ملامح الطور الانساني الأعلى

 

الفصل الثاني

الطور الرأسمالي في آخر مراحله

 

الفردية والجماعية

 

يمكن القول أن الانسان المتشابه على العموم بتكوينه تتشابه أيضا حاجاته الأساسية للبقاء على قيد الحياة.  وتكون الحياة العامة بداهة أطيب وأيسر بمقدار توفر ما يسد حاجاتها في ظروف عادلة وتسوء وتنحدر الى الشقاء بتفاقم الصعوبات لسد الحاجة وتفاقم الظروف الظالمة.  ولكن الحاجة لا تسد الا بالسعي المناسب.  هنا يبدو لنا أن الانسان وقع منذ أن وجد في المجتمعات التي أحرزت قدرا كافيا من التقدم الروحي والمادي تحت تأثير نوعين طبيعيين متعارضين من الدوافع المحركة له في سعيه للحفاظ على وجوده:

 

النوع الأول: يتضمن كل الدوافع الفردية التي تريه مجتمعه وكل ما يحيط به من عالم الأحياء والطبيعة موضوعا يستخلص منه بنشاطه الفردي كل ما يفيده في البقاء والاستمرار المادي والروحي في عالم جنسه الانساني الحي المستمر.  وتتراوح هذه الدوافع بين الأنانية، التي تجعل من الذي تستولي عليه مجرد "صياد" متفرد في خضم محيطه لا يهتم الا بالصيد الذي يحصل عليه، وبين ما يدفع الفرد الى أن يدخل في علاقات مناسبة مع أمثاله لتحقيق كيان يعمل على تحقيق ما يسد ويطور حاجات كل فرد من هؤلاء الشركاء وحاجات مجموعهم.

النوع الثاني: يتضمن كل الدوافع التعاونية التي تنطلق من كون الانسان "حيوانا اجتماعيا" فلا ينشط الا في إطار مجتمع انساني.  ذلك لأن الشكل الانساني للحياة في منطقتنا الكونية لا يحقق حاجاته المتنوعة ولا يتقدم في مسيرته على دروب النشوء والارتقاء الا من خلال مجتمعه وهو يتلاشى بالعزلة.  وتتراوح الدوافع التعاونية بين تلك الدافعة الى جعل غاية التعاون مصلحة الفرد قبل أي أمر آخر وبين الغيرية التي تسعى الى نفع الغير والمجتمع قبل نفع الذات.

 

وتقوم في إطار الدوافع الآنفة الذكر وعلى أساسها مختلف القوى والتجمعات الانسانية المتفاعلة في كل مجتمع وبين مختلف المجتمعات بتفاعلات تتناسب مع ظروف التقدم الانساني.  وتنشأ وتتقدم بنتيجة التفاعلات الانسانية وبنتيجة  المحصلة الايجابية لسعي الانسان في إطار الجماعة سلسلة الحضارات العالمية وتتكدس هنا وهناك في الجملة الانسانية القيم والثروات. هنا لا بد لنا من الانتباه الى أمر بديهي طالما أهمل وألقي في الظل على الرغم من وضوحه وبساطته وهو: أن الحضارة لا بد وأن تكون حضارة جملة المجتمعات الانسانية ولا يمكن أن يعود الفضل في بنائها الى مجتمع واحد أو عدد محدود من المجتمعات ولا بد لقيامها، كحضارة تامة الأبعاد المناسبة للطور الانساني القائم، من تضافر كل المجتمعات، في الجملة الانسانية القائمة، في عملية بنائها.  وهذا ما وقع بالفعل عبر التاريخ الانساني. فالانسانية المترابطة في جملة مجتمعات واحدة ساهمت دوما بكليتها في بناء كل حضارة سادت في جملتها، كل مجتمع من مجتمعاتها، متقدما كان أو متخلفا، ساهم في كل الأدوار التاريخية بانجاز ناحية من نواحي البناء الحضاري، بالعمل الفكري أو بالعمل العضلي.  وعباقرة الحضارة هم أولئك الذين فهموا جيدا منجزات مجتمعات عصرهم فصاغوها بصيغ صحيحة وأعادوها الى تلك المجتمعات التي تقوم بهضمها وإضافتها الى مخزونها الحضاري، فكرة وتطبيقا، ليأتي عباقرة آخرون ليستفيدوا من هذا المخزون ويقدموا استنتاجاتهم كما فعل أولئك الذين سبقوهم وكما سيفعل من يأتي في آثارهم.  وليس هنالك من حضارة خارج جملة المجتمعات الانسانية كما لا يمكن أبدا تصور عبقرية بمعزل عن مجتمعها في هذه الجملة.  ثم ان حقائق الحضارات تتكشف في صميم الحياة الاجتماعية ومن خلال تفاعل المجتمعات فيما بين بعضها بعضا.

 

ان الثروات والقيم المتكدسة بنتيجة قيام الحضارات هنا وهناك في جملة المجتمعات الانسانية هي اذن بحسب ما سبق ثروات وقيم اجتماعية تتناسب بحجمها وشكلها ودرجة تقدمها مع تقدم الحضارة التي ولدتها.  أما الفرد الواحد فان مساهمته في انشاء كل ثروة وقيمة في مجتمعه تبقى محدودة كجهد وعناء ولا تختلف كثيرا عن مساهمة الأفراد الآخرين في بناء قيم مجتمعهم وان جعلته الظروف الاجتماعية مالكا أضعاف ما ساهم بانتاجه.  فلا حاجة بنا اذن للتأكيد على استحالة رؤية فرد يتمكن من تكوين ثروة قيم بمعزل عن مجتمعه، بل ان سوية ما يتوفر للفرد الواحد العادي في كل مجتمع ترتبط بدرجة تقدم مجتمعه: ان بيت فرد المجتمع الرأسمالي مثلا يختلف كليا بسويته عن مغارة فرد المشاعة البدائية.

 

وتتغلب الدوافع الفردية المائلة الى الأنانية في مجتمعات الجملة الانسانية المتخلفة عن الأطوار التي تتكافأ فيها ذوات الناس جميعا.  فيعم فيها عندئذ التنافس والصراع بين مختلف الأفراد وتنشأ وتستفحل القوى الاجتماعية المتعارضة المتصارعة في خضم التسابق للحصول على أفضل المواقع المتحكمة بنظام المجتمع القائم.  وتكون النتيجة استفحال ذوات تلك القلة التي تمسك بالمواقع المذكورة على حساب تقهقر ذوات الكثرة الساحقة من أفراد المجتمع لتتلاشى الشرائح العريضة منها في العبودية.  وأمثلة هذه الأحوال الاجتماعية نجدها في عبودتي الرق والرأسمالية.  ونجد في النتيجة أن تحكم القلة بالمجتمع يجعل ثرواته وقيمه الناتجة بيد هذه القلة ومن يلوذ بها.

 

ان المجتمعات الانسانية، وخاصة منها المجتمع الكبير الشامل الذي هو الجملة الانسانية، يحكمها نظام يتضمن كل العلاقات القائمة فيها بين مختلف الأفراد والجماعات والقوى.  وهي في تقدمها المادي والروحي في كل أطوارها المتخلفة تنتقل من حال الى آخر عبر الأزمات الحادة التي تعصف بعلاقاتها البالية لتقوم فيها الجديدة المرممة نظامها العام.  وفي النهاية تقع فيها الأزمة الزلزال التي تطيح بالنظام البالي القديم ليقوم الجديد الذي يحكم الحالة أو الطور الجديد للجملة الانسانية.  فالنظام هنا في الأطوار المتخلفة يوحد بعلاقاته المختلفة بين متضادات اجتماعية تولد بمختلف نشاطاتها على مر السنين تراكمات مادية وروحية هنا وهناك في الجملة الانسانية يضيق بها النظام المذكور وتحدث نتيجة لذلك الأزمات التي تنقل المجتمع من حال الى حال من آن الى آخر الى أن تبلغ تلك التراكمات الروحية والمادية مبلغا لا تتحملها معه علاقات النظام العام وارتباطاته فيقوم الزلزال الكبير الذي يفجر هذا النظام ويطيح بالحالة أو الطور القائم لصالح الجديد.

 

ان الأزمة اذن هي الخلل الناشئ في النظام القائم عن بطلان بعض أو كل علاقات هذا النظام وفسادها حيث تقوم الدوافع الى التغيير واقامة علاقات جديدة تصلح لاستيعاب وتطور المستجدات الاجتماعية المادية والروحية.  والنقطة التي يقف عندها المجتمع قبل التحول مباشرة من القديم الى الجديد هي نقطة حرجة تتفرع منها الاتجاهات المختلفة نحو شتى الاحتمالات التي ستحدث.  وبالامكان تركيب كل هذه الاتجاهات المختلفة في اتجاهين رئيسيين:

 

الاتجاه الأول: اتجاه اصلاحي تقوم به قوى الرجعية الممسكة بالنظام القديم لاقامة نظام جديد لا يختلف في جوهره عن السابق.  وبالتالي لا يحقق سوى مرحلة جديدة في الطور الانساني القائم.

الاتجاه الثاني: اتجاه ثوري يقوم به الثوار على النظام القديم لقلبه وإقامة الطور الانساني الجديد.

 

ولنعط فيما يلي بعض الأمثلة المادية على هذه الأمور التي أتينا عليها هنا، ولنحصر هذه الأمثلة في مجريات الطور الرأسمالي في آخر مراحله.

 

 

الاحتكار في أعقاب تنافس الصغار

 

تقول الموسوعة بريتانيكا: "ان كلمتي اشتراكي واشتراكية وردتا في الاستعمال في بريطانيا وفرنسا باكرا بعد عام 1825 فاستعملتا أولا في مذاهب بعض الكتاب الذين كانوا يبحثون في التحول الكامل للأسس الاقتصادية والأخلاقية للمجتمع، وذلك بإحلال الضابط الاجتماعي مكان الفردي، والقوى الاجتماعية مكان القوى الفردية في تنظيم الحياة والعمل. وكلمة اشتراكي استعملت على ما يبدو لأول مرة في بريطانيا في مجلة "التعاون" عام 1825 لوصف أتباع "روبرت أوين"، وفي فرنسا في مجلة الكرة عام 1832 للاشارة الى أتباع "كلود هنري دي روفروا كونت دي سان سيمون".  وغدا العنوان الرسمي لأتباع "أوين" في بريطانيا "الاشتراكيين" اعتبارا من عام 1841. ونشر "بيير لورو" و"جوزيف رينو" كلمة اشتراكية في " الموسوعة الجديدة"، التي كانا يصدرانها، وفي كتابات أخرى لهما كنقيض للفردية.  ومنذ عام 1840 شاعت كلمة "اشتراكية" في أوربا للدلالة على مدرسة "سان سيمون" و "فرانسوا فورييه" و "أوين" وآخرين الذين كانوا يهاجمون نظام التنافس ويقدمون مقترحات من أجل طريقة جديدة للحياة تستند على الضبط الجماعي.  وهذه المدارس الاشتراكية صنفت بعد هذا من قبل كارل ماركس وفريدريك أنجلز كاشتراكية "طوباوية" متميزة من الاشتراكية "العلمية" القائمة على المفهوم المادي للتاريخ الذي كانا من رواده." انتهى قول الموسوعة بريتانيكا.  وقد كان لنا تعليق عليه، نشر في صدر ترجمة لبحث "الخبز والبنادق" لمؤلفه الاقتصادي البريطاني "نايجل هاريس"، وقلنا في هذا التعليق : "أن هذه الكلمة لبريتانيكا تبين لنا بوضوح أن أفكار الاشتراكية برزت في أزمات الرأسمالية التي أنهت مرحلة التنافس الرأسمالي الحر بين العديد من صغار الرأسماليين، وذلك لاستبدال الفردية السائدة في كل مجالات الحياة الاجتماعية بالتعاون والجماعية.  ولكن الاحتكار في كل مجتمع متقدم من المجتمعات الرأسمالية كان الرد حينذاك على أزمات النظام وثورات الاصلاحيين.  فمسخ التعاون بطغمات كبار الرأسماليين وأجهضت الجماعية بالضوابط الاحتكارية ".

 

ولننظر الى وصف للأحوال الاقتصادية والاجتماعية في محاضرات الأستاذ "جان مرشال" التي ألقاها على طلبته في حصص الاقتصاد السياسي في كلية الحقوق في باريس في مطلع النصف الثاني من هذا القرن العشرين.  والأستاذ غني عن التعريف فهو واحد من كبار العلماء المختصين بهذا الفرع الهام من المعرفة الانسانية في تلك الأيام ومن كبار منظريه الرأسماليين الصادقين. يقول الأستاذ في الفصل الرابع من محاضراته المذكورة تحت عنوان "الصراع بين الفردية والتحرر" مايلي: "كان مفكرو وحكام بدايات القرن التاسع عشر فرديين وأحرارا في آن واحد. لقد كانوا يعتقدون أنهم يعطون الفردية فرصة ممارسة وضمان الحرية في آن واحد عندما كانوا يلغون التنظيمات النقابية ويقررون أن السلطات العامة يجب أن لاتتدخل في أي ظرف في المجال الاقتصادي.  ولكن التجربة بينت في الواقع أن هناك تعارضا بين المبدأين.  ففي نظام لا تلجم فيه المبادرة الخاصة بأي من القواعد يمكن أن يحدث، بل من الضروري تقريبا أن يحدث، أن الأقوياء يستفيدون من التسهيلات الممنوحة لهم لقهر الضعفاء.  فالفردية المستفحلة للبعض تنتهي الى إلغاء حرية الآخرين. فتتحقق عندئذ الكلمة الشهيرة للأكادمي "لاكوردير" حيث يقول: "بين القوي والضعيف، انها الحرية التي تقهر والضبط الذي يحرر".  هنا يبدو ضروريا الاختيار بين الفردية والحرية. فاذا أردنا الحرية يجب أن نضع حدودا للمبادرات الفردية.  وقد نضج هذا الصراع بين الاتجاهين بعد أن كمن منذ أوائل القرن التاسع عشر. وبرز في حوالي عام  1880  في مجالين: في علاقات المنتجين فيما بين بعضهم بعضا.  وفيما بين المنتجين كجهة واحدة وبين الشغيلة كجهة مقابلة. وتفاقمت الأمور (بنتيجة تنافس المنتجين الصغار و الصراعات الاجتماعية من كل الأنواع) طوال القرن التاسع عشر وانتهى الأمر الى أن الأقوياء أزالوا الضعفاء، المشاريع الأكبر طردت الأصغر، وترك تنافس الصغار الساحة للاحتكار، لاحتكار فرد أو قلة من الأفراد".  انتهى قول الأستاذ مرشال.

 

نقول اذن أن الصراعات الاجتماعية الوحشية الناشئة عن التخلف المادي والروحي رافقت قيام العبوديات بكل أشكالها في جملة المجتمعات الانسانية.  وقد تفاقمت العبودية على الأخص في النظام الرأسمالي الذي ساق أصحابه الأوربيين الى الحروب الدموية والمذابح وثورات الناس المقهورين طوال كل تاريخه.  وعندما بلغ طور هذا النظام مرحلة التنافس الحر من منتصف القرن الثامن عشر الى منتصف القرن التاسع عشر بلغت أزماته أوجها فقامت الثورات في كل البلاد الأوربية للتحرر من الطبقات الرجعية أو لتحقيق طموح وطني، لتحقيق وحدة أو للخلاص من احتلال أجنبي، وذلك الى جانب الحروب العدوانية التي شنتها هذه البلاد الرأسمالية على أمم الأرض لنهب ثرواتها.  فبرزت في البدء، كما رأينا أعلاه، كتابات الاشتراكيين الطوباويين وكتابات الاقتصاديين من مختلف الاتجاهات الاجتماعية والفلسفية، وكلها كانت تركز على ما سببته فوضى التنافس الاقتصادي والصراعات الاجتماعية من الآلام والمصائب للانسان الأوربي، بغض النظر عما سببه النظام الرأسمالي من كوارث وفواجع لبقية انسان الكرة الأرضية عندما ذهب الأوربيون باستعمارهم ينهبون ثروات الأمم ويبيدون أجناسها ويحرقون مدنها ويهدمون حضاراتها ويلجمون تقدمها.  ونشأ في النتيجة عن المسيرة العالمية العامة قيام التيارين المتعارضين في أوربا مقر قيادة النظام الرأسمالي العالمي: التيار الثوري الداعي الى الخلاص نهائيا من هذا النظام العبودي الرأسمالي ويهتدي بالنظرية الاشتراكية العلمية، والتيار الاصلاحي الرجعي الهادف الى إبقاء جوهر النظام الرأسمالي بعد إدخال الاصلاحات اللازمة عليه ليلائم ما تفرضه الظروف الاجتماعية التي استجدت ويستعين للوصول الى غاياته بما حققه العلم وتجاربه في مختلف فروعه من منجزات.  وهذان التياران ناديا معا بوجوب الخلاص من فوضى اقتصاد يقوم على تنافس العديد من المنتجين الصغار وصراعات القوى الاجتماعية المحدودة في إطار العائلات واستبدال هذا الاقتصاد بآخر تتجمع فيه مشاريع الانتاج بكائنات اقتصادية واسعة ضخمة.

 

لم تعط الاشتراكية الطوباوية برنامجا عمليا واضحا ينتقل على أساسه المجتمع الانساني من الطور الرأسمالي العبودي الى الطور الذي تتحقق فيه أمنيات الاشتراكيين الأوائل الى واقع.  وانما كانت كتاباتهم ومساعيهم مجرد تمنيات بقيام مستقبل أفضل مع تنبيه الى ما بلغه نظام التنافس الحر الرأسمالي من انحطاط وما كان يسببه هذا النظام بأزماته الخانقة من مصائب للناس وما كانت تجلبه حروبه من خراب وإهراق دماء.  ومما لاريب فيه أنه كان لهذه الكتابات دور فعال في ايقاظ الرأي العام وتوجيهه نحو وجوب البحث عن بديل لذلك النظام الرأسمالي المتخلف.  وكان تقدم البحوث العلمية العاصف وما نشأ عنه من ارتقاء وسائل الانتاج واتساع فعاليتها ومردودها وتفاقم تعقدها وارتفاع تكاليفها أن أصبح قيام المؤسسات العملاقة للانتاج ضرورة ملحة وأمرا حتميا.  ولكن إقامة مثل هذه المؤسسات بإمكانات الفرد الواحد الرأسمالي أصبحت صعبة ان لم نقل مستحيلة على العموم.  ولنلق اذن فيما يلي نظرة عاجلة على التيارين الآنفي الذكر الداعيين الى تجميع مشاريع الانتاج بكائنات اقتصادية واسعة ضخمة.

 

 

التيار الاشتراكي العلمي

كانت المنابع الفكرية لهذا التيار بحسب ما أشار اليه رائده كارل ماركس بحوث الاقتصاديين الكلاسيكيين الانجليز التي ازدهرت خلال القرن التاسع عشر والفلاسفة الألمان والكتاب الانسانيين الطوباويين الفرنسيين.  وقد صدر البيان الشيوعي لكارل ماركس وفريدريك أنجلز في عام 1848 في ذروة تفسخ وأزمات مرحلة التنافس الرأسمالي الحر في أوربا: في هذه السنة قامت الثورة التي أسقطت الملكية في فرنسا وأقامت الجمهورية الثانية، وسقط مترنيخ رئيس وزراء الامبراطورية النمسوية والزعيم المؤسس للحلف المقدس في أوربا الذي كان يناهض كل "خروج" على "الشرعيات" الرجعية العالمية حتى لو كانت ثورة مسيحية قي البلقان ضد السلطان المسلم، تماما كما تفعل حاليا الولايات المتحدة الأميركية عندما تزعمت حلفا عالميا انقضت به على العراق بحجة الدفاع عن "الشرعية" الدولية، وتحركت الثورة الايطالية من أجل الوحدة وطرد المحتل النمسوي من ايطاليا. واشتعلت حرب وراثة العرش الاسباني، وغيره وغيره.  وكان البيان المذكور منطلق حركة فكرية ثورية عالمية تمت وتطورت عبر بحوث واسعة التنوع تناولت عاى العموم المواضيع الاجتماعية على أنواعها الاقتصادية والسياسية والتاريخية ومواضيع الفلسفة متخذة فيها جانب المادية الجدلية ضد كل غيبي فيما وراء الطبيعة وضد الماديات المبتذلة على العموم.  وقامت في سياق الحركة الفكرية المذكورة عقيدة الثورة التي هدفت الى إحلال الاشتراكية مكان الرأسمالية في المجتمع، قامت الماركسية.

 

لقد قلنا دوما أن الثورات وجدت أبدا كظاهرة من ظواهر الحياة فقامت دائما في ظروفها المناسبة في جملة المجتمعات الانسانية.  وهي تتنوع بأهدافها وأسبابها. الا أنه بالامكان أن نميز بين نوعين عامين منها: الثورات العالمية والثورات المحلية الخاصة.  فثورة أكتوبر مثلا هي من أضخم الثورات العالمية التي لم تغير مجرى تاريخ الشعب الروسي الذي قام بها فحسب وإنما كانت سببا أساسيا في تغيير مجرى التاريخ الانساني المعاصر.  أما ثورة كرومويل المحلية فاقتصر أثرها على بريطانيا.  لقد كانت الأولى نتيجة حركة أممية تهدف الى نفي طور الرأسمالية السائد في جملة المجتمعات الانسانية بطور الاشتراكية وجعل هذا الأخير هو السائد في هذه الجملة.   وبالتالي تغيير النظام العالمي وقلب علاقاته رأسا على عقب من كل النواحي الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.  ولم تغير ثورة كرومويل شيئا في مجمل النظام الاجتماعي أو الاقتصادي البريطاني كما لم يكن لها على العموم أي علاقة مؤثرة بالمجتمعات الأخرى.  وقد وقفت أفعالها عند إزالة بعض الشذوذ في مسيرة الرأسمالية الانجليزية.  وبديهي أن تستند الثورة الى عقيدة تبين الأسباب الدافعة لقيامها والغايات التي ترمي اليها مع كل المبررات الهادفة الى كسب قناعات الناس وانتصارهم لها، الى عقيدة يتسلح بها الثوار لشد عزائمهم وتعميق ايمانهم بعدالة أفعالهم أولا، وللتوسع بعد ذلك في دعوة الناس الى قبولها والايمان بها.  ثم ان التجارب التي عاناها الانسان طوال الدهور الطويلة لنشوئه وارتقائه أكسبته كل المعارف التي أقام عليها مختلف عقائده. ومما لا ريب فيه أن العقائد لا تقوم الا على المفاهيم الحاصلة في المكان والزمان المناسبين.  فصدور البيان الشيوعي في مستعمرات الأوربيين في القرن التاسع عشر مثلا كان غير محتمل كاستحالة تصور انشائه في أوساط قبائل الجاهلية في الجزيرة العربية أو من قبل علماء وفلاسفة الحضارة الاسلامية في أزهى عصورها.  فهذا البيان قام في حضارة رأسمالية امتلأت بالبحوث الناضجة حول الأمور المرتبطة بسعي الانسان الأوربي في حدود مفاهيم النظام الرأسمالي.  وقد انطلقت في آثاره كل تلك النظريات والبحوث التي بني عليها ذلك العلم الهائل الاتساع الذي هو الاشتراكية العلمية.  وانه من الحماقة توجيه النقد الى الحضارة الاسلامية لعدم "اكتشافها" قوانين الاشتراكية أو لوم المتخلفين في المستعمرات والبلاد المقهورة في القرن التاسع عشر لتخلف ثوراتها عن الثورة الاشتراكية في الوقت الذي كانت فيه هذه الثورات في مقدمة الأسباب المحركة للتاريخ الانساني ودفع جملة المجتمعات الانسانية نحو الطور الأعلى المقبل لا محالة لينفي الرأسمالية في طورها المتخلف.  وانه من الحماقة أيضا ومن الجهل تجميد الحياة في أي مكان من العالم بحجة حفظ التراث أو ايقافها في عهد أو حضارة بحجة القداسة التي لا يمكن أن تقوم وأن تحترم بحق الا في تغيرات الحياة الصحيحة وليس في ظلمات الجمود وعفن نواويس الأموات ودنيا الأوثان والوثنيين. ولكن الثورات من أجل تحرير الذات الانسانية من كل عبودية وإطلاقها لتقوم بدورها الطبيعي في حدود مجتمعها تكمل بعضها بعضا في الجوهر ولا تتعارض الا بما يقوم فيها من جمود ويبنى عليها من وثنيات تحرفها عن طريق التقدم فكان لذلك على المجاهدين أن لا ينسوا هذا الواقع فيعملوا على إثارة عداوات مع اتباع ثورات أخرى بدوافع أنانية وثنية.  ان الاسلام مثلا بسلسلة ثوراته الطويلة التوحيدية التي اختتمت بالثورة المحمدية لا يمكن أن يعارض في جوهره جوهر الثورات الاشتراكية بعقائدها العلمية الهادفة الى خلاص الانسان من كل عبودية وتحرير ذاته لتقوم بدورها الاجتماعي الايجابي بدون عائق.  وكذلك الثورات الاشتراكية لا يمكن أن تنظر بنظر المتعالي الى ثورات التوحيد التي دفعت بجملة المجتمعات الانسانية في دروب التقدم وهيأت الظروف المادية لقيام الفكر الاشتراكي العلمي بالطور الذي تحقق وقام في جملة المجتمعات الانسانية بقيام دار الاسلام.

 

التيار الاصلاحي الرأسمالي

يفتتح الأستاذ جان مرشال الفصل الرابع من محاضراته التي أشرنا اليها أعلاه بالعبارة التالية: "هنالك شيء من الصعوبة لتحديد الوقت الذي أوسعت فيه الرأسمالية، القائمة على مشاريع تخضع لقانون السوق، المكان لرأسمالية المجموعات المتطلعة الى السيطرة على السوق.  اننا هنا أمام تحول متصل ولسنا أمام ثورة.  ففي السياق الذي سلكناه في بحثنا أخذنا بفكرة المرور من حالة الى حالة دون توسط مرحلة تسرع التحول. ان رأسمالية المجموعات تختلف جذريا عن رأسمالية الذريرات ولكنها نشأت وتطورت في أحشائها تدريجيا".  نعم لم يكن هناك انقطاع عنيف بين الحالتين الاجتماعيتين المذكورتين وانما تنامي واستفحال نظام جوهره واحد هو العبودية الرأسمالية ومرور طور هذا النظام من كهولته الى شيخوخته.  ذلك لأن السمة الأساسية للنظام الرأسمالي في كل حالاته هي العنف الذي تتمكن به أقلية من التحكم بالأكثرية الساحقة والذي يسبب بالتالي مختلف أشكال الرد العنيف بالانتفاضات والأزمات واقتتال الرأسماليين فيما بين بعضهم بعضا عند تنافسهم وتعارضهم في اقتناص الأرباح وغيره.  فلا مكان اذن لعنف إضافي ويكفي تلك الأشكال المختلفة للعنف التي تسم هذا النظام كي يسير منتقلا بين مختلف حالاته الى أن تأتي الثورة الحاسمة التي تزيله وتسقطه عن كاهل مجتمعات الجملة الانسانية وتنقل هذه الجملة الى الطور الانساني التالي.

 

ان أفكار التيار الاصلاحي الرأسمالي تقوم في الواقع على ترميم الوثنيات البالية للرأسمالية واعطائها الأشكال الخادعة دون تغيير جوهرها العبودي الثابت، مع البحث الدائم بطبيعة الحال عن كل ما ينفع في تقدم الوسائل المفيدة في جني الأرباح والتغلب على الخصوم.  ولا بد أيضا من البحث عن كل معرفة تدور حول المجتمعات وتاريخها للتمكن من قهر انسان هذه المجتمعات واستغلاله ونهب ثرواته واغتصاب قيمه.  والعبودية الرأسمالية لا يمكنها أن تتبنى أفكارا اجتماعية غير تلك التي تبرر العبودية تارة وتتجاهل ممارستها أخرى وتتظاهر بشجبها ثالثة.  فهي تعتمد ككل الوثنيات على خليط من الغيبيات المتناقضة فتجدها مرة تؤمن بإله وثني واحد ولكن تتعدد أوجهه وتتناقض لتنطبق هذه الأوجه على مصالحها المتعددة المتناقضة، كما تجدها مرة أخرى ملحدة تبلغ بكفرها درجة انكار حقوق الأكثرية الساحقة من البشر وانكار ذواتهم وكراماتهم مع احتقار الفضائل وتمجيد الوحشية وابادة الناس بحجة كونهم من الضعفاء.

 

الامبريالية الاحتكارية الرأسمالية

 

ان المجتمع الانساني في المناطق الحضرية من العالم كان قد نضج منذ تمام سلسلة ثورات التوحيد بالرسالة المحمدية لوضع الأسس اللازمة لقيام مجتمع التعارف والتعاون والتكامل والتكافل في إطار تكافؤ الفرص.  ولكن الردات الوثنية التي كانت الرأسمالية من أشأمها وأشدها نكاية بالانسان أخرت الى حين تحقيق هذا الطموح الكبير.  فقامت البابوية الحاقدة مثلا بجمع المتخلفين في مغرب الأرض ومشرقها لتشن حربا لا هوادة فيها على الاسلام وداره، ولتؤسس وتفتح الأبواب لقيام ذلك الطور الرأسمالي فبلغت حينذاك أزمانها أوجها، وقامت في مناطقها الأوربية والأميركية الحروب والثورات ضد نظمها وفوضيتها واشتدت واتسعت المطالبة بالجماعية ضد فرديتها الفوضوية، في هذه الظروف برزت الانتهازية الرأسمالية بسيرها الجاد لإجهاض الجماعية بالاحتكارية واجهاض الثورات بحكم الانقلابيين، كما حصل مثلا عندما تسلق نابليون الثالث عرش الامبراطورية بانقلابه على الجمهورية.  لقد قلب الطموح الانساني الى التحرير بقهر الأجناس وابادتها كما كان يفعل حينذاك جنرالية المستعمرين الفرنسيين بعرب الجزائر عندما كانوا يسوقون القبائل هناك الى المغائر ويضرمون النيران على أبوابها ويقتلون بالرصاص كل من حاول النجاة من الاختناق من أهلها.  وكذلك تمت إبادة الهنود الحمر في الولايات المتحدة الأميركية في ذات الوقت الذي كانت تقوم فيه الحرب الأهلية هناك تحت الشعار الكاذب لتحرير الزنوج.  كما شنت الرأسمالية حرب الأفيون على الصين أثناء سعيها المحموم لبناء مرحلة الاحتكار وذلك لاجبار حكومة هذا البلد على إلغاء قانون يمنع تعاطي هذا السم.  وما كان لوقاحة الجهات التي قامت بهذا الفعل شبيه الا تلك التي اتصف بها أولئك الذين ألقوا قنبلتيهم الذريتين على هيروشيما ونكازاكي في اليابان الجاهزة حينذاك للاستسلام لمجرد رؤية فعل السلاح الذري في الانسان وممتلكاته وفي عالم الأحياء على العموم.  وهذا غيض من فيض الجرائم الكبرى التي ارتكبتها الرأسمالية في مختلف أنحاء العالم أثناء انهائها اقتسام الكرة الأرضية بين دولها الاستعمارية وتوطيد سلطة احتكاراتها العالمية.

 

ان الشركات الاحتكارية المساهمة المغفلة كانت الشكل الذي ابتدعته مخيلة قادة الرأسمالية لمسخ المطلب الانساني الملح لتدجين الحياة الاقتصادية في المجتمع وتقريب الانتاج من التعاون والتكامل والتكافل بدلا من التنافس المتصاعد الى الاقتتال وابادة الخصم.  فالمساهمة الرأسمالية طرحت كما لو انها تمثل الجماعية في الانتاج أو التوزيع أو غيره من النشاطات الاقتصادية، وذلك على اعتبار ان المساهمة مفتوحة للجميع.  ولكن الجميع في النظام الرأسمالي لايتساوون في المقدرة فيكون هناك بالضرورة كبار المساهمين مالكو كدسات الأسهم في الشركة الواحدة وصغارهم مالكو السهم أو السهمين وهم يشكلون غالبية المساهمين فيها.  ونتيجة هذا الأمر وقوع الشركة تحت سيطرة القلة القوية بين المساهمين الذين يتغلبون بسهولة على الكثرة المشتتة الضعيفة المؤلفة من صغار المساهمين، وهؤلاء الصغار يغطون في الواقع بمجموع مساهمتهم الجزء الأكبر من تمويل الشركة ولكنهم لايفوزون بادارتها لتشتتهم.   ونجد في النتيجة أن اسلوب المساهمة الرأسمالية والديموقراطية الظاهرية الخادعة الناجمة عن هذا الاسلوب يحققان لكبار المساهمين في كل شركة احتكارية استغلال اموال ضخمة تأتي من مساهمين صغار كثيري العدد الا انهم متفرقون.  وماكان باستطاعة المساهم الكبير بناء الشركة الاحتكارية برأس ماله المحدود فقط لولا اسلوب المساهمة الرأسمالية، واذا كان لديه فائض من أموال فانه يوظف هذا الفائض في استغلال شركات احتكارية اخرى.

 

ويقدم الرأسماليون الاحتكاريون هذا الشكل من النشاط الاقتصادي على انه يمثل الشكل الأمثل لجماعية النشاط وديموقراطيته التي تسمح للجميع بأوسع الحريات.  انهم يعرضون مثلا مالك السهم أو السهمين كشريك حقيقي في الشركة للمساهم الكبير المتحكم بادارتها ومصائرها، تماما كما يعرض حاليا مندوب ليبريا وامثاله في الجمعية العامة للامم المتحدة كأنداد في التصويت في هذه الجمعية لمندوب الولايات المتحدة الامريكية مالك حق النقض في مجلس الأمن وموجه هذه المؤسسة الدولية بسطوة دولته ونفوذها. ويتبجح الرأسماليون بديموقراطية اسلوبهم الاحتكاري واتساع الحرية فيه بابراز امكان المساهم الصغير (نظريا) حضور الجمعية العامة الى جانب المساهم الكبير لمناقشة أمور الشركة الاحتكارية وابراز أمر عرض الأسهم في السوق واطلاق حرية بيعها وشرائها.  ولكن لننظر الى ما يقوله الأستاذ جان مرشال حول هذه الأمور في محاضراته المشار اليها أعلاه.  فنقرأ مثلا في فصل المشاريع  الخاصة من البحث المذكور مايلي: ".. نلاحظ أن مفهوم الديموقراطية (في الشركات المساهمة المغفلة) محرف عما هو متعارف عليه. ففي الجمعية العامة للمساهمين لا تسود المساواة في الواقع بين الحضور. فكل واحد من هؤلاء له عدد من الأصوات يساوي عدد الأسهم التي تحت تصرفه فيكون التصويت مفروضا والسلطة مرهونة لرأس المال ومرتبطة بتملكه. وكما يكتب زميلنا جورج لاسير: ان السيادة المرتبطة بالتملك تعود لمفهوم اقطاعي وليس لمفهوم ديموقراطي. ان منظومة في غاية التفتت لا تتضمن الا غبارا من الأسياد الصغار تبقى أي شيء آخر غير الديموقراطية.  ان الجوهري طبيعة الحقوق وأسسها وليس عدد المشاركين.  والديموقراطية الصحيحة هي التي تربط حق السيادة بالذات الانسانية... وفي الواقع بالامكان أن يحدث أن باستطاعة بعض كبار المساهمين فرض قانونهم على الجمعية العامة لمجلس المساهمين بحسب الشرعية القائمة. أما الاحصائيات التي يستشهد بها فهي مضللة أو بالأحرى يجعلونها تبين ما ليس باستطاعتها بيانه... انها اقطاعات طغم وأحيانا ملكيات.  والسلطة فيها لا تعود عمليا الى الجمعية العامة للمساهمين وانما الى مجلس الادارة (كمجلس أمن الأمم المتحدة)... ان الجمعية العامة تعمل بشكل سيئ جدا.  فلا يحضر اجتماعاتها الا قلة من المساهمين... لذلك نجد صغار المساهمين يتنازلون عن حقهم بالتصويت لبعض كبار المساهمين أو لبعض المصارف صاحبة المصلحة. وفي النتيجة لا يحضر اجتماعات الجمعية العامة سوى أعضاء مجلس الادارة وممثلو المصارف صاحبة المصلحة وبعض كبار المساهمين.  وبيد كل من هؤلاء كدسة كبيرة من الأسهم وتتعين بهذا سلفا الأكثرية الخ.."

 

ان نشر التعاون وتعزيز سلطة المجتمع في الحياة الاقتصادية تمسخهما الرأسمالية الاحتكارية بتجميع وفر سواد الناس من متوسطيهم فما دون لتتصرف به طغماتها على هواها وبفرض سلطات هذه الطغمات على المجتمع في كل شؤونه الاقتصادية والسياسية والفكرية.  ثم ان الاحتكارية قامت لتوقف تنافس ومضاربات صغار المنتجين والموزعين وتزيل الفوضى التي كانت تضرب أطنابها في كل نواحي الحياة الاجتماعية، فاذا بنا نقع في ساحات تنافس ومضاربات الاحتكاريين وما تحت سلطانهم من قوى اجتماعية عملاقة يمتد تأثيرها محليا وعالميا، فتحولت الأزمات من الصغيرة المحلية الى الكبيرة الواسعة العميقة العالمية، وغدت الصراعات والحروب عالمية تنجر اليها كل الأمم بسبب الروابط الرأسمالية الاحتكارية التي يفرضها النظام العالمي السائد في جملة المجتمعات الانسانية على أمم هذه الجملة.  ولكن الأزمة، كما بينا أعلاه تقوم بداهة بسبب فساد بعض علاقات النظام السائد في المجتمع.  وعندما تبلغ التراكمات الروحية والمادية حدا تفيض فيه على موانع وسدود النظام بكليتها تقع الأزمة العامة ويتطلب الأمر عندئذ التغيير بتعديل تلك العلاقات أو تغييرها كليا وانتقال الجملة الانسانية من مرحلة الى أخرى في الطور الواحد أو تغيير هذا الطور بكليته.  وهذا ما كان يقع للنظام الرأسمالي في مرحلته الاحتكارية التي قامت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين حتى اندلاع الحرب العالمية الأولى. فالتقدم التقني العاصف وتنافس وصراعات الضواري الاحتكارية للحصول على أكبر ما يمكن من الغنائم على حساب جماهير العالم وخاصة منها جماهير المستعمرات التي نهبت ثرواتها وقيمها وحطمت حياتها وألقيت في جحيم الفقر والتخلف لتغتني تلك الطغمات الاحتكارية القابعة في أوربا وأميركا، وتعاظم طموح الانسان الى التحرر والانطلاق نحو أجواء ينتفي فيها القهر والاذلال، كل هذا وغيره أوصل الجملة الانسانية المقيدة بعلاقات النظام الرأسمالي الى أزمتها العامة التي اندلعت فيها تلك الحرب العالمية الأولى. وفي هذه الحرب اندلعت ثورة أكتوبر في روسيا القيصرية، الثورة التي أخرجت سدس مساحة اليابسة من ربقة النظام الرأسمالي وأدخلت الجملة الانسانية الى مرحلة الانتقال الى الطور الأعلى.

 

مرحلة الحربين العالميتين

 

ان الثورة الاشتراكية عندما ضربت النظام الرأسمالي في أضعف حلقاته، في روسيا القيصرية، كانت في الجوهر تسعى الى تحرير الذات الانسانية من عبودية هذا النظام.  وقد سارت نحو هذه الغاية شوطا كبيرا وحققت انجازات لا ينكرها الا حاقد أو جاهل.  ولكن هناك نواقص وأخطاء ألقت ظلالا كثيفة على المفاهيم المستنتجة من عقائد هذه الثورة.  وقد نجم عن هذا الأمر انحرافات فاجعة بأشكال مختلفة طوال مسيرة الخروج على النظام الرأسمالي العالمي مما أدى في النتيجة الى ما يسمونه اليوم "اعادة البناء" الذي أطاح بالمعسكر الاشتراكي وبدد زخم مقاومة المقهورين في العالم. ولنستعرض فيما يلي تلك النواقص والأخطاء في أخطر مظاهرها:

 

أ - قامت الاشتراكية العلمية بشرح وتجديد بحث المادية الجدلية والمادية التاريخية بعد أن درسه وقدمه الفيلسوف الألماني هيجل.  وكانت الدراسة وشروحها وتجديدها أقرب على العموم الى التجريد الرياضي منها الى الواقع الاجتماعي بكل ملابساته عبر تاريخه الطويل.  فهناك مثلا في هذا الواقع أمر عام على غاية من الأهمية والحسم لم يعط الاهتمام الكافي في دراسات الاشتراكيين وهو: ان التناقض الأعم من كل تناقض آخر كان وما يزال وسيبقى بين الدافعين الأساسيين لحركة الانسان الاجتماعية: الدافع الفردي الأناني والدافع الغيري الجماعي.  ويقوم الصراع الأزلي، بنتيجة تقابل محصلتي هذين الدافعين في المجتمعات الانسانية، بين الأقلية الطامحة الى السيادة المطلقة على الجماعات الانسانية وبين سواد الناس المدافعين عن ذواتهم وكرامتهم في هذه الجماعات.  ولم تنقطع أبدا ثورات الانسان في كل العصور ضد تلك الأقلية الأنانية التي تستعبد الناس بمختلف أشكال العبودية وذلك بالاستناد الى وثنية مناسبة تفرضها على مجتمعها.  وكان من أبرز هذه الثورات تلك التي شكلت سلسلة التوحيد المجيدة عبر طور الرق لجملة المجتمعات الانسانية.

 

قالت الاشتراكية العلمية أن "الدين هو أفيون الشعوب" دون أن تميز الوثنية، التي جمدت عقيدة الدين لمصالح فردية أنانية وفئوية محدودة، من الثورة التي قام بها في الأصل هذا الدين بقصد خلاص سواد الناس من استعلاء مثل تلك الأقلية التي تحول قداسة هذه الثورة الى أغلال عبودية. ونقول ونكرر أن دعوات التوحيد كانت ثورات تحرير، والا لماذا طورد الأنبياء وعذبوا وصلبوا وأحرقوا وذبحوا، ككل الأحرار في كل زمان ومكان؟ ولماذا تكررت تلك الدعوات طوال عبودية الرق التي دامت آلاف السنين وتشابهت في جوهرها ان لم تكن ثورات متشابهة ضد قهر واحد هو انتقاص ذات الانسان وكرامته بنظام وثني واحد هو نظام الرق؟ هنا لا بد من أن نذكر بأمر مشابه في هذا السياق هو أن الوثنية التي أقيمت على الاشتراكية العلمية، الوثنية التي اطلق عليها اسم "الجمود العقائدي"، قدمت لنا ايضا نموذجا يناسبها من "الأفيون" اوصل الاشتراكيين الى اسواق الرأسماليين.  فالدين في الأصل هو اذن عقيدة الثورة المحررة من الطغيان ولاعلاقة له بالوثنية التي تبنتها باسمه كذبا أقلية تفرغ شعائره من جوهره الانساني، بعد أن تنصب نفسها حامية له فتجمده، لتستعبد الناس.

 

واتخذت الاشتراكية العلمية موقف الالحاد كمنطلق لعقيدتها ونظرتها الى الوجود فأنكرت كل ماهو غيبي.  والالحاد وجد في كل الحضارات الانسانية قديمها وحاضرها وما كانت الاشتراكية العلمية من مبتدعيه.  كان هناك دوما ملاحدة من مستعبدي الناس كما كان بين الانسانين من اتخذ الالحاد اساسا لتفكيره.  فالذين ثاروا ضد تجاوزات الكنيسة الكاثوليكية مثلا كالموسوعيين الفرنسيين (الانسكلوبيديين) الذين اسسوا لافكار الثورة البرجوازية الفرنسية من امثال فولتير ومونتسكيو وروسو ودالامبير وديدرو كانوا ينادون بالالحاد كرد على الديكتاتورية الفكرية للبابوية واتباعها. والاحتكاريون الرأسماليون المعاصرون تجدهم بين من يؤدي كل واجباته الدينية وبين الملحدين الكافرين بكل ماتقوله الأديان.  فالالحاد لايرتبط اذن مباشرة بموقف اجتماعي كالوثنية دين المستعلين المتسلطين أو العقائدية دين الثوار على الاستعلاء والتسلط.  فالوثنية عندما تجعل من القلة المتسلطة امتدادا لآلهة في عالم الغيب، ليكون سلطانها المادي الواقعي امتدادا للسلطان الغيبي لتلك الآلهة، توحد بهذا الموقف الوجود بعالم الغيب عمليا وتزيل الحدود بين عالمي الغيب والشهادة.  ويفعل الالحاد مثلها فيزيل هذه الحدود عندما يوحد الوجود ولكن بعالم الشهادة فلا وجود الا بالملموس والمدرك.  ونجد الانساني الثائر على ظلم القلة المستعلية المتسلطة يلحد وثنية هذه القلة ليرفض سلطان أصحابها، ولكن عليه الالتزام بواقعية عالميّ الوجود، عالم الغيب وعالم الشهادة، وواقعية حدودهما.

 

ان عالم الشهادة الذي وقع تحت حواس الانسان وادراكه، وخضع بالتالي لمشاهدته وتحليله، يبقى، على كبره واتساعه، محدودا ولا متناهيا في الصغر أمام ما يمكن تصوره من الوجود الكلي النهائي.  كما أن ما وقع في الماضي من هذا الوجود الممكن تصوره وما سيقع منه في مستقبل الزمان لا يدخل منه في مشاهدتنا وتقديرنا سوى جزء ضئيل ايضا لا يتناهى في صغره بالنسبة الى ما خفي منه عنا.  ووعي أرقى أشكال الحياة، وعي المجتمع الانساني، يقوم في هذه الحدود لينير الطريق أمام هذا المجتمع في تطور حياته.  وهذا الواقع بجملته هو الملائم لاستمرار الحياة بأرقى صورها، فلا بد من الجدة ليتحقق التقدم ولا تكون الجدة الا في السعي للتوسع على حساب المجهول.  فاذا كان ما أنجز صغيرا يتلاشى دوما بالنسبة الى مالم ينجز، استمر السعي بدون توقف زمنا غير محدود، واستمرت الحياة معه تتجدد.  هنا نجد الوثنية كالالحاد تجمد الوجود بتصوراتها فلا تكتفي بتحديد عالم الغيب اللامتناهي بحدوده وأعماقه بصور تستعيرها من عالم في غاية المحدودية نسبيا وهو عالم الشهادة وانما أيضا تشوه واقع هذا العالم الأخير الملموس فتقلبه بالشكل الملائم لمصالحها في الظرف القائم.  أما الالحاد فيعمم المشاهدة الضئيلة على الوجود اللانهائي، الغائب منه والملموس والمدرك، فيجمده ويتجمد معه.

 

وقد جهدت الثورات الانسانية لاعطاء أصدق صورة عن عالم الشهادة على اعتبار أن الحقيقة هي الحليف الأول للمقهور في سعيه وجهاده من أجل الحرية والانعتاق من قيود الظلم.  ولكن الاشتراكية التي بهرها التقدم العلمي الكاسح للقرنين التاسع عشر والعشرين فظنت أنها مؤهلة لإصدار أحكام نهائية على الوجود "فقررت" الالحاد القائل أن ما في الغيب لا يختلف عما هو ملموس في المشاهدة وأن لا شيء سوى هذا الأمر الذي يعني في الجوهر تجسيد الغيب بالمشاهدة، أي وثنية نظيرة للأخرى.  وكان التوحيد، ولا سيما منه الاسلام الذي بلغ القمة في موضوعيته، أكثر حذرا من الاشتراكيين العلميين المعاصرين عندما قطع مع مادية الوثنية المبتذلة برفض كل تجسيد لما لا يمكن مشاهدته من الوجود الكلي وان أعطى بعض الصور الرمزية للتشجيع على سلوك الهداية والتحذير من مغبة الضلال، وذلك سعيا منه في ازالة العبودية ودفع المجتمع في طريق الصحة والتقدم الحقيقي.

 

ب - لم تعط الاشتراكية العلمية أي انتباه الى أن المجتمعات الانسانية بتفاعلاتها فيما بين بعضها بعضا عندما نشأت وارتقت خلال ألوف السنين في وسط واحد هو عالم الأحياء القائم على كوكب واحد هو الكرة الأرضية، شكلت منظومة حية واحدة هي جملة المجتمعات الانسانية.  وقد قادها هذا الاهمال الى أن ترى الأطوار الانسانية تخص مجتمعا واحدا أو عددا من المجتمعات المتقاربة في سويتها الحضارية، والى أن تحصر دراساتها في المجال الأوربي على العموم.  فكأن المجتمع الواحد بمثل هذه النظرة وتلك الدراسات يشكل في نشوئه وارتقائه نموذجا لبقية المجتمعات التي لا بد من أن تسير على غراره وان تأخرت عنه في تطورها.  وانتهت الاشتراكية لذلك الى أن تقع في أوربية التفكير والتنظير حيث جعلت من أوربا، كما فعل متعصبو البابوية والرأسمالية، محور دوران الحياة على الأرض: انها رأت أن كل مجتمع انساني يرتقي بمفرده فيمر بذات الأطوار الانسانية من المشاعة حتى الشيوعية بمعزل عن المجتمعات الأخرى التي يكون كل واحد منها سائرا في ارتقائه بحسب تطوره الخاص، وتكون أوروبا لتقدمها المادي في الطليعة.  لقد رأى رائدا الاشتراكية العلمية، ماركس و انجلز، أن المجتمعين الانجليزي و الأميركي سيكونان أول مجتمعين يحققان الطور الاشتراكي بسبب سبقهما بقية المجتمعات الانسانية في التقدم المادي. ولكن انتماء الانسانية الى منظومة واحدة تتفاعل ضمنها فيما بين بعضها بعضا بشتى التفاعلات، انتماءها الى الكائن المادي الواحد الموحد الذي هو جملة المجتمعات الانسانية، يعقد المسألة كثيرا فلا يتركها لبساطة نشوء وارتقاء مجتمع واحد معزول عن تأثيرات بقية المجتمعات كما فعلت نظرة الماركسيين.  فهذه الجملة الانسانية تتطور كلها كمجتمع واحد معقد بحيث يكون لها دوما طور واحد يقوم على النظام الذي يفرضه فيها أكثر مجتمعاتها تقدما ماديا.  وقد نتج عن إغفال هذا الأمر الواضح في النظرة الماركسية المذكورة أن تكون الرأي المستهجن بأن أوربا الغربية مع أميركا الشمالية هي موطن النظام الرأسمالي المتقدم بطبيعتها، وأن عالم المستعمرات وأشباه المستعمرات بطبيعته هو عالم التخلف الاقتصادي وعلاقات الانتاج الاقطاعية والقبلية.  وعندما قال لينين أن علينا أن نضرب الرأسمالية في أضعف حلقاتها، وهو يقصد روسيا القيصرية حدد موطن هذه السلسلة في أوربا فقط، لأن عالم المستعمرات كان أضعف بما لا يقاس من هذه الحلقة.  ونجد بحسب هذا الرأي أن تقدم العلاقات في المجتمع الواحد أو تخلفها يعود الى الخواص الذاتية للمجتمع وليس الى النظام السائد في جملة المجتمعات الانسانية، الى النظام الرأسمالي الاستعماري مثلا الذي مزق المجتمعات وسد عليها سبل التقدم ونهب ثرواتها وأفقرها وحرمها دورها الطبيعي في الجملة الانسانية ليجعلها مجرد وسيلة لملء خزائنه بالثروات.  وفي النظرة الكاذبة الظالمة المذكورة تصبح العلاقات بين الظالمين المتقدمين ماديا أو المظلومين المتخلفين ماديا طبيعية موضوعية، ولا ذنب كبيرا للمستعمرين بها ويكون على المتخلفين أن يتخلصوا من تخلفهم ليرتفع عنهم الظلم، وذلك بجدهم وليس بثورتهم على الظالمين مستغلي جهودهم المبذولة بحدها الأقصى مع ذلك.

 

وكان من نتيجة أوربية التفكير والتنظير أن الاشتراكية العلمية ركزت بحوثها حول النظام الرأسمالي بوجهه الأوربي، في العلاقات التي تربط العمال بأرباب العمل والظلم الواقع في الأولين من قبل الآخرين، وكاد أن يغيب في تلك البحوث الوجه الآخر للنظام المذكور، الوجه الأشد فظاعة القائم على استعمار بقية مجتمعات الجملة الانسانية.  ففي الوقت الذي كانت تظهر فيه بحوث الاشتراكية العلمية الرائدة، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، كان قادة النظام الرأسمالي يتسابقون لاتمام اقتسام العالم فيما بينهم، وكان الأميركان منهم منهمكين حينذاك في عملية إبادة الهنود الحمر ليستولوا على مرابعهم وما فيها من ذهب وكنوز أخرى، كما كان الآخرون يستمرون في جرائمهم وفظائعهم ضد الانسان في أفريقيا وآسيا ويجلبون الى بلدانهم الأوربية بحارا من الثروات التي نهبوها من تلك الأقطار المنكوبة.

واذا أردنا الانصاف نجد أن كدح العمال الأوربيين في بناء القوة الاستعمارية التي مكنت في النتيجة قادة الرأسمالية من نهب تلك الثروات الهائلة من المستعمرات كان أكبر من كدحهم الآخر في توفير أرباح السوق لهم.  لهذه الأسباب أساسيا اتجهت الثورة الاشتراكية نحو تحرير العمال في أوربا الغربية وأميركا أولا، وذلك بالكفاح من أجل بناء الاشتراكية هناك، بدلا من أن تتجه لتحرير الانسان عاملا كان أم غير عامل كما فعلت مثلا ثورات التوحيد.  وهنا برزت طبقية الثورة بدلا من انسانيتها الأشمل وبرزت أيضا أوربيتها بدلا من عالميتها الأوسع، لأن العمال لا يكثرون الا في أوربا وأميركا الشمالية حينذاك في الوقت الذي كانت تسود فيه أشكال الانتاج المتخلفة الأخرى في بقية أنحاء العالم.

 

ان المستضعفين في الأرض الذين انتقصت ذواتهم وهدرت كرامتهم من قبل الجبارين الظالمين هم بطبيعة الحال، وفي مقدمتهم العمال والفلاحون الفقراء ومعهم كل شرفاء الناس الذين يهتزون للحق، جند الثورة لطرد الأقلية الظالمة وقلب نظامها واستبداله بالنظام الأعلى.  ولكن العامل كالفلاح هو انسان قبل أن يعمل أو يفلح.  وديكتاتورية الكادحين (البروليتاريا) لم تفد الا البيروقراطية التي سببت كل تلك الصعوبات والمآسي في معسكر الاشتراكية الذي انهار مؤخرا وأصبح أثرا بعد عين.  ولقد قلنا وكررنا أن الطور الرأسمالي هو طور لجملة المجتمعات الانسانية برمتها، بمجتمعاتها المتقدمة ومجتمعاتها المتخلفة، ونفي هذا الطور لاقامة الطور الأعلى للجملة المذكورة لا يكون الا بنفي نظامه بكليته ليحل مكانه نظام الطور المقبل الذي سيسود الجملة الانسانية بجميع مجتمعاتها عند تمام قيامه وليس فقط جزءا منها، الأوربي مثلا حيث يكثر العمال.  فالمسحوقون بالرأسمالية العبودية في هذه الجملة مع كل الشرفاء الآخرين يشكلون جيشا يتجاوز بكثير بعدد أفراده عدد عمال العالم الذين هم على كل حال جزء لا يتجزأ من هذا الجيش وفي طليعته.  فالثورة اذن على الرأسمالية هي ثورة انسانية، ثورة سواد الناس في الجملة الانسانية ضد تلك الأقلية الرجعية الجشعة المنتشرة حاليا في قارات هذه الجملة وليس فقط في أوربا والولايات المتحدة الأميركية.  وقد تأيدت هذه النظرة التي نعرضها هنا بواقع المسيرة الانسانية الكلية.  فنجد مثلا أن الأسباب التي دفعت الى مرحلة انتقال الجملة الانسانية الى الطور الأعلى لا تقتصر فقط على تلك التي دفعت نشاط الاشتراكيين الأوربيين ليحققوا ثورة أكتوبر التي ضربت سلسلة كيانات القهر الأوربية في أضعف حلقاتها.  فهناك أيضا تلك التي هيأت للثورة العلمية والتقنية الهائلة التي بدأت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر والتي زودت الانسانية بوسائل لا يمكن أبدا تسليم جبروتها لأخلاقية الرأسمالية الاحتكارية العبودية التي تهدد كل يوم بها وجود الحياة على الأرض بدلا من استخدامها في توفير حاجات الانسان. وهناك أيضا تلك الثالثة التي دفعت بقية مسحوقي الانسانية في مختلف أصقاع الأرض ليقوموا بالقضاء على الاستعمار القديم ويستمروا في جهادهم للوصول الى القضاء على الاستعمار الأميركي القائم حاليا.  وقد أنجزت ثورة أكتوبر مهمتها التاريخية حتى نهايتها وبقي على الانسانية المقهورة أن تستمر مع كل شرفاء الناس في العالم بالجهاد في كل المجالات الثورية الجماهيرية والفكرية لزيادة التراكم المادي والروحي القائم حاليا في الجملة الانسانية لتندفع هذه الجملة نحو طورها الأعلى بعد تقطيع الارتباطات المهترئة البالية لنظام العبودية الرأسمالية وهدم السدود المهتزة التي وضعها هذا النظام في طريق التقدم نحو ذلك الطور الانساني.

 

ج - عندما كانت الاشتراكية العلمية تعمل قبل ثورة أكتوبر في التنظير لعقيدة الثورة وفي تنظيم الطبقة العاملة الأوربية لتهيئتها لقلب النظام الرأسمالس في أوربا لم تعط الانتباه الكافي لمرحلة انتقال المجتمع الانساني من طور الرأسمالية العالمي الى الطور الاشتراكي العالمي، المرحلة التي نعيشها في الواقع حاليا والتي نلاحظ أهميتها البالغة وأهمية دراسة وتفحص ظروفها وخواصها ليتسنى لنا فهم ما وقع واستشراف ما سيقع في هذه الجملة الانسانية التي تحتوينا. ولكن الاشتراكية العلمية التي تطورت الى الأممية الثالثة وحققت ثورة أكتوبر حولت تماما مفهوم هذه المرحلة وقالت أن بالامكان البدء ببناء الاشتراكية مباشرة بعد ظفر هذه الثورة في مجتمع واحد هو مجتمع روسيا القيصرية مضافا اليه المجتمعات اللأخرى التي ارتبطت به بارتباطات الامبراطورية الروسية.  وعلى هذا الأساس حاول قادة الثورة المذكورة بدء مسيرة تحول المجتمع السوفياتي ببناء الاشتراكية مباشرة بعد ظفر الثورة.  وقد رفعوا لذلك حينذاك شعار "لكل حسب عمله"، وهو الشعار المطبق طوال عملية بناء الاشتراكية بحسب تعاليم الماركسية.  وتم في عهد بريجنيف الاعلان عن تمام بناء الاشتراكية في الاتحاد السوفياتي وقيام الطور الشيوعي الذي يرتفع فيه شعار "من كل حسب إمكاناته ولكل بحسب حاجاته"، الأمر الذي كذبه الواقع بقيام البيروسترويكا وانهيار المعسكر الاشتراكي وتخبط الاتحاد السوفياتي حتى زواله.

 

ان الذي جرى في الواقع، عندما ضاعفت العبودية الرأسمالية الاحتكارية أزمات نظامها العالمي، هو قيام مرحلة تحول عالمي، تحول جملة المجتمعات الانسانية برمتها من الطور الرأسمالي الى الطور الاشتراكي، هذا التحول الذي كان من أهم ظاهره اندلاع ثورة أكتوبر وخروج الامبراطورية الروسية التي تعادل مساحتها سدس اليابسة من ربقة النظام الرأسمالي.  نقول: خروج روسيا والأقطار التابعة لها من النظام الرأسمالي لتشكيل الاتحاد السوفياتي كطليعة للتحول العام للجملة الانسانية نحو الطور الأعلى وليس لسعي هذا الاتحاد الى الدخول، بمفرده دون بقية العالم، في هذا الطور الذي بينا ضرورة كونه للجملة الانسانية برمتها وليس لمجتمع واحد أو لعدد من المجتمعات: من الطريف أن البيروقراطية السوفياتية الماركسية احتفلت بقيام الشيوعية في مجتمعها في الوقت الذي مازال النظام الرأسمالي قائما الى جانبها على الكرة الأرضية بكل تفوقه عليها بالعديد من النواحي المادية، مع أن النظرية الماركسية تعرف النظام الشيوعي فتقول أنه النظام الذي يقوم بسبب تفوقه وتقدمه من كل النواحي المادية والروحية على النظام الرأسمالي الذي لا بد من أن ينتفي عندئذ ويخلي المكان له في الجملة الانسانية.

 

لقد كان من الطبيعي البديهي أن يسعى الاتحاد السوفياتي، كخارج ثائر على النظام الرأسمالي طوال قيام هذا النظام بقوته المسيطرة في العالم في مرحلة الانتقال الى الطور الأعلى، الى بناء مقاومته المادية للرأسمالية فينشئ اقتصادا ثوريا الى جانب قواه الدفاعية يتجاوز به أشكال الانتاج الحرفية وانتاج المؤسسات الصغيرة المتفرقة المتنافسة الى انتاج المؤسسات الصناعية العملاقة والتعاونيات الكبرى في اقتصاد جماهيري يتمكن من الوقوف ندا في مواجهة الاقتصاد الرأسمالي القائم على الأسلوب الاحتكاري للشركات المساهمة الضخمة.  وكان من الطبيعي أن يكون ذلك الاقتصاد الثوري اقتصادا مكافحا فيأخذ على العموم الأشكال المنصفة للجماهير التي تتحمل عبء ومقاومة الرأسماليين الرجعيين العدوانيين فيكون بالضرورة "اشتراكيا" ولكن غير تام الأبعاد مادامت ضرورات مقاومة الرأسماليين تستنزف الكثير من طاقاته اللازمة لتقدمه وازدهاره ولسد العديد من حاجات مجتمعه.  فهو باختصار نموذج أولي أو مثال تقريبي لما سيكون عليه اقتصاد النظام الاشتراكي المسيطر عالميا بعد نفي الرأسمالية وزوالها كنظام مسيطر عالميا في نهاية مرحلة الانتقال.

 

د - ان مرحلة الانتقال العالمي من الطور الرأسمالي الى الطور الأعلى، المرحلة التي أتت فيها ثورة أكتوبر في طليعة الظواهر البارزة اتسمت بتصاعد أزمات الرأسمالية الاحتكارية وتصاعد مقاومة نظامها من قبل الجماهير الثائرة في كل انحاء العالم.  فاندلعت الازمات الاقتصادية الخانقة لعشرينات وثلاثينات القرن العشرين، وبرز التعارض الحاد بين الدافعين الأساسيين في تصريف شؤون الحياة في النظام الاحتكاري الرأسمالي:

 

الأول: دافع التحكم الاقطاعي في ادارة المجتمعات واقتصادها من قبل الطغمات الرأسمالية، الأمر الذي تجلى بوضوح بقيام الامبراطوريات الاستعمارية القديمة التي كانت كل واحدة منها تشكل اقطاعا خاصا لحكام وقادة المتروبول الذين ينافسون حكام وقادة الامبراطوريات الاخرى ويكيدون لهم بكل وسيلة وبكل مايستطيعون.

الثاني: التقدم العاصف في كل فروع المعرفة وتطبيقاتها العملية التقنية، التقدم المناقض بشدة كل اتجاه اقطاعي يعمل على حصر التنامي المادي في الحدود الضيقة للمصالح المادية والفئوية.

 

وقامت ثورات المستعمرات وأشباه المستعمرات، ثورات الأقطار العربية والهند والثورة الاشتراكية الصينية الكبرى وثورات الأفارقة وشعوب أميركا اللاتينية، تطلب التحرر والانعتاق من ربقة الاستعمار الى جانب دعوات الاشتراكيين والانسانيين وبحوثهم الداعية الى الغاء مختلف أشكال العبودية الرأسمالية وتوحيد العالم توحيدا حقيقيا.  وبرز في أثناء ذلك اتجاهان عالميان متعاضان في جوهرهما يقترح كل منهما أسلوبا يناسبه لدفن النظام العالمي القديم واقامة عالم جديد على أنقاضه، وكان الى جانبهما اتجاها ثالثا ينتظر الفرصة الملائمة ليقوم ببناء عالمه الخاص.  ولنقم فيما يلي بالتعرف على هذه الاتجاهات الثلاثة:

 

الاتجاه الاشتراكي العلمي

انتشرت الأحزاب الاشتراكية العلمية في مختلف أقطار العالم، متقدمها ومتخلفها، انتشارا واسعا بنتيجة ماكانت أزمات الرأسمالية الاحتكارية تسببه من شقاء لبني الانسان في كل أنحاء العالم.  وكانت هذه الأحزاب تناضل من أجل نشر أفكارها وعقائدها وفي سبيل الحد من الطغيان الرأسمالي والدفاع عن حقوق العمال والكادحين في البلاد الرأسمالية المتقدمة، وتجاهد في صفوف الحركات الوطنية ضد قدماء المستعمرين في البلاد الرأسمالية المتخلفة وفي المستعمرات بهدف التحرر ونيل الاستقلال السياسي.  وكان الاتحاد السوفياتي يجد في تلك الأثناء في بناء قواه الدفاعية بعد انتصاره ورده المستعمرين الرأسماليين الذين هاجموا بلده في أعقاب ثورة أكتوبر.  وكان في قيادته للأممية يسعى قبل كل شيء آخر الى أن يبني الاشتراكية في بلده وذلك في محاولة تحقيق ما كان قادته يعتقدون من إمكان قيام الاشتراكية في بلد واحد في الوقت الذي كانت فيه الرأسمالية هي السائدة في الجملة الانسانية. وكان بطبيعة الحال يقف الى جانب قوى التحرر في العالم للخلاص من المستعمرين.  ولكنه في قيادته للأممية ما كان قادته يعارضون بحزم كاف الارتباطات الوثنية للأحزاب الشيوعية في مختلف أقطار العالم بهم، ان لم نقل أنهم كانوا من العاملين المجدين في إقامتها، وبالتالي في تعطيل الدور الطبيعي لكل حزب شيوعي في بلده في حركة التقدم العالمية للقضاء على العبودية الرأسمالية.

 

الاتجاه الفاشي

دعت أزمات النظام الاستعماري القديم الى ازدهار الفاشية في مختلف أنحاء العالم لتقف من جهة في مواجهة تصاعد أمواج التحرر العالمي وانتشار الأفكار الاشتراكية انتشارا واسعا، ومن جهة أخرى لمحاولة إصلاح النظام الاحتكاري الرأسمالي وايجاد صيغ تخرجه من أزماته وتنقذه من أحواله المتردية.  فقام لذلك الحكم النازي في ألمانيا في غزو أوربا بمساندة من الحكم الفاشي الإيطالي وقامت اليابان بغزو شرقي القارة الأسيوية، وتشكل محور طوكيو-برلين-روما ضد النظام الاستعماري القديم وامبراطورياته. وانتصرت الفرنكوية في اسبانيا بمساندة فاشستيي المانيا وايطاليا على الجمهوريين الذين ساندهم الاتحاد السوفياتي والمتطوعة الديمقراطيون من فرنسا وانجلترة والولايات المتحدة الاميركية وغيرها.  وقامت كذلك احزاب وحركات فاشية قوية في مختلف بلاد الرأسمالية الاحتكارية، في فرنسا وانجلترة والولايات المتحدة الاميركية وفي المستعمرات وأشباه المستعمرات.  وكان النازيون الألمان الهتلريون في طليعة الحركات الفاشية نشاطا وقوة وماكانت أهدافهم لتقف دون السيطرة على اوروبا برمتها وعلى مستعمراتها، أي باختصار السيطرة على العالم:  لقد رأت النازية ومنظروها ان التقدم المادي بلغ حدا يتيح لها توحيد الامبراطوريات الاستعمارية في واحدة بقيادتها.

 

ان تلك الامبراطوريات الأوربية التي امتدت هنا وهناك في العالم والتي قامت على احتلال المستعمرات بالجيوش واقامة حكم المستعمر المباشر على كل مستعمرة منها كانت كما أشرنا أعلاه اقطاعيات تسود في كل واحدة منها قوانين مستعمرها المتحكم فتتعارض أحوالها تعارضا شديدا مع أحوال المستعمرات المحكومة بالمستعمرين الآخرين.  لقد كان المستعمرون يتنافسون بشدة ويتطلع كل منهم الى مابيد الآخرين من اقطاع ليسلبه فيكيد له بشتى الأشكال والوسائل.  فعمت لذلك الفوضى في ذلك العالم الذي ماكانت تنقصه الأزمات.  وكان التفتت الاقطاعي في ذلك العالم الرأسمالي الاحتكاري يناقض بشدة اساسه الذي كان يقوم عليه وهو نظام الشركات الرأسمالية الاحتكارية المعرف اعلاه: نظام تغطية التسلط بعلاقة التشارك الزائف.  فقامت النازية حينذاك بمحاولة تحويل المانيا كلها الى شركة احتكارية واحدة تسيطر عليها، بقوة الشرطة والمباحث واقبية التعذيب وليس بالاسهم، طغمة احتكارييها الذين كانوا يديرون هذا البلد بكل تفاصيله بجهاز الدولة تحت اسم "الاشتراكية الوطنية" الذي يختصره التعبير "نازي" باللغة الألمانية.  وكان النازيون يأملون في التوصل الى إقامة ديكتاتوريتهم العالمية بعد سحق كل ما في أوربا من كيانات وطنية متأزمة متهافتة بتناقضاتها الرأسمالية وإلحاقها ببلدهم ألمانيا الهتلرية ثم إلحاق العالم كله بالتالي.  وكل هذا بدلا من استخدام التقدم العاصف في العلوم وفي صنع الوسائل, في إقامة اقتصاد عالمي على أساس تعارف الناس والمجتمعات في الجملة الانسانية وتعاونهم وتكاملهم وتكافلهم في أطار قانون تكافؤ الفرص بعد نفي العبودية الرأسمالية وتوفير هدرها للقيم الانسانية على اختلاف أنواعها بأزماتها التي لا تنقطع وحروبها التي لا تتوقف وفوضاها التي يقوم عليها وجودها المادي وذلك لصالح أقلية تتحكم برقاب سواد البشر.

 

الاتجاه الأميركي

كانت الاحتكارية الرأسمالية في الولايات المتحدة الأميركية منذ مطلع هذا القرن العشرين تتربص وتنتظر الفرص الملائمة لتحقق بطريقتها الخاصة ذات الأحلام التي كان النازيون يحلمون بها وهي أحلام السيطرة على العالم بإقامة وصايتها على الرأسماليين الاحتكاريين أصحاب الامبراطوريات الاستعمارية الأوربية وذلك على اعتبار أنها تتقدم ماديا عليهم جميعا.  وعندما اندلعت الحرب العالمية الأولى ظنت أن الفرصة أتت لتتقدم وتتبوأ زعامة العالم.  فرأينا رئيس الولايات المتحدة الأميركية ويلسون مثلا يطرح أمام الكونغرس في الشهور الأخيرة من تلك الحرب نقاطه الأربع عشرة التي يقترح بها ما يجب أن تكون عليه صورة عالم ما بعد الحرب، الصورة الأزلية التي تظهر في أعقاب كل حرب تثيرها أو تساهم بإثارتها الاحتكارية الأميركية ورؤساء هذا البلد.  واتبع ويلسون نقاطه الآنفة الذكر بأخرى ليكمل صورة العالم.  وتنتهي الحرب ويأتي ويلسون الى أوربا ليستمر في مساعيه في توطيد الزعامة الأميركية للعالم أثناء تصفية ما خلفته الحرب من مشاكل.  ولكن المستعمرين الانجليز والفرنسيين كانوا حينذاك من القوة بحيث تمكنوا من ترتيب العالم على هواهم وعاد ويلسون الى بلده يجر أذيال الفشل.

 

وأتت فترة ما بين الحربين العالميتين، وتفاقمت أزمات الرأسمالية كما مر معنا أعلاه، واستفحل أمر الفاشية الألمانية التي كانت تلقى التشجيع من الاحتكارية الأميركية وتلقى أيضا العون المادي عساها تنتهي الى ضرب غرمائها الانجليز والفرنسيين وزعزعة نفوذهم العالمي وبالتالي تمزيق أوربا وإزاحتها من طريق تقدمها نحو زعامة العالم.  وقامت النازية بما تمنته الاحتكارية الأميركية فبدأت بإثارة القضايا الاقليمية التي طالما كانت تشكل عناوين الحروب والخلافات الأوربية.  وانتهى الأمر الى اندلاع الحرب العالمية الثانية التي أودت بحياة الملايين من البشر وألحقت الدمار الشامل في أوربا في الوقت الذي كانت فيه الولايات المتحدة الأمريكية، بمدنها ومعاملها البعيدة عن ميادين الحرب، تنمي قدراتها الاقتصادية على حساب خراب بقية العالم.

 

كان النظام الرأسمالي العالمي في أعقاب هذه الحرب الأخيرة المدمرة ناضجا للسقوط والزوال فيما لو أنه كان في هذا العالم في تلك الأيام دعوة متطورة ناضجة تدرك وترى بوضوح الظروف القائمة حينذاك بكل أعماقها وأسبابها الحقيقية الدافعة: لو كان هنالك مثل هذه الدعوة لقيادة الثورة الانسانية الحاسمة لما كان من ضرورات الواقع في تلك الأيام أن تستطيل مرحلة الانتقال من الطور الرأسمالي للجملة الانسانية الى الطور الاشتراكي بالاستعمار الجديد الذي أقامته الولايات المتحدة الأمريكية بزعامتها في أعقاب تلك الحرب.  ولكن هم الاشتراكيين العلميين كان حينذاك واستمر لتحقيق الحلم الزائف الذي هو بناء الطور الشيوعي في الاتحاد السوفياتي تحت شرفة النظام الرأسمالي الاحتكاري الذي مازال سائدا عالميا.  أما أهم الحركات الوطنية في المستعمرات فكان من جهة أخرى حينذاك لايتعدى السعي الى الانعتاق من رقبة الاحتلال الأجنبي وتحقيق وهم الاستقلال السياسي.

 

اننا نرى اذن أن حركات التحرر الوطني ونشاط الاشتراكيين العلميين كلها تشترك في وهم إمكان الخلاص إفراديا من نظام يسود الجملة الانسانية دون العمل على نفي هذا النظام الذي هو الرأسمالية واستبداله بالنظام الأعلى المحرر.  ما كان لدى حركات التحرر الانساني جميعها مفهوم واضح عن جملة المجتمعات الانسانية ولا عن مرحلة الانتقال التي توجد عليها هذه الجملة فكانت معاييرها في الحكم على الظروف تنطلق من حالتها الذاتية، من حالة مجتمعها وليس من حالة الجملة الانسانية التي تضم كل المجتمعات.  ونرى بوضوح في النتيجة أن جذور التحرر تكمن في انعتاق هذه الجملة التي تضمنا جميعا وبالتالي لا يتم هذا التحرر ما دامت الجملة الانسانية محكومة بنظام عبودي كالنظام الرأسمالي وما دام المجتمع الساعي الى التحرر منخرطا في هذا النظام.

 

هـ - كان من علامات قصور حركة التحرر العالمية وعدم بلوغها الزخم الكافي، للإستفادة من ظروف تردي النظام الرأسمالي في مرحلة الحربين العالميتين الأولى والثانية للإطاحة بهذا النظام، انقسام هذه الحركة الى قسمين متعارضين في فترة مابين الحربين.  فكان الاشتراكيون العلميون، وفي طليعتهم الاتحاد السوفياتي، يعارضون الفاشية بشدة، المعارضة التي تجلت في الحرب الداخلية الاسبانية المشار اليها أعلاه.  أما الحركات الوطنية في المستعمرات وأشباه المستعمرات فما كانت ترى في الفاشية والنازية والعسكرية اليابانية ظواهر تأزم في نظام عالمي واحد هو نظام الرأسمالية الذي لم تشفه الاحتكارية من التأزم وانما زادته تناقضا وقربا من زواله، كما كانت تتوهم أن تلك الحركات المغرقة في رجعيتها يمكن أن تساعدها في بلوغ أمانيها في استقلال أوطانها. فكانت تصدق دعاياتها في شجب أولئك المستعمرين القدماء ووعودها في بناء عالم أفضل: كانت الحركات الوطنية المذكورة تأخذ بالمثل القائل: عدو عدوك صديقك.  ولكن هذا الصديق كان منظراً لأبشع عبودية رأسمالية رأى العالم صوراً لها في الحكم الفاشي للقطر الليبي وفي تصرفات اليابانيين في الصين وكوريا والهند الصينية.  ثم ان تلك الحركات الوطنية في العالم مع الحركات الاشتراكية العالمية بمختلف فروعها وامتداداتها، كل قوى التحرر في العالم، ما كانت تنتبه الى تلك القوة الرأسمالية الأميركية الصاعدة "بهدوء" والى ما كانت تخبئه من مصير للعالم لا يقل فظاعة عما كان في نيات النازيين من مشاريع قهر للانسان.

 

وعقد الاتحاد السوفياتي عشية اندلاع نيران الحرب العالمية الثانية معاهدة عدم اعتداء مع الحكومة النازية الألمانية، وذلك في محاولة من قادته تفادي كوارث هذه الحرب وليضمن الهدوء والسلم على حدوده مع ألمانيا الهتلرية، ويتابع بالتالي بناء الاشتراكية التي يحلم بها قادته.  وعندما أعلنت الحرب اقتسم مع الهتلريين بولونيا واحتل دول البلطيق وغزا فنلندة ليحتاط من هجوم للمستعمرين ضده يأتي من جهة أراضي هذه الدول.  ولا يتصف بالدقة ما أذاعه الشيوعيون لتبرير معاهدة عدم الاعتداء الآنفة الذكر التي عقدها السوفيات مع النازيين من أن هذه المعاهدة كانت من التصرفات الحكيمة لستالين التي أعطته الوقت الكافي للإستعداد لصد الهجوم الألماني الذي وقع فيما بعد على الاتحاد السوفياتي.  لقد كان مثل هذا الخطر متوقعا دوما كما كان الاستعداد السوفياتي لصده قائما بطبيعه الحال قبل معاهدة عدم الاعتداء وبعدها.  أضف الى هذا المواقف الغامضة المشبوهة للانجليز والفرنسيين عند طرح مسألة تحالف الديموقراطيات الغربية مع الاتحاد السوفياتي لتشكيل جبهة موحدة تحاصر الاندفاع النازي وتصده.  لقد كان أولئك الانجليز والفرنسيون يحاولون في تلك الظروف دفع الهتلريين الى مهاجمة الاتحاد السوفياتي على أمل انهاك الجبهتين، الألمان والسوفيات، بحرب مدمرة ليأتوا بعد ذلك لفرض ارادتهم عليهما بطريقة مناسبة.  ولكن ستالين مع كل هذا ذهل من غدر النازيين عندما نقضوا معاهدة عدم الاعتداء المذكورة وهاجموا الاتحاد السوفياتي في الثاني والعشرين من حزيران عام 1941.  فقد قال الماريشال جوكوف في مذكراته أن ستالين أبدى استغرابه الشديد لوقوع ذلك الهجوم وظن عند وقوعه بأن هناك ثمة خطأ فأخذ يطلب الى مساعديه في تلك الليلة الاتصال بالسفارة الألمانية في موسكو لاستجلاء الأمر وكأن قنابل مدافعم وطائراتهم الي كانت تتساقط حينذاك على المواقع السوفياتية ماكانت كافية لايضاح حقيقة ما وقع.

 

دخل الاتحاد السوفياتي اذن الحرب الى جانب الاحتكاريين الرأسماليين الذين يطلقون على أنفسهم لقب الديموقراطيين عندما هاجمته ألمانيا النازية.  ودخلت الولايات المتحدة الأميركية الحرب بعد ذلك عندما شن اليابانيون هجومهم على بيرل هاربر وحطموا أسطولها هناك في السابع من كانون الأول عام 1941.  وكان قد أقر ميثاق الأطلسي من قبل روزفلت وتشرتشل في الرابع عشر من آب من هذا العام، أي قبل انخراط أميركا في الحرب بقواها العسكرية، فتبين بوضوح ما كانت تبيته هذه الدولة من مخططات لتحقيق سيطرتها على العالم بعد ايقاع الهزيمة بالفاشيين الأوربيين والعسكريين اليابانيين وتحطيمهم. ذلك لأن قدماء المستعمرين الانجليز والفرنسيين و بقيتهم من الأوربيين كانوا في تلك الأثناء محطمين بنتيجة العمليات الحربية فهم لا يجدون سندا الا في الاحتياطي العام للرأسمالية الاحتكارية العالمية الذي هو الولايات المتحدة الأميركية.  فنجد اذن أنه كان على حركات التحرر الوطني في الجملة الانسانية، مع الاشتراكيين في العالم وفي طليعتهم الاتحاد السوفياتي والصين، أن ينهجوا في تلك الظروف الاستثنائية طريقهم الخاص في مواجهة مخططات الولايات المتحدة الأميركية في بناء الاستعمار الجديد.  وكان العالم كله حينذاك الى جانبهم ضد تلك الطغمة الاحتكارية القابعة في هذه الدولة وليقوموا بإنهاء مرحلة انتقال الجملة الانسانية الى الطور العلى بعد نفي الرأسمالية وتحطيم نظامها ومعه المستعمرين: كانت حركات التحرر تلك، كما رأينا أعلاه، تشغل نفسها وتعللها بتحرر من نظام المستعمرين على يد النازيين والفاشيين بسبب عمائها عن التطورات الواقعية لجملة المجتمعات الانسانية وجهلها وظيفتها في العمل على دفع هذه الجملة في الاتجاه الايجابي نحو طورها الأعلى الذي لا تجد الا فيه حريتها الحقيقية بكل أبعادها.  وتجمد الاشتراكيون في العالم في حدود الجهاد للقضاء على أولئك النازيين والفاشيين وشركائهم العسكريين اليابانيين، وهذا أمر يلائم، كما رأينا أعلاه، مخططات احتكاريي الولايات المتحدة الأميركية الهادفة الى التحكم في عالم ما بعد الحرب.

 

ان من المفقارات العجيبة ان يكون للرجعيات في تلك الأيام دعوات وعقائد غير انسانية عملوا بكل جد واصرار على تحقيقها دون أن يحرصوا كثيرا على تغطية وحشيتها كما فعل النازيون وشركاؤهم، أو انهم غطوها بتظاهرهم الكاذب في الدفاع عن التحرر والديموقراطية والعمل من أجل عالم أفضل كما فعل الأميركيون وشركاؤهم عندما ساهموا في اشعال نار الحرب العالمية الثانية وخاضوها، في الوقت الذي اهملت فيه قوى التحرر العالمية صياغة أي عقيدة أو نظرة موحدة لكل أطرافها في الجملة الانسانية لعالم مابعد الحرب.  وكان كل ماتم بهذا الخصوص الاعلان من آن لآخر عن تطوير للماركسية كان يسمى على الدوام "خلاقا"، وكأن نهايات مرحلة الانتقال الحالية لجملة المجتمعات الانسانية الى الطور الأعلى المقبل لايستحق عقيدة مناسبة لظروف العصر كما استحقتها بداياتها عندما قامت واستكملت الماركسية.  ذلك لأن مرحلة الانتقال هذه لم تحظ، كما بينا أعلاه، بانتباه الاشتراكيين عندما حاولوا بناء الاشتراكية في بلد واحد في اعقاب ثورة اكتوبر، وحجبها عنهم اوهام بناء الاشتراكية في بلد واحد أو معسكر واحد في ظل رأسمالية مستشرية.

 

ان ميثاق الأطلسي، الذي وضعه عام 1941 رئيس الولايات المتحدة روزفلت ورئيس وزراء بريطانيا تشرشل مع ماتبعه من تنظيمات ومخططات في مختلف المؤتمرات التي عقدها رؤساء دول الحلفاء اثناء الحرب وفي نهايتها وخاصة منها مؤتمر سان فرانسيسكو الذي وضع فيه مندوبو الأمم ميثاق الأمم المتحدة، نقول أن ميثاق الأطلسي مع متمماته كان نتيجة نشاط دولي تهيمن عليه الاحتكارية الأميركية وتوجهه نحو تحقيق أهدافها في عالم مابعد الحرب.  وكان هذا النشاط في الواقع تصحيحا لشبيهه الذي طرحه ويلسون رئيس الولايات المتحدة في اعقاب الحرب العالمية الأولى وانتهى الى الفشل كما أشرنا أعلاه. ففي هذه المرة كانت الظروف أفضل بالنسبة الى الأميركان: قوى التحرر العالمية، وطنية ثورية واشتراكية، كلها مخدرة بأوهام التحرر الكاذب، وقدماء المستعمرين يخرجون محطمين من تلك الحرب الضروس. فبنت الاحتكارية الأميركية عالم ما بعد الحرب على شاكلة شركاتها الاحتكارية التي وصفناها أعلاه باقتضاب: رأينا النظام الخادع للشركات الرأسمالية المساهمة المغفلة التي يتحكم فيها قلة من الكبار الأقوياء بمئات وآلاف "شركائهم" المساهمين الصغار.  لقد خططت الاحتكارية الأميركية لبناء عالم مابعد الحرب فعملت على اقامة الشركة العالمية التي تضم امم الأرض، صغيرها وكبيرها، وتقوم على قيادتها مؤسسة الأمم المتحدة مع تفرعاتها المختلفة كمجلس ادارة مع مختلف هيئات القيادة. ولضمان الهيمنة الأميركية على هذا النظام العالمي خطط ممثلوا الاحتكارية في حكومة الولايات المتحدة لتنفيذ الامور التالية:

 

أولا- القضاء على الامبراطوريات الاستعمارية القديمة كي لايكون هناك في عالم الرأسمالية اي اقطاع يقسم النفوذ ويوزعه على أكثر من جهة.  لذلك تحررت الأمم من الاستعمار القديم لتنخرط في النظام العالمي الجديد الذي تتزعمه وتسهر على ديمومته الولايات المتحدة الاميركية ويساعدها الاحتكاريون الرأسماليون قدماء المستعمرين.

 

ثانيا- العمل بكل الوسائل على ابقاء المتحررين من الاستعمار القديم في النظام الرأسمالي تحت الهيمنة الاميركية.  وان للولايات المتحدة الأميركية في هذا المجال تجربة طويلة في أميركا اللاتينية حيث كانت وماتزال تدفع بعملائها ليتولوا الحكم في بلادهم هناك ويقوموا بدلا من جيوش الاحتلال الأجنبية بتذليل بلادهم لمصالح احتكاريي الولايات المتحدة الأميركية.

 

ثالثا- نجد في هذه الترتيبات العالمية التي أقامتها الولايات المتحدة الأميركية أن استقلال الأمم يتناسب طردا مع قوتها في النظام العالمي. فهو يتناقص مع الضعف والفقر حتى يصل الامر بضعاف الأمم الى أن تكون أحوالها أشد سوءا من أحوال المستعمرات القديمة.  ومع كل هذا نجد أن دولة مثل باناما تأتي كشريكة للولايات المتحدة تماما كما يأتي المساهم صاحب السهم أو السهمين كشريك للمساهم الكبير في الشركة المساهمة المغفلة التي يتحكم بها هذا المساهم الكبير.

 

رابعا- ان الولايات المتحدة الأميركية قد اتخذت كل الاحتياطات اللازمة كي لاتفلت زمام الأمور من يدها في مؤسسات الأمم المتحدة.  فجعلت مثلا لمجلس الأمن، الهيئة التنفيذية الرئيسية للأمم المتحدة، أعضاء دائمي العضوية أكثريتهم من الدول الرأسمالية العظمى التي كسبت الحرب والى جانبهم أقلية اشتراكية تتألف من الاتحاد السوفياتي والصين.  ويتمتع كل عضو من هؤلاء الأعضاء الدائمي العضوية بحق النقض عند التصويت في القضايا المطروحة على المجلس المذكور.  وفي النتيجة لايمر أي قرار من قرارات الجمعية العامة الى التنفيذ الا من خلال مجلس الأمن والا برضاء المندوب الأميركي.  فتتمكن الولايات المتحدة بهذه الآلية أن ترتكب ماتشاء من جرائم بحق الانسانية ودولها مادامت متسلحة بحق النقض ومحمية به. وهذا بالاضافة الى مالها من تأثير ونفوذ في معظم دول جملة المجتمعات الانسانية بحيث تتمكن من كسب أصوات هذه الدول في مختلف هيئات الامم المتحدة.

 

خامسا- تغطية سطح الكرة الأرضية بأحلافها العسكرية وقواعدها العدوانية التي تسهر على سلامة نظامها العالمي.

 

سادسا- الاشراف على المؤسسات الدولية للمساعدات من قبل الولايات المتحدة الاميركية كي يكون بيد هذه الدولة خنق من تشاء اقتصاديا ومساعدة من تشاء.

 

وخلاصة القول ان هذه الملامح التي نعددها هنا هي ملامح مايسمى الاستعمار الجديد الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية التي صهرت الامبراطوريات الاستعمارية القديمة في امبراطورية عالمية متعددة الرؤوس موحدة بزعامتها.

 

مرحلة انتقال الجملة الانسانية في ظل الاستعمار الجديد

 

خرج الاتحاد السوفياتي في نهاية الحرب العالمية الثانية كأضخم قوة عالمية بأقوى جيش بري في العالم.  ومثل الاتحاد السوفياتي حينذاك بداهة القوة العالمية المادية للعقيدة الاشتراكية العلمية.  وكانت الولايات المتحدة الأميركية تمثل حينذاك القوة المادية العالمية للعبودية الرأسمالية والمميز الأساسي لهاتين القوتين العالميتين هو أن الاشتراكيين في العالم أصبح لهم في نهاية تلك الحرب معسكرا جبارا يحيط بالاتحاد السوفياتي، وهو بدوره محاط بكل التطلعات الثورية الانسانية الى التحرر والخلاص من العبودية الرأسمالية.  أما العبودية الرأسمالية فكانت منبوذة مرذولة من الأكثرية الساحقة لجماهير جملة المجتمعات الانسانية واحتياطيها الوحيد كان الولايات المتحدة الأميركية المحاطة ببقية رأسماليي أوربا واليابان المقسومين بين منتصرين ومزومين، وهم كلهم محطمون بتلك الحرب ومحاطون بكره وحقد جماهير جملة المجتمعات الانسانية.

 

ولكن هذا العالم العبودي الأخير كانت له ميزة الواقع بينما كان على الساعين الى التحرر نفي هذا الواقع واستبداله بآخر يحقق التحرر الحقيقي للانسان. أي أنه كان على أولئك الساعين الى التحرر أن يهبوا ويعملوا على إنهاء مرحلة الانتقال للجملة الانسانية الى الطور الأعلى ويقودوا هذه الجملة الى عتبة هذا الطور الذي هو طور الاشتراكية المنتصرة عالميا بحسب المفهوم العلمي للماركسية.

 

كانت جملة المجتمعات الانسانية تتجه بقوة نحو طور التحرر الحقيقي، الا أنه كان لا بد من قيادة هذا الاتجاه بحزم وتصميم ليتحقق الخلاص من العبودية الرأسمالية، فالجملة الانسانية لا تسير بقانون العطالة فقط وانما يؤثر في حركتها وسيرها مخططات أصحاب المصالح فيها.   فقيادة الاتحاد السوفياتي مع بقية المعسكر الاشتراكي الذي حالف الرأسماليين ضد الفاشيين في الحرب انغمست بكليتها الى جانب الحلفاء الرأسماليين في عملية ترتيب عالم ما بعد الحرب وهي مأخوذة بأوهام التقدم نحو الجديد الذي ينتفي فيه الاستعمار القديم، ولكن دون انتفاء العبودية الرأسمالية التي أخذت حينئذ بتجديد بنيتها لتقيم عبوديتها الجديدة.

 

لقد تسترت الولايات المتحدة الأميركية في تلك الأيام، لخداع جماهير المقهورين في العالم، وراء سعيها الى هدم الامبراطوريات الاستعمارية القديمة المنهارة.  فتوهمت القوى الوطنية في المستعمرات وأشباه المستعمرات فرأت أن هذا المسعى الأميركي من علامات تحرر هذه الدولة الاحتياط للعبودية الرأسمالية ومناصرتها لمبدأ تقرير المصير وخلاص المستعمرات من جيوش المحتل الأجنبي.  أما قوى الاشتراكية فكانت ترى ذلك المسعى الأميركي يحقق "خطوة تقدمية" مادام يهدف الى الخلاص من تلك الامبراطوريات الاستعمارية القديمة.  وبالفعل فقد تحدث الملحق العسكري السوفياتي بحضوري في باريز، في يوم احتفال سفارتنا السورية هناك بعيدنا الوطني لعام 1950 فقال معلقا على أحداث المغرب العربي حينذاك: ان الأميركان يسعون لاحلال نفوذهم في هذا القطر العربي مكان الاستعمار الفرنسي، وهذه "خطوة تقدمية" ما دامت تحقق الخلاص من القديم البالي المتعفن.  ولكن الولايات المتحدة الأميركية عملت في تلك الأيام على تشجيع هدم الامبراطوريات الاستعمارية القديمة، تلك الاقطاعيات المتنافرة التي كان النظام الرأسمالي ينقسم بها الى عدد من القوى المتعادية أبدا، "لتصحح" هذا النظام وتوحده وتقيم به استعمارا جماعيا عالميا تحت زعامتها وبقيادتها المباشرة، لتوحد الامبراطوريات في امبراطورية عبودية عالمية متعددة الرؤوس بزعامتها، وبهذا أطالت عمر العبودية الرأسمالية.

 

كانت الخطة الأميركية للوصول الى الغاية المذكورة تتلخص بالخطوات التالية:

أولا: تنظيم قدماء المستعمرين في كتل سياسية واقتصادية وعسكرية تتزعمها الولايات المتحدة الأميركية.  فرأينا مثلا وزير الخارجية الأميركي جورج مرشال يأتي الى أوربا حاملا معه مشاريع مساعدات للصناعات الأوربية التي دمرتها الحرب وللحكومات الأوربية على أن تصرف هذه المساعدات تحت إشراف لجان أميركية وبشروط تربط تلك الصناعات والحكومات بمخططات أميركا لتزعم العالم الرأسمالي.  وقد رحبت الرجعية الأوربية، التي كانت ترتجف خوفا من المد الجماهيري الذي تضخم بشكل خطير في أعقاب الحرب، بتلك المبادرة الأميركية التي أتت تساندها لاحتواء ذلك المد الجماهيري وتشتيته.  وغنمت الاحتكارية الأميركية بتسللها في الصناعات الأوروبية كنوزا من الأسرار الصناعية لا تقدر بثمن ساعدتها زمنا طويلا على تحقيق سبق عالمي في صناعتها بالاضافة الى أنها انفردت تقريبا في السوق العالمي لانشغال منافسيها الأوربيين واليابانيين ببناء اقتصادهم الذي دمرته الحرب بالاضافة الى تدفق العلماء والاختصاصين المهرة على بلدها هربا من الخراب الذي خلفته الحرب في بلادهم.

 

ثانيا: تشجيع المستعمرات وأشباه المستعمرات على العمل للخلاص من قدماء المستعمرين والتحرر من علاقاتها القديمة بهم بغرض هدم امبراطورياتهم وازالة أنقاضها لبناء الاستعمار الجديد وامبراطوريته العالمية المتعددة الرؤوس الموحدة بزعامة الولايات المتحدة الأميركية.  لذلك وجدنا الأميركان يتسللون في الحركات الوطنية في كل أنحاء العالم تحت قناع تشجيع هذه الحركات ومساعدتها للتخلص من قدماء المستعمرين ولكن للانخراط في نظام الاستعمار الجديد وليس أبعد من ذلك.  وكان هؤلاء المستعمرون الجدد (وما يزالون) يستعينون بالانتهازيين المرتزقة المندسين في صفوف المناضلين من أجل الحرية والتقدم ويعملون على مساعدتهم للتقدم في هذه الصفوف وقيادتها لتوجيه الكفاح في الاتجاهات الملائمة لبناء الاستعمار الجديد.  وكان الأميركان، في حالة تعذر ضبط الحركات الوطنية لتسير بحسب مخططاتهم يعملون بكل لوسائل لضربها بالتحالف مع قدماء المستعمرين والرجعيات المحلية: ان المستعمرين الأميركان مثلا آزروا الحركة الناصرية في الخمسينات والستينات من هذا القرن لتقويض الاستعمار البريطاني في المنطقة العربية والاطاحة بقواعده وعملائه فتسللوا بهذه المناسبة في الحركات الوطنية العربية فكان لهم فيها تيارهم الرئيسي المتمثل بالسادات ولفيف أعوانه من العملاء والانتهازيين الذين ورثوه بعد قتله ورفعوا بوقاحة لامثيل لها أعلام الخزي وعار الخيانة بعد أن مكنوا لأسيادهم المستعمرين الجدد في المنطقة وعلى آبار النفط العربي الاسلامي.

 

ثالثا: بعد أن سحب قدماء المستعمرين جيوش احتلالهم من المستعمرات وقامت الحكومات المحلية في هذا العالم الذي امتد اليه الاستعمار الجديد، أقامت الولايات المتحدة الأميركية جهازا عدوانيا نشرته على سطح الكرة الأرضية لتحقيق ستراتيجية الحصار المزدوج للمعسكرين، الاشتراكي والعالم المنعتق مجددا من الاستعمار القديم، وذلك لفصل هذين العالمين الواحد عن الآخر فلا تقوم وحدة نضال تجمع الاشتراكيين والحركات الوطنية ضد المستعمرين جميعا.  ولتقوم بشن حرب نووية عند أقل بادرة منه تعارض مخططها الاستعماري العالمي (سياسة حافة الجحيم النووي) ومحيطة الحركات الوطنية التي لا تخضع لارادتها ولا تسير وراء عملائها فيها بضباب الأكاذيب واتهامها على الأخص بالشيوعية أو ممالأة الشيوعية لتحجيمها وابعاد جماهير المتدينين والمحافظين عن تأييدها.  وقد قام الجهاز العدواني العالمي الآنف الذكر على الترتيبات التالية:

1 - الأحلاف العسكرية التي تلف الكرة الأرضية: من حلف الأطلسي الى حلف الدول الآميركية فحلف جنوب شرق آسيا وحلف سعد أباد الذي ضم أميركا وباكستان وايران وتركيا ثم انتهى الى حلف بغداد.

2 - آلاف القواعد والمواقع العسكرية على مشارف العالم الاشتراكي والعالم الثالث.

3 - تضخيم جيوش العدوان وتصعيد موازنات التسلح الى أقصى الحدود.  وكان لهذا الأمر عدد من الغايات يأتي في مقدمتها تصعيد الأرباح الخيالية لمنتجي الأسلحة وتجارها ثم إنهاك موازنات الدول الاشتراكية التي تجبر على الدخول في اللعبة الشيطانية لسباق التسلح كي لا تتخلف بقواها الدفاعية عن قوى المستعمرين العدوانيين.  ثم يأتي توزيع قوى العدوان هذه في القواعد والمواقع الآنفة الذكر: من الولايات المتحدة الأميركية الى أوربا فالشرقين الأدنى والأقصى وما بينهما وكل موقع مفيد للإشراف على كل مايجري على سطح الكرة الأرضية والرد بالسرعة الممكنة عند اللزوم.

4 - إقامة "عقد" ينطلق منها العدوان ويتفرع كلما لزم الأمر، وهي تشكل مراكز أساسية للقواعد والمواقع المذكورة أعلاه.  وأكبر هذه العقد هي بطبيعة الحال أرض الولايات المتحدة الأميركية ثم أراضي الدول الحليفة، فالدول الحدود للاستعمار الجديد مثل اسرائيل وجنوب افريقيا وأستراليا وغيرها.

5 - نشر تفرعات "الجملة العصبية" للجهاز العدواني العالمي الآنف الذكر في مختلف أنحاء الأرض.  ودماغ هذا الجهاز يتمثل بما يسمى مكتب الأمن القومي وامتداداته في مختلف مؤسسات الدولة الأميركية لا سيما منها جهاز المخابرات المركزية ال (سي آي أي) المتفرع في كل أنحاء العالم.

6 - مركزة الاشراف على المال العالمي بانشاء صندوق النقد الدولي الذي تتحكم الولايات المتحدة الأميركية بادارته على اعتبار أنها تأتي في مقدمة المساهمين فيه.

وبهذه التدابير وتفرعاتها وأمثالها وكل ما ينجم عنها من مخططات وأفعال عدوانية استمر المستعمرون الجدد في نهب العالم المستضعف وتكديس الثروات في خزائنهم وشحذ وسائلهم في قهر الناس في الجملة الانسانية كلها.

 

ان الحركات الوطنية في العالم الثالث المتخلف الفقير، الحركات التي قلنا أعلاه أنها حوت ما أجهضها في  النتيجة من تيارات الانتهازيين والدجالين وعملاء المخابرات المركزية والجهلة والحمقى، تنفست الصعداء عندما تخلصت من قدماء المستعمرين في أعقاب الحرب العالمية الثانية وظنت أنها أصبحت قادرة في الأجواء الجديدة التي قامت حينذاك على اللحاق بالمتقدمين ماديا بممارسة التنمية الاقتصادية.  فرفع اشتراكيو العالم الثالث شعار عدم إخافة "البرجوازية الوطنية" والاستعانة بها لانجاز التنمية المذكورة وتحقيق التقدم المادي اللازم لادراك سوية المتقدمين.  وكان غياب الدعوة المستندة الى عقيدة تنير للناس واقعهم الذي يعيشون فيه وترشدهم الى الطريق الصحيح للخلاص أن وقعت جماهير أولئك المقهورين في جحيم شبكة المستعمرين الجدد وانخرطت أنظمتها في نظام العبودية الجديدة وقادتها يلهثون في الركض وراء سراب إدراك سوية أولئك المتقدمين ماديا.  فتلك البرجوازية الوطنية غدت بعد أن تضخمت بمجموع الذين اغتنوا من الانتهازيين واللصوص جهاز "وقافين" للبرجوازيين الاحتكاريين المستعمرين الجدد يسهر على سلامة مصالح هؤلاء الاحتكاريين في عالمه المتخلف التعيس فيزيده تخلفا وقهرا.  وبدلا من بناء تلك العقيدة الثورية التي تنير للناس واقعهم وتهديهم طريق الخلاص من جحيم الرأسمالية أخذ أولئك الحمقى منظرو التنمية في أجواء هذا الجحيم في طرح مختلف اجتهاداتهم للتقدم المادي قبل الخروج من قفص المستعمرين.  وحدثت في النتيجة "تنميات" في بلاد العالم الثالث بثمن قروض استعمارية جعلت من اقتصاد هذه البلاد مقصرا عن عبء وفاء فوائدها وهبطت بجماهير أولئك المقهورين في جحيم العبودية الرأسمالية المرابية الى دركات دون تلك التي كانوا فيها أيام الاستعمار القديم.

 

قلنا أن قادة الاتحاد السوفياتي الذين حالفوا الرأسماليين في الحرب العالمية الثانية انغمسوا في نهاية هذه الحرب مع شركائهم هؤلاء في بناء عالم ما بعد الحرب على أن يكون لهم في هذا العالم حصة، أن يتزعموا معسكراً هو المعسكر الاشتراكي، ليطبقوا نظرية "بناء الاشتراكية في بلد واحد" هو الاتحاد السوفياتي، أو ربما، في معسكر دول تحيط بالاتحاد السوفياتي.  وقد أشرنا أعلاه الى أن مثل هذا المسعى لن يؤول الا الى محاولة تحقيق وهم بناء الاشتراكية تحت شرفات الرأسمالية.  فالاشتراكية لا تقوم الا بنفي الرأسمالية ولا يجتمع في الجملة الانسانية طوران متناقضان متعارضان تامي الأبعاد وانما يسود في هذه الجملة، التي هي كائن واحد متماسك، طور واحد سائد ينتفي في نهايته  بالطور الذي يليه خلال مرحلة انتقال، ويصبح هذا الطور الأخير هو السائد وحده فيها وهكذا دواليك.  نقول اذن أن قادة الاتحاد السوفياتي وشركاءهم في المعسكر الاشتراكي استمروا في الركض وراء ذلك السراب بكل بيروقراطيتهم الوثنية التي أغلقت على نفسها كل المنافذ الى التكوين الحقيقي للواقع الانساني واتجاهات تطوره.  وألقت خلف ظهرها قوانين العلم التي يأتي في مقدمتها قوانين المادية الجدلية والمادية التاريخية وبدلا من قانون وحدة وصراع المتضادات مثلا نادى الاشتراكيون بالتعايش السلمي والمباراة السلمية بين المتضادات المتصارعة في الوقت الذي أكد فيه الرأسماليون غير المؤمنين بالجدلية صحة هذه الجدلية باستمرارهم في الهجوم على كل تقدم انساني.  وبدلا من قانون نفي النفي أقر الاشتراكيون بقاء الرأسمالية التي يجب أن تنفى, لتحيط بمعسكرهم وتعمل على تهديمه ليكون منفيا بدل أن يكون نافيا، وذلك بحجة المحافظة على السلام العالمي، وكأن السلام والحرب مرتبطان بالضحية فقط وليس بطرفيهما: المعتدى عليه والمعتدي، السائر باتجاه مسيرة التاريخ والذي يحاول تجميد الكون عند مصالحه.  وكذلك بدلا من القانون القائل "بأن التراكم الكمي لا بد من أن يؤدي الى تغير كيفي" نجد خروشوف ينادي بوجوب وقوف المستعمرين الأميركان والاشتراكيين السوفيات معا لاطفاء كل حرب تشتعل في أي مكان من العلم، أي اخماد كل ثورة تشتعل في العالم ضد هؤلاء الأميركان مشعلي الحروب العدوانية التي أودت في أيام السلم بعدد من الأرواح البشرية لا يقل في أهميته عن ذلك الذي أزهقته الحرب العالمية الثانية.  وضيق في النتيجة وثنيو الاشتراكية الحياة على أنفسهم وعلى الناس وبنوا باسم الموضوعية الوهمية عالما خياليا ليستمروا في محاولة الوصول الى ما لايمكن الوصول اليه بطريق الضلال، وذلك ركضا وراء السلطة الفارغة في الواقع ونتيجة الأمر.  فوقع مالابد من وقوعه في النهاية عند امتهان الحقائق والسير في ظلام لاتنيره عقيدة صحيحة فتتقسمه الوثنيات المتناقضة.  فقد قام العداء بين جناحي المعسكر الاشتراكي العالمي: قام الخلاف بين المذهب الصيني الماوي، الذي ينادي بمحاصرة المدن بالفلاحين في بلد يغرق فيه الوف العمال في خضم مئات ملايين الفلاحين، وبين المذهب الاشتراكي الأوروبي، الذي ينادي باسناد كل السلطات الى العمال في بلاد تقدمت فيها المكننة حتى اجتاحت الريف.  ولكن الأمر هو تحرير الانسان بكل فئاته بالطريقة المناسبة. كما أن التحرير لايتناول فقط مجتمعا معينا، الاتحاد السوفياتي أو الصين، وانما يهدف كل الجملة الانسانية بكل أممها.

 

ان مسيرة الجملة الانسانية الى طورها المقبل لاتكون بتجزئة التقدم الانساني، بحيث يسير كل مجتمع بمفرده وبحسب ظروفه الخاصة الى طوره الأعلى وبالتالي يتعدد هذا الطور الأعلى بمقدار تعدد المجتمعات المنتقلة اليه، وانما تكون بتقدم واحد لكل الجملة الانسانية يأخذ فيه كل مجتمع دوره بحسب ظروفه بحيث تشكل المحصلة العامة لحركات المجتمعات مسيرة انتقال هذه الجملة الى الطور الأعلى.  وخلال هذه المسيرة تزداد أبعاد البناء الاشتراكي العالمي وضوحا في مختلف المجتمعات الانسانية وخاصة منها في تلك التي تتقدم الثورة الانسانية العالمية وتقودها، تزداد الأبعاد الاشتراكية وضوحا بشكل تراكم كمي هنا وشكل تغير كيفي هناك.  وفي هذه الأثناء يتقهقر نظام الرجعية العالمية وينحسر هنا وهناك ليصبح ناضجا للسقوط والاندثار في نهاية مسيرة الانتقال وليقوم النظام الاشتراكي العالمي بكل الأبعاد الكافية ليكون اشتراكيا حقا وعالميا ومنتصرا.  وكذلك نجد أن مقاومة تقدم الجملة الانسانية الى طورها الاعلى هي مقاومة عامة واحدة غير مجزأة تقودها حاليا جهة واحدة هي الولايات المتحدة الأميركية ويشترك فيها رجعيو الجملة الانسانية كلهم: كل رجعية بدور يناسب ظروفها.  فكان اذن على المعسكر الاشتراكي الذي بلغ عدد سكانه أكثر من مليار انسان تشيع فيهم رغبة الخلاص والتقدم بالجملة الانسانية الى طورها الأعلى أن يقف ليوازن بقواه العسكرية معسكر الرأسماليين الذي يقوم عليه قبضة من العدوانيين قاهري الانسان المتناقضين فيما بين بعضهم بعضا والمكروهين من بقية الناس الواقعين تحت ظلمهم.  أما هؤلاء المظلومون، وفي طليعتهم المتخلفون من انسان المستعمرات القديمة وأشباه المستعمرات، فكان عليهم أن يتخلصوا بكل الطرق التي يأتي في مقدمتها قتال تلك القبضة من المستعمرين الجدد وتدمير مرتكزاتهم في تيارات الخيانة والانتهاز والدجل في جماهيرهم المقهورة ليبلغوا الحرية من نظامهم العالمي، وذلك ضمن عقيدة تنير للجميع، وطنيين واشتراكيين، واقعهم وتجعلهم كتلة واحدة يؤدي كل منهم فيها دوره المناسب لظروفه وامكاناته.  ونحن لانقول مانقوله هنا جزافا ورجما بالغيب وحبا بالمغامرة فقد جرب هذا الخط الذي نقترحه في العديد من تلك الظروف العالمية: في كوريا والهند الصينية واميركا اللاتينية والمنطقة العربية وغيرها دون أن تتعرض الجملة الانسانية لأخطار الحروب الحديثة الماحقة.  ولكن الذي جرى كان على عكس الخط المذكور على العموم عندما كان المجاهدون في سبيل التحرر يفتقدون العقيدة المنيرة فتطاوع الحركات الوطنية المستعمرين الجدد.  وتنخرط في نظامهم العالمي مخدوعة بالاستقلال الزائف الذي يقدمه هذا النظام، في الوقت الذي تفشى فيه الانقسام الوثني في المعسكر الاشتراكي فتلهى الصينيون بقفزاتهم الفاشلة وركض السوفيات وراء السلم الكاذب ومحاولة استرضاء الأميركان الذين كانوا حينذاك لايتوقفون عن شن العدوان تلو العدوان هنا وهناك في العالم ويهرقون دماء الملايين وينشرون الفساد.

 

ماكان المستعمرون الجدد بتلك القوة التي بالغ قادة السوفيات بتضخيمها ليوجهوا جهودهم وراء التعايش السلمي معهم ويحاولوا الوصول الى بناء الاشتراكية في بلدهم تحت شرفات نظامهم الاستعماري العالمي. وماكانت قوة أولئك تبرز الا في غياب مقاومة هؤلاء بشكل صحيح يقوم على المسيرة التاريخية التي تحرك العالم الذي لاينفك يتطلع الى الخلاص من استعمارهم وعدوانهم.  ماكانت قوتهم فعالة الا في تفكك الحركات الوطنية وانتشار الفساد في صفوفها وفي جمود الاشتراكيين وعطالتهم في وثنياتهم. وبدلا من اثارة ذلك العالم المقهور بشكل صحيح لحرمان المستعمرين الجدد من قيمه وثرواته التي زادت في قواهم المادية, خضع العالم، الذي كان عليه العمل على تقويض كيانهم ونفي نظامهم العالمي، لابتزازهم وتهديداتهم بحجة السعي الى التفوق عليهم سلميا من قبل المعسكر الاشتراكي، واللحاق بهم ماديا من قبل الفقراء المنكوبين باستعمارهم ونهبهم.  فكانت النتيجة اطالة مرحلة انتقال الجملة الانسانية الى الطور الأعلى بالاستعمار الجديد.

 

نهايات مرحلة انتقال جملة المجتمعات الانسانية

 

كان اذن بنتيجة العماء عن رؤية جملة المجتمعات الانسانية، أعلى أشكال الحياة على الأرض، وانتشار الضلالات في كتل المقهورين بالعبودية الرأسمالية الاحتكارية وبين قادتها في الحركات الوطنية وفي المذاهب الاشتراكية العلمية، ان تردت بلاد العالم الثالث في جحيم العبودية الرأسمالية الاحتكارية الى دركات دون تلك التي كانت فيها ايام الاستعمار القديم.  وسقطت الصين في الفشل عندما طلبت تحقيق مالايمكن تحقيقه وهي منفردة، باسلوب غير مجد على كل حال كاسلوب القفزة النوعية مثلا، وعادت لتنضم مرة أخرى الى جحيم العالم الثالث.  وانتهى الاتحاد السوفياتي ومعسكره الأوروبي الى "البيريسترويكا" وانهياراتها في هذا المعسكر الذي تلاشى مؤخرا، والى أن تبلغ الحاجة بالسوفيات الى أن يستدينوا من أشد الرجعيات سوادا، من السعودية، أربعة مليارات دولار في أواخر تشرين الثاني من عام 1990 لقاء مساندتهم اياها في ازمة الخليج.  لقد انهارت بهذا اذن كل الأوهام التي نسجها وثنيو الاشتراكية وتبين بما لايدع مجالا للشك أن المرحلة الحالية التي تمر بها الجملة الانسانية هي مرحلة انتقال هذه الجملة الى الطور الاعلى وليس بناء الاشتراكية في أي مجتمع منفرد أو معسكر مجتمعات محدود في الوقت الذي تبقى فيه مجتمعات أخرى متخلفة ويموت فيها الانسان جوعا.

 

ان الجملة الانسانية، كما وصفناها أعلاه وكما تكلمنا حولها في عدد من البحوث الأخرى التي أتيح لنا نشرها، هي الكائن الذي نشأ وارتقى بتفاعل المجتمعات الانسانية عبر التاريخ الطويل لنشوء وارتقاء هذه الانسانية فمر عبر عدد من الأطوار حتى بلغ طور الرأسمالية.  وارتقاء هذا الكائن ما كان على الدوام ايجابيا بشكل مطلق بل كان يمر بأطوار ومراحل عبودية يهبط فيها الانسان في دركات العذاب والشقاء عندما تتسلط الأقلية على سواد الناس وان تحقق  التقدم المادي في أثناء ذلك باستمرار على العموم.  ولكن الارتقاء الايجابي للكائن الاجتماعي يعني بداهة صيرورة هذا الكائن في تطوره نحو الكمال.  ومن علامات توطد اتجاه جملة المجتمعات الانسانية نحو الكمال أن تقوم العلاقات التالية فيها بين الأفراد في كل مجتمع من مجتمعاتها وبين مجتمعاتها وذلك عن رضى وايمان وفهم:

 

1 - علاقة التعارف

القائمة على تبادل المعروف بين الناس والمجتمعات والأمم وهي ضد التناكر الذي يقوم في العبوديات والوثنيات حيث يتعادى الناس ويعملون على أذية بعضهم بعضا.

2 - علاقة التعاون

القائمة على تشكيل قوى اجتماعية مناسبة في المجتمع، وقوى عالمية مناسبة بين المجتمعات والأمم للتغلب على الصعوبات الطارئة والدائمة.

3 - علاقة التكامل

القائمة على نفي الفردية وعلى جماعية العمل وتوزيع الأدوار والوظائف الاجتماعية بحسب المواقع والإمكانات والظروف في المجتمع الواحد وبين المجتمعات والأمم.

4 - علاقة التكافل (الكل من أجل الواحد والواحد من أجل الكل)

القائمة على قرابة الانسان لأخيه الانسان كفرد، وعلى انتماء الفرد للجماعة وكفالة الجماعة للفرد، وحرص الفرد على مصلحة الجماعة في المجتمع الواحد وبين المجتمعات والأمم، على اعتبار أن المجتمع الواحد والأمة الواحدة بالنسبة لجملة المجتمعات كالفرد الواحد في مجتمعه.

5 - أن تقوم العلاقات الآنفة الذكر في إطار قانون تكافؤ الفرص.

 

ان الذات الانسانية وكرامتها وحقوقها وواجباتها في دورها الاجتماعي مقدسة بشكل مطلق في الجملة الانسانية البالغة حد الكمال.  كما أن الجماعة والمجتمع والأمم في هذه الجملة الانسانية، كل فئة منها، لها ذاتها الجماعية المقدسة بشكل مطلق تجاه بعضها بعضا وتجاه الأفراد: لا سبيل الى انتقاص هذه الذات فردية كانت أم جماعية من قبل أي جهة كانت فردية كانت أم جماعية.  والجهاد من أجل تقدم جملة المجتمعات الانسانية نحو كمالها يقوم على العمل لتحرير الذات الانسانية الفردية والجماعية من كل امتهان وانتقاص من أي مصدر كان والعمل لتهيئة الأسباب المادية والروحية لتحقيق ذلك.  وان العبودية وانتقاص الذات الانسانية هما أمر واحد مهما كان شكل الانتقاص: ان عبودية سيد الرقيق مالك رقبة رقيقه مثلا كعبودية الرأسمالي مالك قوة عمل الانسان العامل لقاء سماحه له بالعمل في وسائله التي لا يمكنه امتلاكها. ونجد في نهاية الأمر أن الطور الأعلى الذي يسعى الانسان المجاهد الى تحقيقه في الجملة الانسانية والذي يسميه الاشتراكيون العلميون طور "الاشتراكية" هو في الواقع ذلك الطور الذي يعلن فيه وينفذ حق الذات الانسانية، فردا كانت أم جماعة لمجتمع أو أمة، بأن تأخذ كامل أبعادها دون أي انتقاص من أي شكل كان.  وسنحاول النظر فيما هو مقبل من هذا البحث الى المرتكزات المادية لهذا الطور الآتي، المرتكزات التي تدلنا عليها المسيرة العامة لجملة المجتمعات الانسانية في الماضي والحاضر وامتداد هذه المسيرة في المستقبل القريب.

 

ولقد أشرنا أعلاه الى أن الانسان قد وقع دوما في سعيه تحت تأثير دافعين متعارضين طبيعيين: دافع الفردية التي ترى في الجماعة والمحيط موضوعا ضروريا لاستخلاص عناصر البقاء واستمرار الحياة، ودوافع التعاونية المنبعثة من كون الانسان "حيوانا اجتماعيا" لا بد له من أقران يتعاون واياهم على بناء الحياة وتقدمها.  وان تخلف الوسائل وشح الموارد واتساع الحاجات على الامكانات، كل هذا وأشباهه غلب الفردية وقلب التعاون الى قسر وعبودية: تسابق الناس للحصول على ما يسد الحاجات وكانت النتيجة أن حصلت الأقلية على مايزيد عن حاجاتها وحرمت الأكثرية من كثير مما يسد حاجاتها.  واستفحل هذا الأمر عند تراكم الثروات بنتيجة التقدم حيث اشتد طمع الأقلية وتصاعد سعيها لحيازة المزيد منها على حساب حرمان الآخرين.  الأمر الذي أوجد هذا الصراع الأزلي بين الكثرة المحرومة والقلة الكثيرة وجعل من هذا الصراع السمة الأساسية لمسيرة التاريخ الانساني.

 

ان تلك القلة التي تتحكم بالمجتمعات البشرية في الأطوار العبودية تتنافس في كل مجتمع بين بعضها بعضا للفوز بأكبر المغانم وللتسلط والهيمنة وتتعارض مع مثيلاتها في المجتمعات الأخرى وتشن عليها الحروب لفرض عبوديتها على الآخرين.  ونجد في النتيجة أن جملة المجتمعات تتشقق وتتقسم في العهود العبودية وتبطئ في تقدمها نحو التكامل والتحام أجزائها بعضها بالبعض الآخر لتشكل بتركيبها الموحد ذي الأجزاء المتكاملة بوظائفها الشكل الأمثل الأعلى للكائنات الحية.  أما الكثرة المقهورة من البشر فترد على تلك القلة العادية على حقوقها الانسانية والمنتقصة لذواتها والمشوهة المعطلة لوظائفها في كل مجتمع وعلى نطاق المجتمعات والأمم, بالثورات التي تصحح من آن الى آخر مسيرة تقدم الجملة الانسانية نحو أطوارها العليا.

 

هنالك أيضا نوع من الثورات يشترك أعداء التقدم الرجعيون بصنع مسبباتها وهي الثورات العلمية الفكرية والتقنية التي تطور الوسائل وتنير الواقع وتسرع التراكمات الكمية المسببة لأزمات النظم الرجعية والممهدة لظروف التقدم الصاعد نحو التكامل.  وقد راكمت الانسانية بتجاربها العديدة المديدة خلال الدهور الطويلة من تاريخها كنوزا هائلة من المعرفة النظرية والعملية ومن التقنيات والوسائل المتقدمة.  وبلغ الامر حاليا بهذا الذي توفر من الامكانات المادية درجة أمسى معها أمام البشر خياران لا ثالث لهما: أن توضع هذه الامكانات بالشكل الصحيح لخدمة الانسان بجميع أصنافه أو أن تستمر القلة العبودية في غيها لنصل سريعا بهذه الامكانات الى تدمير أرقى أشكال الحياة على الأرض وتدمير نفسها في ذات الوقت.  فأزمات جملة المجتمعات الانسانية التي يسببها أولئك الرجعيون الطامعون الذين طالما حاولوا تجميد الحياة الواسعة في حدود مصالحهم الأنانية الضيقة ما عادت بالحجم الذي يسبب تلك الحروب الصغيرة ولا بالحجم العالمي الذي يسبب الحروب العالمية المودية بأرواح العديد من ملايين البشر والمدمرة للمدن بالجملة وانما أمست بحجم الحياة كلها على الأرض فلا بد اذن من العمل بكل جدية للوصول الى نفي ذلك النظام العبودي الذي يتيح للقلة تسبيب هذه الأزمات بأنانيتها المجرمة ثم لا تجد سوى الحروب العدوانية لمداواتها، الحروب التي قد تأتي على الحياة بأعلى أشكالها من الآن فصاعداً.

 

قلنا أن القلة الممسكة بالنظام العالمي المتحكمة بالمجتمعات المتنافسة بين بعضها بعضا المتسابقة لجر أكبر ما يمكن من المغانم، لم تسبب فقط انقسام مجتمعات الجملة الانسانية الى متقدمين ماديا ومتخلفين، الى متخمين ومحرومين، وانما قسمتها كما أشرنا أعلاه الى العديد من الجهات المتعادية فيما بين بعضها بعضا فتقوم فيها الفوضى العارمة التي لا بد أن تسبب التراكمات المؤدية الى الأزمات بمختلف أشكالها الاقتصادية والاجتماعية.  وقد قامت دوما الكائنات العملاقة عبر التاريخ في أثر الصراعات والمشاحنات الصغيرة.  قامت مثلا الامبراطوريات العبودية قي أعقاب الحروب بين العشائر والدول الصغيرة.  وقامت الشركات الرأسمالية العملاقة في أعقاب تنافس مئات ألوف المنتجين الصغار.  ورأينا أن قيام تلك الكائنات العملاقة عمق انقسامات الجملة الانسانية وضخم الصراعات والأزمات.  وللخلاص من هذه الأزمات التي قلنا أنها أمست بحجم الحياة ذاتها لا بد اذن من العمل على تطوير علاقات جملة المجتمعات الانسانية  وتطوير العلاقات في كل مجتمع بحيث لا تتولد تلك القلة التي تحرم الكثرة من وظائفها الصحيحة في حياة المجتمع وجملة المجتمعات وتنتقص ذواتها وتفرض عليها عبوديتها بمختلف أشكالها ودرجاتها.  عندئذ تنطلق جملة المجتمعات الانسانية نحو شكلها الأعلى ككائن موحد بمختلف أجهزته العامة التي تشكلها المجتمعات والأمم المتعارفة المتعاونة المتكاملة المتكافلة في اطار تكافؤ الفرص.  ولا يذهبن البال هنا الى أن ذلك الكائن الموحد يشبه بهذا التركيب الأجهزة الميكانيكية والأجهزة الأخرى المركبة صناعيا، تلك الأجهزة المحدودة الأبعاد الضيقة المجالات القريبة الأغوار المحرومة، باختصار، من ذكريات وتركات نشوء وارتقاء دام عشرات ألوف القرون.  ان ذلك الكائن هو جملة المجتمعات الانسانية القائمة على تركيب يتفرع ويتعقد ويتم بعملية نشوء يتطور نحو الارتقاء على العموم خلال تلك القرون العديدة المديدة ليصل الى ذلك الشكل الأعلى للحياة التي لا تحصى أبعادها ولا تحصر مجالاتها ولا تسبر أغوارها السحيقة ولا يحصى فيها ذلك التراكم الهائل لآثار تجاربها التي صقلتها وزودتها بالذات المدركة.

 

ونجد في هذا العصر، عصر الولايات المتحدة الأميركية الشهيرة بتنظيم الاجرام الذي صعد الى أشكال الاحتكار بعصاباته كما هي شهيرة بمنجزات التقدم المادي، أن جملة المجتمعات الانسانية قد انقسمت الى شمال متخم وجنوب فقير يموت فيه الانسان من الجوع وسوء التغذية وفقدان العناية الصحية.  كما تعددت جنسية الاحتكاريين والأثرياء الأسطوريين مما جعل الشمال المتخم لا يقتصر في وجوده على أوروبا وأميركا الشمالية بل تجده أيضا في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية في العائلات التي هبط عليها الثراء الأسطوري بالفوضى التي نشرها على العالم نظام الأميركيين اليانكي وبالاجرام الذي أتاحته هذه الفوضى لينتشر بشكل لم يشاهد له العالم مثيلا طوال تاريخه.  كما أن الجنوب المحروم موجود في هذا العصر في أقوام كل القارات فلا يقتصر على الجنوبية منها.

 

وقامت الشركات الاحتكارية الرأسمالية التي تعددت جنسيتها لتلتقط ما أمكن من القدرات المادية والعلمية والتقنية التي انتشرت هنا وهناك في جملة المجتمعات الانسانية بدون تفريق أيضا بين شمال وجنوب جغرافيين وان كان تكاثف هذه القدرات أكبر في أوربا وأميركا الشمالية.  ونجد في هذه الصورة العامة للجملة الانسانية أن العبودية الرأسمالية قد فشلت، كما هو طبيعي لا مفر منه، في إقامة نظام خال من التناقضات بين الأطراف الجشعة الطامعة، ومن الأزمات القاتلة، كما فشلت أيضا، وهو أمر طبيعي لا مفر منه، تلك الحركات التي تنشد التحرر من عبودية الرأسمالية فتقع في خطأ العمل في قفص هذه العبودية دون أن تبحث عن منفذ يخرجها منه.  وفشلت أيضا الاشتراكية العلمية بابتعادها عن العلم عندما أدارت ظهرها الى ما يحيط بها ويحاصرها من واقع عالم العبودية الرأسمالية وحاولت أن تبني طورا أعلى تنفرد به لنفسها فقط دون بقية العالم المقهور فوقعت في "البيريسترويكا" التي أنهت معسكرها بالانهيار.

 

التحول الى الطور الأعلى

 

أشرنا أعلاه الى أن الوسائل والخبرات التقنية التي توفرت في جملة المجتمعات الانسانية بلغت درجة أصبحت معها هذه الجملة أمام مفترق طريقين:

 

الأول: أن تتوزع هذه الامكانات المادية الهائلة بين كائنات متناقضة متعارضة، بين احتكارات رأسمالية، تستعين بها في تنافسها حتى الاقتتال والتفاني وفي ركضها وراء نهب وتجميع الثروات بكل طريقة وكل الأشكال التي منها وفي مقدمتها مثلا الغانغسترية والاتجار بالمخدرات وبالتالي انقسام مجتمعات الجملة الانسانية، كما هو حاصل اليوم، بين كثرة ساحقة من المحرومين وقلة ضئيلة من المتخومين، بين شمال وجنوب، وقيام الأزمات المؤدية الى حروب قد تودي بعالم الأحياء على الأرض.

 

الثاني: أن تتجمع هذه الامكانات المادية الهائلة في نظام يسود فيه تعارف المجتمعات والأفراد وتعاونهم وتكاملهم وتكافلهم في إطار تكافؤ الفرص، وبالتالي قيام الوحدة العضوية لجملة المجتمعات الانسانية وانطلاق هذه الجملة في سبيل التقدم الصاعد المستمر بدون عوائق تذكر.

 

ان تخلف جملة المجتمعات الانسانية ووقوعها في عبودية قلة من العوائل والأفراد اذ يعسر أمور الأكثرية الساحقة من البشر ويجعل من الحصول على ما يسد الحاجات الضرورية المباشرة لاستمرار الحياة مطلبا ملحا وهما مستمرا لا انقطاع فيه ولا راحة يحرض الحرص الأناني في الانسان ويدفعه الى امتلاك القوة المناقضة تجاه الآخرين بدلا من المتعاونة معهم وعلى توسيع مؤونة ما يسد الحاجات بدلا من الاطمئنان الى وفرة المجتمع وسهولته الأمر الذي يزيد في ضيق المجتمع على الضيق الحاصل فيه من تكالب الرأسماليين الاحتكاريين: ان الغواص مثلا يحمل على ظهره قارورة الأوكسجين عند غوصه في أعماق البحر ولكنه لا يحتاج الى هذه المؤونة يحملها على ظهره عندما يعود الى الهواء الطلق الذي يعطي الناس جميعا كفايتهم من الأوكسجين ليبقوا على قيد الحياة.  وكذلك نجد الجملة الانسانية في نظم العبودية كالنظام الرأسمالي مثلا مفازة لا بد للانسان فيها من مؤونة تعينه على اجتياز الحياة الصعبة في عبوديتها.  ونجد بالتالي اذن ضرورة وحتمية العمل على ازالة نظام العبودية الرأسمالية، وكل عبودية مهما كان شكلها، من الجملة الانسانية لتسخر تلك الامكانات الهائلة المتوفرة في هذه الجملة في بناء الأجواء الطلقة التي يجد الانسان فيها ما يسد حاجاته بيسر ويتجه في النتيجة نحو التحرر من حمل أثقال المؤن المساعدة على البقاء في الأجواء الفقيرة.

 

اننا نرى في كل ما عرضناه أعلاه أن هناك شكلين يمكن تصورهما لوجود جملة المجتمعات الانسانية، وذلك بعد نفي كل أشكال العبودية والتخلف التي مرت بها هذه الجملة حتى أيامنا هذه والى أن تزول العبودية الرأسمالية.

 

الشكل المثالي

هو الذي حلمت به الانسانية طويلا وما تزال، وصورته بشتى الصور الواعدة الجميلة وأطلقت عليه اسم "الجنة"، ووضعته في ميعاد منفصل عن الأزمان التي تردد فيها شقاء العبودية والتخلف والفقر دهورا مديدة وما يزال هذا الشقاء يتردد وسيتردد ما دامت الهمجية الرأسمالية قائمة. انه الهدف البعيد الذي تتجه اليه بلاتناهي سلسلة الأشكال الممكنة الواقعية لوجود الجملة الانسانية التي يعم فيها نظام تحرير البشر من تخلف الظلم والضلالات التي تستند اليه وتقوم عليه مختلف أنواع العبودية.  ويقابله نقيضه الذي أطلقت عليه الانسانية اسم الجحيم والذي هو في الواقع المصير الرادع عند الاصرار على ظلم وضلالات العبودية بمختلف أشكالها وعذاباتها.

 

منطلق الأشكال الواقعية

هو الطور الأعلى الذي سيقوم مباشرة بعد تمام نفي العبودية الرأسمالية من الجملة الانسانية، وذلك على ما يتوفر من إمكانات مادية هائلة حققتها الانسانية في مسيرتها الطويلة وتجاربها عبر الدهور المديدة، وعلى ما تم من تقدم كبير في ميادين العلم والتطبيق العملي.  ولكن النظام العبودي الرأسمالي لن ينتفي من تلقاء ذاته ليفسح الطريق الى الاستفادة من الامكانات الكبرى الحاسمة لبلوغ الخلاص والتحرر من النظام الرأسمالي ودخول عتبات هذا الطور المقبل والبدء ببنائه بالوسائل المتاحة.  والثورة لا تكون ثورة عندما تفتقر الى عقيدة تنير لها الطريق الصحيح الى الهدف الصحيح، كما لا يكون الثوار ثوارا عندما يكفرون بمثل هذه العقيدة أو يجهلونها.  ثم ان الانسانية عندما تظفر بإقامة مثل هذا الطور الأعلى تنطلق بجملة مجتمعاتها في سلسلة من الأطوار العليا الممكنة الواقعية الصاعدة في اتجاه الطور المثالي المذكور أعلاه في مسيرة أبدية بدون توقف وبلا تناه.  وليس لمثل هذه المسيرة بديل واقعي سوى اضمحلال الحياة والفناء عندما يستمر الضلال وتستمر الوثنيات وعبودياتها في التردد والعودة للتحكم في جملة المجتمعات الانسانية.

 

ولقد جاهد التوحيد طوال ألوف السنين من أجل إقامة دار الاسلام بالثورة الاسلامية العظمى، الدار التي قوضتها الرأسمالية وارتدت بجملة المجتمعات الانسانية الى عبودديتها التي ما تزال قائمة.  وحاول الاشتراكيون الوصول الى طور الانطلاق، الى المثل الأعلى لشكل الحياة، الى طور الاشتراكية ، فانتهوا الى ما انتهوا اليه من الرجعة الى تجديد البناء الذي تعبوا وضحوا كثيرا من أجل بنائه طوال أكثر من سبعة عقود.  ولننظر فيما يلي باختصار الى ماهية هذا الطور المنشود، طور الانطلاق والتحرر.

 

تقول الموسوعة لاروس في تعريف الاشتراكية ما مختصره: "نجد شجب انعدام المساواة الاجتماعية في منطلقات الاشتراكية، الشجب الذي ما كان له سوى الأساس الأخلاقي طوال العهود التي مرت من أفلاطون حتى الثائر الفرنسي بابوف.  ثم أتت الشروحات التقنية لأسباب انعدام المساواة مع مقترحات المسكنات المقدمة من قبل الاشتراكيين الطوباويين من أمثال "سيسموندي" و "سان سيمون" ثم ظهرت في هذا السياق في أواخر القرن التاسع عشر اشتراكية الدولة وتبعها في القرن العشرين مركزية التدخل وتخطيط الاقتصاد.  ثم ان الاشتراكية الحقيقية تتهم مؤسسات الرأسمالية بذاتها بالتقصير والعجز وليس فقط بسوء ادارتها.  ونادى السانسيمونيون والنقابيون (فورييه ولوي بلان الفرنسيان وأوين الانجليزي) باستبدال نظام الملكية الخاصة باشتراكية الدولة أو بتعاون المنتجين.  وقد تجسد هذا الأمر جزئيا بحركة التعاونيات الاستهلاكية في الوقت الذي راوح فيه ولم يتقدم في تعاونيات الانتاج.  وأتت الاشتراكية العلمية مع ماركس وأنجلز، الاشتراكية التي قالت بأن ضرورة تحول البنية الاجتماعية الى النظام الاشتراكي هو في صميم تناقضات النظام الرأسمالي".  انتهى مجمل أقوال الموسوعة لاروس حول الاشتراكية.

 

نجد في هذه الكلمة للموسوعة لاروس أنه وجد على الدوام في الجملة الانسانية، منذ أقدم العصور، من يقترح دواء للعبودية القائمة، وهذا أمر طبيعي لاينكر.  ولكن الانسانية مما قبل أفلاطون حتى الثورة الفرنسية ثم الى أيامنا الحاضرة مرت وتمر بأزمات وحروب وثورات يطول ذكرها واحصاؤها مما دفع بالجملة الانسانية في هذا الطريق الطويل الذي قطعته ويتضمن عددا من الأطوار المختلفة وليس طورا واحدا مستمراً لا انقطاع فيه.

 

وكلمة الموسوعة الآنفة الذكر تجافي هذا الأمر البديهي فتجعل، بدون حق، من مساعي اليونان الفكرية لايجاد حل لأزمات طور الرق أصولا بعيدة في التاريخ للثورات الفكرية الاشتراكية التي قامت في العهود الرأسمالية والتي تدعو الى نفي هذا النظام وليس اصلاحه لتدوم عبوديته.  فجمهورية أفلاطون القائمة على نظام الرق مثلا ما هي الا صورة مقترحة لاصلاح عالم عبودية الرق. ولا تتعدى هذه الصورة حدود قصر واسع بسعة تلك الجمهورية يعيش فيه سادة الرقيق في حدود نظام يبعد عنهم هموم الاختلافات والأزمات في الوقت الذي يكدح فيه الأرقاء خدم القصر لتوفير أعلى مايمكن من رفاهية لأولئك السادة ومعهم لفيفهم من الأحرار التابعين.  وتكدح أيضا الدنيا القاطنة في الأكواخ والخيم والتابعة لهذا القصر لتقديم الأتاوات التي يفرضها سادته.  ولم يسع أبدا فلاسفة اليونان الى تحرير الرقيق كما فعل الاسلام الذي لم يترك فرصة تمر دون الحض على تحريرهم والذي طور مفهوم الاسترقاق في اتجاه المساواة الاجتماعية بحيث خرج بين المماليك سلالات حكام وسلاطين عديدة أدت خدمات ضخمة للاسلام والانسانية. فأفلاطون مثلا اقترح أساليب للتعامل مع الرقيق وليس لتحريره فيقول مثلا في كتاب "القوانين" على لسان "الأثيني" الذي يمثل رأيه في الحوار: "... ان الأرقاء هم من السلع ذات المشاكل كما تبينه ثوراتهم المتكررة في "متينا"، ويبرهن عليه الأذى الكبير الذي أصاب الدول التي يجتمع فيها عدد كبير من الأرقاء المتكلمين لغة واحدة في مكان واحد، وتظهره السرقات العديدة والحياة خارج القانون السائدة في عصابات الرق الايطالية الثائرة... فالرقيق يجب أن يعاقب كما يستحق, وأن لاينال العفو كالأحرار...". فيجب اذن أن نميز المساعي الثورية لنفي النظام الرأسمالي والتحرر من عبوديته من تيارات اصلاح هذا النظام لاطالته. فالموسوعة لاروس بعبارتها أعلاه تشير الى اقتراح بالعمل على إقامة تعاونيات منتجين رأسماليينصغار وتقرن هذا الأمر ببحوث الاشتراكية العلمية لنفي النظام الرأسمالي فتساوي بين اصلاح تافه لرأسمالية التنافس الحر لصغار المنتجين الرأسماليين وبين ثورة تسعى الى تغيير النظام العالمي.

 

نكرر اذن ونقول أن برمجة الاقتصاد الرأسمالي واصلاحه بطريقة ما لايعنيان سوى محاولة تمديد طور هذا الاقتصاد.  وكمثال على هذا الأمر نذكر التيار الكنزوي الذي قام في انجلترة في أيام الأزمات الطاحنة لما بين الحربين العالميتين، في الثلاثينات من القرن العشرين.  وامتد هذا التيار الاصلاحي للرأسمالية الى ما بعد الحرب العالمية الثانية، واقترح تدخل السلطات وبرمجة اقتصاد الرأسمالية الذي أنهكته حينذاك الأزمات والحرب وقربته من الاندثار.  وأتت الرأسمالية الأميركية في تلك الظروف، ظروف ما بعد تلك الحرب مباشرة، لتفرض نظاما رأسماليا عالميا بامبراطوريتها الاستعمارية العالمية المتعددة الرؤوس الموحدة بزعامتها فبلغت بتنظيم العبودية الرأسمالية وبرمجة انتاجها العالمي أقصى درجة يمكن معها الأخذ بالحسبان سلفا لطوارئ عبودية تتآكل بتناقضاتها: انه تنظيم فوضى الجشعين المتنافسين حتى الموت لاحتكار المنافع بدون أي حساب للذات الانسانية ومصيرها.

 

ان الذي يجب الوقوف عنده وشد الانتباه له هو أن كل تلك المحاولات المنطلقة من عقائد مادية سطحية مبتذلة، أو المنطلقة من وثنيات ترعى مصالح أنانية فردية أو فئوية، لاقامة نظام اجتماعي بعيد ما أمكن عن الأزمات الطاحنة تضيع في تفاصيل نظامها هذا فتبتعد عن التركيز على تحرير الانسان واطلاق ذاته من كل انتقاص لأبعادها بحيث ينقلب الأمر ليصل الى التضحية بحرية الانسان العادية من أجل النظام، وليس جعل النظام في خدمة الانسان واكتمال ذاته.  بل اننا نجد أن نظام العبودية يأتي قبل سادته فعلى هؤلاء في بعض الظروف أن يضحوا بأقدس حقوقهم الانسانية، وحتى بحياتهم، لسلامة نظامهم.  والثورة الاشتراكية، ككل الثورات، عندما آلت قيادتها الى من أقاموا على دماء شهدائها وأمجادها (التي لاتمت اليهم في غالب الأحيان بأي صلة) بيروقراطية وثنية، سحقت أيضا الانسان في سبيل النظام في كثير من الأحيان، الأمر الذي أضعف بنيانها وقاد بلادها الى ما آلت اليه.  فيكون اذن هدف ثورة الانتقال الى الطور المقبل تحقيق حرية الذات الانسانية بكل أشكالها الفردية والجماعية التي تتناسب مع ما يقوم في الواقع من تقدم مادي وروحي.