواهر. وقد ضيع الكثيرون ثرواتهم في محاولات تحويل المعادن الرخيصة الى ذهب الى أن جاءت الكيمياء الحديثة وبينت صحة هذا الزعم، ثم أثبتته الفيزياء المعاصرة بالتجارب المرتفعة التكاليف التي انتهت الى تفجير القنابل الذرية الأميركية على رأس الانسان في اليابان. فالعناصر الأولية للمادة المتضمنة في لوحة مندلييف مثلا هي عناصر أساسية تدخل في تركيب كل الأشياء المادية المعروفة، كما أن هذه العناصر بالذات تتركب من ذات الذريرات المادية بأشكال مناسبة. والاتجاه العام لتجزيئ المادة يسير نحو بدوء محدودة العدد لكل الأشياء والظواهر: ان أحدث التجارب في عالم الصغائر مثلا تبين أن المادة في أبسط صورها المعروفة تنقسم الى نوعين متعاكسين بالاشارة، الى مادة موجبة ومادة سالبة، فاذا ما اجتمع هذان الضدان وتفاعلا تحول مجموعهما الى عدد من الذريرات المعروفة التي منها فوتون الضوء.

ان الطاقة اذن هي الصفة المطلقة للمادة، فما ليس له طاقة ليس له وجود مادي أيضا، ولا معنى لانفصال الطاقة عن المادة وقيامها بذاتها اذ لا بد من أن تكون طاقة شيء يفعل: ان المادة وطاقتها متلازمتان تلازم الموجود وشكل وجوده، وبالتالي لا يمكن تصور خروج الطاقة دون المادة التي تتصف بها أو خروج المادة دون طاقتها التي تحركها من كائن الى آخر فالمادة تنتقل  وتفعل وتقاوم بذاتها المتصفة بطاقة الفعل والحركة. وحيث أن المادة من جوهر واحد وان تعددت أشكالها فان طاقتها لا تختلف الا باختلاف كميتها: كميتان ماديتان متساويتان تتساويان بطاقتيهما. فالطاقة هي الشكل المطلق لوجود المادة والوجود هو الوجود لا يزيد ولا ينقص والطاقة لا تتغير الا بتغير كمية المادة . ونجد في النهاية أن الطاقة تعبر عن المادة كما وكيفا. ولكن الكتلة ، في شكلي العطالة والثقالة، هي التعبير الكمي للمادة الساكنة أو المتحركة بحركة مستقيمة منتظمة فيكون لدينا اذن التالي: "ان الطاقة الكلية لنقطة مادية تحت تأثير عطالتها فقط تتناسب طردا مع كتلتها". ولنختصر كل ما سيق بالشكل التالي الذي يقودنا الى العلاقة الشهيرة لأنشتاين التي أطلق عليها اسم "مبدأ عطالة الطاقة": "ان العطالة الكلية لنقطة مادية، مقاومة هذه النقطة لكل تغير لسكونها أو لحركتها المستقيمة المنتظمة تقوم بداهة على طاقتها الكلية وتتناسب طردا مع هذه الطاقة. ولكننا نعرف أن العطالة الكلية للنقطة المادية تتناسب مع كتلتها قياس كميتها، فتكون اذن الطاقة الكلية للنقطة المادية في حالتي سكونها وحركتها المستقيمة المنتظمة متناسبة طردا مع كتلتها".

ان هذه النتيجة، التي تبنى عليها علاقة بسيطة بين شكلين لقياس كمية المادة فيمكن بالتالي تحويل أحدهما الى الآخر بتلك العلاقة تماما كما تحول المقاييس غير العشرية الى العشرية والعكس، هذه النتيجة البديهية كانت مثار دهشة اختلط فيها الجد بالانفعالات المصطنعة.لقد كان ظهورها في خضم الثورات والجدل العام في نظام عالمي يسير نحو أزمته الكبرى في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين عندما طرحت بحوث لورانز وانشتاين في النسبية وماتخلل هذه البحوث من هندسات غير أوقليدية. ولنلاحظ هنا أن بحوث الهندسة التقليدية مع البحوث الاخرى للرياضيات اذ تقوم على المنطق الانساني تعزز هذا المنطق وبالتالي تعزز الثقة بالمعرفة الانسانية. ومن الطبيعي أن تتقدم هذه البحوث في مجالات جديدة للمعرفة الانسانية وهذا مايحصل دوما في مسيرة هذه المعرفة لتتوسع وتتعزز. ولكن الرجعية الوثنية، التي تحاول دوما تجميد الحياة في حدود مصالحها الضيقة، ومن وسائلها لهذا الغرض زعزعة الثقة بالمنطق الانساني وبالمعرفة الانسانية، حاولت بغير حق، وماتزال، معارضة الهندسة التقليدية بالنسبية بدلا من اعتبار هذه النسبية وهندساتها توسعا بناء لمجالات الهندسة والرياضيات. ولننظر الى القول التالي للأستاذ ليشنيروفتز، وهو من علماء أواسط هذا القرن العشرين المشهورين في هذا الاختصاص الذي نحن بصدده هنا والأستاذ في كلية العلوم في جامعة باريز، من بحث له حول الحساب التنسوري نشره وحاضر بمواده على مدرج الكلية المذكورة في عام 1950، وكانت لي الفرصة الطيبة أن أكون بين المداومين الكثر على تلك المحاضرات: "كل جملة فيزيائية تمتلك الطاقة في حالة السكون بشكل من الأشكال تمتلك أيضا في ذات الوقت كتلة عطالة تكافئ هذه الطاقة. وهذا المنطوق، المعروف باسم "مبدأ عطالة الطاقة" يعود لأنشتاين. ان التعرف على واقع أن الكتلة والطاقة متعادلتان هو بلا شك المساهمة الأكثر خصوبة التي قدمتها النسبية للفيزياء... وان نقص كتلة النقطة المادية أو زيادتها يتناسب طردا مع كمية الطاقة المشعة أو المكتسبة. ولقد كان هنالك للجملة المادية المعزولة قانونا مصونية متمايزان الواحد من الآخر في الميكانيك: واحد للكتلة وآخر للطاقة. أما في النسبية فيوجد فقط للجملة المعزولة قانون مصونية واحد للطاقة والكتلة. فكتلة نقطة مادية مركبة تبقى ثابتة مادامت طاقتها لم تتأثر بأي تغير. ولكن الكتل الساكنة يمكن أن تتغير بشكل ملحوظ عندما تكون طاقات التفاعل فيما بينها من مرتبة طاقاتها السكونية في القدر. وعلى هذا الأساس تفسر ظاهرة "نقص الكتلة" الملاحظ في النوى الجوهرية في معظم التفاعلات النووية. هنا ندرك الدور الجوهري الذي تلعبه "عطالة الطاقة" في دراسة الظواهر النووية التي هي موضوع العديد من البحوث في الفيزياء المعاصرة التي تعرف من الآن فصاعدا الطريق الى تجسيد الطاقة على شكل ذريرات مثلما تعرف افناء المادة لتحرير طاقة مكافئة". انتهى قول الاستاذ ليشنيروفتز.

ان نهاية هذا القول اذ تناقض أوله تشبه قول القائل بأن مياه النيل تكافئ مقياسها المقام في القناطر الخيرية. ومع مافي هذا القول الذي كان ومايزال يشبه غرائب الموضة التي يقبل عليها الناس كي لايقال عنهم انهم متخلفون أو مقصرون في الفهم، فهو قد انتشر كالوباء بين الباحثين الفيزيائيين. والمفارقة هنا أن النسبية التي صححت المفهوم القديم للطاقة وبرهنت على أن الموجود الحقيقي هو المادة وأن طاقتها هي صفة لها تدلنا عليها كما وكيفا فتعزز مفهوم مصونيتها، هذه النسبية قلبها باحثوها الى تعسف جائر هو مبدأ عطالة الطاقة الآنف الذكر، وذلك بتفسير خاطئ لبديهية تكافؤ طريقتين لقياس كمية المادة، طريقة القياس بالكتلة وطريقة القياس بالطاقة، وكأن الكتلة بحسب هذا التفسير هي المادة بعينها وليست قياسا لكميتها، وكأن الطاقة شيء منفصل عن المادة يمكن لهذه أن تتحول اليه. فالفيزياء التقليدية كانت غير واضحة عندما قيدت اختفاء شكل لحركة المادة وقيام شكل آخر لهذه الحركة بمبدأ "مصونية الطاقة" الذي "يختبئ" تحته واقع أن التغير هنا هو في شكل المادة وليس في كميتها مادامت الحركة تعبر بداهة عنها في الأصل عندما تعبر عن طاقتها، فتكون اذن "مصونية الطاقة" هي في الواقع "مصونية المادة". وقد اتت النسبية لتزيل هذا الالتباس بالبرهنة وبالتجربة فأوضحت أن كتلة المادة وطاقتها، مقياسي كميتها، متكافئتان وأنه لاوجود بالتالي الا لمبدأ واحد للمصونية هو "مصونية المادة" فاختفاء شكل للحركة لايعني أبدا انحلال المادة المتحركة بها، وهو أمر مستحيل، وانما يعني تحول هذا الشكل للحركة الى شكل آخر دون أي تغير كمي للمادة المتحركة أبدا.

ان قدماء الفيزيائيين اختصروا الجملة المادية، ببراعة وفهم عميق لخواص المادة، بمركز ثقل الجملة الذي تتجمع فيه كل الخواص الميكانيكية لهذه الجملة وفي مقدمتها كمية مادتها مع مجموع طاقتها بطبيعة الحال وأعطوه اسم النقطة المادية. وكان هذا بهدف التجريد والتبسيط وبالتالي تسهيل حل القضايا الأساسية في الميكانيك. وعند افتتاح عالم الصغائر كفرع من العلوم التطبيقية، الفرع الذي أتيحت له الوسائل المناسبة لخوض مجاهله، اختلط مفهوم الذريرة بمفهوم النقطة المادية التي غاب لذلك مدلولها الأصلي الآنف الذكر وكاد أن ينسى تماما بتغطيته بمفهوم الذريرة، مع أن المفهومين متعارضان ومتناقضان تماما. فالنقطة المادية هي اذا شئنا محصلة كل التصورات حول شكل المادة ويشير مفهومها الى وحدة المادة في الأصل فهو قفزة فكرية الى "ما وراء اللانهاية" في مسيرة تجريد المادة واعطائها صورة واحدة تدل على جوهرها المطلق المتمثل بمركز ثقل كائناتها. أما الذريرة فهي بمدلولها تمثل تنثير المادة وجعلها مجسدة بكائنات متباينة الشكل، فيكون مفهومها قفزة الى "ما وراء اللانهاية" في مسيرة تجسيد المادة بكائنات تامة الاستقلال فيما بين بعضها بعضا مكتفية بذاتها.

نعود اذن ونقول: ان عطالة جملة نقاط مادية يعني قدرة أو طاقة الجملة لمقاومة كل تغير في حالة سكونها أو حركتها المستقيمة المنتظمة. ولاحداث تغير في هذه الحالة دون أي تغير في بنيتها الأساسية لا بد من مادة اضافية مناسبة تتحرك بحركة مستقيمة منتظمة مناسبة تضاف الى الجملة فتغير من سكونها أو تكبح حركتها وتجرها لتتحرك بحركة مستقيمة منتظمة، اذا كانت ساكنة ، أو لتعاكس حركتها وتكبحها أو تعدلها في الشدة والاتجاه عندما تكون متحركة. وبالامكان احداث تغيرات مشابهة عن طريق تغيير عطالة الجملة بتعديل بنيتها بالذات وذلك بحذف أجزاء المادة منها المانعة أوالكابحة للحركة المستقيمة المنتظمة المطلوبة.فنجد اذن في كل الحالات أن تغير الحركة المستقيمة المنتظمة أو تحريك السكون، أي تغير العطالة ، هو تغير في كمية مادة الجملة وليس انتقال الطاقة بمفردها من جملة مادية الى أخرى وهو كما مر معنا أمر لا حقيقة له ولا يحصل لتلازم المادة وطاقتها. هنا نجد بداهة أنه عندما يتحدد نظام المادة وتتحدد كميتها في هذا النظام ويتحدد توزيعها فيه فان طاقتها تتحدد ويتحدد على العموم شكل أفعالها ومقاوماتها. وعندما نأخذ باعتبارنا نقطة مادية في أبسط نظام مادي لها فتتجه طاقاتها لتحريكها في اتجاه واحد دون أي عائق يمنع الحركة في هذا الاتجاه أو يعدلها، دون أي عائق خارجي أو داخلي ينشأ من عدم توازي طاقات النقطة مع تعطيل أفعال بعضها بأفعال بعضها الآخر، فان الحركة الحاصلة تكون بطبيعة الحال منتظمة مستقيمة وشدتها، أي سرعتها، في نهايتها العظمى التي لا يمكن تجاوزها. وهذه السرعة هي سرعة الضوء في الفراغ التي أثبتت التجارب أنها حول الثلاثمائة ألف كيلومتر في الثانية. ثم ان النقطة المادية تحت تأثير طاقات لها غير متوازية، عندما تتوزع المادة فيها بشكل تكون فيه طاقات هذه المادة غير متوازية: عندما تكون المحصلة المحسوسة لبعض هذه الطاقات على الأقل غير موازية لما بقي من طاقات هذه النقطة، فان سرعة النقطة تهبط عن حدها الأعظمي ولو كانت تلك البقية متوازية وفي اتجاه واحد. ولبلوغ سرعة الضوء ، في هذه الحالة في الوسط القائم، يجب زيادة المادة في جهة تلك الطاقات المتوازية في الاتجاه الواحد الى مالا نهاية لينعدم تأثير تلك المحصلة المحسوسة الشاذة عن هذا التوازي. الأمر الذي يتفق تماما مع العلاقة الرياضية التي تعطينا الطاقة الكلية للنقطة المادية في النسبية المقتصرة. وهذه العلاقة تؤيد أيضا كل ما توصلنا اليه في هذه الدراسة انطلاقا من بديهيات المنطق فحسب، هذه البديهيات التي تبقى صحيحة في عالم الصغائر كما هي في عالمنا العادي الخاضع للادراك المباشر.

 

المكان والزمان

 

ان المادة تقوم في كائنات منظمة بأشكال وخواص مناسبة لأدوارها في الوجود العام الكوني. وهي تترتب بجمل مادية تخضع كل منها لنظام مناسب يحدد علاقاتها المتقابلة بين بعضها والبعض الآخر . ويرتبط بعض هذه الجمل ببعضها الاخر لتؤلف جملا أوسع فأوسع وهكذا الى ما لا نهاية له في أغوار وأعماق الكون غير المحدود. والشكل والنظام بعلاقاته مع مختلف الخواص المادية كلها لها وجود مستقل عن ذواتنا وتصوراتنا. وهي الأصل الذي يفعل ماديا بحواسنا لتتشكل له الصور والمعاني المناسبة في أذهاننا، الصور والمعاني التي تخزن في ذاكرتنا وتشكل أساس معارفنا: ان الجمل الضوئية، المرايا والعدسات، تعطي صورا حقيقية ووهمية للأشياء المادية، وكذلك فان لأشكال الكائنات المادية وعلاقاتها وخواصها صورا وهمية في الجملة العصبية تقوم في الذهن وتنطبق تمام الانطباق على شكل الكائن المادي الأمر الذي يمكننا من التحرك نحوه بدون خطأ ويولد فهما ومعاني تمكن من التعامل معه بشكل صحيح. وعندما تختل هذه المعاني وتبتعد تلك الصورة عن كائنها المادي الذي تصوره بسبب مرض عصبي تختل أيضا كل علاقاتنا بالكائن المذكور. وهذا أمر يشكل برهانا لايرد على واقعية الأشياء المادية المشاهدة وواقعية أشكالها ونظمها وعلاقاتها بعضها ببعضها الآخر وخواصها، ونجد في النتيجة بطلان ما يذهب اليه بعض الفلاسفة وأتباعهم، لا سيما منهم الفيلسوف الألماني كنط  ومدرسته، من أن الأشكال والمعاني بحسب آراء هؤلاء الناس هي من صنع تصوراتنا. ولكن كيف نشأت هذه التصورات؟..

عندما يتكون في إدراكنا صور ومعاني المادة المتشكلة بكائناتها المتحركة أبدا والمتغيرة اطلاقا بدون توقف تحصل عندنا بالتالي الحقيقة المطلقة بأن هذا الوجود الكوني له بداهة الشكل العام الموضوعي المعرف بالمكان اللانهائي التقليدي وبالزمان التقليدي الجاري أبدا. والبرهان الكافي الوافي على بداهة هذا الأمر هو أن هذا الشكل العام للوجود المادي للكون له صورة لا تتغير في بداهة كل أفراد البشر: في ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم، بمن فيهم الفلاسفة المنكرون لماديته، وهذه الصورة هي الذهن الذي تتشكل فيه كل الصور لأشكال كائنات عالم الطبيعة ولمعانيها، العالم الذي دخل في ادراكنا وهو لا ينفك عن الاتساع والتعمق في اتجاه ما ورائه من الكون.وهذه الصورة لعالم الطبيعة نجدها منطبقة أبدا، الا في الحالات المرضية المنافية بالتعريف للواقع المادي، على هذا العالم مما يسمح، كما أشرنا أعلاه، بالتعامل بشكل صحيح مع هذا العالم وبالتالي الاستمرار في الحياة الواعية الطبيعية: ان عدم انطباق الصورة العامة للوجود المادي في الجملة العصبية على عالم الطبيعة، عدم انطباق الذهن ومحتويات الفكر من مختلف المعارف، على الواقع المادي هو بالتعريف الخطأ والجهل بالمعرفة وبالتالي التعثر في الحياة عند الاصطدام بواقع غير محدد بشكل كاف.

نقول اذن أننا عندما ننظر الى كل جزء من هذا الكون يمكننا أن نميز فيه الشكل المادي الملموس للوجود وهو يتحرك في المكان التقليدي الأوقليدي ويتغير في الزمان التقليدي الأوقليدي، ولا يمكن تصور غير هذا الأمر للوجود المادي المتحرك المتغير اذ لا بد من مكان للوجود والحركة ولا بد من زمان للوجود والتغير. ولكن كل من هذا الزمان وذلك المكان غير ملموس الا بضرورته للحركة أو للتغير: ان المادة بفعل قدراتها وتغيرها من شكل الى آخر تلعب دور وسيلة لادراكنا فراغ المكان-زمان الأوقليدي الذي لا يلمس وذلك على عكس أشكالها في كائناتها المختلفة فانها تلمس للتعرف عليها.

اننا نكشف هنا عن واقع ضروري ولكنه غير ملموس الا بضرورته لوجود المادة المتحركة المتحولة أبدا فيه وهو ذلك الفراغ الأوقليدي فراغ المكان-زمان. ونرى أن هذا الواقع متميز من الشكل العام للكون المادي الذي له جسم ملموس أو قابل لللمس فيشكل محتواه. وهو، أي لبفراغ الكوني الأوقليدي، كالكون المادي فيه لا نهائي ومطلق في خواصه. فأبعاد أكبر النجوم مثلا بالنسبة الى مسافات الفضاء فيما بين هذه النجوم لا تتعدى المليمترات بالنسبة الى مئات الكيلومترات وحركة النجوم فيه بنسبة بعضها الى البعض الى البعض الآخر كحركة "دحل" الأطفال في مدن تفصلها مئات الكيلومترات فيما بينها، الأمر الذي يثبت "ترحرح" المادة في هذا الفراغ الكوني الأوقليدي الثابت والمملوء بالمادة مع ذلك.

ان الطاقة الكلية لواحدة المادة والطاقة الحركية لهذه الواحدة لا تتغيران في كل جمل الاحداثيات بحسب مبدأ مصونية المادة ومبدأ قياس المادة بالطاقة بحيث يكون لكل كمية معينة من المادة طاقة لا تتغير من جملة احداثيات الى أخرى. لذلك فان بالامكان تركيب افادات رياضية مناسبة لهذين الشكلين من الطاقة للحصول على جميع قوانين النسبية بسهولة . ان تفاضل تلك الطاقة الكلية وهذه الطاقة الحركية مثلا يعطينا طاقة السكون للمادة، الطاقة التي لا تتغير أيضا بتغير جملة الاحداثيات ولكنها تشكل جزءا من النظام المادي لجملة الاحداثيات التي تسكن فيها هذه المادة وتنجر بحركتها العامة. وتبلغ سرعة المادة حدها الأعظمي، وهو سرعة الضوء، عندما تنعدم فيها كتلة السكون فتتحرر من كل ارتباط مادي بأي جملة من الجمل المادية.

مر معنا أعلاه أن النقطة المادية في أبسط صورها عندما تكون طاقاتها متوازية وتعمل كلها في اتجاه واحد فان حركتها المستقيمة المنتظمة تبلغ أقصى شدتها في هذا الاتجاه وتكتسب سرعة الضوء في الفراغ الأوقليدي الكلاسيكي، في الفراغ المطلق. وحيث أن كمية المادة وطاقاتها وتوزعها ونظامها، كل هذه الأمور، هي من الخصائص التي لا تتغير بداهة بتغير جمل الاحداثيات التي ننسب اليها النقطة المادية المذكورة فان حركة هذه النقطة ، أي حركة الضوء تبقى بذاتها بدون تغيير في كل جمل الاحداثيات: لا يمكن جرها مثلا لتزداد سرعتها بأي مادة أو أي جملة مادية ما لم تتركب مع ما يجرها لتصبح في نظام مادي جديد لا يحصل فيه توازي الطاقات في اتجاه واحد وبالتالي تفقد نقطتنا المادية صفتها الضوئية لتتحرك عندئذ بحركة أخرى عادية شدتها دون الحد الأعظمي بطبيعة الحال. أما الضوء فان أصغر جزء مادي ممكن فيه لا بد من أن يتحرك بحركة مستقلة سرعتها أعظمية فلا تجتمع مختلف أجزائه الا في نظام هذه الحركة الذي يشكل تركيبها الوحيد عمليا. ونجد في النتيجة : أن الضوء، ما بقي ضوءا لاينجر بأي جملة احداثيات لا يمكن أن يكون لحركتها بالنسبة الى الفراغ الأوقليدي سرعة تتجاوز سرعته فيكون له اذن حركة مستقلة مطلقة في الفراغ الأوقليدي المذكور الذي هو ثابت هندسيا على عكس كل الأشكال المادية المتحركة فيه وهذه الحركة هي واحدة لا تتغير في كل جمل الاحداثيات الغاليلية. وهذه الأمور تؤكدها علاقة أنشتين في تركيب السرع في  النسبية المقتصرة. ونستخلص في النتيجة القانونين التاليين:

1 - استقلالية الضوء: ان حركة الضوء غير قابلة للتركيب مع أي حركة أخرى ضوئية أو غير ضوئية، ما لم تفقد صفتها الضوئية وتصبح حركة عادية عندئذ.

2 - مصونية الفراغ المطلق: الفراغ المطلق يحوي المادة وهو ثابت في كل جمل الاحداثيات مهما كانت حركة هذه الجمل فيه. أما التغيير  فيكون في قياس هذا الفراغ مكانا وزمانا بالمادة التي تتحول وتتحرك فيه. وبعبارة أخرى: ان حجما معينا من الفراغ المطلق مكان زمان يبقى بذاته دون أي تغيير مسرحا لعدد لانهائي من الحوادث المادية المختلفة.

الوجود ونفيه

 

قطعت الفيزياء الحديثة شوطا هاما في اتجاه استكمال صورة الكون. وقد سبق أن أشرنا أعلاه الى ضرورة وجود الفراغ الأوقليدي المطلق بأبعاده الكلاسيكية الأربعة، أبعادالمكان زمان. هذا الفراغ الذي أنكرته التفسيرات المضللة للنسبية تارة وملأته تارة أخرى الوثنيات المعاصرة بخيالات وصور خرافية تتجاوز باثاراتها أساطير الوثنيات القديمة وذلك كله لخدمة الباطل، يشبه بالمادة المحسوسة التي تملؤه فراغ مختلف مراتب سلسلة التعداد الحسابي الذي تقوم فيه الأرقام فالمرتبة في السلسلة المذكورة يرمز اليها بالصفر عند خلائها من الأرقام كي تميز من سابقتها ولاحقتها فلا تختلط بهما وتغيب بغياب كل رقم فيها يخالف الصفر. ولقد تمت صورة الوجود باكتشاف ما سموه الذريرات السالبة التي بني عليها وجود "سالب " للمادة: اكتشف مثلا "البوزيتون" الذي يشكل عند التقائه بالاليكترون المعروف "فوتونا" ضوئيا. وتفسير بعضهم وهم كثر بين المهتمين بالفيزياء والفلسفة، أن التقاء هاتين الذريرتين المتعاكستين ماديا بالاشارة. التقاء ذريرة الاليكترون (النيغاتون) الموجبة المادة بنظيرتها البوزيتون السالبة المادة، يؤدي الى انعدام المادة وتشكل فوتون ضوء هو مجرد طاقة غير مادية بحسب زعمهم. يقول مثلا الفيزيائي جان تيبو، الأستاذ في كلية العلوم في ليون ومدير معهد الفيزياء النووية الفرنسي في أواسط هذا القرن في بحث له تحت عنوان "حياة جواهر الفرد وتحولاتها المتقابلة" ما يلي:

".. ان الحكمة المأثورة القائلة : أن لا شيء يفنى ولا شيء يخلق من لاشيء، تصاب بعد نسبية أنشتاين بخلل مؤكد. فالمادة غير مصونة أبدا، فبنسبة الدقة التي تبلغها قياساتنا للكتل المادية في تجاربنا النووية تبقى الطاقة وحدها مصونة ويمكن القول   أن ما يختفي كمادة يبرز بالضرورة كطاقة... بالامكان افناء عدد من غرامات المادة للحصول على طاقة تعادل تلك الحاصلة من احراق أطنان الفحم.. ويتولد تحت فعل أشعة غما اليكترونات ايجابية وأخرى سلبية في ذات المكان في آن واحد لتشكل "أزواجا". وعلى هذا الأساس يمكننا القول أن الأشعة الآنفة الذكر، غير المادية، تجسدت فجأة في المكان المذكور بشحنتين ماديتين متعاكستي الاشارة. والنتيجة الواجب استخلاصها هي أن بالامكان توليد المادة بالاشعاع غير المادي..". انتهى قول الأستاذ جان تيبو

ان المادة أمر مطلق لا يكون بذاته موجبا أو سالبا الا بالشكل الذي يقوم به، الا بنظامه القائم الذي يعين دوره في بنية محيطه. فاذا مالتقى شكلان متناظران للمادة، اذا التقى مثلا اليكترون مع بوزيتون برز لمجموعهما شكل جديد يغطي شكليهما القديمين هو فوتون الضوء القائم على مادتيهما معا بالكلية. ثم ان تناظر هاتين الذريرتين يؤدي بالضرورة الى الأمرين الهامين التاليين:

الأول: قيام ساحة كهرطيسية متناوبة: الفعل المادي لاحدى الذريرتين في الأخرى لا بد من أن ينتهي بسبب تساويهما في المطلق وتناظرهما بالاشارة الى أن تحل الواحدة مكان الأخرى بالتناوب.

الثاني: ان الساحة الكهرطيسية المتناظرة القطبين التي تقوم بالتقاء الذريرتين تنظم مادة المجموع بما يشبه ذريرات الحديد الممغنط فتتوازى الطاقات في اتجاه واحد ويكتسب المجموع حركة شدتها أعظمية هي حركة الضوء التي لها أيضا ذلك الوجه التموجي.

 والضوء اذن هو شكل من أشكال المادة، ووجوده المادي بديهي بالآثار التي تتركها أفعاله الملموسة المؤكدة التي يأتي في مقدمتها فعله المألوف المبتذل بجهازنا البصري وذلك على عكس ما جاء في كلمة الأستاذ جان تيبو الآنفة الذكر. اننا لسنا بحاجة الى تأكيد مادية فعل الضوء بنا نحن الأحياء، المادية التي لولاها لما تكون لدينا أي معرفة للضوء وذلك مهما بلغ فعلها من اللطف وضعف الأثر.ولقد ثبت بالتجربة أن للضوء ثقلا فهو ينحني مثلا عند مروره قرب الشمس. فتحصل لذلك ظاهرة شروق كوكب عطارد من وراء الشمس قبل الأوان مع ملامسة هذا الكوكب ظاهريا للشمس. ولكن حجة النسبيين المدافعين عن الأنشتاينية بوجهها المفتعل المولد للغرائب المثيرة لا تهدأ ولا تبرد فيأخذون هذه الظاهرة وأمثالها على أنها برهان على "محسوسية الطاقة  وتجسدها مع أنها غير مادية!..", وذلك ليصلوا الى زعزعة مبدأ السببية ونقض تلك الحكمة المأثورة التي أوردها أعلاه الأستاذ جان تيبو بمعرض السخرية والتي تقول أن "لاشيء يفنى ولا شيء يخلق من لاشيء". هنا نجد أنفسنا تائهين متخبطين في اللغو والكلام الفارغ وذلك بنتيجة ابتعادنا عن المسلمة الواضحة المفهومة ببساطة ويسر وهي: أن المادة لتكون مادة لا بد من أن تتصف بالطاقة على الفعل والمقاومة فلا مادة بدون طاقة ولا طاقة لما ليس له وجود مادي. ويمكننا أن نصطلح على تسمية المادة طاقة ، ولكن ماالفائدة من هذه التسمية اذا كانت المادة هي المقصودة بهذه التسمية؟!..

ونستخلص مما مر معنا أعلاه أن أفعال المادة التي لا بد منها لنتعرف على وجودها في لحظة ما في مكان ما بحالة ما لايمكن أن نحيط بجماع كنهها في كل كائن من كائناتها فالتقدم في معرفتها والغوص في كنهها يستمران ما استمرت الحياة. الا أنه يكفي قيام فعل من أفعالها للحكم بوجودها في لحظة الفعل، كما يكفي عدد مناسب من أفعالها لتحديد حالة معينة من حالاتها. وان عدم التعيين والاحتمال يكون فيما هو مقبل من حالة المادة عندما يتضافر عدد من الظروف والعوامل القائمة والآتية في توجيه الحركة والتحول نحو الكينونة الآتية. ولا يمكن أن تقع في النتيجة الا حالة واحدة في مكان وزمان محددين. وعندئذ يكون الاحتمال وعدم التعيين في هذه الحالة المحددة القائمة أو التي قامت نتيجة لنقص المعرفة: يكون احتمالا في المعرفة وليس في الحالة القائمة التي لا بد من أن تكون وجيدة مكتملة في الواقع الذي توجد فيه وان لم تكتمل معرفتنا بها. ولعل من المفيد الاشارة الى الصراع الشديد الذي دار في النصف الأول من القرن العشرين وما يزال دائرا بين الفيزيائيين حول مذهب عدم التعيين في عالم الصغائر. يقول الفيزيائي الفرنسي دوبروفي بحث له بعنوان "آفاق جديدة في الميكروفيزياء" صدر في ايلول عام 1955 ما يلي:".. التحق منذ ربع قرن كل الفيزيائيين تقريبا في الجهة المؤيدة للقول بمبدأ الاحتمالية المطلقة، المبدأ الذي وضعه الفيزيائيان هايزنبورغ وبور. الا أنه كان هناك استثناء هام لهذا الاجماع. فقد قام علماء شهود لهم من وزن أنشتاين وشرودينغر برفض مبدأ الاحتمالية المذكور وقاوموه بحجج دامغة... وأشار أنشتاين في كتاب خاص الى مسألة اجماع الفيزيائيين على الأخذ بتفسيرات مبدأ الاحتمالية وقال ساخرا: في ظروف الانتقال والغموض هذه يصعب علي تصديق أن "الموضة" تلعب في ميادين العلم دورا لايقل عن ذلك الذي تلعبه في عالم أزياء النساء. حقا ان الانسان حيوان حساس جدا لكل ايحاء في كل ميدان وليس فقط في ميدان السياسة..". وكذلك يقول دوبرو في مقدمة بحثه هذا ما يلي:   ".. سأتوقف لحظة عند الثنائية القائمة بمفهومي التموج والذريرة التي عرضها أنشتاين في بحث له بعنوان "ثنائية التموج والذريرة". فأقول أن اخفاق محاولتي للتوفيق بين أفكار أنشتاين والأفكار الجديدة التي قامت في الميكانيك التموجي أدى الى انتصار الاحتماليين في مؤتمر "سولفاي" في هولندة عام 1927، الانتصار الحاسم على ما بدى حينذاك.ولكن لعل المستقبل يحكم لهذا الفيزيائي الفذ ولو بعد الوفاة". انتهى قول الفيزيائي الشهير دوبرو الذي اعترف في مقدمته هذه بأنه التحق بالاحتماليين دون قناعة بعد فشله الآنف الذكر وقام بتدريس أفكارهم والترويج لها مدة طويلة الى أن عاد في الخمسينات من هذا القرن الى نفس المحاولة للتوفيق بين الكارتيزية والاحتمالية.

ولكن تلك الثنائية بين الذريرة والساحة، وعلى العموم بين المادة الصلبة الموزعة في أنحاء الكون وبين الساحات على اختلاف أنواعها مالئة الفراغ الكوني اللانهائي، هذه الثنائية غير مستهجنة على الاطلاق ان لم نقل أنها غير وافية في تغطية مختلف أوجه المادة التي تحتمل أكثر منها بكثير. وقد رأينا أعلاه أن بالامكان القول أن التفاعل المتناوب بين ذريرتي الاليكترون والبوزيتون يؤدي الى تنظيم جماع مادتي الذريرتين في نظام طاقات متوازية في اتجاه واحد وبالتالي اندفاع هذا المجموع في حركة شدتها أعظمية هي حركة الضوء دون أن نجد أي ثنائية متناقضة في هذه العملية التي تتدرج منطقيا: الفعل الكهربائي في كل من الذريرتين عمودي على الحركة الانتقالية، وعند تفاعلهما كهربائيا تتوازن محصلتا هذا الفعل في الذريرتين وبالتالي تتجه حركة الانتقال فيهما في اتجاه واحد على منحى واحد.

وقد أخذت الاحتمالية منهجها الكامل المعارض للتعيينية الديكارتية بأبحاث كان أمامها الفيزيائي الألماني هايزنبرغ الذي بدأ بالتراجع عن تفسير ظواهر الأتوم بحركية الذريرات وفقا لمناهج الميكانيك النيوتوني أو لمناهج الميكانيك النسبي . فمثل هذه الطرق في البحث في ميدان عالم الصغائر غير مجدية برأي الفيزيائي المذكور وخاصة عند مباشرة عمليات القياس. ففي عالم الذريرات هذا كل قياس يدخل الاضطراب في حالة المادة المقاسة حتما. وبالتالي فانه اذا كان هناك عمليتا قياس متتاليتان لكميتين مختلفتين في حالة من أحوال مادة ذرية، عملية قياس يقصد بها مثلا تعيين مكان وزمان الذريرة في حركتها تتلوها مباشرة عملية قياس سرعتها في المكان ذاته، فان هاتين العمليتين لا تعطيانا بداهة معلومتين عن حالة واحدة للذريرة: قلنا ان عملية القياس تدخل الاضطراب في حالة الذريرة فلا يكون قياس السرعة بالعملية الثانية لذات الحالة التي تكون عليها الذريرة عندما قسنا بالعملية الأولى احداثيات مكانها. وقد قام تصميم هايزنبرغ لبناء فيزياء كوانتية لا تتضمن سوى علاقات بين مقادير يمكن رصدها في الأتوم: التردد وشدة لمعان شطحات الطيف، سوية الطاقة وما شابه. كما عمل على احلال هذه المقادير المرصودة طيفيا محل احداثيات الذريرات وسرعتها بعد أن أعطاها رموزا رياضية مناسبة ووضعها في علاقات تقوم على تقديرات احتمالية لوجود الذريرة وانتقالها من حالة الى أخرى. ويمكن القول باختصار أن هذه الاحتمالية اذ بدأت بالتشكيك بجدوى عمليات القياس بالوسائل المتاحة في عالم الصغائر ففرضت حساباتها ومعادلاتها على أساس عدم التعيين والاحتمال وصلت الى نتائج غير معينة ومحتملة بطبيعة الحال.

ولقد قلنا منذ البدء أن المعرفة بالكائنات، كبيرة أو صغيرة، ان معرفة المادة باختصار لن تكون كاملة مطلقة فنحن نتقدم في ميادينها أبدا بلا نهاية وما دامت الحياة تتقدم في هذا الكون.ونكمل هنا ونقول أن مناهج البحث ووسائله مع التقدم في الحياة لم ولن تكون كاملة توصلنا الى كل ما نبتغي كاملا بدون نقص أو خطأ في كل ميادين المادة بدون استثناء كما لم ولن تكون واحدة لكل الأغراض. وعلى هذا الأساس لم تأت الاحتمالية بشيء جديد سوى  تضخيم ما كان معروفا في ميادين البحث، وانتهائها الى استبدال الواقع الثابت بآخر مهزوز يحيط به الريب. الا أن هناك أمرا لا يمكن التخلي عنه في كل منهج علمي وهو العمل على الانطلاق نحو صميم الحقيقة وليس نحو جوانبها غير المؤكدة، وذلك باستخدام أفضل الوسائل المتاحة في أفضل منهج ممكن في كل ظروف البحث وأوقاته منذ بدايته حتى نهايته. أما تقدير احتمال صحة النتائج فيأتي في نهاية المسعى وليس أساسا لهذا المسعى، الأساس الذي لا يمكن أن يكون الا الظفر المطلق بالحقيقة المناسبة للتقدم القائم للمعرفة والامكانات. وهذا ما أعلنت الاحتمالية رفضه عندما رفضت الكارتيزية التي ما كان بين أنصارها مع ذلك عاقل يدعي بامكان الوصول الى المعرفة المطلقة. ثم ان بالامكان عرض ما يلي:

أولا: ان الاحتمالية بشكلها الحالي تخدم الوثنية من كل شكل في التقليل من شأن امكانات الانسان وتشيع الحيرة وعدم التأكد في تعامل الانسان مع الواقع وتزعزع الأسس التي يبني عليها المجاهدون في سبيل التقدم وخلاص الانسان تصميمهم للعمل على التغيير: ان شيوع الشك والاحباط يعقد مسألة نشر العقيدة الصحيحة ويقلل من حشود المؤمنين بجدوى العمل والجهاد في سبيل الخلاص وذلك بنتيجة مايصيب الناس من يأس.

ثانيا: هناك تناقض واضح يقوم بين المنطلق الذي بنى عليه هايزنبرغ شكه، المنطلق الملخص أعلاه، وبين الاحتمالية المعرفة بعلاقاته المستنتجة لبين أحوال الذريرة المادية. فقد انطلق هايزنبرغ من أن الذريرة المادية وحالتها في كل آن هي بداهة أمر واقع بكامله أو غير واقع بكامله، أي أنه لاوجود مطلقا لنسبة مئوية لوجود الذريرة ولاتصافها بهذه الحالة أو تلك ولامعنى لمثل هذه النسبة في الواقع. فالذريرة موجودة بحالة مناسبة أو غير موجودة على الاطلاق: ان عمليات القياس لاتكون الا على هذا الأساس. أما تعيين هذا الوجود بأحواله المختلفة بمقدار مناسب من الخطأ أو العجز عن التعيين فهما أمران لايناقضان الوجود المذكور بوقوعه أو انتفائه. وهذا هو الجوهر الذي انطلق منه شك هايزنبرغ: عندما يقول هذا العالم مثلا أن هناك حالة في عالم الصغائر وأن عملية القياس تسبب اضطراب هذه الحالة فتدخل عليها التغيير وبالتالي لانحصل بهذا القياس ولابالذي يليه مباشرة على الأخص على تعيين صحيح للحالة الطبيعية التي نقصدها والتي نريدها بدون ذلك التشويه الناشئ عن لمسها بوسائل القياس فان هذا القول يعني تماما مانقوله من أن وجود الذريرة وأحوالها في الواقع لايمكن الا أن يكون تاما ولامجال ولامعنى لوجود بين بين. الا أنه عندما نأتي الى تفسير العلاقات الرياضية المنطلقة من عدم التعيين والاحتمالية نقع في السريالية وكل الأشكال التي يأتي بها المفسرون ليملأوا بها عالم اللامعقول:

1. ان علاقة الشك لهايزنبرغ، العلاقة التي فرضناها على الواقع وهي معارضة للكارتيزية التي فرضها علينا الواقع بكل ماتحتمله من أخطاء ممكنة، تترجم بأن دقتي قياس حدي تعيين حالة الذريرة، دقة قياس موقعها مكان زمان ودقة قياس سرعتها وطاقتها، متعارضتان. فزيادة الدقة في قياس الموقع ينتج لامحالة تقهقر في الدقة في قياس السرعة والطاقة والعكس بالعكس، وهذا قدرنا الذي لاخلاص منه عندما "نغوص" في عالم الصغائر وكأنه من طبيعة هذا العالم وجزء من واقعه. ولكن البديهي الذي لاشك ولامرية فيه هو أن الواقع له حدود يقوم بها ولامجال فيها للشك أو الاحتمال الا بالنسبة لتعيينها بوسائلنا المتاحة. وقد قلنا أن لاعيب في هذا مادامت معرفة المادة تتقدم مابقيت الحياة. فيكون بالتالي هذا الشك ومايدور فيه من احتمالات سمة خاصة بالمنهج المتبع الذي هو في حالتنا الحاضرة منهج هايزنبرغ وشركائه واتباعه في بحوثهم في عالم الصغائر. وهو في كل الأحوال لايلغي الكارتزية التي هي في جوهر كل بحث عن الحقيقة في كل زمان ومكان مهما كان المنهج المتبع لهذا الغرض. وقد يقتصر المنهج على القناعة بحقيقة محتملة في بعض الظروف الا أنه يتوجه على الدوام في اتجاه الحقيقة الملموس واقعها وان قبل بالأخطاء التي لابد منها.

2. ان الأوجه التي تتجلى بها المادة هي بطبيعة الحال بعدد أنواع الفعل الممكن انطلاقها من طاقة المادة في كل حال من أحوالها. ويكفي الوصول الى لمس وجه واحد من أوجه كائن مادي للتأكد من وجوده بكليته في لحظة ومكان اللمس: ان رؤية أحد أوجه القمر مثلا تكفي للتأكد من وجوده بكليته في لحظة الرؤية ومكانها ولا مجال للقول أن الموجود هو فقط ذلك الوجه من القمر . وكذلك يكون الحال عند رؤية أثر من آثار مادة الضوء، أثر تموجي أو ذري، في مكان وزمان معينين فانه عندئذ لا مجال على الاطلاق للقول بأن هناك احتمالا ما يتراوح بين الصفر واليقين لوجود تلك المادة في مكان زمان المشاهدة. ففي حالة ظاهرة تموج الضوء مثلا يقول الاحتماليون، ومعهم أيضا أصحاب الميكانيك التموجي والتموج المرافق للذريرة من أمثال الفيزيائي دوبرو وغيره، ان احتمال وجود ذريرة ضوء في نقطة من ساحة التموج يساوي مربع سعة الموجة في هذه النقطة في لحظة المشاهدة. ولكن الضوء بحد ذاته ينشأ عن فعل ذريرته فلا مجال هنا اذن الا لأمرين لا ثالث لهما: أن توجد الذريرة ويوجد معها ضوؤها في النقطة المذكورة أو أن لا توجد في هذه النقطة على الاطلاق ولا يكون لها عندئذ أي ضوء. وبالتالي لا مجال أبدا لأي احتمال هنا. ولا عبرة لسعة فعل الذريرة، لسعة موجتها الضوئية. فيكفي من القلادة ما أحاط بالعنق، يكفي أن هناك تموجا ضوئيا لا ينشأ الا عن مادة الضوء، عن الذريرة أو الفوتون اذا شئنا. فاذا كان هناك ساحة واسعة من التموج الضوئي فهذا يعني أن هناك ذريرات ضوئية، فوتونات ضوء، في كل نقاط الساحة وطوال قيام الساحة. ونحن نجد في كل هذه الصور أن لا مجال لأي احتمالية. ونرى أيضا أنه حتى في نقاط سكون التموج في الساحة الضوئية، في النقاط التي تكون فيها سعة موجة الضوء صفرا والتي بالتالي تمثل انعدام احتمال وجود الذريرة برأي الاحتماليين فان الذريرة تكون مع هذا موجودة ومارة بهذه النقطة التي يكون عندئذ سكونها الاهتزازي وجها في الحركة الاهتزازية العامة للضوء المولد بها، وجها يتوقف فيه فعلها الاهتزازي دون توقف وجودها المادي، تماما كما يتوقف ظهور القمر في المحاق عند تعذر رؤية وجهه المنير في آخر  الشهر القمري، الأمر الذي جعل الانسان البدائي يظن أنه مات في هذا الظرف وانتفى وجوده المادي. وهذا شأن المادة في كل ظرف يتعذر فيه لمسها ويغيب عنا كل فعل لها فهي عندئذ تكون في المحاق، أكانت ذريرة أم نجما. وعندما نأخذ الوجه الآخر للضوء، وجه الذريرة المؤثرة في مادة حساسة مثلا، فان هذا الوجه لا يمنع فعل وجه التموج في مختلف نقاط انتشاره. ثم ان الضوء هو فيض ذريرات لا يحصى عددها ولا يمكن عزل واحدة منها (عزل فوتون) للحصول على شعاع بمفرده.

ان الحركة التموجية هي حركة جيبية تقوم في الجوهر على مجموع ثابت لطاقتين متكاملتين: طاقة حركية وطاقة كامنة، وذلك على فرض أن التموج يسري في وسط تنعدم مقاومته. فطاقة التموج الكامنة في المتموج تتحول الى طاقة حركية تبلغ أقصى سرعتها عند انعدام الكمون ثم تبدأ عندئذ طاقة المتموج الحركية في الكمون الذي يبلغ أقصى مداه عند انعدام سرعة الحركة وهكذا دواليك: ان سرعة رقاص ساعة الحائط مثلا تكون منعدمة في أقصى وضع الى اليمين ثم يهبط الرقاص وتتحول طاقته الكامنة الى حركة تبلغ سرعتها أقصاها عند انعدام هذا الكمون بمروره في أدنى نقطة له في نوسانه حيث يبدأ بالصعود الى أقصى وضع الى اليسار عندما تنعدم حركة صعوده وتبلغ طاقة النوسان الكامنة أقصى حد لها فيعود بالنزول الى أقصى وضع الى اليسار عندما تنعدم حركة صعوده وتبلغ طاقة النوسان الكامنة أقصى حد لها فيعود بالنزول وهكذا. ونجد في النتيجة أن التموج الملموس بالطاقة الحركية للرقاص له صدى في تموج الطاقة الكامنة للرقاص ينطبق عليه بفارق ربع الموجة. وهذا يدعونا الى أن لا ننسى اتمام طاقة المتموج الحركية بنصفها الاخر الذي هو الطاقة الكامنة كي نحصل على الطاقة الكلية لذبذبة الرقاص. ونجد هنا أن مربع سعة ذبذبة التموج المتناسب مع الطاقة الحركية للمتموج في كل لحظة له متمم هو مربع سعة تذبذب الكمون المتناسب مع الطاقة الكامنة للمتموج في ذات اللحظة. ومجموع هاتين الطاقتين يعطينا الطاقة الكلية التي تهز المتموج: عندما تكون سرعة المتموج صفرا تكون طاقته كلها كامنة، وعندما ينعدم الكمون تكون طاقته كلها حركية. وبين هاتين الحالتين تتوزع تلك الطاقة الكلية الى حركية وكامنة. ونجد في النتيجة أن الميكانيك التموجي والميكانيك الكوانتي عند وقوفهما عند الطاقة الحركية للمتموج وتقديرهما احتمالا لوجوده، لوجود الذريرة المتموجة، يعادل مقدار هذه الطاقة الحركية فقط يهملان الطاقة الكامنة متممة هذه الطاقة الحركية، وبالتالي تتمة الاحتمال الى اليقين، يهملان الكمون الذي يكمل هذا الاحتمال ويصعد به الى درجة اليقين بوجود المتموج في كل نقطة من نقاط التموج وليس احتماله فقط. ان الذريرة على كل حال هي حالة من الحالات المتسلسلة للمادة. وبالتالي فان المتموج الموجود في كل نقطة من ساحة التموج لابد من أن يكون متعددا وليس ذريرة منفردة، انه سيل ذريرات وتموجات وساحات.

ثالثا: قلنا أعلاه أن الاحتمال لا يكون في ذات الواقع الذي حصل في الحاضر أو الماضي وانما هو مبرر فقط فيما يمكن أن يقع في المستقبل بنتيجة أسباب ليس بالامكان تحديدها وتحديد مسارها، وبالاختصار لأننا بطبيعة الحال لا نملك الكشف عن المستقبل. وقد يتبرر الاحتمال كما سبق وأشرنا أيضا في تقدير قرب معرفتنا من الواقع ودقتها. وفي كل الأحوال لا يتعدد الواقع المادي وان تعددت أوجهه فله تاريخ واحد ومسار واحد والا لانعدم كل تقدير بما فيه معنى الاحتمال القائم على أن هناك أمرا نسعى الى لقائه أو معرفته أو أنه هو الذي يتجه الينا ليقع فينا وفي كل الأحوال يكون هذا الأمر واحدا أما الاحتمال فيقع على حادث لقائه وليس عليه بالذات وقع أو لم يقع: أشرنا أعلاه الى أن للواقع حالتين فقط لا ثالث لهما أن يوجد أو لا يوجد وليس بين بين. لهذا نجد أن الجدل بين الكارتيزيين، بين أنشتاين وأنصاره، وبين الاحتماليين، هايزنبرغ وأنصاره، كان جدلا يدور بين طرشان. فالكارتزيون يسعون بمنهج مناسب للكشف عن الحقيقة التي تنطبق  على الواقع بكليتها، لأن مالم ينطبق منها على الواقع يكون من الأوهام وليس من الحقائق. وهناك في هذا المسعى، وليس في الواقع المستهدف بالبحث، شيء من الانحراف الذي يقصر بنا عن بلوغ الحقيقة المرجوة وهو ما يسبب ما ندعوه بالخطأ. أي أننا في النتيجة نقع على معنى للواقع لا ينطبق عليه تماما، نقع على شبه حقيقة لا تتلبس الواقع موضوع البحث تماما. وهذا كما قلنا أعلاه كان طريق الباحثين من أقدم عصور التاريخ وسيبقى كذلك أبدا. وقد كان فضل الفيلسوف الفرنسي ديكارت فيه أنه أعطاه التعريف الواضح فسمي بالكارتيزية. أما الاحتماليون فانهم شكلوا فرعا من الكنطية عندما قيدوا بحثهم سلفا بالشك، الشك القائم على استحالة التعامل مع حالات عالم الصغائر دون التأثير فيها ودون تسبيب تغيرها بلمسنا اياها بوسائلنا فنفقد بهذا التغير موضوعنا الأصلي الذي نسعى للتعامل معه ولا يحصل بيدنا في النتيجة سوى معلومات عن حالات مغايرة طارئة بسبب تدخلنا. أي أن مدرسة هايزنبرغ ترى أن لاسبيل لنا الى الواقع أبدا في عالم الصغائر فلا تلمس فيه الا تلك الحالات الطارئة المشوشة بتدخلنا وتعاملنا مع هذا الواقع، الأمر المشابه للكنطية التي تقول أن لا سبيل لنا أبدا الى كنه الواقع الذي ليس لنا منه الا الظواهر التي تنقل لنا عنه صورا مشوشة حصلت عبر أوساط وحواجز معقدة. وقد تركت الهايزنبرغية الواقع الأصلي في حساباتها وعلاقاتها الرياضية لاعتقادها سلفا باستحالة الوصول اليه سالما وركزت اهتمامها على تقريب له هو ذلك الذي قلنا أنه يطرأ بنتيجة تعاملنا معه. فأعطت مثلا للذريرة رمزا رياضيا (مصفوفة) تقوم أركانه على مختلف احتمالات انتقال الذريرة من حالتها العادية الى مختلف حالات التهيج.

رابعا: ان النظرة التي تقلل من الغرابة والاثارة في البحث العلمي وتعيدنا الى التفكير السليم بكل بساطته الواضحة وبداهته المطمئنة هي المطلوبة دوما لتحقيق تقدم المعرفة. يقول العالم الشهير ألبير أنشتاين في حديث له مع عالم آخر هو لويس دوبرو عام 1927: "انني غير مطمئن الى التفسيرات المستندة على عدم التعيين للفيزياء الحديثة التي أخذت بالاتجاه المغرق في الشكلية في البحوث الكوانتية. أن كل بحث فيزيائي يجب أن يكون قابلا للشرح، خارج كل حساب معقد، بصورة بسيطة تمكن الغلام من ادراكها".انتهى قول أنشتاين. وفي الواقع ان التقدم في المعرفة واكتشاف عوالم جديدة للبحوث لا يلغي المستندات العامة للفكر وبديهياته التي يجب الكشف عنها في كل مرة تختفي فيها تحت الشكليات الطارئة . اننا نجد دوما امتهان هذا المطلب الأساسي للتقدم الصحيح الايجابي للمعرفة الانسانية حتى في البحوث التي يجهد أصحابها للبقاء في حدود الموضوعية. فيقول حاليا بعضهم مثلا أن مبدأ تساوي الفعل ورد الفعل يفشل في عالم الصغائر بدعوى أن الفعل في هذا العالم قد يطلق طاقات هائلة لا تتناسب مع طاقته المبذولة. والواقع هنا أن مبدأ تساوي الفعل ورد الفعل يتعقد تحت ظاهرة التفاعل المتسلسل القائمة أيضا في كل العوالم المادية. فانهيار ذرة اليورانيوم مثلا الذي يطلق الطاقة الذرية غير المتناسبة أبدا مع طاقة الفعل المسبب له يشبه تماما انهيار ناطحة سحاب بنسف ركن من أركانها الأساسية. ونقول بكل اختصار أن القواعد الصحيحة للفكر تكونت بالتعامل مع الواقع، كما أن هذه القواعد الصحيحة اذ تتوطد وتتأكد وتتسع وتتعمق بهذا التعامل تعود بدورها لتصحيح هذا التعامل وتوسيعه ودفعه في سبل الارتقاء.

نظم وأشكال المادة

 

ان أعم شكل للمادة هو وجودها في الفراغ الأوقليدي مكان-زمان، المشار اليه فيما سبق من هذا البحث. هنا نجد أن الشكل الأعم (الحيز) والمحتوى (المادة) يتعادلان بشكل مطلق ويتمايزان أيضا بشكل مطلق: لا مادة غير موجودة في الفراغ الأوقليدي ولا وجود بغير محتوى مادي في هذا الفراغ فهما أعم وجهين للواقع المادي. والوجود الأعم للمادة يتشكل بمختلف أشكال كائناتها ولا بد لقيامه من قيام هذا الفراغ الأوقليدي. وان عنصري الوجود الأساسيين هما فعل المادة ومقاومتها غير المنفصلين الواحد عن الآخر فيكون الفعل وجه المادة الموجب بينما تشكل المقاومة وجهها السالب: لا يتم الوجود الا بالوجهين معا، الفعل والمقاومة، فلا وجود مثلا لما لا يفعل ولا بقاء لما لا يقاوم. والفعل والمقاومة يقومان على طاقة المادة غير المنفصلة عنها. فالمادة هي التي تفعل وتقاوم وهي ليست بتلك الصورة المبتذلة التي تجعلها "أسيرة" طاقتها التي يصورونها خطأ أنها تفعل بمعزل عن مادتها صاحبتها: ان طاقة المادة هي حريتها في الفعل والمقاومة. وقد مرت هذه المعاني بأشكال مختلفة أعلاه، واعادتها هنا وفي المقبل هي من باب التأكيد وطرد كل وهم ينسينا اياها. والفعل كالمقاومة يكون بالقوى المناسبة. ثم ان الشكل هو الملموس في المادة المتجسدة فيقوم اذن بالفعل ومقاومة الفعل بنظام مناسب لكيان المادة المتجسدة . والكائنان المتعاكسان بشكليهما اللذين يمثل أحدهما الموجب والآخر السالب يكون لهما أفعال ومقاومات متساوية بالمطلق ومتعاكسة بالاشارة ومتقابلة في التفاعل. أي أن المادة التي هي مطلقة ، لا موجبة ولا سالبة تتجسد في أحد هذين الكائنين المتناظرين بشكل فاعل عندما تتشكل في الكائن النظير بشكل مقاوم والعكس بالعكس.وبديهي أن وقوع هذا الأمر بهذه البساطة غير ممكن في الكائنات المادية المعقدة. فاذا قام احتمال هذا الأمر في الأليكترون ونظيره البوزيتن مثلا ، ثم في البروتون والنترون بصعوبة، فانه ينعدم تماما في المستوى الاعتيادي للكون فلا يوجد كوكب أو نجم موجب مقابل كوكب أو نجم سالب، أما مسألة وجود كون نظير لكوننا فهي من الأوهام التي تنشر بقصد الاثارة. ولكن المادة في درجة تطورها الحالية تقوم في نظام كوني عام يتضمن مختلف كائناتها الموزعة في مختلف الأنظمة القائمة في هذا النظام العام. وكل كائن مادي هو بذاته نظام مادي أيضا يقوم بوظيفته في النظام الذي يعود اليه، فيتفاعل في هذا النظام بحسب قوانينه وروابطه مع الكائنات الأخرى. وفي هذا التفاعل يتطور كيانه بالشكل المناسب لدوره في نظامه: ان الجاذبية مثلا تقوم على طاقات تدفع بالأجزاء نحو مركز الثقل.

نقول اذن أن الوجود الأعم للمادة يتشكل بمختلف أشكال كائناتها الموزعة على مختلف أنواعها في الكون والمتصاعدة من البساطة الى التعقيد. وان أبسط كائن في كل فئة من الفئات المادية هو مالا يقبل التقسيم الا بالخروج من فئتة الى فئة أبسط: ان الأتوم مثلا في لوحة مندلييف يخضع لقوانين الكيمياء في عالم اللمس والادراك المباشرين، عالم الكائنات الكبيرة. أما أجزاء الأتوم فتخضع لقوانين عالم الصغائر. ولننظر الى الصورة التمثيلية الكلاسيكية لهذا الأتوم. وليكن أتوم الهيدروجين مثلا. فهذه الصورة مأخوذة عن صور عالم النجوم الذي تدور فيه الكواكب حول الشموس في ساحات تجاذب وثقالة، كما تدور كذلك الأقمار حول الكواكب . وقد أعطت هذه الصورة الفلكية تفسيرات مرضية للعديد من المسائل ، الا أن هناك مسألة لايمكن أبدا إعطاء تفسير مرض لها بهذه الصورة الفلكية وحدها التي لا بد من اكمالها لتصبح مرضية. فدوران الأليكترون السالب حول النواة الموجبة لا يكفي "لمسح" الساحتين الموجبة والسالبة ليصبح أتوم الهيدروجين محايدا كهربائيا كما هو في الواقع. ولا يختلف الأمر كثيرا في بقية أتومات لوحة مندلييف: ان دوران القمر حول الأرض لا يعطل ساحة الجاذبية الأرضية ويوقفها مثلا. وكذلك نجد فعل المادة عن بعد يشكل مسألة ليس لها حل بالتفسيرات القائمة حاليا وحدها. ومنشأ هذه الصعوبات وأمثالها يكمن برأينا في أننا نفصل المادة المدروسة عن محيطها الكوني عندما ندخلها في مخبرنا لدراستها وندير ظهرنا كليا لهذا المحيط ونظامه الذي لها وظيفتها فيه ونركز كل اهتمامنا على ما يمكن أن يقدمه لنا مخبرنا هذا الذي يصبح برجنا العاجي، وذلك بدلا من أن نجعل هذا المخبر جسرا نتصل به بالكون الواقعي. لقد كانت نتائج تأملات قدماء العلماء، الذين حرموا من مخابرنا، في أحيان كثيرة أكثر قربا من الواقع عندما توجهوا بتأملاتهم مباشرة الى الكون الفسيح الطلق . ولنقل باختصار أن سوء استعمال المخابر بامكاناتها الهائلة أنتج لنا اثارات هستيرية لاحصر لأشكالها منها مثلا "ثقوب الفراغ واستقطابه" وما شابه. فلنخرج اذن بوسائلنا القادرة من أبراجنا المحصورة الى الواقع الفسيح غير المشوه بالعجائب.

قلنا أعلاه أن المكان-زمان الأوقليدي، الفراغ الأوقليدي، لابد من أن يكون مليئا بالمادة المتحركة المتغيرة فيه بأشكالها أبدا. ثم ان الكون يقوم على نظام عام يشمل كل الأنظمة المحلية المتنوعة على اختلاف درجاتها، الأنظمة المتفاعلة بشكل مطلق فلا عازل يفصل بعضها عن بعضها الآخر ويعوق تفاعلها. فالعازل ، ان وجد، لابد من أن يكون ماديا ويكون عزله نوعا من أنواع الأفعال المادية. هناك المجموعات النجمية المتحركة في نظام مجرة واحدة تتحرك بدورها في الفراغ الأوقليدي في نظام أرخبيل من المجرات المنتظمة بحركة في أرخبيل الأرخبيلات المجرية الخ.. وهناك الساحات المادية والذريرات المادية المنتشرة في الفراغ الكوني اللانهائي مع مختلف الاشعاعات المادية الأخرى . وكل هذا وغيره مما لايحصى من أنواع المادة ولم يبلغ علمنا بعد يشكل آلة الكون المادية اللانهائية التي لا تتوقف مسيرتها في تفاعلاتها وتحولاتها في حدود نظامها الكلي . وقد قلنا أن لافاصل ولا عازل يجعل من هذه التنوعات المادية المختلفة أنظمة معزولة بعضها عن بعضها الآخر وانما تدخل في نظام عام واحد يضمها جميعها. وليست هذه الوحدة الكونية سوى نتيجة تطور أزلي تتأكد فيه النتائج للأسباب دون أي غرابة. فالنجوم مثلا تتطور خلال مليارات السنين من الحجوم الهائلة بكثافات ضئيلة تكاد تقرب من العدم الى القزمية حيث تبلغ الكثافات مبالغ تتجاوز التصورات العادية ثم تتفجر لتتحول كلها أو جزء منها الى غبار ذري وساحات وإشعاعات وغيره من الأشكال المادية. وقد سبق وقلنا أن تواجد كل هذه الأشكال المادية جنبا الى جنب لايشكل أي غرابة وان عرقل اختلافها وتعدد حالاتها وتعارضها سعينا الدائب لربطها بعضها ببعضها الآخر بالعلاقات الرياضية المجردة . انه الكون بكل تنوع كائناته الى مالانهاية الا أنه موحد وله نظامه العام الكلي.

ان كل ما نبحثه حول المادة وما نلمسه من خواصها لايمكن، بطبيعة الحال، أن يخرج عن الحالة التي عليها الكون في الطور الحالي للوجود. فقد كان للكون أطوار سالفة وسيكون له أطوار مقبلة.وهذه الأطوار جميعها بعمر لابدء ولا نهاية له من الدهور: أي أن المادة في الطور الحالي للكون أنهت تجسدها بانتهاء طور سابق وهي مستمرة في تطوير تجسدها خلال طورها الحالي. وانه لافائدة من البحث عن أصولها في الأطوار السابقة للكون أو البحث عما ستكون عليه في الأطوار المقبلة للانقطاع الكبير الناشئ بين كل من صفاتها الماضية والمقبلة وبين صفاتها الحاضرة بسبب دهور التغير والحركة ، وهذا على فرض مستحيل بامكان مثل هذا البحث. اننا في الواقع هذه المادة بكائناتها الحالية كما هي، ولنقل سلفا أن أبسط هذه الكائنات هي في درجة واحدة من التطور مع أشدها تعقيدا لأنها جميعها في طور واحد من النشوء والارتقاء الكوني. وهي تتفاعل وتتحرك بأشكالها أبدا مالئة الفراغ الأوقليدي. فنقول اذن المبادئ التالية بالاستناد الى كل ما مر معنا أعلاه:

1 - ان الكائن المادي له "ذاته" في محيطه المادي. وهذه الذات لها بداية ونهاية ولا تتبدل وان تحرك الكائن وتطور كيانه بحسب وظيفته في وسطه، أي أن للكائن باختصار ذاته وحياته، له وجوده  الخاص به، له هويته التي تعينه في الحيز مكان زمان وتميز وجوده بين مختلف كائنات وأحداث الكون.

2 - عند قيام الكائن المادي بدوره في محيطه طوال قيام ذاته، وهو يتطور ويفعل ويتحرك باستمرار في الحيز مكان زمان، فان لشكله دور "قالب" متطور يصدر خلاله بأفعاله في محيطه تيارا ماديا "مطبوعا" به، ويعوض من خلاله أيضا ما يصدره من مواد ليستمر وجوده المتطور الفاعل والمقاوم. وتبرزهذه الصورة لعملية الوجود المادي بوضوح في الكائنات الحية وهي موجودة بداهة فيما نظنه جمادا خالدا لايتبين لنا تغيره، ذلك لأن الوجود هو التغير والحركة: ان ذلك التيار المادي المزدوج، من الكائن الى المحيط ومن المحيط الى الكائن، ينطبع بذلك "القالب" الملائم لدور الكائن في هذا المحيط (في الكائن الأعم) ليترك المساهمة المادية للكائن في تطور الكون، المساهمة التي تحمل الى الأبد (مادامت المادة لا تفنى) بصمات هوية الكائن، تعاريج وقسمات ذلك القالب.

3 - تتفرق عناصر الكائن في نهاية ذاته القائمة، نهاية دوره وحياته، لتكون كائنات مستقلة أو لتدخل في كيانات أخرى.

4 - ليس هنالك من تجارب أو بحوث توصلنا الى الأشكال الأبسط للوجود الحالي للمادة. فالهدف الحقيقي هو التوسع في معرفة الكون في طوره القائم وليس البحث عن أشكال المادة التي انتهت أطوارها الكونية فيما وراء لانهايات الزمن.

5 - ليس هنالك من تجارب أو بحوث توصلنا الى ظواهر تتجاوز معطيات الكون الحالية. ان خلق المادة العاقلة صنعا بدءا من السبرنتيك أو غيره هو أمر مستحيل استحالة قيام الشيء من اللاشيء أو استحالة تحقيق الحركة الدائمة. فظهور المادة الحية كلف تطورا كونيا دام دهورا لانهاية لعددها. وان ما يحققه مثلا أولئك الحمقى من عمليات إخصاب تقوم في الواقع على العلاقات المادية المألوفة لاتخرج أبدا عن سياق الحياة الموجودة سلفا في الكون والمتقدمة عبر كل تلك الدهور السحيقة، ولكنها تخرج من عقول غير مسؤولة قد أعمتها ماديتها المبتذلة عن خدمة الاتجاهات الايجابية للتطور الكوني فانحرفت الى التأله بمحاولة بتر هذا التطور واستبداله بمسيرة من تدبيرها وصنعها، مسيرة العاجزين المتطفلين.

6 - قلنا أن الطاقة لاتنفصل عن المادة، كما لايمكن أن توجد مادة مجردة عن الطاقة التي هي قدرتها على الفعل ورده، قدرتهاعلى الوجود. ولاحظنا نتيجة لهذا أن بالامكان قياس المادة كميا بطاقتها تماما كما نقيسها بكتلتها. واستنتجنا ببساطة وسهولة العلاقة القائمة بين طاقة المادة وكتلتها، وهي علاقة أنشتين في النسبية المقتصرة انطلاقا من هذه الملاحظة: كل من الكتلة والطاقة قياس كمي في سلمه لمقدار واحد للمادة فتقوم بينهما اذن علاقة خطية، وبالتالي فان الزعم القائل بتحول المادة الى طاقة وتجسد الطاقة مادة ماهو الا خرافة متهافتة. وان ظاهرة وجود المادة في المكان والزمان لاتقوم الا من خلال أفعالها فعندما لايكون هناك أي فعل ورد فعل من أي نوع كان فانه لايكون هناك بداهة وجود لأي مادة. وان أفعال المادة وردود أفعالها تختلف باختلاف حالاتها.

ان المادة لاتفنى ولا يمكن أبدا أن تأتي من لاشيء وهي متحركة دوما ومتحولة من حال الى حال فما نلمسه منها في لحظة ما في مكان ما من ظاهرة من ظواهرها هو غيره في لحظة اخرى في المكان ذاته. ونجد بالتالي استحالة اعطائها هوية ملموسة الا في ظواهرها: الهوية الحية للكائن المادي تشمل ظاهرته من ولادتها الى مماتها وتلاشيها، وهويته الجامدة الوثنية تقتصر على لحظة من لحظات ظاهرته تماماكالصورة المجمدة من تسلسل "فلم" هذه الظاهرة، وهذه الصورة المجمدة لاوجود لها في الواقع الا حركة في لحظة تجميدها. فلا جدوى اذن من البحث عن جوهر المادة في الظواهر المادية بمحاولة المستحيل في تثبيتها في شكل من الأشكال: ان تصوير مادة الضوء بالذرة فقط أو بالتموج فقط لايعطينا في كل من هاتين الحالتين سوى صورة جامدة وثنية. أما الصورة الواقعية فتشكل فلما لسلسلة من الصور تروي لنا الظاهرة القائمة في الواقع بسلسلة من الحالات المتكاملة فيها.فنقول اذن: "الصورة الجامدة للمادة الفيزيائية وثن وهمي لاوجود له في الواقع"

لنكرر مرة أخرى ونؤكد على أن الطاقة أو القدرة هي قدرة أو طاقة المادة على الوجود للفعل والحركة ومقاومة تغير الحالة القائمة على العموم. وهي لاتنفصل عن المادة لتقوم مستقلة بذاتها كأمر غير مادي في المكان والزمان الأمر الذي لامعنى له ولاوجود. كما أن المادة المجردة عن الطاقة، المادة غير الفاعلة بأي شكل من الأشكال ولا المقاومة ذاتيا، هي مادة لاوجود لها بداهة. ولاتنتقل الطاقة من كائن مادي الى آخر الا مع مادتها التي تفعل وتتحرك بها. ويمكن القول أن قدرة المادة أو طاقتها هي الصفة الأساسية التي يقوم عليها مختلف أشكال وجود المادة: المادة بطاقتها هي جوهر الأنظمة المادية المتفاعلة في الواقع فلا تلمس الا من خلال أفعالها ومقاوماتها القائمة على قدراتها أو طاقاتها وهي تتجسد بمختلف قواها الفاعلة. والوجود هو الواقع القائم بذاته المستقل بقيامه عن كل تصور وهو بداهة لايتغير بشدته: المادة مثلا موجودة أو غير موجودة وليس لها حالة متوسطة أو محتملة.