جملة المجتمعات الانسانية

الفصل الأول

 

صدر منذ الحرب العالمية الثانية عدد كبير من الكتب التي تسرد وتحلل الأحداث في المنطقة العربية سيما منها ماوقع في مشرقنا العربي: مخزن الطاقة، محركة الحضارة الراهنة وعقدة اتصال القارات التي تقطن فيها الأكثرية الساحقة من بني الانسان وساحة صراع القوى الرئيسية العالمية.  ومن البديهي أن تتعدد وتتباين وجهات النظر في الآراء والأبحاث المطروحة في الكتب المذكورة، فالموضوع حساس هنا ومعقد، والمصالح متباينة، والانتماءات متشعبة بالنسبة الى الجميع: بالنسبة الى الباحث الأجنبي أو الباحث من أبناء المنطقة.

 

وقد رافقت كغيري الأحداث التي مرت بأمتنا في المنعطفات الحاسمة من تاريخنا الحديث، وأتيح لي أن أعيش في مركز بعض تلك الأحداث وأن أساهم في دفع الخطير منها بحكم المراكز التي شغلتها وخلال الطريق الذي سلكته في حياتي.  وقد يرى البعض أن ما أكتبه هنا هو أشبه بالمذكرات، وأرى أنا أن المذكرات هي وصية كاتبها وكتاب حسابه عند خروجه من الساحة، وليس في نيتي ترك الساحة وان فرض علي الاستعمار وخدمه من كل صنف ولون سجنا طويلا أشارك فيه غالبية شعبنا في كل أقطاره.  لذلك فضلت أن يكون موضوعي شكلا من أشكال التاريخ وأن آخذ صفة وجهة نظر خاصة (هي وجهة نظري)، ففرضت على نفسي قيودا صارمة لأبقى ما أمكنني البقاء في حدود الموضوعية وقواعد العلم.  وقد قلت أن كثيرين كتبوا في هذا الموضوع المعقد، الا أنه ما زال يتسع أيضا للمزيد من البحث والرأي لخطورته وتشعبه ولتبديد الكثير من الأوهام والرد على الكثير من الأكاذيب وايضاح أمور على جانب كبير من الأهمية والخطورة.  ولا بد لي هنا من أن أشير الى أن بعضهم (من مواطني العرب ومن الأجانب) قد تعرض لي شخصيا أثناء بحثه، وكان من الطبيعي أن أنتهزها فرصة للرد عليهم هنا، الا أنني وجدت أن أبلغ رد هو أن أبقى في حدود الموضوعية التي تضع كل فرد في المكان الصحيح من الواقع.  أضف الى هذا أن المهم الحاسم في كل الأمور هو مصير أمتنا وليس مصيرنا كأفراد أو كجماعات صغيرة نسبيا، وما نحن فيها الا عناصر بسيطة ليس لها الا ما قدمته: ايجابا أو سلبا، عن إخلاص أو عن انتهاز.

 

ان من يسرد الأحداث التاريخية مجردة من إطارها العام (العالمي والمحلي) يفقدها جوهرها ومدلولها ويهبط بها الى سوية الحوادث اليومية العادية فيجعل من كل منها موضوع قصة منعزلة (ممتعة أو محزنة). الا أن أبعاد هذه الأحداث تضيع عندئذ بمثل هذه النظرة اليها، وتسقط أغوارها في الظلام فلا يبرز منها الا السطحي التافه حيث تختفي الأسباب والدوافع الحقيقية للأمور والنتائج فتبدو هذه وكأنها هبطت من عالم الغيب والصدف التي يعجز العقل عن إدراكها. فمسيرة التاريخ ترتكز على أحداثها (وهذا أمر بديهي)، فاذا أغفلت هذه الأحداث أو وضعت في غير مكانها في الواقع فان نواظم تلك المسيرة تتقطع في إدراكنا وتسقط بالتالي في ضباب الغيبيات والضلال فلا نرى الا عالما مفككا ينفصل فيه الفاعل عن آثار أفعاله، وتتعطل الموازين، وتنقلب القيم. وكان وسيبقى أعداء الانسان والدجالون والانتهازيون وراء كل تشويه وإغفال للظروف العامة للأحداث كمقدمة لتبرير ما يرتكبون من جرائم وآثام.

 

الظروف العالمية وأصولها التاريخية

 

أ‌-       الاستعمار الحديث:

 

لنتساءل عن الظروف العالمية والمحلية التي تكونت بتطور التاريخ وتسلسله المنطقي من جهة، وارتكزت من جهة أخرى على الأحداث التي وقعت في النصف الأول من هذا القرن في العالم وفي منطقتنا. لقد شهد هذا القرن التقدم العاصف للعلم وتطبيقه في شتى الفروع والمجالات، وشهد تطور الاحتكارات وتمركز رؤوس الأموال تمركزا شديدا في عدد من بؤر التسلط في الجملة الرأسمالية العالمية. وانتشر الوعي الجماهيري، وانتشر معه واشتد طموح الانسان الى التحرر من شتى أنواع العبوديات والتخلف، وقامت حركات التحرر على أنواعها في كل العالم سيما منها العالم المقهور المستعمر.  واندلعت الثورات الكبرى بهدف تقويض النظام الرأسمالي وإزالته من أسسه نهائيا من المجتمع الانساني، فانقسم العالم بهذا الى معسكرين كبيرين: المعسكر الرأسمالي والمعسكر الاشتراكي.  وما زالت الأمور تشتد وتتفاقم ويشتد ويتفاقم معها ويتنوع ويتطور صراع مختلف أنواع القوى في الساحة العالمية.  ان هذا هو غليان ومخاض التحول من طور الى طور: انه الولادة العسيرة لعالم جديد بدأت بشائره تطل من وراء حجب المستقبل.  وقد تطور الاستعمار بتطور أشكال التناقضات العالمية وأشكال الصراع بين مختلف القوى وبقيام مختلف التغيرات في الواقع الانساني، فأخذ الشكل القديم للاستعمار (الشكل القائم على علاقات الاحتلال والإلحاق ونهب ثروات الضعفاء مباشرة من قبل مختلف المؤسسات الاقتصادية الاستعمارية)، نقول أخذ هذا الشكل بالتحول الى شكل حديث يقوم على نظام عالمي موحد للنهب الاستعماري حيث تضطلع فيه فئات من مواطني العالم المقهور بربط أوطانها بشبكة الإمبرياليين التي تشتف وتسوق الى خزائن الاحتكاريين بعروقها المتشعبة في مختلف أنحاء العالم الرأسمالي ثروات الانسان المستضعف وثمار عمله.

 

وقد انهار الاستعمار القديم تماما في نهاية الحرب العالمية الثانية، وبرزت أميركا كمنقذة للإمبريالية بتجديد صياغتها على أسس حديثة والنهوض بشكلها الجديد تحت قيادتها وزعامتها المطلقة- الا أن هذا الأمر ما كان ليمر بسهولة تجاه مقاومة المستعمرين القدامى وفي نيران ثورات وحركات التحرر المنتشرة في كل أنحاء العالم وأمام تربص المعسكر الآخر، معسكر الدول الاشتراكية.  كان لابد من البدء قبل كل شيء بتكنيس أنقاض الاستعمار القديم من العالم لإعداد الساحة للرأسمالية العالمية لبناء الإمبريالية الحديثة.  ذلك لأنه يستحيل إقامة العلاقات الجديدة مع بقاء أنقاض وجذور، وبقايا عروق القديم المتفسخ منتشرة هنا وهناك في العالم الرأسمالي (وما يرافق هذه البقايا العفنة من عقليات جامدة متخلفة).  الا أن العملية كانت مع ذلك في غاية الدقة والخطورة وتهدد وجود النظام الرأسمالي العالمي ما لم تحل الإمبريالية الحديثة مباشرة وبدون تأخير مكان الاستعمار القديم قبل أن يتسنى لقوى التحرر (التي كانت تقاوم وتطارد المستعمرين من كل لون في كل بقعة من العالم) أن تقيم أنظمتها المتحررة بعيدا عن متناول الامبرياليين القدامى والجدد.

 

وقد برز المستعمر الأميركي الذي تمرن واعتاد زمنا طويلا في القارة اللاتينية على أشكال وأساليب استعمارية أكثر ملاءمة للأسس المادية للإمبريالية الاحتكارية الحديثة، نقول قد برز هذا المستعمر بأطماع تتضاءل أمامها أطماع كل المستعمرين الذين سبقوه، فهو لايرضى بأقل من السيطرة المطلقة على كل بني الانسان في كل مكان (على متقدمهم ومتخلفهم).  فالتركيب الاحتكاري المتفاقم يجند كل طاقة (صغيرة أو كبيرة) لخدمة مصالح الكبار تحت ستار شفاف من الرياء (تحت ستار المشاركة) في ظل نظام صارم لا يتأخر عن ذبح كل من يقف في طريقه، وعن إلحاق الدمار الشامل ليس فقط بكل بلد يتمرد عليه، بل كل مرة تبدو له أية مصلحة في هذا الدمار (ومثال ماجرى للبنان خير شاهد على ذلك).  ان الاحتكاري مثلا يطرح في السوق أسهما يشتريها الألوف من الناس فيسخر أموال هؤلاء لمصلحته.  وهو يسميهم شركاء في شركاته في الوقت الذي لا تتجاوز ملكية الواحد منهم فيها بضعة الأسهم.  فالبناء الإمبريالي الحديث على هذا الأساس المادي هو أيضا من "المشاركة" في هذا العالم "الحر" بين عمالقة الإمبرياليين وفقراء العالم المتخلف المرتبط بشبكة الرأسمالية العالمية.  هذه المشاركة التي تذهب فيها كل الخيرات الى خزائن الأباطرة القابعين في بؤر التسلط الرأسمالي في أميركا وأوروبا ويبقى الجوع والمرض والجهل من نصيب أولئك المتخلفين.  في هذا النظام يبدو المتخلف "مستقلا" له كل حقوق المتقدم ويملك ماله من ثروات ولكن نظريا، أما في الواقع فهو مرتبط بالنظام العالمي، بشبكة الرأسمالية العالمية، التي تشتف ثرواته لخزائن الاحتكاريين الذين ينزلون به كل دمار عند محاولته القطع مع تلك الشبكة: انه الشريك المرغم في "حرية" هذا العالم.

 

نقول برز المستعمر الأميركي في أعقاب الحرب العالمية الثانية كقائد يعيد بناء الإمبريالية بشكل حديث فوضع لذلك ثلاثة أهداف يسعى اليها:

أولا- احتواء وحصر المعسكر الاشتراكي ومنع امتداد نفوذه في العالم الرأسمالي سيما منه العالم الثالث.

ثانيا- ضرب حركات التحرر وقمعها بكل وسيلة ممكنة ومنعها من تمزيق شبكة الرأسمالية العالمية بقطع صلات بعض بلاد العالم الثالث عن هذه الشبكة وتحريرها منها، وبإضعاف مراكز قياداتها في بلاد الإمبرياليين.

ثالثا- تنظيف الساحة العالمية من أنقاض وبقايا الاستعمار القديم، وقمع كل شذوذ و"عدم انضباط" و "تأخر في الفهم" في صفوف الإمبرياليين سيما منهم القدامى.

 

وكان الهدف الأول بسيطا من حيث التحديد ولا يتطلب الا الجهود المادية وان كانت هذه الجهود كبيرة ومكلفة.  ان العدو هنا واضح بكل معالمه، وإدراك مايلزم لمجابهته لا يشكل صعوبات معقدة في كل ظروف الصراع.  وقد تمكن الاستعمار الأميركي من إقامة مختلف حزامات الأمن السياسية والاقتصادية والعسكرية حول المعسكر الاشتراكي، فعقد الأحلاف وساعد على إنعاش الاقتصاد الرأسمالي ونشر القواعد العسكرية ومختلف أساطيل العدوان في كل أنحاء العالم، الى جانب التطوير المستمر لمختلف أسلحته الستراتيجية والتكتيكية.  

 

بقي الهدفان الآخران وهما الأصعب والأدق.  فقمع حركات التحرر كان يساعد الاستعمار القديم على البقاء مما يؤخر ويعرقل بناء الإمبريالية الحديثة.  ذلك لأن حركات التحرر كانت في ظروف أعقاب الحرب العالمية الثانية موجهة بشكل رئيسي ضد المستعمرين القدامى وضد حكمهم المباشر في المستعمرات والعالم المتخلف، ولم تكن تلك الحركات حينذاك قد اشتبكت أو أخذت في التماس بشكل واسع وعميق مع المستعمرين الجدد الذين لم يكونوا على كل حال قد بدأوا في نشر ما مارسوه من تجارب سوداء في القارة اللاتينية في كل أرجاء العالم الأخرى.  بل ان المستعمر الأميركي كان يبدو للكثيرين في تلك الأيام "كمحرر" و "انساني" و "ديموقراطي" الخ.  وبنتيجة "المبالغة في التلاعب بقواعد الديالكتيك" و "بممارسة السفسطة الحديثة" كانت القيادات الماركسية تقول: ان حلول الاستعمار الحديث مكان القديم يشكل "خطوة تقدمية". . . وقد سمعت مثلا الملحق العسكري السوفياتي في باريز يتحدث بمثل هذا القول أثناء حفلة عيد الاستقلال التي أقيمت في السفارة السورية عام 1951.  في تلك الأثناء كان المغرب العربي يغلي بالثورة ضد المحتلين الفرنسيين فكان الملحق العسكري المذكور يقول أن مساعدة الأميركان للمغرب لإجلاء المستعمر الفرنسي يشكل خطوة تقدمية حتى لو وقع هذا القطر في براثن ذلك الاستعمار المتجدد.  وقد تكرر سماعي لمثل هذه الفكرة في مناسبات أخرى عديدة من عدد من الاشتراكيين.  فما كان من الغريب اذن أن يكون "للأميركي" في تلك الأيام بنظر الكثيرين من الوطنيين في العالم المتخلف وجه "المحرر" و "المنقذ".  الا أن الاستعمار الأميركي ككل إمبريالية بعيد كل البعد في طبيعته عن كل دافع يمكن أن يدفعه الى مساعدة التحرر.  فهو عندما كان يرغب في تكنيس الاستعمار القديم من العالم فذلك كما سبق وقلنا ليتمكن من بناء جملة استعمارية سليمة تساير معطيات العصر المادية وليس لصالح حركات التحرر "وازدهارها" وان كانت هذه الحركات تشكل قوة عظيمة (بل القوة الوحيدة في تلك الأيام) في عملية "تجديد" العالم الرأسمالي: لم يكن باستطاعة الأميركيين حينذاك أن يشنوا مثلاحربا مكشوفة ضد زملائهم المستعمرين القدامى (بتكنيسهم والخلاص من بقاياهم في الساحة العالمية) وبمواجهتهم المعسكر الاشتراكي الذي يتربص بهم جميعا.  وقد تفتق ذهن هؤلاء المستعمرين الجدد (الذين كما قلنا على حداثتهم كامبرياليين عالميين كانوا قد تمرسوا في أميركا اللاتينية في عمليات "مسخ الحريات" وتحويلها الى أشد أشكال الاستعمار سوادا ولؤما).  نقول تفتق ذهنهم عن حل لهذه المعضلة يمكنهم من استخدام "التحرر" وقدماء المستعمرين معا في تحقيق أهدافهم العالمية وذلك بتحقيق مايلي:

 

- اجهاض التحرر بملء ساحاته بالانتهازيين والعملاء والمتخاذلين وخلق "أشباه أبطال" والمساعدة على تزوير المبادئ وإفراغها من كل مضمون عملي يخدم التقدم الحقيقي، ليقتصر خلاص المقهورين على الخروج فقط من الشكل القديم للاستعمار مع الوقوع مباشرة في شكله الجديد، وذلك بابقاء الارتباطات الأساسية بشبكة الرأسمالية العالمية، أي باختصار مسخ التحرر وجعله في خدمة الامبرياليين الجدد بمساعدتهم على تكنيس الاستعمار القديم وإقامة الاستعمار الحديث.

- العمل مع الاستعمار القديم واستخدام بقاياه وجذوره في العالم المتخلف (طيلة قيام وجود لهذه الجذور والبقايا أثناء عملية تكنيسها من العالم) في ضرب وخنق كل حركة تحرر جدية يخشى بأسها، وما بقي الانتهاز ضعيفا أو مفضوحا، وطيلة افتقار الامبرياليين الى مضللي الجماهير "الأقوياء" من كل الأشكال.

- اقامة نظام ضغط وقمع عالمي يستفيد من مختلف التحالفات السياسية والاقتصادية، ومن الأحلاف العسكرية والأساطيل والقواعد التي نشروها في كل المناطق الحساسة والهامة من العالم.  وتشتمل قواعد العدوان أيضا على الدول العرقية التي زرعها المستعمرون القدامى في العالم المتخلف (مثل اسرائيل وجنوب افريقيا) ثم بنتها أميركا وألحقتها بنظامها العالمي، كما تشتمل على الدول الصنيعة التي أقامتها هي بنفسها في أعقاب الحرب العالمية الثانية (مثل كوريا الجنوبية وفرموزا تشان كاي تشك).

 

ولم يشاهد العالم كمالا في تطبيق الأمور الآنفة الذكر كما شاهده في تطور التدخل الأميركي في شؤون الوطن العربي.  فنجد هذا المستعمر يجعل من اسرائيل امتداداً ومخلباً له فيساندها ويمدها بكل وسائل العدوان ويدفعها الى شن الغارات الهمجية والحروب علينا من آن الى آخر حسب متطلبات مخططاته الاستعمارية.  ورأيناه يساند حلفا استعماريا بقيادة المستعمرين القدامى الانجليز (يساند حلف بغداد) للضغط على الحركة الوطنية العربية وقمع النهوض الجماهيري الهائل الذي برز في أعقاب الحرب العالمية الثانية في كل أرجاء وطننا العربي.  وكان في ذات الوقت ينتهز كل فرصة ويعمل بكل طاقاته لملء ساحة الكفاح العربي بكل أنواع الانتهازيين والعملاء، ولتزوير المبادئ وإطلاق أمواج صاخبة من الدعايات الكاذبة ، وخلق الأجواء المحمومة ومحاولة شل كل تفكير سليم لدى المواطنين العرب الخ.  ومع مساندة الانجليز في حلف بغداد لم يتأخر هذا الاستعمار عن "الايحاء" للإنتهازيين والعملاء كي ينضموا الى حركات التحرر ويساندوها بكل قواهم لطردهم وزملائهم الفرنسيين من المنطقة العربية، وذلك عندما قدر و اعتقد أن أولئك الأعوان مع من انضم اليهم من المخدوعين والمأجورين أصبحوا قادرين على احتواء زخم الجماهير العربية العربية آنذاك.  وبالتالي على فتح الأبواب له ليحل مكان قدماء المستعمرين ويحرمنا من ثمرة كفاحنا (ليملأ الفراغ الذي خلفوه في أعقاب حملة السويس، فراغ ايزنهاور السيء السمعة).

 

ب‌-   السد الصاروخي-النووي:

 

ان السلاح الذري الصاروخي بتطوره وانتشاره أدخل معطيات وأسسا جديدة للعلاقات الدولية، وكان يسهل تصور الحروب قبل هذا السلاح كأشكال للصراع بين القوى العالمية المتناقضة: كامتداد للسياسة بدون أي تحفظ وبشكل مطلق (حسب جوهر تعريف كلاوفتز للحرب).  كان قادة المجتمعات مثلا يجدون في الحرب التي يمكن أن تتصاعد الى أن تبلغ أشد الأشكال عنفا وضراوة، وأن تتسع حتى تعم الأرض بأجمعها وسيلة عادية (روتينية)  لتحقيق أهدافهم.  أما بعد السلاح الذري ثم النووي الصاروخي فقد اصطدم تصعيد الحروب وتوسيعها بمعضلة غير قابلة للحل.  اصطدم باستحالة هي التوقي الضربة الإنتقامية للخصم التي تنزل الدمار الشامل للبادئ بالهجوم، ثم ان الخراب والفناء لابد من أن يمتد ليصيب الغالبية الساحقة من الجنس البشري، وليصيب على الأخص مراكز الحضارة والتقدم الانساني.  لقد وضعت الحرب النووية الصاروخية حدودا وقيودا لاستراتيجيات المتصارعين وأصبح على كل منهم أن يدخل في حسابه ضرورة تجنبها بدافع الخوف من نتائجها وليس بدوافع انسانية محضة.  هنا تتفق نظرات الجميع الى الأمر: الامبريالي وغير الامبريالي، لأن الدمار الشامل سيحل بالجميع اذا انطلقت الحربة النووية من عقالها.  ذلك لأن الحروب كانت وستبقى (مابقي العدوان في العالم) لتحقيق هدف، انها السياسة بوسائل أخرى، وتصعيدها لتبلغ الشكل النووي الصاروخي الشامل لكل مناطق العالم سيدمر كل هدف فلا يبقي للمتصارعين بالتالي أي شيء يتصارعون من أجله الا الفناء.  في ظل هذا التهديد الرهيب بقي الصراع على أشده في الساحة العالمية بين مختلف القوى المتناقضة وبقيت معه حروب العدوان الضارية وثورات وحروب التحرير.  فالامبريالي يدرك تماما أنه ان باشر حربا عدوانية كلاسيكية في منطقة من مناطق العالم فانه لايخشى الرد النووي من المعسكر الاشتراكي ما دام هو مجهزا بهذا السلاح الرهيب ويستطيع الرد الشامل.  فهو يستطيع أن يستخدم ما شاء من أسلحة وأساليب كلاسيكية دون أن يخشى معه العالم من اندلاع حرب نووية يرهبها الجميع: الإمبرياليون وغير الإمبرياليين.  والخلاصة أن السلاح النووي الصاروخي قد أدخل أسسا جديدة للعلاقات الدولية ولصراع القوى المتناقضة الا أنه لم يلغ الحروب ولم يلغ ضراوتها وان وضع لها حدودا لا يمكن تجاوزها.  وفي الواقع شاهدنا بعد الحرب العالمية الثانية "في العصر النووي الصاروخي" أشد الحروب شراسة وضراوة شنها الامبرياليون وخدمهم هنا وهناك على شعوب العالم، كما اندلعت وتكللت بالظفر كثير من ثورات التحرر.

 

وقد قامت في المعسكر الاشتراكي المنقسم على نفسه آراء ونظريات متناقضة حول الآثار التي خلفها ظهور السلاح النووي الصاروخي في العلاقات الدولية وفي السياسة العالمية.  وقد نشأ عن هذه الخلافات سلوك متباين لمختلف الأطراف الاشتراكية المتناقضة.  فالمعسكر السوفياتي مثلا يصور الحرب النووية كخطر معلق فوق رؤوس البشر لا يلبث أن ينقض ليدمر العالم لأتفه الأسباب.  والى جانب هذه العقيدة وبالاستناد اليها تقوم سياسة التعايش السلمي التي ينادي بها ويدعو اليها الاتحاد السوفياتي ومؤيدوه في العالم.  فالخلافات الدولية بحسب هذه السياسة (ومنها العلاقات الناجمة عن مطالبة الشعوب بحقوقها الوطنية وبالخلاص من النهب والاضطهاد الاستعماري بمختلف أشكاله) هذه الخلافات يجب أن تحل بالطرق السلمية وعن طريق المفاوضات.  فالحروب الكلاسيكية كالثورات المسلحة على النظام الاستعماري العالمي تشكل أخطارا على "السلم العالمي" وتهدد بتفجير الحرب النووية بحسب العقيدة السوفياتية.  وقد سقطت هذه العقيدة عندما احتكت بالواقع فاندلعت حروب عدوانية كثيرة شنها الاستعماريون وأذنابهم على الشعوب، وقام العديد من ثورات التحرر دون أن تفلت الحرب النووية من عقالها.  ذلك لأن الخطر يكمن في الواقع في اختلال التوازن بين العقيدة السوفياتية وسلوك السوفيات وبين العقيدة الإمبريالية وسلوك الإمبرياليين.  فهذا التوازن لايحصل مالم تتعادل نظرتا المعسكرين المتقابلين المذكورين الى قضية السلم والحرب وبتعادل سلوكهما الدولي الناتج عنهما.  وان السد الذي يشكله السلاح النووي الصاروخي تجاه اندلاع الحرب بينهما، وتطورها الى حرب إبادة للجنس البشري من الوجود يضعف وينهار في النتيجة عندما يتفاقم الخلل في التوازن المذكور.  فالامبرياليون عندما يقدمون على العدوان هنا وهناك في العالم ثم لايقف أحد في وجههم لردعهم فتتراجع الحركات الوطنية وتخمد الثورات ضدهم ويتراجع المعسكر الاشتراكي ويستجيب لضغوطهم مبالغة منه في الخوف من الحرب النووية، نقول أن الامبرياليين المذكورين يشتطون عندئذ في تصعيد العدوان في الوقت الذي تتوطد فيه أقدامهم في العالم وتشتد فيه قواهم وتتصاعد وينتهي بهم الأمر الى الاعتقاد بأن كل شيء ممكن ومباح لهم بما في ذلك شن حروب نووية "صغيرة" تنتهي الى "الكبيرة" المبيدة للجنس البشري: اننا منذ زمن غير قصير نسمع عن قادة الحرب الامبرياليين أقوالا يرددونها كثيرا مفادها أن الحروب النووية "الصغيرة" ممكنة لمخططاتهم ولا خطر منها في تفجير الحرب النووية الكبرى!. .  ومن الواضح أن الدواء الناجع هو في العمل على تكوين قناعة راسخة لدى أعداء الانسان هؤلاء بأن العدوان يرد صاعين فيضرب رأس المعتدي في عقر داره وتخرب بلاده تماما كما يفعل هو ببلاد الغير.  وأن الانسان في هذا العصر (مهما بلغ من تخلف نسبي) لقادر على بلوغ هذه الغاية بشيء من التنظيم والحصافة والشجاعة، وبتضامن المقهورين، ولن تعوزه الوسائل اللازمة.

 

ورأينا من جهة أخرى أن الصينيين وأنصارهم يقللون من شأن المستعمرين.  فكثيرا ما يصفونهم بأنهم "نمور من ورق".  والاستعمار في الواقع نظام عالمي هو النظام الرأسمالي الذي بلغ منذ أواخر القرن الماضي مرحلة الاحتكار.  وللاستعمار امتداداته القوية اذن في قلب كل بلد ينتمي الى نظامه (الى شبكته)، في بلاد المتقدمين من هذا النظام أو المتخلفين.  فلا يجوز بالتالي استصغار شأنه، والمعركة معه هي معركة مصير عالمي: طويلة وشاقة.  والحرب النووية الصاروخية تشكل تهديدا جديا للجنس البشري ولا بد من العمل بكل حزم لتفاديها، لابد من سلوك الطريق الصحيح لابقائها في دائرة المستحيلات.

 

ج- الرأسمالية:

 

 ان الرأسمالية نظام اقتصادي عالمي أشبع بحثا ودرسا طيلة هذا القرن الذي مضى من الزمن.  الا أن ما يجب أن نركز عليه، ما يجب أن نكشف عنه تحت أكوام الأوهام التي نسجها حوله من له مصلحة في نسجها، وأكوام الأخطاء التي طرحها عليه المبتذلون، هو أنه (أي النظام المذكور) غريب تماما عن العالم المتخلف المقهور، وليس له أي سبب أو أساس فيه الا كونه يقيم شبكة من العلاقات التي تربط وتشد الضعيف الى القوي المتسلط في العالم ليمتص هذا الأخير ثروات الأول.  أما القول المنمق الجميل حول الديموقراطية والحرية وتكافؤ الفرص في العالم الثالث المرتبط بهذا النظام، الى جانب الدفاع عن "التقاليد والمعتقدات" (بشكل يوحي بأن الرأسمالية من أساسها فتضيع بضياعها) فهو مغالطة سمجة.  فالنظم الاقتصادية العالمية تقوم على أسس مادية وتدوم ما بقيت هذه الأسس ثم تسقط ليقوم مكانها ما يناسب الواقع الجديد.  والنظام الرأسمالي هو بالتعريف الاستعمار الرأسمالي الذي غطى الكرة الأرضية وقد أقامته أقوام أوربا وساد به على العالم حفنة من الناس في تلك الأقوام.  فلا رابطة اذن تربطه بأي دين أو معتقد أو تقاليد تقوم هنا وهناك من هذا العالم المتخلف الذي اكتوى ويكتوي به.  أما نحن العرب فعلينا أن لاننسى أن هذا النظام هو الذي قوض حضارتنا (حضارة الاسلام والأخوة بين بني الانسان، حضارة من دفن العبودية ، ودفن معها عبادة البشر للبشر)، نقول هو الذي قوض حضارتنا بعد صراع مرير عبر عدد من القرون.  فهو اذن العدو اللدود لتقاليدنا ولن نتحرر من تخلفنا وكل أدوائنا الا بزواله.

 

ان الرأسمالية ليست مجرد علاقة بين رب عمل يملك وسائل الانتاج وبين عمال يعملون له في مصانعه ومشاريعه.  فهذه العلاقة وان شكلت بذرة الرأسمالية فهي غير كافية لتحديد هذا النظام وتعريفه.  فالنظام الرأسمالي كما قلنا هو نظام عالمي تطور من أبسط أشكاله الى أن وصل الى مرحلة الاحتكارات المركبة والأسواق العالمية ومختلف جمل الانتاج (كالجملة العالمية لاستخراج النفط: الأوبك) وغيره مما يؤلف الأسس المادية للإمبريالية المعاصرة.  فهو لايقتصر فقط على البلاد المتقدمة فيقال مثلا أن الولايات المتحدة الأميركية هي بلد رأسمالي بينما الهند بلد يغلب فيه الاقطاع أو غيره، بل أن البلدين مرتبطان بنظام عالمي واحد يمد شبكته على كل العالم الرأسمالي.  وكما أن رب العمل لايكفي لقيام معمل يدر عليه فضول القيم ولا بد من أن يكون هناك عمال يعملون فيه، فان البلاد المتقدمة في العصر الإمبريالي تشكل مع كل البلاد المرتبطة بها نظاما واحدا يوفر لسادة الأولى كل ما يزيد من قيم في عالمه.  فللرأسمالية وجهان: وجه التقدم التقني في جهة صغيرة من العالم ووجه التبعية والفقر وكل ما يتبع هذا عند المتخلفين.  ان الهند مثلا تمر كالولايات المتحدة بأعلى أشكال الإمبريالية ولكن بالوجه السلبي.

 

نشأت الرأسمالية وترعرعت ليس فقط على حساب فضول القيم المحققة بأيدي العمال الأوربيين بل وبالقيم والثروات الهائلة التي كان ثمنها ابادة شعوب برمتها في افريقيا والهند وأميركا والمحيط الهادي على يد المستعمرين المتوحشين الأوربيين.  ففضل القيمة في أوربا (المحقق بالعمال الأوربيين) كان له دور إقامة الجهاز الذي مكن الرأسمالية من فرض نظامها على العالم وبالتالي مكنها من التمتع بثروات العالم.  هنا تنشأ معادلة أخرى غير المعادلة التي تبين فضل القيمة (الحاصل بعمل العامل في معمل الرأسمالي الأوربي بعد حساب كل التكاليف)، تنشأ معادلة أخرى (أو بالأحرى متراجحة) تظهر فيها أمواج من الثروات والقيم تجتذب الى صناديق الرأسماليين من البلاد المقهورة بتكاليف بسيطة ( بمقابل بسيط) أو بدون تكاليف سوى ذبح وإبادة أصحاب تلك الثروات والقيم.  وقد قام هذا النظام العالمي المتوحش في بادئ الأمر على أسلوب احتلال بلاد الغير وادارتها بشكل مباشر.  وتم اقتسام العالم بأجمعه بين سادة النظام في الثلث الأخير من القرن الماضي عندما بلغت الرأسمالية مرحلة الاحتكار.  وعندما ننظر الى المجتمعات الانسانية التي بدت مبعثرة هنا وهناك على شكل مشاعات بدائية في فجر التاريخ ثم تطورت اعتبارا من تلك البذور الأولى وتقدمت في عملية تشكيل ونمو الى كائن أعلى (في وسط العالم العضوي وعالم الأحياء) هو جملة المجتمعات الانسانية بكل علاقاتها وتناقضاتها، نقول عندما ننظر الى تطور هذا الكائن من تلك البدايات الى عصرنا الحالي عبر مختلف أطواره التاريخية نجد أن مرحلة الرأسمالية والاحتكار الرأسمالي تشكل درجة من درجات نمو الكائن المذكور تخص كل مجتمعاته: متخلفها ومتقدمها، تماما ككل المراحل التي سبقت ومر بها هذا الكائن.  ففضول القيم، مهما كان مصدرها: عمال العالم المتقدم في المعامل والورشات، أم الشعوب المتخلفة في المناجم وفي المزارع، جميع هذه الفضول تساهم في بناء نظام جملة المجتمعات الانسانية، في بناء النظام العالمي.

 

برزت أثناء تطور جملة المجتمعات الانسانية وتقدمها لتتجاوز مرحلة الرأسمالية الى الطور الأعلى أمور عديدة.  فالشعوب المقهورة لم تسكت بل قاومت المستعمرين وقامت فيها حركات التحرر واندلعت الثورات العديدة.  واندلعت أيضا الثورات في البلاد المتقدمة ضد العقليات الجامدة المتخلفة تارة ، وضد المستغلين والطامعين في بلاد الغير تارة أخرى.  وقام التنافس بين الرأسماليين وتسابقوا الى جني الأرباح واشتعلت الحروب فيما بينهم.  وفي أثناء ذلك تطور العلم وارتقت الوسائل في كل الميادين: ميادين الانتاج وميادين الحروب والدمار.  وبلغت جملة المجتمعات الرأسمالية الاحتكارية العالمية أزمتها العامة منذ أوائل هذا القرن، واشتد التوتر في شتى علاقاتها في كل أنحاء الكرة الأرضية، فاندلعت فيها حربان عالميتان لم يؤد انفجارهما الى حل أزمتها تلك ولا الى التخفيف من اشتداد التوتر في علاقاتها المختلفة، وانما أدى الى الأمور التالية:

 

- في الحرب العالمية الأولى أصاب النظام الرأسمالي العالمي تصدع شديد بالثورة الاشتراكية البلشفية، فانخرقت شبكته على مساحة واسعة بخروج روسيا القيصرية منه مع مستعمراتها الممتدة على سدس الكرة الأرضية.

- انهار النظام الاستعماري القديم القائم على احتلال أراضي الغير وقامت دول مستقلة سياسيا في العالم المتخلف التابع للنظام الرأسمالي.

 

ولكن الرأسمالية في أثناء تطورها أرست في البلاد المتخلفة ركائز تقوم قبل كل شيء على التخلف والتبعية وعلى خليط من المؤسسات المؤلفة من المصارف والصناعات البسيطة نسبيا والوسائل الأخرى الكفيلة بايصال ما تحتاجه الصناعة في البلاد المتقدمة من مواد أولية.  أي أن الرأسمالية عندما سحبت جيش الاحتلال من كل بلد متخلف تركت فيه في مواجهة حركة التحرر اقتصادا تابعاً لها تقوم عليه طبقة وسيطة (طبقة وقافين) تتألف من خليط من الصناعيين الصغار وأشباه التجار والسماسرة وبقايا الاقطاعيين والمثقفين الانتهازيين المرتزقة وأشباههم يحميهم جيش يحتل فيه المناصب الهامة ضباط متفسخون خونة.  فكان على حركة التحرر اذن في مثل هذا البلد أن تعمل على تخليص اقتصاد وطنها من تلك التبعية بالقطع مع شبكة الرأسمالية العالمية، وليس هناك من سبيل آخر الى التحرر.  ذلك لأن بناء رأسمالية متقدمة في بلد متخلف ينهبه الإمبرياليون أمر غير ممكن، وكل تقدم في أساليب الانتاج في هذا البلد في اطار علاقات التبعية يكون في مصلحة الامبرياليين فيزيد من منسوب ما ينضحونه منه من قيم وثروات.  يضاف الى هذا الأمر أن تقدم المتخلف في شبكة الرأسمالية العالمية لايغطي أبدا المسافة بينه وبين المتقدم الذي يسبقه في هذا العصر بسرعة مذهلة، فلا بد اذن من تمزيقها لصالح الطور العالمي الأعلى، وانه من المستحيل على المتخلف أن يعيد تجديدها بالتقدم ضمن علاقاتها وقوانينها، بل ان على عاتقه ومن أولى واجباته أن يزيلها من الوجود بتحرره منها: لقد مر معنا وقلنا أن الرأسمالية هي الاستعمار والعدوان، وعندما يتحرر كل الناس في العالم ، عندما يتحرر المتخلفون من علاقاتها تذوب شبكتها العالمية وتزول هي معها.

 

 وطريق الحرية دوما وأبدا صعب وشاق، الا أن بداياته في عصرنا هي في الأمور التالية:

- وعي الحركة الوطنية ونظرتها الصحيحة الى الواقع وحزمها في السير قدما الى  أهدافها فلا تنخدع بأقوال الأعداء وتتراجع أمام تهديداتهم، ولا تغفل عن الانتهازيين والجهلة والخونة في صفوفها، ولا يكون اعتمادها الأساسي الا على ذاتها وليس على الآخرين.  فهناك مثلا من يقول بأن القضاء على الرأسمالية وما يرافقها من عدوان واستعمار هو من اختصاصاته وحده وما على الآخرين الا الانتظار فلا "يعكروا" السلم العالمي.  والحقيقة هي فيما قلناه بأن الحرية هي في تحرر المقيدين وليس في تحريرهم.  ومما لاشك فيه أن الأحوال في المعسكر الآخر غير الرأسمالي والسياسة الدولية التي ينتهجها هذا المعسكر هي من الأمور الأساسية التي تسهل أو تعرقل مسيرة تحرر العالم من ذلك النظام المخزي.

 

د - الثورة البلشفية:

 قلنا أن الثورة البلشفية كانت أول خرق متسع أصاب شبكة الرأسمالية العالمية.  وقد خيل الى البعض (من الذين يبسطون الأشياء وينظرون الى التطورات الاجتماعية على أنها تجري بشكل ميكانيكي) أن هذه الثورة الحاسمة التي ستقضي على الرأسمالية، وتنقل العالم بالتالي الى الطور الأعلى ، الى الاشتراكية، وذلك اما بالثورة الدائمة التي تمتد حسب رأي التروتسكيين كما تمتد النار لتشعل العالم كله انطلاقا من الاتحاد السوفياتي وبقيادته، واما بإقامة النظام الاشتراكي في بلد واحد هو الاتحاد السوفياتي مع العمل على تجديد الأممية البروليتارية ونشرها في كل أنحاء الأرض ودعمها وتطويرها بما يتوفر من وسائل مادية وأدبية بانتظار ظروف مؤاتية يتسع فيها النظام الاشتراكي ويمتد اعتبارا من تلك الدولة الاشتراكية الأولى ليشمل العالم دولة بعد دولة.  وبانتظار هذا الأمر تقوم الأحزاب الشيوعية (الممثلة لحركة الأممية البروليتارية في كل قطر من أقطار الأرض) بالدفاع عن مصالح الدولة الاشتراكية الأولى (الاتحاد السوفياتي) وتخذيل أعدائها بكل وسيلة ممكنة، وذلك الى جانب عملها للاستعداد وتهيئة الوسائل لاشعال الثورة الاشتراكية في بلدها، وكان هذا رأي الستالينيين الذي تغلب على النظرية التروتسكية (نظرية الثورة الدائمة).  ومن البديهي أن الممكن في كل آن هو رؤية الطريق الصحيح وسلوكه (ايجاد السمت الصحيح والسير في اتجاهه)، الا أنه يستحيل إقامة علاقات دائمة تتجاوز المعطيات المادية والواقع.  والثورة البلشفية قامت في روسيا القيصرية، البلد المتخلف نسبيا وفي مواجهتها قوى وصعوبات مادية هائلة، في الداخل وفي الخارج.  كانت هناك الرجعية الروسية الممتدة جذورها في أعمق أعماق المجتمع الى جانب كتل ضخمة من الجهل والتخلف تغطي كل أنحاء هذا البلد.  وكان النظام الرأسمالي العالمي يحيط من كل جانب بهذه الثورة ويعمل بكل قواه وبكل الوسائل لتحطيمها، بالاضافة الى أنه كان يحتكر كل الوسائل والأساليب التي كان الثوار الروس بأمس الحاجة اليها لبناء اقتصاد متقدم في بلدهم.  كل هذا ترك بطبيعة الحال آثاره على على الثورة الروسية الاشتراكية وبدا أن انتصارها لابد من أن يقترن بكل أنواع العنف الذي أصاب أعداءها مع العديد من أنصارها وجل قادتها.  وكان من الطبيعي في مثل الظروف المحيطة بهذا الكائن الجديد الذي يهاجمه الأعداء من كل جهة (من الداخل والخارج) وتحيط به كل تلك الصعوبات أن تتطور فيه أجهزة دفاعية تفرز حوله ستائر واقية أمام كل الأخطار من كل الاتجاهات.  فقامت فيه الدولة بكل ما للدولة من مصالح وأهداف في عصر ما زالت الامبريالية الرأسمالية (أعتى نظام قهر في التاريخ) قائمة وسائدة على الكرة الأرضية.  ومع الزمن وخلال "الظروف الاستثنائية الدائمة" التي تفرضها الصعوبات (وتفرضها الديكتاتورية الفردية أيضا) يتسلق الانتهازيون الوصوليون والدجالون والجهال مراكز السلطة في هذه الدولة الناشئة التي انقلبت في النهاية الى دولة بيروقراطية عطلت فيها كل إرادة الا إرادة القمة في جهازها البيروقراطي بعد أن باد فيها أولئك المناضلون الرواد وعفت آثارهم تحت وطأتي الديكتاتورية والزمان.  ولا يعني هذا أن البيروقراطية السوفياتية قصرت في تحقيق تقدم مذهل لمجتمع بلدها، بل العكس فقد نقلته في برهة زمنية قصيرة نسبيا من مجتمع يضرب المثل في تخلفه الى مجتمع طليعي في العالم يملك كل وسائل المتقدمين، بل ويتجاوزهم في بعض المجالات المادية (وان بقي في المجموع العام حتى يومنا هذا متخلفا عن أكثرهم تقدما).  وفي هذه المسيرة انقلبت الأحزاب والمنظمات الشيوعية (ومن يلوذ بها من هيئات مختلفة الأسماء) الى أجهزة توجه جل اهتمامها الى القضايا الأممية (التي تنقلب في نهاية الأمر الى قضايا سوفياتية مادامت القيادة الأممية سوفياتية) والى الدفاع عن مصالح وسمعة الاتحاد السوفياتي "وطن الاشتراكية الأول"، وذلك بدلا من تولي قضايا بلدها المقام الأول، ثم تعمل على إقامة توازن جدلي بين المجالين المحلي والأممي.  وتفاقمت هذه الحالة في أثناء وبعد الحرب العالمية الثانية وامتدت البيروقراطية الحاكمة "باسم العمال والفلاحين وكل الكادحين، وبدلا عنهم في الواقع" فشملت ذلك المعسكر غير الرأسمالي الذي امتد على بلاد ما يقرب من ثلث البشرية.  وفي النهاية انقسم هذا المعسكر على نفسه وانقسمت معه أيضا قوى التحرر في العالم وفي كل بلد على النحو الذي نعلمه جميعا ولا حاجة الى تفصيله وشرحه.  الا أنه لا بد لنا من أن نشير  الى أن وقوع الانقسام والتفسخ هو من بشائر تولد الجديد القوي الذي يدفن القديم المتفسخ وكل غير القابل للحياة في سلاسل الكائنات الحية.  فما هو في الانسان هذا الجديد الذي لن يأخذ بالتأكيد أشكال البيروقراطية المعاصرة؟

 

لقد أشرنا الى أن المجتمعات الانسانية تطورت وتقدمت في حدود مجموعة واحدة منذ المشاعات البدائية الأولى التي تشكل بذور هذه المجموعة الى ما نراه اليوم من انسانية تشتبك في علاقات لاحصر لها تجعل منها كائنا كليا واحدا سميناه جملة المجتمعات الانسانية.  وقلنا أن النظم التي تتوالى بسيادتها على العالم تشكل الدرجات المتوالية لنمو هذه الجملة وتكاملها.  فالنظام الرأسمالي مثلا هو نظام عالمي ولا يقتصر فقط على المتقدمين بل يسود في كل مجتمعات الجملة بأشكال مناسبة.  ولا يمكن أن يكون النظام الاشتراكي (الدرجة الأعلى في نمو جملة المجتمعات الانسانية) الا نظاما عالميا أيضا تسود قوانينه في كل المجتمعات الانسانية، أي أنه لايمكن أبدا أن يكون متخلفا عن النظام الأدنى (عن النظام الرأسمالي) أو مشاركا له في اقتسام العالم، فهناك لا توجد الا جملة انسانية واحدة في هذا العالم.  ثم ان هذه الجملة لاترتقي أثناء نموها من نظام الى نظام بشكل مفاجئ ولا بد لها من مرحلة انتقال تفصل بين نظامين متتاليين.  وفي هذه المرحلة تبرز بذور النظام المقبل وفسائله حول المدبر وبين شقوقه وأنقاضه المتداعية، الا أن هذا المقبل لايتكامل ولا يسود الا في نهاية مرحلة الانتقال.  فما نشاهد اليوم من بيروقراطيات اشتراكية ونشاهده من تقدم في العلم والوسائل والعلاقات والأشكال في كل مكان من الأرض هي بذور وفسائل الاشتراكية التي ستسود بشكل مطلق في نهاية مرحلة الانتقال المعاصرة من الرأسمالية الى الاشتراكية.

 

ان مما سبب الغموض والتناقض في التفكير التقدمي المعاصر وأثار الفوضى في العلوم الاجتماعية القائمة على هذا التفكير حتى صرنا نسمع "باشتراكيات" عجيبة تنبت هنا وهناك في العالم المتخلف ويرعاها انتهازيون دجالون هو نسيان أن الاشتراكية طور انساني متقدم يتجاوز الرأسمالية مع إغفال ضرورة كون هذا الطور طورا عالميا وليس طور مجتمع واحد، تماما كالأطوار السابقة التي قلنا أنها شكلت كل واحد منها درجة من درجات تقدم ونمو جملة المجتمعات الانسانية.  فالثورة البلشفية بدأت بهذا الخطأ عندما انطلقت من موضوعة متناقضة (صدرها ينقض عجزها) فوضعت ما مآله: يجب ضرب سلسلة الرأسمالية في أضعف حلقاتها. . .  وعندئذ يمكن بناء الاشتراكية في البلد الواحد (الذي يشكل الحلقة الضعيفة الآنفة الذكر).  فضرب الرأسمالية في أضعف حلقاتها أمر صحيح يجب البدء به، ولكن لا من أجل بناء الاشتراكية (التي لا يبنيها الا العالم مجتمعا بنتيجة تحولات تاريخية مناسبة) وانما من أجل الانطلاق في مرحلة انتقال عالمية تقوم فيها أسسها ويتهيأ ويتم بناؤها الأولي في نهايتها.  وقد بالغ البيروقراطيون السوفيات "فأتموا" الموضوعة المذكورة بالادعاء بأنهم قد أنجزوا بناء الاشتراكية في بلدهم وهم الآن بصدد الانتقال بهذا البلد الى المرحلة العليا من الطور الشيوعي!. . .  وهم مع ذلك مازالوا متخلفين تقنيا عن الراسماليين المتقدمين!. . .  فأي عالم يصوره لنا هؤلاء الناس حيث تبلغ الفوضى فيه درجة يظهر فيها "المتخلف" متقدما على "المتقدم"!. .  ولكي تبدو هذه الصورة للعالم صحيحة اضطر هؤلاء البيوقراطيون الى أن يدخلوا "بعض" التعديلات على الأسس الماركسية اللينينية التي تشكل أسس العقيدة المعاصرة للاشتراكية العلمية، فقالوا مثلا أن الدولة لاتنحل في المرحلة العليا المذكورة للشيوعية، وتبقى الجيوش وخطر الحروب العالمية الخ.  ثم ان هؤلاء "البناة للشيوعية العليا" يشيحون بوجوههم عن الشقاء والآلم التي يسببها التخلف والنهب الاستعماري في العالم الثالث، وعن الناس الذين يموتون جوعا في الهند وأفريقيا وأميركا اللاتينية!  وكأن العالم لايشكل وحدة متكاملة الا عند "حساب المصالح".  ان هذه التناقضات لايمكن أن تزول وتزول معها كل تلك الأفكار والتصرفات الانتهازية الا بانتصار الصحيح العلمي، بالعودة الى رؤية الواقع على حاله (كما هو) الى رؤية أننا في مرحلة انتقال عالمية يبني فيها العالم بدايات تطوره المقبل (الاشتراكية المنتصرة عالميا) ولسنا في عالم مفكك كل مجتمع فيه يبني ما يحلو له من "اشتراكيات" أو "مثل عليا".  اننا في عالم واحد، في جملة مجتمعات انسانية واحدة، تتطور وتتقدم بكليتها وليس بجزء أو بأجزاء منها بينما ينتظر باقيها.  أي أن كل تقدم يحصل فيها هو لها كلها فيحد لذلك بالتخلف القائم في جهات أخرى منها بحيث لايتخلص المتقدم من الطور الراهن الى الطور الأعلى الا مع الجملة بكل مجتمعاتها وان بدا لفترة في الطلائع.  وكذلك التخلف في جهات منها هو تخلفها بكليتها، فيعود الى نقص إمكاناتها لبلوغ الطور الأعلى، وهو أيضا يشكل وجهها الآخر المقابل لوجه التقدم والمرتبط به ارتباطا عضويا (المتمم له): يكفي مثلا أن نشير الى أن تراكم الثروات عند المستعمرين الذي يقوم عليه تقدمهم بالتقنية ينشأ بمعظمه من نهبهم الذي يتولد في نظام القهر القائم فيه تخلف المتخلفين.

 

هـ - الأطوار الانسانية:

 

 ان الماركسية مع تفرعاتها دعوة من الدعوات التي كانت غايتها التخلص من التخلف والقهر الرأسمالي، وقد أدت كامل رسالتها بضرب هذا النظام وخرقه في الحلقات المناسبة من شبكته العالمية وبالتالي تحقيق قيام مرحلة انتقال جملة المجتمعات الانسانية الى الطور الأعلى.  وكانت رسالة ضخمة حاسمة النتائج.  وهذا لايعني أن ما أتت به هذه الدعوة هو الكلمة الحاسمة الأخيرة في حياة الكون، أو أن أسسها هي الأسس الوحيدة لعلم الاجتماع، وأن ليس أمامنا الا "تطويرها وإغناؤها" الى أبد الدهر. . .  انها لاتعدو في الواقع كونها اجتهادا علميا في أصعب فروع المعرفة وأكثرها إثارة للجدل، اجتهادا فيما يتعلق بالمجتمع الانساني وعلاقاته وصيرورته.  فاذا كان من واجبنا أن نحترم مااكتشفته من حقائق (وهي كثيرة وحاسمة في زمانها ومكانها) وأن نستفيد من دروسها ومنجزاتها، فانه لابأس علينا اذا تحرينا عن نقائصها وأخطائها.  ان توسيعها مثلا مفهوم التقدم والارتقاء في عالم الأحياء بتطور المجتمع عبر مراحل تاريخية ترتبط بدرجة تقدم وسائل الانتاج وبما يقوم عليها من علاقات اجتماعية (هذا الكشف العلمي الذي يتضمن الكثير مما سبقه في موضوعه من أفكار صحيحة وينسق فيما بينها ويطورها، كما يزيل في هذا المجال كثيرا من غشاوات الجهل والخرافات والأخطاء)، نقول أن بحوثها حول تطور المجتمع ألقت الضوء على تسلسل تاريخي في غاية الأهمية والخطورة فأخرجت هذا التسلسل الواقعي من بين أكوام الخرافات وأبرزته بكل صفاء وجلاء.  وكان أن عرضت هذه الفكرة بشكل مجرد على العموم (وهذا أمر طبيعي لا ضرر منه عند توخي الكشف عن علاقة مادية عامة وتبسيطها وشرحها)، عرضت على أنها تلقي الضوء على الكيفية التي يتقدم بها المجتمع ويرتقي عبر مختلف المراحل التاريخية.  وعندما أتى مؤخرا الشراح المبتذلون البيروقراطيون عرضوا المجتمعات الانسانية بشكل منفرد على هذا "المقياس" (وكأنه ليس من رابطة تربط فيما بين هذه المجتمعات) فأخرجوا لنا بهذا صورة عجيبة متناقضة لعالم الانسان.  فنجد مثلا جميع العهود التاريخية تتعايش في زمن واحد في عالمنا، من المشاعة البدائية مثلا حتى المرحلة العليا للشيوعية.  وفي آن آخر نجد دولا في درجة واحدة من التقدم في عهود تاريخية مختلفة ، نجد مثلا فرنسا في مرحلة الاقطاع حتى الثورة الفرنسية بينما نجد شقيقتها في التقدم انجلترا (التي دخلت معها في صراع مرير دون حسم عددا من القرون) في مرحلة الرأسمالية منذ عصر كرومويل (وذلك حسبما جاء في مساعد الاقتصاد السياسي الصادر عن أكاديمية العلوم السوفياتية).  ونرى أيضا مجتمعات "تقفز" من فوق المراحل التاريخية فتمر من البداوة الى الاشتراكية كمنغوليا مثلا.  وتفسير هذا عند أولئك المبتذلين (كتفسير كل أمر عجيب يخرجون به علينا لتبرير الانتهاز والجهل ، وفي كثير من الأحيان لتبرير خيانة التقدم) هو أن "التناقض" قانون أساسي من قوانين الديالكتيك!. .  وهذا كما هو واضح جلي, انحراف خطير بتلك القوانين التي لاتعني بأي حال من الأحوال أن الفوضى ونفي السببية هي من "القوانين" الأساسية للكون، بل هي على العكس تؤكد على "الوحدة" وتكشف عن أسباب الضد في ضده، ولا ترتبط بأي شكل من الأشكال بتلك الصورة الشوهاء للمجتمعات الانسانية، الصورة التي تجعل من هذه المجتمعات مجرد "تراكم" مفكك للانسان.  والواقع كما رأينا هو أن الانسان يسبق بأشواط بعيدة كل الكائنات المادية الأخرى في قابليته للتفاعل والتجاذب (والتنافر ضمن الوحدة!. . ) ليشكل بالتالي عبر تاريخه الطويل تلك الجملة التي سميناها جملة المجتمعات الانسانية والتي تتسلسل فيها الأطوار التاريخية من أبسطها الى أكثرها تقدما ورقيا، من المشاعة البدائية الى الطور الاشتراكي.  أي أن المجتمع الانساني يتقدم كما سبق وأشرنا ضمن الجملة ومعها وليس بمعزل عنها فيمر معها بأطوارها العامة جميعها بالشكل الذي يناسب واقعه المادي والروحي.  فعندما يبدو مثلا مجتمع من المجتمعات في حالة تخلف في طور متقدم نسبيا للجملة الانسانية فان تخلفه هذا يشكل جزءا من الوجه الآخر للطور المذكور، جزءا من التخلف العام للجملة عن الطور المقبل الأكثر تقدما.  ان تخلف بلد من العالم الثالث في أيامنا هذه مثلا هو جزء من تخلف هذا العالم الأخير وهو يرتبط بما خلفه ويخلفه النهب الذي يقوم به المستعمرون المتقدمون تقنيا، كما يدل على التفسير الراهن لجملة المجتمعات الانسانية عن بلوغ الطور المقبل.  فنجد في النتيجة أن قانون تسلسل الأطوار الاجتماعية (من المشاعة حتى الاشتراكية) الآنف الذكر يجب أن يقرن بتقدم وارتقاء جملة المجتمعات الانسانية، هذه الجملة التي هي مجال تحققه ودرجات نموها هي كما سبق وقلنا أعلاه مختلف أطوار سلسلة التقدم الانساني.  

 

ان قانون تسلسل الأطوار الانسانية لايعطي اذن خارج إطاره الطبيعي (خارج جملة المجتمعات الانسانية) غير الفوضى التي مرت أمثلتها معنا أعلاه، ولعل عدم رؤية تكون وتقدم تلك الجملة الانسانية ككل موحد أوقع الماركسيين الأوائل في خطأ فادح هو اعتبار نظام الاقطاع الأوربي في القرون الوسطى طورا انسانيا رئيسيا مع أنه في جوهره يقوم على جمود الحياة الاقتصادية وقيام الحواجز أمام التبادل التجاري وضمور الأسواق وفقدان الارتباطات فيما بينها وسيادة الاقتصاد الطبيعي حيث يستهلك كل منتج ما تنتجه يداه الخ.  في مجتمع أو جزء من جملة المجتمعات الانسانية في أي طور من أطوارها.  فهو قد قام في مختلف عصور العبودية هنا وهناك من العالم عند تخلف المجتمع وضمور اقتصاده، كما وجد في العصر الرأسمالي في البلاد المتخلفة.  وفي الواقع ان تخريب الامبراطورية الرومانية على يد البرابرة المتوحشين من قبائل الجرمن لم يأت بأي تقدم في الأطوار الانسانية، بل على العكس من ذلك فهو قد نشر الظلام قرونا طويلة في المجتمعات الأوربية في الوقت الذي كانت تقوم فيه حضارة باذخة في المشرق الاسلامي، حضارة الحرفة والتجارة العالمية التي وفرتها الثورة الاسلامية الكبرى بعد أن قضت على النظامين العبوديين الفارسي والبيزنطي ووحدت العالم لأول مرة في التاريخ بإقامة علاقات عالمية وطيدة، وفتح الأسواق بعضها على بعض في كل أنحاء العالم المعروف آنذاك.  وفي الواقع ان تقدم الانسان كان يشكل ثابت حصيلة ما قدمته يداه (حصيلة ما صنعه) ولم يكن تقدمه في استغلال موارد الطبيعة (ومنه تقدمه في زراعة الأرض) الا بنتيجة تقدمه في صنع الوسائل.  لذلك كان تقدم الحرفة الذي أدى الى طور الحرفة الحرة في العصر الاسلامي ووصل بتطوره الى الصناعة الحديثة المعاصرة هو الذي يرسم المسيرة العامة للتقدم الانساني، المسيرة التي لايشكل الاقطاع فيها على الدوام الا أنظمة متخلفة ومعوقة للتقدم.  (واقطاع أوربا القرون الوسطى على الأخص كان يقوم أساسيا على انتاج ريفي متخلف فهو يشكل اذن اقتصادا تابعا لحرفيي المدن).  ونرى في نهاية الأمر أن الطور الذي أعقب الطور العبودي كان الطور الاسلامي، طور الحرفة الحرة (الحرفة التي يمارسها الحرفيون الأحرار على الغالب ويخرج منها معظم انتاج المجتمع) الذي برزت فيه جملة المجتمعات الانسانية لأول مرة موحدة بالسوق العالمية التي أقامها التجار المسلمون وليس طور الاقطاع الذي لاوجود له كطور عالمي وانما يوجد دوما في تجمد الحياة وتخلفها.

 

ولننظر الى ما تقوله الماركسية عن الطور العالمي المقبل (الدرجة المقبلة في نمو جملة المجتمعات الانسانية)، فهذا الطور هو حسب ذلك القول الطور الشيوعي ويتألف من مرحلتين:

 

- المرحلة الدنيا، مرحلة الاشتراكية، وفيها تكون ملكية وسائل الانتاج اجتماعية ويقوم فيها شعار "لكل حسب عمله"،

- المرحلة العليا، حيث تنحل الدول (مع استمرار تملك وسائل الانتاج اجتماعيا بطبيعة الحال) وحيث ترتقي الوسائل والأساليب والعلاقات والأخلاق الى درجة تصبح معها الحياة على الأرض تشبه حياة الجنان ويطبق فيها شعار "لكل حسب حاجته ومن كل حسب استطاعته".  والتوقعات العلمية للمستقبل لا بد من أن تكون محدودة بحدود المنظور القائم على معطيات واقعية، وهي تبقى دوما في ظلال الاحتمالات فتقع في يوم من الأيام أو لاتقع.  وعندما ننظر في يومنا هذا الى المستقبل المباشر لتوسع الانسان في الطبيعة المجاورة له نجد أن أمامه مهمتين معقدتين تتطلبان تراكما هائلا في الوسائل (في رؤوس الأموال الضرورية) ليتحقق فيهما التقدم المجدي.  وهاتان المهمتان هما:

 

أولا - تحقيق استثمار عقلاني لثروات الكرة الأرضية، لثروات تراكم مختلف التجارب والوسائل والأساليب في العلم والتقنية والعلاقات الانسانية، وثروات الطبيعة على اختلافها سيما منها ثروات الصحارى والمحيطات وما تحت القشرة الأرضية.

ثانيا - البدء في الانطلاق في الكون لاستثمار إمكاناته المتاحة.

 

فاذا أضفنا الى هذه الأمور ما يضيعه الانسان الحالي من رساميل وجهود لتكديس الجبال من الأسلحة ولشن الحروب العدوانية، وما يضيع في فوضى هذا العالم من ثروات يبددها جهلة وانتهازيون وطفيليون، وأضفنا التخلف والفقر والمرض والانفجار السكاني (الذي لايقابله ويوازنه توسع في الوسائل وتقدم الأساليب) في مناطق عديدة وحساسة من العالم، تبين لنا الثقل الهائل الملقى على عاتق الانسان في المستقبل المنظور ورأينا ضرورة قيام نظام حازم يمنع التجاوزات الضارة ويحصر الأخطاء التي لابد من وقوعها في كل آن وزمن.  ومنع التجاوز وحصر الخطأ لايعني أبدا القمع أو شل الحرية بأي شكل من الأشكال بل على العكس هما في أساس ضمان الحرية وتطويرها لتترعرع أبدا وتزدهر (وليس لهذا أية صلة بدعاوى الدجالين أعداء الحرية عندما يقيمون أجهزة القمع بحجة منع التجاوزات وهي في الواقع لحماية تجاوزاتهم).  والواقع ان ما يمكن أن نستشفه خلال مابقي من مرحلة الانتقال الراهنة التي تمر بها جملة المجتمعات الانسانية هو قبل كل شيء ضرورة وإمكان العمل بكل حزم لاقتلاع النظام الرأسمالي من العالم لاختصار الشقاء الذي يسببه هذا النظام الاستعماري المتوحش لمعظم سكان الأرض، ولتجنيب الجملة الانسانية المزيد من الكوارث التي تؤخر نموها وصعودها الى المرحلة الأعلى.  وعندما تسود الاشتراكية عالميا (الطور الوحيد المنظور في آفاق تقدم الجملة الانسانية) وينتفي نهائيا القهر والعدوان، وتنتفي البيروقراطية وما يواكبها من جمود ودجل وانتهاز، بتحرر الانسان من كل ما يعيقه لحشد طاقاته وكل وسائله التي تكون عندئذ ملكية اجتماعية للاسراع في انجاز المهام التي أشرنا اليها أعلاه، وفي هذا ما يكفي لاسعاد الانسان السوي، أما غير السوي فسيصبح بمرور الزمن قلة قليلة ثم يختفي.  فنرى أن الطور الاشتراكي هو طور طويل يتضمن الكثير من المنعطفات والتفرعات (على الأرض وفي الفضاء الكوني) فلا يمكن رؤية ما وراء آفاقه البعيدة الا لإنسانه.  الا أنه كما أشرنا قبل هنيهة لا بد من أن يقوم في جملة المجتمعات الانسانية في هذا الطورنظام حازم يمنع كل تجاوز ويحصر كل خطأ.

 

ان أي نظام فيه قدر من الانسانية، بله النظام الاشتراكي الانساني، لايمكن أن ينزل عن حد أدنى تستجاب فيه كل الحاجات الأساسية للانسان لقاء قيامه بانتظام بالعمل المحدد له بالنظام الاجتماعي القائم، وذلك مهما كان شكل هذا العمل.  والحاجة كما هو معلوم تتطور بتطور الظروف والامكانات في المجتمع الاشتراكي (أبعاد الحرية المادية والروحية) بالقمع والقهر البيروقراطيين البائدين حينذاك، بل بالامكانات المادية المتوفرة (التي هي ملكية اجتماعية على المجتمع تنظيم الاستفادة منها بأقرب ما يمكن من العقلانية) وبدرجة التقدم الفكري والروحي.  ففي هذا الطور يعمل المجتمع قبل كل شيء على توفير الحاجات الأساسية لكل الناس بالتساوي على العموم: يمكن أن تقوم في البدء اختلافات غير أساسية في حاجات مختلف الناس، الا أن المجتمع بقدر قدمه (الذي سيكون في ظروف الاشتراكية متسارعا) سيبتعد عن توزيع أنصبة الناس وفقا لقانون "لكل حسب عمله" في اتجاه تحقيق المساواة بين الناس للحصول على حاجاتهم الأساسية التي تتوسع عندئذ وتتطور بتوسع الإمكانات وتقدمها.  وفي النظام الاشتراكي المنتصر عالميا يكون توفير الحاجات جزءا من إعداد القاعدة المادية لكل حملة تقدم في المجالات المار ذكرها أعلاه (استثمار ثروات الكرة الأرضية بشكل شامل والانطلاق في الكون)، أي أن لذلك التوفير الأولوية المطلقة، لن تكون هنالك بشكل عام ظروف "مستعجلة قاهرة" تبررحرمان الناس (الحرمان الذي يرافقه القمع بالضرورة وترافقه بيروقراطية غير "محرومة" الخ.  أي أن الحرمان الذي هو عمليا عودة الطور الى الوراء وهو أمر مستحيل)، كما لن تكون هنالك أخطار عدوان وحروب فتتوفر امكانات كبيرة لسد الحاجات وسد متطلبات التقدم المادي والروحي.  وعندما يبلغ المجتمع في هذا الطور درجة سد كل الحاجات الأساسية للانسان (بدرجة تفوق بكثير كل ما يحلم به انسان ميسور في عصرنا الحالي: مأكل وملبس ومسكن وعائلة وعلم وراحة وتسلية) فان امتياز بعض الناس على البعض الآخر بحصولهم على مايزيد عن هذه الحاجات يصبح أمرا مناقضا لمفاهيم ذلك الطور ولا يركض وراءه الا غير الأسوياء الذين قلنا أنهم سيصبحون قلة قليلة وأنهم سيختفون في النهاية.  وفي النتيجة نجد أن الطور الاشتراكي هو طور السعي الى توفير كل الحاجات الأساسية لكل الناس والتوسع باستمرار بهذه الحاجات وتطويرها (أي طور شعار لكل حسب حاجته) الموروث في الواقع عن أنظمة القهر الرأسمالية والبيروقراطية (وان بقي هذا الشعار فترة من الزمن قائما في علاقات الطور المذكور).  وتساوي الناس بالحاجات الأساسية لا يعني خروج هذه الحاجات من "مقص" واحد و "شكل" واحد توخيا "لمساواة" بائسة عجفاء وانما تختلف هذه الحاجات بطبيعة الحال بحسب الذوق وتفتح النفس وبحسب الوضع المادي لطالبها (الوضع الذي لا يعطي أي امتياز من أي نوع كان وان سبب تنوع الحاجة).  وان النظام وقواعده وقوانينه في كل مجتمع وكل أمة في هذا الطور العالمي الجديد، ولنقل باختصار أن الدولة توفر عندئذ كل الأسباب ليقوم تنسيق عادل بين وجه النشاط في مختلف البيئات في جملة المجتمعات الانسانية، وذلك الى جانب توفيرها مختلف الأسس المادية للتقدم بمجتمعها.  ونعود لنؤكد مرة أخرى على ما سبق وقلناه وهو أن هذا الطور ككل أطوار الجملة الانسانية هو طور عالمي، طور الجملة برمتها (درجة من درجات نموها) وليس نظاما يخص دولة واحدة أو مجموعة من الدول ما تزال متخلفة عن النظام الرأسمالي في كثير من المجالات المادية وان قامت فيها ثورة إعادة ملكية وسائل الانتاج والثروات الكبرى الى المجتمع.

 

نجد اذن أن المجتمع الانساني الواحد لايسير ولا يمكن أن يسير منفردا عبر سلسلة التقدم فيجتاز لوحده بمعزل عن المجتمعات الأخرى (بشكل مستقل) أطوار التقدم المناسبة لحالته المادية فينشأ عن هذا الأمر في المحيط الانساني في كل زمن من الأزمنة خليط من الأطوار التاريخية المختلفة: تتزامن مثلا في المحيط الانساني المشاعات ومجتمعات العبودية والرأسمالية والاشتراكية الخ.  لقد قلنا أن المجتمع الواحد يرتبط عضويا بالمجتمعات الأخرى ويشكل معها جملة المجتمعات الانسانية، فهو يسير مسيرة هذه الجملة ويمر معها بمختلف أطوارها بشكل يناسب حالته المادية في كل طور من هذه الأطوار: قد يكون في طور ما متقدما على المجتمعات الأخرى مثلا ويكون متخلفا عن بعضها في طور آخر، الا أنه يكون على الدوام والمجتمعات الأخرى في الجملة الانسانية في طور واحد هو طور هذه الجملة الذي قلنا أنه يشكل درجة من درجات نموها ويقوم على مجمل حالتها وعلاقاتها المادية وليس فقط على الوجه الأكثر تقدما فيها فينحصر لذلك بالمجتمع الذي يعود اليه هذا الوجه: في طور الرأسمالية الاحتكارية مثلا التي يقتسم فيها المتقدمون العالم (أي في طور الامبريالية الرأسمالية) نجد أن المتخلفين كالمتقدمين يمرون في هذا الطور الاحتكاري الامبريالي ويشكلون معهم مختلف أعضاء جسمه (مختلف أعضاء الجملة الانسانية المارة بهذا الطور، بهذه الدرجة من النمو)، اذ كيف يمكن تصور مستعمرين بدون مستعمرات، وقاهرين بدون مقهورين.  وصحيح مثلا أننا حتى يومنا هذا نشاهد بعض المشاعات في بعض الأنحاء المظلمة من الكرة الأرضية، الا أنه ليس بين هذه المجتمعات البدائية وتلك التي كانت منتشرة في فجر التاريخ أي شبه الا في الشكل.  فمشاعات اليوم هي نقاط منعزلة عجفاء ستختفي دون أن ينتج عنها أي أثر تاريخي محسوس، بينما كانت تلك في فجر التاريخ خصبة وتشكل البذور (البدايات) الأولى التي تولدت عنها جملة المجتمعات الانسانية الحاضرة، فلا مجال اذن للمقارنة بين هذين النوعين من المشاعات.

 

وخلاصة القول أن الحالة المادية للمجتمع (تقدمه أو تخلفه المادي النسبي) لا تكون مفهومة ان لم توضع في إطارها التاريخي، ان لم نضع هذا المجتمع في الطور الذي تمر به الجملة الانسانية عند قيام تلك الحالة فيه.  وان الخطأ الفادح الذي يقع فيه الماركسيون المبتذلون عندما يقعون على أطوار تاريخية مختلفة تعود الى مجتمعات متزامنة (عندما يتضاعف التاريخ بنظرهم فيرونه متعددا في زمن واحد: هنا في فجره مثلا وهناك في العبودية وفي مكان ثالث في الرأسمالية الخ.  في عصر واحد) نقول أن خطأهم الفادح هذا ينشأ أنهم لا يضعون درجة تقدم قوى الانتاج وعلاقاته في مجتمع ما في الاطار التاريخي المناسب (لايضعونها في الجملة التي تعود لها، لا يضعونها بين العلاقات والقوى الأخرى القائمة معها في الجملة الانسانية): فالمحراث الذي يجره ثور هزيل على ضفاف العاصي مثلا الى جانب محراث يجره تراكتور أميركي على ضفاف المسيسبي يختلف كليا عن شبيهه في عصور الحرفة الحرة.  ونقول اذن أن الانسانية تقوم في جملة مجتمعات تكونت عبر مسيرة تاريخية طويلة تقوم على أطوار هي:

 

الأول: طور المشاعة المعرفة في بحوث الاشتراكية العلمية وتفصله عن الطور السابق مرحلة انتقال طويلة جدا (ربما امتدت خلال عدد من القرون من مرتبة الخمسة عشر أو العشرين قرنا).  وفي هذا الطور برز لجملة المجتمعات الانسانية ثلاثة فروع كانت على العموم منفصلة بعضها عن البعض الآخر بسبب الموانع الجغرافية الكبرى التي ما كان ليتوفر للانسان من الوسائل ما يمكنه من التغلب عليها لاقامة اتصالات دائمة ومنتظمة وكثيفة عبرها.  وهذه الفروع هي:

- الفرع الذي قام في حوضة البحر الأبيض المتوسط الممتدة حول هذا البحر وتفرعاته وتشمل الشمال الأفريقي برمته والجزيرة العربية وسورية وما بين النهرين والأناضول وبلاد العجم والترك حتى جبال هملايا وصحارى غوبي وسيبريا التي تفصلها عن الهند والصين، كما تمتد الى جزر البحر الأبيض والسواحل الأوربية لهذا البحر.  وكانت "هوامش" هذا الفرع تمتد الى القارة الافريقية وأواسط وشمالي أوربا وشرقيها، والى الجزر الهامة والقريبة في المحيطين الأطلسي والهندي.

- الفرع الذي قام في القارة الهندية "وهوامشه" في السواحل الأسيوية للمحيط الهندي وفي جزر هذا المحيط القريبة الهامة.

- الفرع الذي قام في الصين وما حولها من "هوامش".

 

ولا يعني انفصال هذه الفروع الواحد منها عن الآخرين انقطاع التفاعل فيما بينها فهذا الطور اذ يتميز باستقرار الحضارات في المناطق الخصبة والملائمة كمنطقة وادي النيل مثلا وشبيهاتها، يتميز أيضا بالهجرات الكبرى التي قامت بها أقوام وفئات غير مستقرة في الفرع الواحد أو فيما بين الفروع.  الا أن القوم الذي كان يترك أرضه في الهند مثلا لينتقل الى أراضي حوضة البحر الأبيض المتوسط كان لايعود أبدا أدراجه الى مواطنه الأولى بل يستقر حيث ينتهي به المطاف وحيث يجد إمكانا للاستقرار (في ذلك الخضم البشري المتلاطم الذي كان يأكل بعضه بعضا) أو أنه يبيد على طرقات هجرته.  لذلك برزت وترعرعت في هذا الطور في كل فرع منها حضارات تتسلسل في سلسلة مستقلة ومتميزة على العموم.

 

الثاني: الطور العبودي

 

الثالث: طور الحرفة الحرة والتجارة العالمية (الطور الاسلامي) وقد انطلق بالثورة الاسلامية الكبرى التي حطمت آخر أنظمة العبودية في منطقة البحر الأبيض المتوسط: النظامين الفارسي والبيزنطي.  وكانت قد مرت مرحلة انتقال طويلة ارتقت فيها الحرفة وتنوعت وانتشرت بين الأحرار واتسعت التجارة وانتشرت في الأسواق، بينما أخذ مجال الانتاج العبودي ينحسر شيئا فشيئا عن قطاعات الحرف المتطورة التي تتطلب الدقة والمهارة وينحصر في القطاعات الريفية الزراعية وقطاعات الأعمال المنهكة (التي (التي تتطلب جهدا عضليا كتشييد المعابد والنصب والتعدين وتعبيد الطرق وشق القنوات وغيره) والأعمال المساعدة والخدمات المنزلية الخ.  وما كان من الضروري لبدء مرحلة الانتقال من العبودية الى الحرفة الحرة أن تسقط دولة بذاتها وتقوم أخرى على أسس جديدة كما حدث عندما بدأت مرحلة الانتقال من الرأسمالية الى الاشتراكية بالثورة البلشفية وسقوط دولة القياصرة وقيام دولة الاتحاد السوفياتي.  كما أن مرحلة الانتقال تلك ما بدأت في يوم أو تاريخ معين ويمكن القول أن الطور العبودي بلغ ذروة تقدمه وازدهاره بامبراطوريات الفراعنة والبابليين والآشوريين والفرس، بينما كانت عهود اليونان والرومان تشكل أنظمة تفسخ العبودية وانحدارها مع تقدم انتاج الأحرار في مختلف القطاعات الأساسية للاقتصاد.

 

وقد اهتز النظام العبودي وتصدعت أسسه بالثورات العديدة التي اشتعلت فيه و منها دعوات التوحيد.  فعالم آلهة الوثنية كان صورة لعالم سادة العبيد بكل ما فيه من مادية مبتذلة، بينما كانت دعوات التوحيد تمثل طموح الانسان الى المساواة في ظل اله واحد لا حدود لقدرته والى تكريس حدود لا يجوز تجاوزها لكيان مقدس للانسان (فردا كان أم جماعة)، كما كانت تشكل بأفكارها التجريدية وقيمها الأخلاقية سلسلة ثورات على الابتذال المادي للوثنية وعلى الانحطاط الخلقي والانساني للعبودية، ويضاف الى كل هذا أنها كانت أول حركات اجتماعية دعت بشكل منظم وواسع الى جمع الناس على أساس الفكر والعقيدة.  الا أن كل تلك الدعوات والثورات ما كانت حاسمة وكافية للقضاء نهائيا على النظام العبودي السائد آنذاك عالميا.  ولقد قلنا أعلاه أن ذلك الطور كان قد انتقل الى مرحلة تحوله الى الطور الأعلى (الى طور الحرفة الحرة والتجارة العالمية) فكانت الثورات الكبرى وكانت دعوات التوحيد هي محركات مرحلة الانتقال المذكورة، المحركات التي هيأت جملة المجتمعات العبودية في منطقة البحر الأبيض المتوسط ماديا وفكريا وروحيا للثورة الاسلامية الكبرى التي حرت الانسان نهائيا من النظام العبودي وأقامت لأول مرة في التاريخ علاقات عالمية منتظمة للتجارة تقوم أساسيا على الانتاج الحرفي الحر وتصل الانسان المنتج بعضه بالبعض الآخر في جملة المجتمعات الانسانية بكل فروعها وهوامشها فتتوحد هذه الجملة.  لأول مرة في التاريخ: كانت قوافل وأساطيل التجار المسلمين تجوب طرقات وبحار كل العالم المعروف بشكل منتظم لا انقطاع فيه فقام اتصال وثيق بين حوضات المدنية في البحر المتوسط  والهند  والصين (الحوضات التي مر ذكرها أعلاه).

 

قد يقول البعض أن النخاسة لم تنقطع في العهد الاسلامي، وكانت يد العبيد تساهم مساهمة كبيرة في الانتاج، والجواب هو أن الانتاج العبودي استمر حتى العصر الراسمالي في ذروة مراحله وفي أكثر بلاده تقدما: في الولايات المتحدة الأميركية التي اندلعت فيها حرب تحرير العبيد في نهاية القرن الماضي عندما كانت الرأسمالية تطل على مرحلة الاحتكار والامبريالية وكانت أميركا في مقدمتها.  وقد سبق وقلنا أن مظاهر التخلف في الانتاج في شتى أنحاء الجملة الانسانية الطبقية هي من الأمور الطبيعية، الا أن هذه الجملة لا بد من أن تكون بأجمعها مارة في طور واحد (تؤرخ على الدوام بزمان مادي واحد) هو الطور الذي تبلغه بالتقدم المادي الذي يبرز بوجهين متناقضين في المجتمعات المتقدمة والمجتمعات المتخلفة.  ثم انه في العهد الاسلامي بلغ من اتساع الحرفة أنها وصلت الى قصور الأمراء والحكام.  ففي البيان والتبيين للجاحظ مثلا نقرأ في الجزء الثاني (ص188) ما يلي:

 

". . .  أحب الرشيد أن ينظر الى أبي شعيب القلال، فأدخلوه القصر وأتوه بكل ما يحتاج اليه من آلة العمل، فبينما هو يعمل اذا هو بالرشيد قائم فوق رأسه، فلما رآه نهض قائما فقال له الرشيد: دونك ما دعيت له، فاني لم آتك لتقوم إلي، وانما أتيتك لتعمل بين يدي.  قال: وأنا لم آتك ليسوء أدبي، وانما أتيتك لأزداد بك في كثرة صوابي. . "

 

وكانت الثقافة منتشرة انتشارا واسعا بين التجار والحرفيين، فمن المعروف مثلا أن أبا العتاهية الشاعر المشهور الذي قال: "لو شئت أن أجعل كلامي كله شعرا لفعلت.  كان أبو العتاهية قلالا.  ونجد في عصر المأمون للدكتور أحمد فريد الرفاعي (الكتاب الأول ص94) مثالا آخر على انتشار الحرفة الحرة ووصولها الى أعلى الطبقات الاجتماعية:

". . .  وحدث الوضين بن عطاء قال: استزارني المنصور وكانت بيني وبينه خلالة (صداقة متينة) قبل الخلافة.  فصرت الى مدينة السلام فخلونا يوما فقال لي: يا أبا عبد الله مالك؟  فقلت الخير الذي يعرفه أمير المؤمنين.  قال : وما عيالك؟  قلت: ثلاث بنات والمرأة وخادم لهن.  فقال لي: أربع في بيتك؟  قلت نعم.  قال: فوالله لردد ذلك علي حتى ظننت أنه سيموّلني.  قال ثم رفع رأسه الي فقال : أنت أيسر العرب، أربع مغازل يدرن في بيتك!".

 

ولنلاحظ في هذا المثال أن الخادم في بيت ذلك الثري صديق الخليفة لم يُحسب من قبل الخليفة للعمل على النول، بل حسبت بنات الثري وزوجه لذلك العمل.

 

وقد حض الاسلام على تحرير العبيد في مناسبات عديدة وجعل هذا الأمر معادلا للعبادة: كفارة الإفطار بدون سبب مثلا تحرير عبد.  وامتد في هذا الطور في مختلف قطاعات الانتاج النظام الحرفي الحر واتسع وتشعب وقامت عليه جمعيات حرفية لها قوانينها وعلاقاتها العامة والخاصة.  وتطورت العلاقات بين التجارة (التجار والسوق) وبين الحرفة.  واكتسبت الحياة الاقتصادية في كل مجالاتها مرونة ماكان بالامكان بلوغها في إطار النظام العبودي: كانت عبودية اليد المنتجة تشكل عقبة كأداء أمام تطورها وحائلا يمنع تفاعلها الحر مع ما يتممها في مختلف مجالات الانتاج وسدا يقطع الاتصال المباشر بين التاجر وبينها، وهذا بالاضافة الى أن العبودية كانت تولد تقسيما لليد المنتجة بين عدد كبير من الملاك الذين يشكلون طبقة السادة (بدلا من أن تنتمي تلك اليد الى اختصاص أو جماعة حرفية أو قطاع انتاج) وكان هذا الأمر يؤدي الى قيام مختلف العقبات والعوائق التي تعرقل الانتاج وتقيده وفي كثير من الظروف كانت تؤدي به الى أن يأخذ الشكل الطبيعي حيث يستهلك من قبل السيد مالك العبيد المنتجين بدلا من أن يوجه الى الأسواق التي تضمر وتنحط لهذا السبب.  وأدى تطوير العلاقات بين التجار والمنتجين الى قيام أشكال من نظم الانتاج كانت في أساس التقدم الى الشكل الرأسمالي للانتاج: بدأ التجار مثلا في تزويد الحرفيين الأحرار بالمواد الأولية التي كانوا يجلبونها من مختلف مناطق العالم التي كانت تجارتهم تصل اليها، ثم ظهر أسلوب جمع الحرفيين في مكان واحد للعمل لحساب التاجر، ثم ظهر تقسيم العمل الى اختصاصات بسيطة نشأ عنها تطور الآلة الخ.  الى أن ظهرت المعامل والنظام الرأسمالي.  ومن المعلوم أن الحضارة الاسلامية سادت في عصرها بشكل مطلق في حوضة البحر الأبيض المتوسط وحواشيها الافريقية والأوروبية.  وقد ظهرت في أوربا (سيما على شواطئ البحر الأبيض من هذه القارة) منذ القرن العاشر للميلاد يقظة جعلتها تتفتح على الحضارة الاسلامية.  كما كان أهل تلك المناطق القريبة من العالم الاسلامي قد اندمجوا شيئا فشيئا بالحياة الاقتصادية الاسلامية فأضحوا جزءا لا يتجزأ منها، وانتقلت اليهم في النتيجة كل أساليب الانتاج الحرفي المتقدم والتعامل التجاري مع مختلف الأنظمة والعلاقات الاقتصادية التي كانت تقوم في مراكز الحضارة الاسلامية مما أدى في النهاية كما قلنا قبل هنيهة الى تطوير الانتاج الى الأسلوب الرأسمالي.  ولم يكن من باب الصدف أن المانيفاتورة (بذرة الرأسمالية) ظهرت أول ما ظهرت في ايطاليا البلد الذي كانت له صلات بالشرق العربي تجعله جزءا لا يتجزأ من العالم الاقتصادي الاسلامي.  وهنا نضع أيدينا على خطأ فادح ارتكبته الماركسية عندما اعتبرت أن الرأسمالية هي وليدة الإقطاع الأوربي ونقيضته بدلا من أن تعتبرها وليدة الحرفة الحرة ونقيضتها.  فالتاريخ يبين بوضوح أن الصراع الحضاري الحاسم كان بين نظامين، بين طورين: طور الحرفة الحرة المذكور والطور الرأسمالي الناشئ (الصراع بين الشرق والغرب، الصراع والاستماتة من أجل الوصول الى طريق الهند وآسيا حكر التجار المسلمين)، وفي ذات الوقت كان من الضروري كما رأينا أعلاه أن تكون الحرفة الحرة في أول درجات السلم الصاعد الى الأسلوب الرأسمالي.  أما الاقطاع الأوربي الآسن المتوحش فكان لا يمت بأية صلة الى أي انتاج أو نشاط اقتصادي متقدم، وان محاربة الرأسمالية له كانت من أجل توفير مكان لها (أرض نظيفة تقوم عليها) وليس بسبب التنافس معه كما تنافست في أول نشأتها مع أندادهاآنذاك، الحرفيين المهرة المسلمين.  وكان هذا الخطأ قد تولد من عدم رؤية الماركسية لطور الحرفة الحرة والتجارة العالمية واعتبارها أن الاقطاع هو الذي قضى على طور العبودية وأتى بعده كطور عالمي عندما أسقط الجرمن المتوحشون الامبراطورية الرومانية الغربية.

 

وان مما يميز الطور الاسلامي عن سابقه الطور العبودي ولاحقه الطور الرأسمالي هو أنه كان في جوهره وفي الأسس التي قام عليها طورا انسانيا لم تشاهد فيه الفظائع الرهيبة التي ارتكبت طيلة قيام الطورين المذكورين.  ولا حاجة بنا الى التذكير بما كان يحدث أيام العبودية ولكننا نقول أن العرب عندما خرجوا الى العالم خرجوا اليه محررين فما قاموا بابادة الناس ولا أقاموا محاكم تفتيش تحرق كل من يخالفهم بالرأي كما فعل الغزاة الأوربيون بقيادة كهنة كنائسهم في كل أرض أوقعها الحظ العاثر تحت احتلالهم أو حكمهم: في اسبانيا المسلمة وافريقيا الزنجية وأميركا الهنود الحمر!. . .  لقد أباد المستعمرون الرأسماليون شعوبا وأقواما برمتها وسببوا التخلف والجهل ونشروا الأمراض في كل أرض وطئتها أقدامهم، ونحن حتى أيامنا هذه نشاهد مسلسلات عدوانيتهم ووحشيتهم في شتى بقاع الأرض، ونشاهد ما "بنوه" من تخلف باستعمارهم في عالم متسع الأرجاء هو مانسميه اليوم العالم الثالث.  أما الاسلام فقد حمل المنائر الى كل أرض وطئها فقامت الحضارات في كل دياره من سمرقند الى بغداد فدمشق فالقاهرة فالقيروان حيث كان الاسلام، أما "العالم المتخلف" فقد كان خارج ديار الاسلام وكان تخلفه بسبب عدم وصول المسلمين اليه وحكمهم له.  وذلك على عكس ماحدث في العهود الرأسمالية التي زرعت التخلف أو الدمار الشامل حيثما حلت.  وقد أبرز الاسلام حلا رشيقا للمسألة الشائكة الصعبة: مسألة تعايش الأمم المختلفة بسلام وتعاونها، وذلك بتوحيد نفسيتها بعقيدته.  ولا نقصد هنا أن الحروب والخلافات قد انتفت بين المسلمين، فأي طور حضاري لا يمكن أن يتجاوز واقعه المادي، والطور الاسلامي يخضع لهذه القاعدة فقامت فيه الحروب والشيع والمذاهب المتناحرة والمتناقضة، الا أن كل تلك الحروب والخلافات كانت على "السطح" وسببتها مصالح وأطماع ضيقة فلم تنفذ آثارها الى أعماق الجماهير والكتل الاسلامية ولم تنل من الوحدة النفسية لهؤلاء الناس وبقي المسلم أبدا الانسان الطموح الى عالم لا يتفاضل فيه الناس الا بمقدار نفعهم للناس وليس بعرقهم أو لونهم.

 

ان الماركسية قد ارتكبت أيضا خطأ ماديا جسيما عندما ناصبت العداء أديان التوحيد ، وعندما فشلت في رؤية الدور التاريخي الكبير الذي لعبته في تحطيم الطور العبودي وفي سعيها الى توحيد الناس نفسيا.  فهي لم تر منها الا بقاياها الجامدة العجفاء والا مؤسساتها المنحرفة التي تضع امكاناتها لنشر التعصب وكره الانسان للانسان ولخدمة أغراض المستعمرين وكل رجعي ظالم كان الدين قد استمات في فضح ومحاربة أمثاله في أول ظهور دعوته.

 

الرابع: الطور الرأسمالي وقد عرف بالتفصيل في المؤلفات الاشتراكية العلمية، كما سبق وأشرنا الى مااتصف به بناته من وحشية وما ارتكبوه من جرائم بحق الانسان.

 

الخامس: الطور الاشتراكي الذي سيطل في نهاية مرحلة الانتقال التي نمر بها حاليا، وقد تكلمنا عنه فيما سبق بما يكفي لتعريفه.

 

تلك هي الأطوار التي مرت وستمر بها جملة المجتمعات الانسانية أثناء تقدمها في نموها.  ونجد أننا بنظرتنا الى المجتمع الانساني نستند الى مكتشفات بحوث تطور المادة الحية وارتقائها فنتفق تماما مع الماركسية بوجوب رؤية أطوار يمر بها المجتمع تتناسب وحالته المادية ومبلغ تطور وسائل وعلاقات الانتاج فيه، ونختلف معها في تعريف هذه الأطوار، سيما منها الذي أعقب طور العبودية فقلنا أنه يجب أن يكون الطور الاسلامي وليس طور الجرمن الاقطاعيين الذين أغرقوا أوربا في ظلمات التخلف عددا من القرون، ثم أغرق أحفادهم الرأسمالين الأوربيون العالم بالدماء والجرائم.  ونحن نختلف جذريا مع الماركسيين المبتذلين ومع أتباعهم في بلادنا وفي بقية أنحاء العالم في مجال عمل قانون تطور المجتمع فنقول أنه جملة المجتمعات الانسانية وليس مجتمعا معينا أو دولة بذاتها أو عددا من الدول ما تزال متخلفة ماديا عمن تدعي أنها تتقدمه اجتماعيا: ان الأطوار الانسانية كما سبق وقلنا أكثر من مرة هي درجات تكون ونمو الجملة الانسانية برمتها فتمر جميع مجتمعاتها معا في كل منها.

 

و - الأمة:

 

 يقول العرقيون ومن نحى نحوهم أن العروق تتفاضل "بنقاوتها" و "عبقريتها" و "أقدارها المرسومة لها" الخ.  وينتهي بهم الأمر الى تكوين مفهوم الأمة على جوهر لها ثابت (ترتفع قيمته وتنخفض حسب ميزاته وخواصه الأزلية).  ونجد من جهة أخرى أن الستالينية والماركسيين المبتذلين يجعلون من القومية ظاهرة تخص الطور الرأسمالي فلا هي موجودة قبل هذا الطور ولا هي تبقى بعد انقضائه، وهم لايبينون بشكل واضح العلاقة بين الأمة والقومية ويقولون أن مقومات الأمة هي على العموم وحدة الأرض واللغة والاقتصاد والتاريخ.  والواقع أن الأمة مجتمع معقد يتشكل من عدد كبير من المجتمعات الأبسط التي ترتبط بعضها ببعض بمختلف الروابط المناسبة وتتدرج في تعقيدها من أبسطها الذي هو العائلة الى أعلاها وهو الأمة مرورا بالأشكال المختلفة: الحي والقرية والمدينة والقطر وكل تجمع انساني دائم أو مؤقت.  وهي (أي الأمة) ككائن مادي نتاج عملية تاريخية طويلة ومتشعبة ومعقدة بدأت ببدايات جملة المجتمعات الانسانية (بالمشاعات البدائية) وتطورت بسلسلة محددة من التفاعلات الانسانية عبر مختلف الأطوار التي مرت وانقضت في الجملة الانسانية.  فيخضع اذن جوهر الأمة ومحتواها لعدد لا حصر له من العمليات التاريخية التي ترتقي بهما الى النضج (في حالة استمرار عملية تكامل كيان الأمة حتى نهايتها) فهما ليسا أزليين ولا جامدين.  وليست بدايات الأمة واحدة (كما يدعي العرقيون) بل تتعدد في المكان والزمان، وبعبارة أخرى يكون لها على العموم عدد من الينابيع تقوم في أمكنة مختلفة وفي أزمنة متعددة وتخرج منها روافد تلتقي بعضها بالبعض الآخر وتتفاعل بشكل دائم ومتطور بتفاعلات تقيم فيما بينها في النتيجة جملة من القرابات التي توحدها عضويا وتجعل من جملتها (من الأمة) ركنا من أركان جملة المجتمعات الانسانية: تكونت مثلا الأمة العربية في منطقة البحر الأبيض المتوسط المار ذكرها وتعريفها أعلاه من عدد من الروافد التي صهرتها الأحداث والتفاعلات التي قامت في هذه البوتقة الهائلة طيلة عصور التاريخ.  فالرافد الذي خرج من الجزيرة العربية ما كان هو الوحيد الذي ولد المحتوى الانساني للامة المذكورة وان كان لها بمثابة العمود الفقري عندما وحد أرضها ولغتها ونفسيتها بالثورة الاسلامية الكبرى التي اضطلع بها.  ففي الأطوار التي سبقت الطور الاسلامي ما انفكت التفاعلات الحضارية المتنوعة عن الوقوع بين مختلف الروافد المذكورة: قيام الامبراطوريات المتعاقبة التي كانت تضم التشكيلات المختلفة من الروافد العربية، ووقوع الهجرات المتقابلة بين مختلف الأقطار العربية، وورود هجرات كثيرة الى هذه الأقطار من المناطق الأخرى للجملة الانسانية، وقيام شتى العلاقات التجارية التي ما كانت تنقطع فيما بينها الخ.  فكانت كل هذه الأحداث التاريخية كمقدمة وأساس لا بد منه لحدوث ذلك الالتحام الحاسم بالثورة الاسلامية الكبرى بين الروافد المذكورة.  كذلك الأمم الأميركية تعطينا نماذج أخرى لتكون الأمم بانصباب العديد من التيارات الانسانية المختلفة على أرض محددة عند تكون كل أمة منها.

 

قلنا أن الأمة هي ركن (عضو) متميز في كيان جملة المجتمعات الانسانية.  أي أن هذا الكائن عندما نشأ وتقدم في رقيه وتكامله برزت له (ككل الكائنات الحية) خلايا وأعضاء وأجهزة كل واحد منها متميز بكيانه المادي وموقعه ووظائفه.  فالأمة التي رأينا أنها مجتمع معقد يتشكل من عدد كبير من المجتمعات المتنوعة (من "الخلايا" و "الأنسجة" والأجزاء المختلفة الأبسط) هي عضو متميز في الجملة الانسانية.  فمن جهة نجد أن هذا العضو ينشأ ويرتقي مع الجسم الكل (مع الجملة الانسانية)، ينشأ بالتقاء وتفاعل وترابط مختلف مقوماته، مختلف روافده وفروعه، ومن جهة ثانية تكون له وظيفة متميزة في الجملة (يكون له دور يحدد هويته) وظيفة تتطور بتطوره.  وهنا نضع يدنا على القرابة الحاسمة الجامعة لكل القرابات التي توحد عضويا في الجملة الانسانية مختلف روافد الأمة وكل ما فيها من تجمعات انسانية، وهي تواجد كل هذه العناصر في مجموعة عضوية واحدة تكون عضوا متميزا في الجملة الانسانية، تكون عضوا له وظيفة محددة (دور معين) في الجملة الانسانية.  ان روافد الأمة العربية مثلا انتمت الى حوضة البحر الأبيض المتوسط المعرفة أعلاه، وهي من جهة تفاعلت وترابطت بشتى الروابط طيلة الأطوار التاريخية التي مرت فتكونت منها في النتيجة الأمة العربية، وهي من جهة أخرى قامت (في أثناء تفاعلها وتقدمها في عملية الالتحام لتشكيل الأمة) بدور متميز في نمو وتكامل الجملة الانسانية عندما أنجزت كل المهام الحضارية المعروفة: حضارات النيل وما بين النهرين والشمال الأفريقي والجزيرة العربية والنشاط التجاري الفينيقي والمساهمة الفعالة في حضارة اليونان والرومان الخ.  ثم الثورة الاسلامية الكبرى التي وحدت الانسان في جملة انسانية واحدة تضمنت حوضات المدنيات الثلاث التي أشرنا اليها أعلاه: حوضة البحر المتوسط وحوضة الهند وحوضة الصين.  فالأمة اذن ليست تجمعا انسانيا مؤقتا يخص طورا معينا من الأطوار الانسانية، بل هي كائن ركن في كائن كلي هو جملة المجتمعات الانسانية فيدوم بدوام دوره في هذه الجملة.  ومن الطبيعي أن يتميز هذا الكائن بميزات دائمة نسبيا كالنفس الموحدة والأرض الموحدة واللغة الواحدة، وبميزات عابرة كالدولة عندما تتوحد الأمة في دولة واحدة، والاقتصاد في الدولة الواحدة وهو يختلف باختلاف الطور الانساني ويتغير بتغير السوية المادية للأمة.  وهنا نجد أن ما اعتبرته الستالينية مقومات الأمة: وحدة اللغة والأرض والاقتصاد والنفس وما شابه، ليست في الواقع الا نتائج لا بد من ظهورها بعد كل تلك السلسلة التاريخية الطويلة من التفاعلات التي قامت بين مختلف روافدها التي التقت وكونتها: قد توجد الأمة مقسمة بين عدد من المستعمرين فيكون لها أكثر من اقتصاد واحد، وتتجزأ أرضها وتتباعد لهجات التخاطب فيها، كما جرى مثلا للأمة العربية عندما جزأتها الرجعيات المحلية واقتسمها المستعمرون، الا أن هذه الأمة تبقى ما بقي دورها في جملة المجتمعات الانسانية، ولا يمكن لظروف عابرة (ظروف استعمارية أو رجعية) أن تمحو ما وقع عبر تاريخ طويل من أحداث نشأت خلالها وتكاملت فيها ميزات أمة.  وان الأمة عندما تضطلع بدور في بناء جملة المجتمعات الانسانية فانها تنشأ وتتقدم بما ينعكس عليها من أفعال وتفاعلات تاريخية من جراء قيامها بدورها المذكور وهي تستمر في الوجود ما استمر لها دور عبر الأطوار الانسانية الصاعدة.  ان الأمة العربية مثلا على الرغم من تجزئها الحالي وتخلفها تقوم بدور حضاري في غاية الخطورة في هذا العصر وهو مقاومتها وكفاحها أشد أنواع القهر والرجعية المعروفة في تاريخ الانسان: شبكة الرأسمالية- الصهيونية الواقفة في طريق تقدم الجملة الانسانية الى الطور الأعلى (طور الاشتراكية).  وان نجاح هذه الأمة في بناء دولتها الاشتراكية الكبرى الممتدة على أرض شاسعة تفصل المستعمرين والطامعين في العالم من المقهورين المستضعفين وتحتكر محرك الحضارة الحديثة: البترول:، ناهيك عن الثروات الهائلة الأخرى، ان هذا النجاح سيؤدي الى القضاء المبرم على بقايا طور الخزي والعار الذي سبب كل ذلك الشقاء لبني الانسان، على بقايا الامبريالية الرأسمالية.

 

وتكامل نمو وارتقاء الأمة لا يتم الا بزوال الطبقية بين الأمم وفي كل أمة.  أي في مرحلة متقدمة من الطور الاشتراكي المقبل، عند زوال كل شكل من أشكال القهر و "الوصاية" لأمة على أخرى وكمال التعاون البناء بين جميع الأمم.  ذلك لأن الأمة التي تبقى لديها حوافز العدوان على الأمم الأخرى لتستفيد من ثرواتها في بناء مؤسساتها ونظامها هي أمة لا تملك كل المؤهلات المادية للتعاون مع الأمم الأخرى فهي بالتالي غير مكتملة النمو.  كذلك الأمة المقهورة التي لا تستطيع تحقيق كيانها المستقل هي بطبيعة الحال غير مكتملة النمو أيضا.  وفي العهود الطبقية التي مرت (لاسيما منها عهود العبودية والرأسمالية المتسمة بالفظائع المرتكبة ضد بني الانسان من قبل كل أولئك الذين تجاوزوا حدودهم وذهبوا الى بلاد الآخرين في غاية سلبهم ثرواتهم فقط وليس لتحريرهم) نقول في تلك العهود كانت المجتمعات في الجملة الانسانية بين حاكم ومحكوم فكانت لذلك الأمم تمر في أطوار التكون.  فنجد اذن أن عملية نمو وتكون الأمة تتطابق مع عملية نمو وتكون الجملة الانسانية، وهذا أمر طبيعي لأننا سبق وقلنا أن الأمة تشكل عضوا (ركنا) في جسم الجملة المذكورة، فنمو الجسم وتمام نموه لايكون الا بنمو أعضائه وتمام نموها.  ويكون الطور الاشتراكي هو طور ازدهار الأمم وكمالها وليس طور زوال الأمم واضمحلالها كما يزعم الماركسيون المبتذلون.  أما الدولة فتبلغ أيضا حد الكمال في هذا الطور وتتمثل ببنيان يقوم على نظام تعاوني بين الأمم المختلفة بالغ التطور والتعقيد بدلا من أن يقوم على نظام قهر في الداخل وعدوانأ و صد عدوان في الخارج.  ونجد على العموم أن الجملة الانسانية تنمو وترتقي عبر الأطوار التاريخية المتتابعة بنمو وارتقاء أنظمتها التي تقوم عليها في كل زمان وليس باضمحلال وزوال كل نظام فيها، فالذي يزول هو البالي ويبقى المتقدم الى أن يبلى.  أما الذي يبقى أبدا فهو النظام: يذهب النظام البالي الا أن نظاما آخر يتلوه هو النظام المتقدم.  وان النظام الذي تقوم عليه الدولة في أمة من الأمم هو الذي يحدد الشكل (الملامح) الذي تقوم فيه هذه الأمة كعضو في الجملة الانسانية فيرتقي اذن بارتقاء هذه الجملة وذلك العضو ولا يزول (والبون شاسع بين الارتقاء وبقاء الهوية والزوال بزوال الهوية).  ومع التقدم المادي والارتقاء تتسع آفاق الحرية وتتعدد أبعادها الى مالانهاية له، فالحرية كالمنع هي من مظاهر النظام ولا يمكن كسبها الا بتطوير النظام الذي لا بد منه في كل أحوال المادة فلا يمكن إزالته وان أمكن العودة به القهقرى.  أما المنع (موانع النظام) فهو خلاف القهر الذي يعطل الحرية ويجمد تطور النظام، انه الحاجز الذي يحمي المادة من الانحلال والزوال فلا بد اذن من قيامه ما دامت المادة مصونة: لبقاء الحياة تمنع المخاطر الا أن القهر يجمدها ويعطل حريتها.  فنظام الدولة اذن يضمحل فيه القهر بتقدمه وتزداد فيه الموانع (بازدياد الأخطار المحيطة) وتتسع آفاق الحرية (باتساع الامكانات).

 

وينشأ مع نشوء الأمة وتكونها خلال الأطوار التاريخية عدد من المفاهيم والعقائد التي تنتشر في مختلف روافد الأمة وعناصرها وتتطور بتسلسل التجارب والأحداث الى الزمن الذي يبلغ فيه تراكمها حدا ينجلي معه الوعي في كل تلك الكتل الانسانية المساهمة في بناء الأمة بوحدة الانتماء (بالهوية).  ويقوم هذا الأمر بطبيعة الحال في الوقت الذي يتضح فيه دور الأمة في بناء جملة المجتمعات الانسانية وتتضح معه الملامح والخطوط العامة المحددة لكيانها في هذه الجملة.  ويعلمنا التاريخ أن ظهور الأمم في جملة المجتمعات الانسانية ما كان في وقت واحد ولا في طور وانما بحسب اكتمال ملامح دورها (وظيفتها) كما قلنا قبل هنيهة ، كما أن قيام الأمم بدورها في الجملة الانسانية وتكونها ما كان سلميا في اطار تعاوني بين مختلف المجتمعات وانما من خلال التناقضات الحادة والحروب التي طالما وصلت الى حد تفاني المتخاصمين.  وتقوم مع الوعي بوحدة الانتماء (تقترن بالهوية) عقيدة غالبة تنتشر بين مختلف العناصر الآخذة بتكوين الأمة وتعبر عن الجوهر المشترك الذي يوحد نفسية هذه العناصر (يجعلها متكاملة لتشكيل وحدة) للقيام بدور معين في بناء وتقدم الجملة الانسانية في إطار مجموعة انسانية متطورة نحو مستوى الأمة الموحدة التامة النمو.  وقد يتضمن الدور المذكور (الذي لا يشترط فيه أن يكون ايجابيا على الدوام) تعطيل أدوار مجتمعات أخرى في الجملة الانسانية كما ينطوي على مقاومة تعطيله وايقافه من قبل الأمم الأخرى أثناء اضطرام الجملة المذكورة بتناقضاتها.  وان تلك العقيدة الغالبة هي ما نطلق عليه تعبير "العصبية القومية" أو "القومية" باختصار، وهذه كما نراها ليست أمراً محصوراً بزمن محدد أو دور معين (كالطور الرأسمالي مثلا حسب ما ادعته الماركسية المبتذلة) وانما هي مفهوم تاريخي دائم بقدر دوام الأمة ومتطور بتطورها، نجد بذرته في العائلة منذ المشاعة البدائية ، ونجده يتسع مع الزمن ويتطور ويتعقد بتقدم بنية المجتمعات وتقدم العلاقات فيما بينها فيتجاوز حدود العائلة الى العشيرة فالقوم (رافد الأمة) فالأمة.  فاذا كانت القومية في الطور الرأسمالي تتميز بعدوانية المتقدم الامبريالي وطموح المقهور الى الانعتاق فذلك لأنها تأخذ بالضرورة صفات هذا الطور الذي تمر فيه.  وهي في الطور الاشتراكي المقبل ستأخذ شكل القومية المتعاونة في جملة القوميات الأخرى في الجملة الانسانية.  أي أن ما يزول منها هو الصفة العدوانية وليس وجودها بأكمله، فهي متطورة متحولة وليست عابرة مؤقتة تخص طورا بذاته أو حقبة زمنية محددة.  فنرى في النتيجة أن الطور الاشتراكي هو طور ازدهار القوميات ببلوغها مستوى الكمال عن كل ما باستطاعة الأمة تقديمه في حلبة التعاون بين مختلف قوميات الجملة الانسانية (المعبر عن كل الامكانات المادية الايجابية).