ملامح الطور الانساني الأعلى

 

الفصل الثالث

الملامح الأساسية للعبودية

 

الرأسمالية

الانسانية تبني جملتها

قلنا عندما قدمنا في دراساتنا جملة المجتمعات الانسانية كمجتمع المجتمعات أن هذه الجملة هي التي تمر بمجموعها من طور انساني الى آخر وليس كل مجتمع بمفرده بمعزل عن بقية المجتمعات الانسانية.  فيكون هناك دوما طور واحد فقط يسود فيها هو طور أقوى مجتمعاتها ماديا.  ويقوم هذا الأمر على اعتبار أن عالم الأحياء على الكرة الأرضية شكل دوما جملة مادية مغلقة محدودة في المجموعة الشمسية وبالتالي في الكون فلا بد لمختلف أجزائها من أن تعود في تغيراتها الى كل واحد يمر بأطوار مناسبة وينتهي الى الوحدة في طور مناسب من هذه الأطوار. أي أنه كان من غير المعقول أن ينعزل مجتمع انساني في حياته وتغيراته طويلا وكان لا بد من أن يأتي الوقت الذي تلتقي فيه كل المجتمعات الانسانية في جملة مجتمعات انسانية واحدة عندما ينتهي الانسان في نشوئه وارتقائه الى التغلب على كل العوائق المانعة لمجتمعاته من الاحتكاك والتفاعل كالعوائق الجغرافية مثلا.  وقد سبق لنا أن بينا في مختلف دراساتنا حول هذا الموضوع أنه بنتيجة مسيرة التقدم الانساني والروحي قام أولا في الواقع ثلاث جمل انسانية في العالم القديم تعزل الواحدة عن أختيها موانع جغرافية كان يصعب على الانسان التغلب عليها بوسائله حينذاك كالمحيطات والجبال الشاهقة والصحارى الشاسعة.  وهذه الجمل كانت:

 

1 - جملة البحر الأبيض المتوسط  ويعيش فيها أقوام البحر الأبيض المتوسط ويمتد تأثيرها الحضاري الى أفريقيا وأواسط آسيا حتى سلسلة الهملايا وصحراء غوبي اللتين تفصلهما عن الهند والصين وشرقي آسيا على العموم.

2 - جملة القارة الهندية.

3 - جملة الصين وما حولها من بلاد وأقوام على المحيطين الهندي والهادي.

 

وقد بدأت هذه الجمل الثلاث بالاندماج في الجملة الشاملة التي تلف الكرة الأرضية في الطورين الاسلامي والرأسمالي.

 

ان جملة المجتمعات الانسانية نشأت وتطورت في عالم الأحياء على الكرة الأرضية. وقد بدأ ظهورها في أعقاب خروج الانسان من حالة القطيع وتشكيله مجتمعاته على شكل مشاعات بدائية.  وتتالت مراحل تقدم هذه الجملة ماديا وروحيا وتم ظهور أجزائها الثلاثة الآنفة الذكر ثم توحدت هذه الأجزاء في الطورين الاسلامي والرأسمالي.  وقد قلنا دوما أن تقدم هذه الجملة في مسيرة نشوئها وارتقائها كان نتيجة صراع اتجاهين رئيسيين:

 

- الاتجاه الفردي الأناني حيث يجاهد الانسان ويكدح ليوفر لنفسه فرص العيش في نظام هذا الاتجاه الأناني المدعوم من أقلية طامعة تعمل على استعباد الناس.

- الاتجاه الاجتماعي الذي تبرز ضرورته بالتجارب ومعاناة المجتمعات الانسانية من تخلف علاقات نظم الاستغلال والعبودية وعجزها عن ايجاد مخرج صحيح لأزمات هذه النظم.

 

وكانت دوما أهداف البشر المعبر عنها بمختلف العقائد الثائرة على الظلم والتخلف، تحقيق البدء بإقامة مجتمعات التعارف والتعاون والتكامل والتكافل في إطار قانون تكافؤ الفرص. كما كان ديدن الظالمين اجهاض كل مسيرة نحو ذلك الهدف الاجتماعي الكبير وحرف اتجاهها الى شكل مناسب من العبودية.  وان بالامكان أن نرى في المسيرة العامة لنشوء وارتقاء جملة المجتمعات الانسانية نوعين متكاملين من الأطوار:

 

النوع الأول: أطوار اعداد الانسان وظروفه كي يكتسب هذا الانسان كفرد وجماعة طبيعة تمكنه من تأدية دوره الاجتماعي بعيدا عن كل انتقاص للذات الانسانية الفردية والجماعية، عن كل انتقاص مقصود ومرتب بدوافع أنانية بهدف حرمان الآخرين من حقوقهم.  ونجد أن هذه الأطوار الاعدادية في مسيرة نشوء وارتقاء الجملة الانسانية هي تلك التي مرت بها هذه الجملة قبل بلوغها الطور الاشتراكي المنتصر عالميا بعد نفيه الطور الرأسمالي آخر أطوار العبودية (بحسب التعبير الماركسي)، قبل بلوغها طور الاتزان لجملة مادية، طور تعارف البشر وتعاونه وتكامله وتكافله في إطار قانون تكافؤ الفرص (بحسب ما نعبر عنه دوما).

 

ولقد كان البشر في تلك الأطوار الاعدادية يجاهد بثوراته ويناضل بكدحه ليتحرر مما كان يعانيه من تخلف في أنظمته الاجتماعية وقصور في معارفه وهمجية في روحه.  وكانت أقلية رجعية تستفيد دوما من هذه الأحوال لتنتقص ذوات الناس وتستعبدهم بحسب سلم درجات تتناسب مع وضعهم الاجتماعي حيث يأتي الرقيق مثلا في أسفل هذا السلم في طور الرق ومختلف أنواع البروليتاريا في الطور الرأسمالي.  ولكن تقدم الانسان كان يستمر لحتميته ويدفع بالجملة الانسانية نحو طور اتزانها وان تأخر هذا الطور بسبب الأخطاء وجرائم الانتهاز وأفعال الرجعيين.  ان قيام المجتمع لا يكون الا بنظام بطبيعة الحال، بنظام تصونه وتدافع عنه بالعنف والدماء الفئة صاحبة المصلحة باستمراره.  وفي الأطوار الاعدادية المذكورة كانت أقلية السادة أو الرأسماليين هي صاحبة المصلحة باستمرار الطور العائد اليها بينما كان من مصلحة أكثرية الناس الاستعجال في تطوير الأنظمة الانسانية لتسريع تقدم جملة المجتمعات الانسانية من الأطوار والحالات المتخلفة الى الأطوار والحالات المتقدمة.  وكما كان القمع الدموي قانونا طبيعيا قام دوما في تلك الأطوار الاعدادية لصيانة وحفظ أنظمة الأقلية, فان الثورة الدموية كانت ايضا قانونا طبيعيا قام دوما للرد على ذلك العنف الدموي.  فليس اذن من مجال هنا، امام اتباع اي ثورة عظيمة كانت او صغيرة، انكار ثورات اخرى معاصرة او ماضية بدافع التعصب الاحمق الجاهل مادام الظلم قائما في كل آن ومكان.  كما انه ليس هنالك من نهاية للثورات الانسانية مادامت المجتمعات الانسانية قائمة بعلاقات مناسبة وان تغيرت اشكال هذه الثورات بفعل تطور المجتمعات. فالتغيرات الكيفية تحت ثقل التراكمات الكمية في المادة مهما كان نوع هذه المادة هو قانون قائم ما دام الوجود قائما. والتغيرات الكيفية هي تغير العلاقات التي تتجسد بها المادة، التي يقوم بها المجتمع مثلا، ولا تحدث هذه التغيرات الا بنتيجة ثورة.

 

ان من البديهي أن تستند الثورة الى عقيدة تبين الأسباب الدافعة لقيامها والغايات التي ترمي اليها مع كل المبررات الهادفة الى كسب قناعات الناس وانتصارهم لها، الى عقيدة يتسلح بها الثوار لشد عزائمهم وتعميق ايمانهم بعدالة أفعالهم أولا، وللتوسع بعد ذلك في دعوة الناس الى قبولها والايمان بها.  ثم ان التجارب التي عاناها الانسان طوال الدهور الطويلة لنشوئه وارتقائه أكسبته كل المعارف التي أقام عليها مختلف عقائده.  ومما لا ريب فيه أن العقائد تقوم على المفاهيم الحاصلة في المكان والزمان وتبين منهاج العمل الممكن باللغة المفهومة من أصحابها.  ولكل زمان تعابيره ورموزه الملائمة لسوية المعرفة القائمة.  وانه من الحماقة ومن الجهل تجميد الحياة في أي مكان من العالم بحجة "حفظ التراث" أو ايقافها في عهد أو حضارة بحجة "القداسة" التي لا يمكن أن تقوم وأن تحترم الا في تغيرات الحياة الصحيحة وليس في ظلمات مستنقعات الجمود وعفن نواويس الأموات ودنيا الأوثان والوثنيين.  ولكن الثورات من أجل تحرير الذات الانسانية من كل عبودية واطلاقها لتقوم بدورها الطبيعي في حدود مجتمعها تكمل بعضها بعضا في الجوهر فكان على المجاهدين أن لا ينسوا هذا الواقع وأن لايعملوا على معارضة ثورة بأخرى بدوافع أنانية وثنية.  ان التوحيد مثلا بسلسلة ثوراته التي يصعب حصرها والتي اختتمت بالثورة المحمدية لايمكن أن يعارض الثورات الاشتراكية بعقائدها العلمية الهادفة في الجوهر الى خلاص الانسان من العبودية.  كما أن الثورات الاشتراكية لايمكن أن تنظر بنظر المتعالي الى ثورات التوحيد التي دفعت بجملة المجتمعات الانسانية في دروب التقدم.

 

اقتسام السلطات

أشرنا في مطلع بحثنا هذا الى أن سعي الانسان للبقاء على قيد الحياة هو محصلة السعي الفردي والسعي الجماعي التعاوني.  وقلنا أنه بنتيجة التفاعلات الجارية في المجتمع الانساني المقصر عن بلوغ السويات الكافية من التقدم والارتقاء، كالمجتمعات الرأسمالية على اختلافها، تصل أقلية من الناس الى التحكم بمصائر الأكثرية فتمسك هذه القلة بدفة النظام القائم وتسير هذا النظام بحسب مصالحها ورغباتها: تمسك بالسلطة بالهيمنة على وسائلها واحتكار مفاتيحها.  وقد ميزت الرأسمالية بين ثلاثة أشكال أساسية للسلطة في مجتمعها: السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية والسلطة القضائية.  ورأى فلاسفتها اللبراليون أن يتم الفصل فيما بين هذه السلطات الثلاث فلا تطغى واحدة منها على أختيها ليقوم المجتمع الديموقراطي الأمثل بنظرها. ولكن هذا الاقتراح بفصل السلطات بالاضافة الى محدوديته بضوابط النظام الرأسمالي لا يعدو كونه، ككل ما تحاول أن تتزين به الرأسمالية من "انسانيات"، اقتراحا طوباويا مجردا من كل واقع فلا تصح الأوهام التي تغلفه بها فلسفات الرأسماليين الا في المختبرات.  ولننظر الى أمثلة تطبيقه في حالتين أساسيتين من أحوال مجتمعات الجملة الانسانية.

 

1 - فصل السلطات في المجتمعات الرأسمالية المتقدمة ماديا: ان الحياة السياسية في هذه المجتمعات تقوم بطبيعة الحال على الصراعات بين مختلف القوى الاجتماعية.  وهذه القوى تنطبع بطابع النظام وتقوم بحسب مقاييسه فلا تبرز مثلا في المجتمع قوى تمثل حق التمثيل لغالبية الناس المشكلة من المستضعفين وشرفاء الناس الذين لا يرضون بالظلم ويلتزمون حصرا بمقاييس الانصاف ومعايير التقدم الصحيحة وانما يتوزع ولاء الناس بين فئات تلك القلة صاحبة النظام وحاميته، يتوزع بين فئات قادة الاحتكارات المحلية والعالمية في عصرنا مثلا.  ففي الولايات المتحدة الأميركية أكبر "ديموقراطية" رأسمالية لانجد سوى حزبين يقودان الناس لانتخاب الهيئات التشريعية وانتخاب قيادة السلطات التنفيذية التي تعين ادارة السلطات القضائية، وهذان الحزبان، الديموقراطي والجمهوري، يمثلان في الواقع مصالح الرأسمالية الاحتكارية الأميركية بكل اتجاهاتها المحلية والعالمية.  وقد جرت العادة أن يقتسم على العموم بالتساوي أولئك الديموقراطيون والجمهوريون السلطات الثلاث بنتيجة كل انتخابات عامة: عندما يفوز الديموقراطيون مثلا بالرئاسة يكون الجمهوريون أكثرية في التشريع والعكس بالعكس.  فالفصل بين السلطات هنا يكون لاقتسامها وضمان مصالح مختلف الرأسماليين الاحتكاريين وحفظ التوازن بين مختلف قواهم فلا يميل الميزان في المحصلة لطرف ضد الأخر.  ومن المؤكد أن فوز أحد الحزبين الآنفي الذكر على الآخر في كل المجالات التشريعية والتنفيذية والقضائية لايكون الا في ظروف التحولات الرأسمالية الاحتكارية حيث تتقهقر أهمية احتكارات الخاسر في الاقتصادين المحلي والعالمي بينما يكون العكس من نصيب الفائز.  وهناك أمر مفيد من الناحية "الفنية" لفصل السلطات وتوزيعها على جهات مختلفة في الموقع دون اختلافها في الهدف العام الذي يرمي الى حماية النظام الرأسمالي الاحتكاري.  والخلاصة نجد أن الفصل بين السلطات في المجتمعات الرأسمالية المتقدمة ماديا لايهدف، كما يدعي ويخطط له فلاسفة ومجتهدو الاحتكاريين الرأسماليين، الى تعزيز الديموقراطية وانصاف عامة الناس وانما هو في واقع الرأسمالية وسيلة لاقامة التوازن بين مختلف الفئات المتحكمة بنظامها بتقاسم الغنائم التي توفرها حيازة السلطة الرأسمالية.  ففي مجالس التشريع الرأسمالي لا يتمثل الناس كمنتمين للمجتمع على قاعدة التكافؤ وانما تتمثل هناك القوى المطبوعة على شاكلة النظام، كما لا يأتي الى قيادة السلطة التنفيذية وقيادة السلطة القضائية سوى أجراء مختلف اتجاهات النظام.  فليس هنالك من فصل حقيقي للسلطات وانما تقاسم لها بين أصحاب النظام المتوحدين في هدف واحد هو حفظ النظام فيشكلون في هذه الوحدة سلطة واحدة عليا مطلقة تتفرع عنها الأشكال الأخرى للسلطة: هنالك هذه السلطة العليا المطلقة تحرس حدود النظام وتدير ضوابطه.

 

2 - السلطات في المجتمعات الرأسمالية المتخلفة ماديا: ان هذه المجتمعات التي تحررت من الاستعمار القديم في أعقاب الحرب العالمية الثانية وقعت في شبكة الاستعمار الجديد الذي تتزعمه وتقوده الولايات المتحدة الأميركية.  فهذا الاستعمار الجديد فرض على المجتمعات الرأسمالية، متقدمها ومتخلفها في الجملة الانسانية، نظامه العالمي.  ويكون، بالتالي، على سلطات هذه المجتمعات على اختلافها أن تسعى قبل كل أمر آخر الى التقيد بحدود هذا النظام العالمي المفروض والانصياع لضوابطه: تقوم السلطات في البلاد الرأسمالية المتقدمة ماديا باستخدام قوى ووسائل مجتمعها لحفظ الشبكة الرأسمالية العالمية المذكورة فينسق الشركاء المستعمرون جهودهم بالشكل المناسب لتوزيع مختلف أنواع العنف على مجتمعات العالم في كل ظرف من الظروف، تلك الأشكال المتراوحة بين فرض ضوابط النظام الاستعماري وعلاقاته "سلميا" وبين افتعال الانقلابات عند المتخلفين والقيام بمظاهرات القوة ضدهم ومحاصرتهم وشن الحروب عليهم.  ونجد في نتيجة الأمر أن السلطات في المجتمعات الرأسمالية المتخلفة ماديا التي تقوم بتذليل بلدها لينخرط في نظام المستعمرين العالمي لا بد من أن تكون مفروضة بهذا النظام قبل أن تكون قائمة برضاء شعبها.  وبالتالي نرى أن الديكتاتوريات تنتشر كالوباء في هذه المجتمعات المقهورة، ولا مجال اذن للكلام عن سلطات ثلاث وعن منع طغيان واحدة منها على أختيها في هذه الأحوال.

 

ان تلك القلة التي تفرض نظامها العالمي الاستعماري تفرض في ذات الوقت أوهام هذا النظام لاخفاء ظلمه وعدوانيته تماما كتاجرها الغشاش الذي يروج لبضاعته الفاسدة بنعتها بأوصاف كاذبة والتستر على عطلها وفسادها.  ومما يسهل انتشار تلك الأوهام تلك الحالة العامة التي يفتعلها الظالمون والتي لا يتضح فيها واقع الانتماء على حقيقته، لا يتضح فيها أثر العلاقات التي يفرضها النظام القائم على الشكل الذي يتحقق فيه الانتماء، والذي له في جماعته الصغيرة التي تقوم بالضرورة في الجماعة الأكبر فالأكبر حتى نتجاوز عالم الأحياء فالكون.  وهناك في هذا التسلسل الواقعي الذي لا خروج منه الا الى الأوهام تسلسل طبيعي في العلاقات تفرضها ضرورات الواقع تبدأ من علاقة الفرد بجماعته الأولى وبيئته وتسير من الأعم فالأعم الى مالانهاية له.  ولكن الأقلية الظالمة تعقد هذه المسيرة في العلاقات المادية والروحية وتعرقل وتعطل التقدم الى الأفضل بأنانياتها وشرورها والأوهام السوداء التي تنشرها.  فليس هنالك من حقائق سوى وجودها هي ومصالحها.  ان الولايات المتحدة الأميركية مثلا تمتد، بحسب ادعاءات قادتها، بقدر امتداد مصالحها وعدوانياتها ولا وجود بنظر احتكارييها لأي مصالح أخرى غير مصالحها.  ولكي تبرر هذا الشذوذ نجدها دوما تتفنن في انكار حق التكافؤ بين أفراد المجتمع الواحد وارتقاء الحياة الانسانية نحو تحقيق هذا الحق, التي تجعل من أمثالها كأقلية, طغمة تتحكم وتؤخر تلك المسيرة، و تضع في مواجهته الصدف العمياء التي لا بد من أن تقع لتزيلها هي أيضا و لتستبدلها بطغمة أخرى تحل مكانها في الظلم وتأخير التقدم الانساني: قلنا ان الانسان متشابه ومتكافئ في تكوينه فلا امتياز فيما بين أفراده وجماعاته ومجتمعاته الا بنتيجة الصدف العمياء التي تقوم عندما يتعطل قانون تكافؤ الفرص فيما بين الأفراد والجماعات والمجتمعات بفعل الظلم الذي تنشره الفئات العمياء في أنانيتها.

 

ويروج الظالمون لحريات شاذة للأجزاء تجاه الكل تقوم على حرية القوي بهضم حقوق الضعيف وحرية الضعيف بالخنوع للقوي، وتبالغ في تثبيت هذا الوهم بحيث لا يظهر في النتيجة سوى الأجزاء الضعيفة التي تصبح طعاما للجزء الأقوى الذي يأخذ بهذه الحالة دور الكل الطبيعي الملقى في الظل بظلم الأقوياء.  ولكن ما الذي يسلط هذه الأقلية الظالمة وهي من حقها أن تكون الأضعف على الأكثرية المظلومة التي من حقها أن تكون الأقوى؟.. والجواب هو أن للقوة وسائلها الاجتماعية التي تجعل من مالكها متسلطا ولا عبرة عندئذ للأكثر عددا أو الأقل.  والمال بمختلف أشكاله هو في آن واحد: المفتاح الى وسائل القوة للتسلط، والغاية التي يسعى اليها المتسلطون.

 

الحياة الاجتماعية

يعرف الاجتماعيون الانسان بأنه "حيوان اجتماعي" بمعنى أن قيام حياته لا يكون الا في المجتمع فهي تنبض في شبكة علاقاته.  ولكننا نعرف أن المجتمع ليس واحدا في الدنيا فهو متعدد في جملة من المجتمعات المرتبط بعضها ببعضها الآخر بحسب نظام يتعين بالطور الذي تمر به هذه الجملة.  وان من الطبيعي أن يطمح الفرد السوي في المجتمع الواحد الى التكافؤ مع شركائه في هذا المجتمع وأن يكون الطموح العام في كل مجتمع متقدم في مسيرة التطور الانساني الى تحقيق التكافؤ بين مجتمعات الجملة الانسانية.  ولكن ذلك الفرد السوي في المجتمع الواحد عجز على العموم طوال التاريخ الانساني عن تحقيق ذلك الطموح وجعله من وقائع الحياة العادية كما فشلت المجتمعات الانسانية في تحقيق ذلك التكافؤ فيما بينها فتقيم صلات تبادل العرف في جملتها بدلا من التناحر واستعباد بعضها بعضا، وكل هذا بسبب تخلف أطوار هذه الجملة. لقد كان الأمر في أطوار العبودية وعلى الأخص في الطور العبودي الرأسمالي تعطيل الدور الطبيعي للجزء في الكل ومسخه لصالح الجزء المتسلط، جعل دور الفرد في الجماعة الواحدة مقتصرا على خدمة طغمة الأقوياء في هذه الجماعة، وجعل دور المجتمعات محدودا بمصالح طغمات الرأسماليين الاحتكاريين في الجملة الانسانية.

 

ان الفرد الذي أوجده المجتمع وطوره خلال ملايين السنين ينتمي بطبيعة الحياة الى مجتمعه كما ينتمي مجتمعه هذا الى جملة المجتمعات الانسانية التي نشأ وتقدم وتتطور فيها.  ولكن هذا الانتماء، وان قام بالضرورة في المجرى الطبيعي للحياة الانسانية، غير مجاني ولا يقوم كما توحي به طبيعة كل انتماء تولده سلاسل القرابات على دور مناسب يؤديه الجزء كشريك مكافئ لبقية الأجزاء في الكل وانما على الجزء أن يؤدي فائضا من جهوده، أو أن يترك قسما من استحقاقه الاجتماعي، لطغمات الأقوياء المهيمنين على الكل.  فمنذ أن ارتقت وسائل الانسان وأصبح بامكان المنتج أن يحصل بها على أكثر مما يلزم للبقاء على قيد الحياة وبالتالي لتجديد قواه للاستمرار بالقيام بدوره الاجتماعي وانتاج ما عليه انتاجه, برز الميل الوحشي لاستغلال طاقات الانسان في انتاج القيم للقوى التي تتمكن من استعباده: أصبح بامكان هذه القوى الحصول على فائض من عمل الانسان بعد تجديد قواه ويزداد هذا الفائض بطبيعة الحال بتخفيض نصيب المنتج من عمله أي بتشديد عبوديته لمن يستغله.  وبرز بطبيعة الحال الرد على هذا الاتجاه العبودي بالاتجاهات المقاومة التي تبلغ في شدتها مستوى الثورات على الظلم والعدوان.  ونجد في النتيجة أن ذلك الحجم للفائض الكلي الحاصل في المجتمع بعد سد مختلف حاجات المنتجين والمشاركين وسد الحاجات الاجتماعية الأخرى التي لا بد منها لحياة الجماعة لا يعود نفعه على المجتمع فيستفيد منه جميع أفراده مباشرة أو غير مباشرة، وذلك لقاء قيام هؤلاء الأفراد بأدوارهم المختلفة في بناء مجتمعهم فيقوم بذلك التكافؤ فيما بينهم، وانما يذهب الى طغمات الأقوياء فيحصلون منه على أكثر مما يستحقون كأفراد بالاضافة الى تبديده في مشاريع غير مفيدة في تقدم الحياة الانسانية كحفظ نظام القهر واقامة قوى العدوان على المجتمعات الأخرى أو للدفاع ورد عدوان أمثالهم في المجتمعات الأخرى وغيره.

 

وتبلغ الضريبة التي تقدمها الانسانية للطغمات المتسلطة في النظام الرأسمالي الاحتكاري في العصر الأميركي القائم حاليا حدودا لا تقارن أبدا بما كانت تبلغه في عصور العبودية التي سبقت هذا العصر.  فتقدم الوسائل أتاح للانسانية انتاج حجوم من الثروات تتجاوز باتساعها حدود الخيال ولكن جل هذه القيم مجمد فيها لا نفع له الا في نفخ خزائن طغم الاحتكاريين في العالم: جبال الأسلحة لتهديد البشر وقتله لسلبه ثرواته وجبال المؤن الغذائية المخزنة في مستودعات الاحتكاريين وألوف مليارات القيم المجمدة في خزائن هؤلاء الاحتكاريين أو المبددة في التخريب والفساد المنتشر في طول العالم وعرضه في الوقت الذي يسحق الغلاء كل فئات الناس في كل الجملة الانسانية عدا قلة منهم لا تشكل شيئا بالنسبة للأكثرية، وفي الوقت الذي يموت فيه الملايين من الجوع في العالم الثالث وتختنق فيه جماهير هذا العالم من ضيق الأحوال.  هنا في مثل هذه الصورة التعيسة للحياة الاجتماعية في هذا العصر الأميركي التعيس لايمكن أبدا أن نتكلم عن الانتماء المتكافئ.  فالعالم الحالي الذي ينتج كل هذه المقادير الهائلة من الثروات بوسائله الجبارة التي تطحن الجبال لا مجال للمقارنة فيه بين ما يصيب الفرد العادي لتجديد قواه ليستمر في المشاركة في بناء مجتمعه وبين مايصيب الفرد الآخر في الطغم الحاكمة وأتباعهم بالاضافة الى ما تجمده هذه الطغم من قيم وأموال في خزائنها ومستودعاتها وما تبدده من قيم في العدوان وفي حفظ مختلف أنظمتها الظالمة وفي الفساد والتخريب وما تعطله من أيدي عمل في مختلف حشودها السوداء التي تجمعها هنا وهناك لقهر الانسان وتأخير تقدمه.  ليس هناك من انتماء تكافؤ للفرد في مجتمعه ولا لمجتمع في جملة المجتمعات الانسانية، ليس هناك من تكافؤ الشركاء الأفراد والمجتمعات وانما هناك تكافؤ المقهورين المقيدين بسلاسل النظام العبودي الأميركي أفرادا وجماعات ومجتمعات حيث يوفر هذا الرقيق المعاصر كل تلك المليارات من فضول القيم التي ينتزعها منه النظام الرأسمالي الاحتكاري للطغم المتسلطة في العالم كضريبة "لقاء انتمائه العبودي" الى المجتمعات التي يلفها هذا النظام الاستعماري المتعدد الرؤوس بقيادة الرأس الأميركي.

 

الأدوار الاجتماعية

نقول أن للفرد دوره في المجتمع الواحد وللمجتمع الواحد دوره في جملة المجتمعات الانسانية، وذلك ليتحقق قيام الجماعات والمجتمعات ولتكون حياة الفرد بمختلف أبعادها أمرا ممكنا. لأننا رأينا أن الفرد هو "حيوان اجتماعي" بالتعريف: ان حياة الفرد حادث اجتماعي معقد يبدأ بالولادة وينتهي بالموت الذي هو الخروج نهائيا من المجتمع الانساني فتشكل هذه الحياة خيطا في ذلك النسيج الذي هو المجتمع.  فدوافع الحياة في النظام الاجتماعي القائم تحقق قيام مختلف تلك الأدوار الاجتماعية التي يتسع لها النظام المذكور والتي يتجلى من خلالها حياة المجتمع التي تتسع وتزدهر أو تضيق وتقفر بحسب الظروف المادية والروحية القائمة.  ولكن دوافع الحياة تلك اذ هي شرط لازم لقيام الأدوار الاجتماعية وقيام المجتمع بالتالي لا تشكل شرطا كافيا ليكون الانسان في حالة تدفعه للمجيء بكل حريته لتنفيذ دوره ولينفذ هذا الدور بشكل ينبعث من حياته الخاصة وليس شكلا يفرض على هذه الحياة لتتكيف معه وتتلاءم: عند تجاوز كل تلك الطقوس التي وضعتها ورتبتها الوثنيات التي جمدت ثورات التوحيد لدخول الجنة والخلود فيها أو للوقوع في الجحيم والخلود فيه، عند تجاوز كل تلك الصور الوثنية، التي أبدع في وصفها الساخر أيما ابداع فيلسوفنا الخالد أبو العلاء المعري في رسالة الغفران، نجد في جوهر هذه الصور الطموح الكبير للانسان الى تحقيق مجتمع الجنان ونعيمه السرمدي وتجنب مجتمع الجحيم وشقائه الأبدي، وذلك بعد أن ذاق وشاهد مرارات مجتمعه الواقعي وأنعمه الزائلة.  فالناس بكثرتهم لايسعون فقط بالتزام السلوك الصحيح الصعب لبلوغ ما يؤهلهم للأفضل بل ان بعضهم يذهب الى التضحية والاستشهاد من أجل الخلود في الجنة.  والذين سعوا الى الشهادة من أجل المثل طوال التاريخ الانساني يتجاوزون بأعدادهم كل تقدير، بل ان المجاهدين عند صبرهم على مرارة الجهاد لايأملون على العموم في تحقيق أكثر من مرحلة واحدة على الطريق الطويل الى المجتمع الأمثل.  ولكن طلب الرزق لتحقيق قيام الحياة في المجتمعات المتخلفة عن هذا المجتمع الأمثل وتحقيق قيام مختلف الأدوار التي يقوم بها الناس في هذه المجتمعات لا يكون الا بدافع الحاجة الملحة في ظروف أنظمة تتحكم بها طغم الأقلية، وبالتالي فان الانسان في مثل هذه الحالة لا يصل الى دوره الملائم لكيانه المادي والروحي ولا الى حقوقه المادية والروحية لقاء قيامه بهذا الدور، أو بالأحرى لا يصل الى حقه المكافئ لدوره الذي تفرضه عليه صدف النظام القائم المتخلف المحكوم بقوانين الأقوياء وليس بقانون تكافؤ الفرص والناس في حقوقهم: نجد مثلا أن الفرد في الطغم المتحكمة يقوم بدور لا يستحقه على العموم ويبدد أموالا لا يستحقها وهي تساوي أضعاف ما يناله غيره من عامة الناس. أما الفرد في عامة الناس فلا يصل إلا الى ما يجدد قواه ليستمر في إداء عمله.  وهناك في هذه المجتمعات المتخلفة عن المجتمع الأمثل كثير ممن لا يحظون بأي دور دور فهم عاطلون عن كل مفيد ويشكلون كتل العمال الذين لا يجدون مكانا لهم في آلة الانتاج وكتل الطفيليين من كل الأنواع وكتل حرس ومدبري النظام القائم وغيرهم بالاضافة الى طغم المتحكمين، وعلى المنتجين أن يوفروا لهم الغذاء ويوفروا للطغم المتحكمة مصاريف نظامهم ومباذلهم.

 

انه من غير المقبول أبدا وقد بلغت الانسانية هذا الحد القائم حاليا من الرقي المادي استمرار استرقاق الانسان لأخيه الانسان.  وهذا يعني أنه من غير المقبول أن يأتي الانسان ليقوم بدوره في المجتمع وهو مجبر بنتيجة وقوع قوة عمله في ملكية من يملك وسائل العمل.  فدوام تخلف الجملة الانسانية خلال العصور المديدة جعل المال المتولد في المجتمع، اذ لامال يقوم بمعزل عن المجتمع، بيد طغمة المتحكمين.  وأتى النظام الرأسمالي الذي جعل وسائل الانتاج حكرا للقادرين على تملكها وهم بالضرورة في أحوال التخلف قلة الناس، أي تلك الطغمة المتحكمة بالنظام: وذلك بسبب أن وسائل الانتاج الرأسمالي بعيدة عن أن تكون ناشئة كوسائل الحرفة عن عمل فرد واحد أو عدد محدود من الأفراد، فهي لا بد من أن تقوم بنتيجة عمل اجتماعي طويل ومعقد فلا بد اذن من أن تقع في ملكية المتحكمين بنظام المجتمع.  وانعدم التكافؤ بين أفراد المجتمع الواحد بنتيجة هذا الأمر، اذ لا تكافؤ مطلقا بين مالك الوسائل وبين المحروم منها الذي يأتي مضطرا لتقديم قوة عمله لهذا المالك والوقوع في عبوديته بالتالي لقاء العمل بوسائله: يأتي مالك المال والوسائل بكل حريته المستفحلة ليقوم بدوره الاجتماعي باستملاك قوى عمل المنتجين واسترقاقهم بالتالي مع كل مستضعف ينجذب بضغط النظام الى ساحة تحكمه في المجتمع، في الوقت الذي يختلف فيه الأمر كليا بالنسبة الى المستضعف الذي لا يملك سوى قوة عمله فيأتي غصبا عنه الى "ساحة الطاعة" ليقوم بدوره كمولد لقوة العمل تلك التي يستهلكها الرأسمالي سيد الساحة.  ولا عبرة لتبريرات فلاسفة الرأسمالية عندما يتشدقون بفضائل نظامهم الزائفة وحرياته الكاذبة وأوهام تكافؤ الفرص أمام أفراده.  اذ لا نرى هنا سوى تكافؤ فرص المقامرين في ظل القوانين الهمجية للصدف العمياء التي تولد هذه الطغمة المتحكمة الظالمة أو تلك في هذا الظرف أو ذاك.  وكم من مثال شاهد على كذب أولئك الفلاسفة الكهنة نجده في الفضائح التي لا تنقطع في المجتمع الأميركي سيد مجتمعات الرأسمالية وقائد نظامها العالمي الحالي.

 

ان الثروات التي تحصل في المجتمع الانساني هي ثمرات هذا المجتمع تماما كالثمرات الطبيعية لعوالم الحيوان والنبات والجماد وتتميز بأنها تقوم بالعمل بنتيجة العمل الاجتماعي العاقل الخلاق الذي يتطور ويرتقي الى ما لانهاية له فترتقي هي وتتسع معه.  واتساع هذه الثروات وتقدمها يتناسبان مع كفايتهما النظرية لسد حاجات المجتمعات في الجملة الانسانية وسد حاجات الأفراد في كل مجتمع: ان قيام هذه الجملة بكل ملامحها الموحدة بنتيجة التقدم المادي يمكننا حاليا من النظر اليها كمجتمع للمجتمعات الذي اختفت فيه عزلة الجماعات بعضها عن بعضها الآخر كما لم يوجد فيه على الاطلاق أفراد "ينبتون" لوحدهم معزولين.  وبالامكان تحديد الدرجات التالية لكفاية الثروات المذكورة:

 

-  أن يكون بالامكان حصول كل مجتمع وكل فرد في كل مجتمع على ما يسد حاجاته بغض النظر عن دوره في المسيرة العامة لحياة المجموع، أن يقوم قانون: "لكل بحسب حاجاته". وهذه هي الحالة التي يجاهد الناس الشرفاء في سبيل دفع مسيرة الجملة الانسانية في اتجاهها.

 

- أن يكون بالامكان حصول كل مجتمع وكل فرد في كل مجتمع على نصيب متكافئ لقاء القيام بدوره في المسيرة العامة لحياة المجموع، أن يقوم قانون: "لكل بحسب عمله". وهذه هي الحالة التي يجاهد الناس الشرفاء في سبيل تحقيقها.

 

- أن تقصر ثروات الانسان في جملة المجتمعات الانسانية عن سد حاجات المجتمعات والأفراد في المجتمعات بشكل متكافئ، وذلك بسبب التخلف وسوء العلاقات بين الأفراد والمجتمعات.  وعندئذ تأخذ الثروات أشكال المال والقيم الموزعة بين الناس بشكل غير متكافئ. ويقوم بالتالي تحكم الطغمات وتقوم العبوديات: ينتقل المال أو قيمه من جهة الى أخرى في حدود قوانين تصارع القوى العمياء المولدة بالنظام.

 

العملة والقيم

ان الثمرات الحاصلة بيد الانسان نتيجة لسعيه كانت لا تتعدى حدود العائلة التي تجنيها لادامة حياتها وتجديد قوى سعيها، وذلك قبل أن تظهر الأسواق وتقوم علاقات التبادل الاجتماعية على أنواعها، أي خلال أطوار القطعان الانسانية والمشاعات البدائية الأولى.  وكان يتم توزيع هذه الثمرات بين أفراد العائلة الواحدة بالأشكال البدائية الطبيعية التي نرى أشباهها حاليا في عالم الحيوان غير العاقل، أي وفقا للعلاقات القائمة على أساس القرابة الطبيعية.  لذلك كانت هذه الثمرات تتنوع بمقدار حاجات العائلة البدائية ولم يكن هنالك أي تبادل منتظم بين العائلات المتجاورة والطريقة الشائعة لخروج الثمرة من عائلة الى أخرى كانت الاغتصاب الذي كان يتسع الى درجة إفناء الخصم والاستيلاء على مرابعه.  ولكن تجارب الانسان الطويلة المريرة علمته التخفيف من همجيته في التعامل مع نظيره الانسان، فأخذت عمليات التبادل بين مختلف الجماعات الانسانية تتكرر وتنتظم مع تقدم الاختصاص في الانتاج في هذه الجماعات الى أن قامت الأسواق واتسعت وتفتح بعضها على بعضها الآخر وتوطدت أعرافها وقوانينها.  ولكن هذه الأعراف والقوانين طوال تخلف المجتمعات لم تمنع تجاوز حدودها بالقوة الطاغية وأفعال الظلام والخداع والغش لنقل ما بحوزة الغير دون مقابل مكافئ الى حوزة القوي الغاصب أو السارق أو الغشاش، لم تمنع باختصار الأفعال الحيوانية الهمجية السائدة في الكائنات الدنيا من عالم الأحياء التي لا تهتدي في غالب الأحيان الى غير طريق الصراع من أجل البقاء فتنوع أشكال الصراع بين حد الاغتصاب قوة واقتدارا وحد الاحتيال والمكر والغش.  ولم يكتف الانسان القوي الغاشم بالأشكال العارية للاغتصاب يفترس بها ضحاياه وانما قنن وفلسف هذه الأفعال وموهها وزينها بوثنياته ليهلك أرواح هذه الضحايا بالاضافة الى هدم كياناتهم ماديا.  ونجد في النتيجة أن توزيع ثمرات المجتمع الواقعي المتخلف يقوم بأفعال تتراوح بين حدي التراضي في التبادل والاغتصاب بمختلف أشكاله.  والأمر لا يتغير عندما يتسع ليشمل مجتمعات الجملة الانسانية حيث نجد المجتمع المستضعف يرزح تحت ظلم المجتمع المتجبر الغاصب.

 

ان المادة الأولية المهيأة مجانا في الطبيعة تتطلب سلسلة من العمل الاجتماعي لتصل الى السوق ثمرة جاهزة للاستهلاك وبالتالي صالحة للتبادل المتكافئ.  وقد قام الاقتصاديون الكلاسيكيون الانجليز بدراسة هذا الأمر وبينوه بتفاصيله وأخذه عنهم الماركسيون وجعلوه أحد أسس عقيدتهم الاشتراكية.  فتكافؤ سلعتين تتقابلان في عملية التبادل في السوق يقوم على تكافؤ العملين الاجتماعيين اللذين جهزاهما للاستهلاك وأوصلاهما الى السوق، على أن يقاس العمل الاجتماعي بالزمن المتوسط اللازم لانجازه من قبل منتج متوسط يعمل بالأسلوب القائم الغالب وبالوسائل الدارجة ويضاف الى هذا الزمن استهلاك أدوات الانتاج مقدرا أيضا بالزمن المتوسط. ومجموع هذين الزمنين يشكل قيمة التبادل للسلعة أو القيمة باختصار وهي غير قيمة الاستهلاك للسلعة التي ترمز فقط الى صلاحها للاستهلاك.  وميز الاقتصاديون الكلاسيكيون العمل المنتج للقيم والعمل غير المنتج للقيم ولكنه ضروري لوصول السلعة الى المستهلك.  فالعمل المنتج هو الذي يهيئ المادة الأولية لتصبح صالحة للاستهلاك مع العمل الذي ينقلها من مكان انتاجها الى السوق أو الذي يستخلص مادتها الأولية من الطبيعة ويأتي بها الى مكان صنعها وكل ما شابه هذه الأعمال. أما عمل التوزيع والاعلان وغيره من الأعمال المساعدة فلا ينتج أي قيمة.  كما اكتشف أولئك الاقتصاديون القيمة الزائدة أو فضل القيمة التي تساوي زيادة ما تنتجه قوة عمل المنتج من قيم على ما تستهلكه هذه القوة من القيم لتتجدد وتصان مع تعويض ما تستهلكه من وسائل عملها.  فاذا كانت قوى الانتاج بالتعريف هي قوة عمل المنتجين ووسائلهم للعمل فان فضول القيم تنشأ من زيادة ما تنتجه قوى الانتاج هذه من قيم على ما تستهلكه من القيم لتتجدد وتصان.  ذلك لأن القيم التي يستهلكها المنتج يوميا وهي تتلخص بالغذاء والملابس وضرورات الحياة الأخرى مع تعويض استهلاك وسائل العمل يمكن انتاجها بجزء من عمله اليومي بسبب أن ذلك الغذاء يحمل خواص وطاقات طبيعية مجانية تجدد طاقات جسم المنتج بالاضافة الى ما تقدمه الطبيعة من هواء وماء وشمس وغيره من العناصر النافعة المجانية: في الواقع أن العمل الانساني الذي يجهز مواد الطبيعة للاستهلاك ويولد فيها قيم التبادل "يحصر" طاقات جسم المنتج بالاضافة الى ما تقدمه الطبيعة من هواء وماء وشمس وغيره من العناصر النافعة المجانية: في الواقع أن العمل الانساني الذي يجهز مواد الطبيعة للاستهلاك ويولد فيها قيم التبادل "يحصر" طاقات ويسخر صفات طبيعية في هذه المواد بامكانها, عند تحولها الى طاقات انسانية عند استهلاكها من قبل الانسان, أن تؤدي أضعاف ذلك العمل الذي ولد فيها تلك القيم.  وهذا الأمر يشبه تماما ما يحصل عند اقامة سد على نهر فان هذا السد "يحصر" طاقات تفوق أضعافا مضاعفة الطاقات التي أقامته.  فحصر طاقات طبيعية كبيرة وتوجيهها في اتجاه معين تفعل فيه, هو شكل أساسي في مجريات الطبيعة أثناء تطورها. وفي النتيجة، نجد عند انقضاء كل دورة عمل للمجتمع، أنه يتوفر حجم كلي اجتماعي من فضول القيم، وعلى هذا الحجم وكيفية توجيهه واستهلاكه يدور الصراع بين الظالمين والمظلومين في المجتمع المتخلف عن المجتمع الأمثل.

 

وعندما تسود علاقات تكافؤ الفرص في المجتمع ويسود قانون "لكل حسب عمله" وتضمحل طغم التحكم الظالم في المجتمعات ويمتنع الهدر وتعطيل الطاقات الانسانية وتختفي البطالة السافرة والمقنعة فينخرط الناس على العموم في تأدية أدوار ايجابية منتجة أو مساعدة في مجتمعهم فان حجم فضول القيم الاجتماعية يتسع ليبلغ أقصى حدوده مع ارتفاع أنصبة الأفراد الى حدود عليا فيعاد عندئذ ذلك الحجم من فضول القيم لدعم التقدم الاجتماعي والروحي في كافة الاتجاهات المفيدة للجميع ويستوفي بهذا كل انسان حقه العائد اليه نتيجة انتمائه لمجتمعه والقيام فيه بدوره العائد اليه.  ولكن بلوغ هذه السوية من التقدم المادي والروحي يمتنع ما دامت الظروف التالية قائمة مع كل ما تجره من أحوال سيئة:

 

- التخلف وقيام الصراعات الاجتماعية الأنانية وسيادة قوانين الصدف الهمجية التي تفتح الطريق واسعا لتحكم طغم الأقلية بمختلف أشكالها الوحشية بأكثرية الناس، وبالتالي تبديد ثروات المجتمع في مباذل وهدر تلك الطغم الظالمة الجاهلة بالاضافة الى ما تسببه من تعطيل أقسام كبيرة من قوى الانتاج بسوء تدبيرها وعلى حراسة نظامها الجائر وصيانة مصالحها الأنانية بجيوش الطفيليين وبقوى القمع والتحكم، وبالاضافة الى ردود الفعل السالبة للمجتمع على جورها وطغيانها بقيام عالم الاجرام بمختلف أشكاله: عالم الطغم "بشرعيته الجائرة المعلنة" يولد عالم الانحراف "بجرائمه السوداء".

 

- انقسام المجتمعات في الجملة الانسانية وقيام الصراعات فيما بين بعضها والبعض الآخر بنتيجة تناكرها بدلا من تعارفها وتآزرها وتكافلها، وهذا بسبب انتشار تحكم تلك الطغم الظالمة الحمقاء المتضاربة الأهواء بها، الأمر الذي يؤول الى اشتعال الحروب التي تذهب بأرواح الملايين وتدمر الثروات الهائلة بعد أن تبدد الانسانية مالا حصر له من القيم والقوى العاملة والأوقات للاعداد لاثارتها بدلا من توفيرها على الناس ومنع كوارثها التي لا تفيد الا تلك الطغم الكافرة الظالمة.

 

- الجهل الذي ينشر الظلام ويمنع الرؤية الصحيحة وتلمس حركة الواقع وينشر اليأس بين الناس ويقعدهم عن السعي الى ايجاد مخرج للخلاص.  وهذا بالاضافة الى تسبيبه الانقسامات المختلفة الأشكال فيما بينهم، اذ لا يجمع الناس على طريق واحد للخلاص سوى وضوح الرؤية لهم جميعا وايمانهم بصدق وبالتالي بوجوب العمل للانتقال الى الأفضل الذي يحجبه الظلم وظلام الجهل الذي يجمد الناس بوثنياته المتعددة الأشكال والمتناقضة المتعارضة.

 

قال الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه لرجل عزل نفسه في المسجد وهو يحثه على العمل: "ان السماء لاتمطر ذهبا ولا فضة".  فالمال لا يهبط من السماء كما لا يتكون من قبل فرد منعزل ولا بد له من عمل انساني اجتماعي كي يتكون في جهة اجتماعية يعينها النظام القائم. ولكننا نرى أن من يقتصر مورده على ما يجدد قواه للقيام بدوره الاجتماعي لا يمكنه تكوين أي مال في حوزته: "يأتيه ويستهلك كفاف يومه".  وفي المجتمعات المقصرة عن ذلك الذي يسود فيه قانون "لكل بحسب عمله", يتكون المال كما قلنا أعلاه عند الطغم المتحكمة التي يتوزع عليها ذلك الحجم من فضول القيم الاجتماعية بدلا من أن يعود هذا الحجم بنفعه على المجتمع.  ثم ان الآلية التي يتم بها انتاج وتوزيع القيم تقوم بعملية نشوء وارتقاء اجتماعية تستمر ما استمر طورها القائم واستمر نظامه وهي ليست مجرد اجتماع يقوم على الصدفة لعدد من عمليات الانتاج والتوزيع وانما هي بمجموعها آلية تاريخية منطقية تقوم عليها حياة المجتمع ونظامه.  وجوهر هذه الآلية التي طورها المجتمع الرأسمالي و"شحذها" طوال تاريخه يقوم على تيار القيم الذي ينطلق دوما من ساحات الانتاج نحو مالكي المال ليقوم هؤلاء بتوزيعه بعمليات التبادل في الأسواق، وتيار المال العملة المنطلق من خزائن الرأسماليين الخاصة والعامة نحو مالكي القيم وأصحاب قوى العمل وكل حرس النظام والطفيليين وأشباههم ليعود هذا التيار في النتيجة عبر عمليات التبادل في الأسواق الى تلك الخزائن التي خرج منها.  هنا يجب اعتبار الجهات الأجنبية وأخذها بالحسبان كشريكة ومتممة لطغم الرأسماليين المحليين.  ونجد بنتيجة الحساب أن كل قيمة يقابلها نقدها الذي لا يختلف كثيرا بمقداره من سلعة الى أخرى ومن عملية تبادل الى أخرى في سوق حر غير احتكاري عندما لا تختلف القيمة.  ولكن اقتسام حجم فضول القيم الاجتماعي لا يجري بشكل "حبي" في محيط طغم الرأسماليين وانما عبر معارك ضارية وحروب يبتلع فيها هؤلاء الناس بعضهم بعضا فينتفخ بعضهم بالمال على حساب خسارة وافلاس الآخرين.

 

ان الصراع بين الرأسماليين على اقتسام ذلك الحجم الاجتماعي لفضول القيم، أو ما يسمى بالصراع على جني الأرباح، يأخذ كل طريق ممكن، وعلى الجملة الانسانية يأخذ طريق غزو الضعفاء ومحاربة الأنداد.  وتقدم أسلوب الانتاج ووسائله هو الشغل الشاغل لكل رأسمالي وحلمه الذي يسعى دوما الى تحقيقه لا حبا في تحقيق التقدم المادي الاجتماعي وانما للتغلب على الخصوم في الأسواق الأمر الذي أدى الى قيام الاحتكارات بأنواعها المختلفة.  ولا يوفر الرأسمالي أي سلاح يمكنه من سلب غرمائه أرباحهم ومنه السعي الى تسخير سلطات النظام لتقف الى هذا الجانب أو ذاك بقوانينها وصفقاتها ضد المنافسين.  ولا نذكر الوسائل الاجرامية المتنوعة كالرشاوى والغش والاغتصاب وغيره.  وفي عصرنا الحالي، العصر الأميركي، الذي توحد فيه المستعمرون في امبراطورية رأسمالية عالمية متعددة الرؤوس بقيادة رأسها الكبير احتكارية الولايات المتحدة الأميركية، والذي برزت فيه الشركات الاحتكارية المتعددة الجنسية، في هذا العصر تضخم الى درجة كبيرة ذلك الحجم العالمي لفضول القيم الذي تقتسمه الطغم الاحتكارية العالمية وخدمهم وأتباعهم الرأسمالين المنتشرون في كل أنحاء جملة المجتمعات الانسانية.  وهذا الحجم الهائل لفضول القيم مع متمماته من الثروات الأخرى المنهوبة من المستضعفين في كل مكان من هذه الجملة الانسانية وخاصة منها في العالم الثالث, موضوع كاقطاع للنهب, بحماية ما يسمونه "الشرعية الدولية" التي هي شرعية أميركا ومخابراتها قبل كل شيء.

 

ويأتي قبل الصراع فيما بين الاحتكاريين على اقتسام ذلك الحجم العالمي لفضول القيم اتفاق وعمل هؤلاء الاحتكاريين على تضخيم هذا الحجم الى أقصى حد ممكن.  ويقوم الطريق الرئيسي الى هذه الغاية على الاجراءات التالية:

 

أ - فرض الأسعار الاحتكارية في الأسواق. وحيث أن الاحتكاريين يتوازنون على العموم بقواهم طوال كل فترة لا يظهر فيها مستجدات تضعف بعضهم اقتصاديا وتزيد في قوى بعضهم الآخر فان ثقل ارتفاع الأسعار الاحتكارية يقع على كاهل أصحاب الدخل المحدود: العمال والفلاحين وكل من في خدمة النظام من الجند والشرطة والموظفين والأتباع وغيرهم.  فمن جهة تنخفض أسعار قوى العمل في المعامل والحقول بالنسبة الى الأسعار الاحتكارية لما تنتجه هذه القوى بالذات في معاملها وحقولها عما يزيد في حجم فضول القيم، ومن جهة ثانية ينتقص نصيب الفئات الاجتماعية ذات الدخل المحدود الآنفة الذكر من هذا الحجم لفضول القيم ويزداد بالتالي نصيب الاحتكاريين الرأسماليين منه.  ولا يختلف الأمر جوهريا عند حدوث المستجدات التقنية الاقتصادية في تطور النظام الرأسمالي الاحتكاري في اتجاه التقدم أو التقهقر الاجتماعي سوى أننا نكون عندئذ أمام اختفاء نماذج عتيقة من الاحتكاريين وظهور جدد منهم لا يكونون الا أسوأ وأشد بلاء على الناس ممن سبقوهم.

 

ب - ان العملة في الجوهر حوالة اجتماعية يحملها الفرد ليحصل على ما يحفظ ويجدد قواه من القيم ليقوم بدوره العائد اليه في المجتمع وذلك عندما تسير الأمور في هذا المجتمع بدقة بحسب نظامه دون جرائم ومخالفات: في النظام الرأسمالي مثلا يكون الدور الأساسي للرأسماليين امتلاك رأس المال وبالتالي يسمح هذا النظام لهؤلاء الرأسماليين بامتلاك القيمة الزائدة.  وعندما يكون هناك بحسب النظام القائم قسمة صحيحة لحجم الانتاج الكلي للمجتمع فان بالامكان أن نقول أن حجم العملة المتداولة في العملية الاجتماعية لاقتسام ذلك الحجم الكلي للانتاج الناشئ فرضا في فترة زمنية معينة يكتسب على العموم قيمة هذا الحجم الأخير للانتاج.  ونجد في هذه الشروط أن لدينا حجما للعملة المتداولة بكل أنواعها وأشكالها: نقود، سندات، أسهم الخ، هذا الحجم للعملة المتداولة يقابل في فترة انتاج معينة الحجم الكلي للقيم المنتجة المتداولة.  فاذا ازداد ذلك الحجم للعملة في تداول ذات حجم القيم المنتجة في فترات انتاج سابقة أو لاحقة لتلك الفترة التي اعتبرناها مبدأ للقياس فان هذا يعني انخفاض قيمة العملة بالنسبة الى ما كانت عليه في فترة القياس تلك والعكس بالعكس.  والرأسماليون الاحتكاريون يدفعون دوما في اتجاه التضخم ورفع أسعار السلع (تخفيض قيمة العملة).  فلو أخذنا مثلا الميزان الذي قام في أعقاب الحرب العالمية الثانية وقارناه الآن بما يقوم في أعقاب حرب الخليج مثلا, لوجدنا أن التضخم جاوز المئات في المئة.  والحرب العالمية الثانية تشكل نقطة انقطاع لا يصح معها مقارنة أحوال ما بعدها بأحوال ما قبلها لأن اختلال الموازين هنا يتجاوز كل تقدير.  ثم أنه لا بد للرأسماليين الاحتكاريين من تعويض وسائل الانتاج السابق فارتفعت أسعارها بالتضخم، كما أن قيمة ما يملكون من عملات تهبط لذات السبب، فنجدهم بأسعارهم الاحتكارية لا يسدون فقط هذين النقصين في أرباحهم وانما يصلون أيضا الى زيادة الحجم المطلق لأرباحهم بتضخيم حجم فضول القيم على حساب هبوط حصص المنتجين جميعا مع حصص كل العاملين في خدمة النظام أصحاب الدخل المحدود من الحجم الكلي للانتاج. فيكون التضخم اذن ملازما أبدا للأسعار الاحتكارية فيجرها آليا كما تجره هي بدورها.

 

ج - قلنا أن قيمة السلعة تقاس بالزمن المتوسط اللازم اجتماعيا لانتاجها بالاساليب القائمة والوسائل الشائعة عند الانتاج.  فمن يمتلك من الرأسماليين الأسلوب الأفضل والوسائل الأجد والأرقى من ذلك الأسلوب المتوسط ووسائله الشائعة فانه ينتج كميات أكبر من السلع خلال ذلك الزمن المتوسط.  وعلى العكس فان المقصر في أسلوبه ووسائله تتضاءل أرباحه وقد يصل الى الخسارة والخروج من حلبة تنافس الرأسماليين على اقتسام ذلك الحجم لفضول القيم الاجتماعية.  ثم ان التقدم العاصف للعلم والتقنية دفع الاحتكارات الى المزيد من الامتدادت الرأسية والتوسعات الأفقية والى التعدد في الجنسية.  فعدد من أنواع الانتاج مثلا بينها علاقات تكامل أو تشابه، كأن يتخصص كل نوع منها بانتاج جزء من أجزاء سلعة واحدة، أو أن تنتج كلها سلعا لاستعمال واحد، أو ما شابه هذه الأمور، قد تجد في تنافسها على الأرباح وصراعاتها في هدف الاستئثار بالمغانم سببا في دمارها كلها فتتجه اذن الى اقامة شراكة تضمها جميعها وتجعل منها كتلة احتكارية واحدة تفرض أسعارها في السوق.  كما ان اتساع الاسواق في العالم واتصال بعضها ببعضها الآخر وانتشار المواد الاولية هنا وهناك على الكرة الارضية وقيام الامكانات العلمية والتقنية وانتشارها في الغرب المتقدم صناعيا الى مختلف انحاء العالم واتساع التخصص في البحث والانتاج وغيره من الاسباب دفع بالشركات الاحتكارية الى التضخم والتعمق لتصبح الواحدة منها شبكة اقتصادية تنتشر على اكثر من قطر من اقطار العالم، دفعها لتصبح "شركات احتكارية متعددة الجنسيات": نجد مثلا ان السلعة الواحدة التي تنتجها شركة متعددة الجنسية توزع في البحث العلمي لانتاجها, وفي انتاجها, على اكثر من فرع عالمي للشركة, ليقوم كل فرع منها بانجاز الجزء العائد اليه من السلعة المطلوبة، ثم تجمع الاجزاء في الجهة الانسب لتسويقها على العموم.  ويبقى مع كل هذا التنافس ويبقى الصراع لاقتسام الحجم الكلي الاجتماعي لفضول القيم المحلي والعالمي قائما بين الاحتكارات وبين الاحتكاريين مادامت الرأسمالية قلئمة: في داخل الشركة الاحتكارية الواحدة بين كبار المساهمين للتحكم بالشركة وارباحها او للتملص من خسائرها، وبين الشركات الاحتكارية لجر المغانم والارباح، وبين الدول الرأسمالية الاحتكارية المتحالفة لنهب الشعوب الخ.

 

ويصل الصراع بشدته بين الرأسماليين الى اشعال الحروب وقلب الحكومات وقتل الملايين بالسيف وبالجوع.  ان السيطرة على نفط الخليج مثلا التي اعدت لها الاحتكارية الاميركية النفطية خلال اكثر من عقد ونصف من السنين وانتهت بها الى تلك الحرب المشؤومة التي اشعلتها هذه الاحتكارية ضد الشعب العراقي كلفت العراق عشرات الوف الضحايا وكلفت عرب النفط مئات المليارات من الدولارات من الثروات التي احترقت في ميادين القتال ومن الدولارات التي ذهبت وستذهب الى صناديق الاحتكاريين الاميركان.  والنفط هو المحرك الاساسي للصناعات المعاصرة في الوقت الذي يشكل قيه اكثر من ثلثي المادة الاولية لهذه الصناعة، فمحاولة السيطرة عليه واحتكاره هي في الواقع محاولة للسيطرة على الاقتصاد العالمي، وهذا امر حلم به هتلر في غابر الزمان.  ونجد في النتيجة ان قيام هذه الكائنات الاحتكارية العملاقة, اذ وسع في اساليب ومجالات الانتاج, وسع باسلوبه الرأسمالي الاناني في تضخيم الاسعار, والقى بثقل الاحتكارية الجديدة الرهيب على عاتق المستضعفين من الناس وسحقهم.  فالاسلوب والتقنية المتقدمان اذ امكنا من زيادة الحجم الكلي للانتاج في وحدة الزمن وانقصا بالتالي من قيمة السلعة الواحدة بانقاص الزمن اللازم لانتاجها بقيا في سلطة احتكاريين رأسماليين محقت فائدتها للانسان برفع سعر تلك السلعة بدلا من تخفيضه تبعا لانخفاض القيمة: ازدادت ارباح أولئك الرأسماليين وتضخم عدد اتباعهم وحواشيهم واشباههم من الطفيليين غير المنتجين الذين يستهلكون بدون حق من ذلك الحجم لفضول القيم, وتوسعت كل المشاريع الطفيلية غير المنتجة للحاجات النافعة, كالتوسع في تكاليف الجيوش واجهزة الامن والاسلحة واجهزة التخريب المحلي والعالمي وغيره، اي باختصار تضخمت الى حدود غير معقولة تكاليف النظام العبودي الرأسمالي، الأمر الذي ضخم في حجم العملة المتداولة بالنسبة الى الحجم الكلي للانتاج ورفع بالتالي الأسعار وأثقل على كاهل المنتجين وحرم الملايين من المستضعفين وأوقعهم في جحيم الحرمان والجوع: أذاعت مثلا محطة مونتي كارلو صباح الخامس عشر من آب عام 1991 أن المجاعة في شرقي أفريقيا تهدد عشرة ملايين افريقي بالموت.  انه النموذج للنظام العالمي الأميركي الجديد الذي بشر به رئيس الولايات المتحدة بوش. وأذاعت أيضا المحطة الآنفة الذكر في الثاني والعشرين من ايلول عام 1991 أن خسائر دول النفط في الحرب العراقية الايرانية وحرب الخليج تجاوزت الثمانمائة مليار دولار.  ومن الواضح أن نظام الرأسمالية العالمية بقيادة بوش, ومساعدة خدمه في منطقتنا العربية, هو الذي أثار هاتين الحربين ليحرم أمتنا من هذا الحجم الخيالي من الأموال التي تدفق أضعافها غنيمة باردة في خزائن الاحتكاريين قراصنة العصر.

 

اقتناص المال بالمال 

قلنا أن القيم على اختلاف أشكالها لا يمكن أن تقوم الا في حدود المجتمع الانساني ونتيجة الجهود المشتركة للمنتجين العمال والفلاحين ومساعديهم.  وقلنا أن العملة في جوهرها هي حوالة يتمكن بها حاملها من الحصول على ما يقابلها من قيم الانتاج والخدمات.  فهي في النتيجة تحمل قيمة معادلة أو قيمة باختصار.  والآلية التي يتم بها توزيع القيم على مختلف أفراد المجتمع وفئاته تتبع أساسيا الطور القائم وتنظم بحسب قوانين النظام السائد في هذا الطور، فهي اذن آلية تقوم على الخبرات التاريخية للمجتمع وتناسب الطغم المتسلطة في المجتمعات العبودية على اختلاف أشكالها التي منها المجتمع الرأسمالي الذي نخصه بكلامنا في هذا الجزء من بحثنا.  ويرعى هذا التوزيع ويجدد ويصون الوجه المالي للمجتمع، هذا الوجه المتكون أصلا بالتراكمات التي يحدثها التوزيع المذكور طوال نشوء وتقدم الطور القائم.  والقيم كلها مستهلكة ومتجددة على العموم ولكن ذلك الوجه المالي الذي يحيا ويقوم بتضاريسه وتفاصيله المميزة يعطي صورة المجتمع في كل لحظة من حياته.  فنجد فيه مثلا تراكم القيم بأنواعها (تزايدها حينا وتناقصها حينا آخر) في هذه الطغمة الرأسمالية أو تلك.  ولا نجد فيه بالمقابل سوى القليل من القيم عند الفئات الواسعة المستضعفة من الناس.

 

ان حجم القيم الذي يشكل مع العملة المرافقة الوجه المالي للمجتمع، اذ نشأ وتطور في المجتمع بنتيجة عمل المنتجين المباشرين ومساعديهم، ليس محايدا فيعود آليا بفوائده على المجتمع، ولا عديم التأثير في دفع أو عدم دفع أفراد المجتمع ليقوموا بأدوارهم العائدة اليهم في حياتهم الاجتماعية، وانما هو مقسم الى أقسام تشكل قوى فاعلة متضاربة بيد متنافسين تقوم بهم تلك الطغم سيدة النظام الرأسمالي، مقسم الى رؤوس أموال يملكها أفراد يتمكنون بها من امتلاك قوى العمل للمنتجين ومساعديهم ومن التحكم بالتالي في هذه الناحية أو تلك من الحياة الاقتصادية للمجتمع وذلك تبعا لموقع رأس المال في النشاط الاقتصادي العام.  فرأس المال هو في النتيجة مظهر اقتسام السيطرة والتحكم في المجتمع بين أفراد طغم تتكون تاريخيا في خضم التنافس والصراع الرأسمالي المحلي والعالمي.

 

وقد حيدت ثورات التوحيد، وخاصة منها الثورة الاسلامية العظمى، المال ومنعت استخدامه لتسخير الناس واستغلال قواهم الانتاجية استغلالا عبوديا، وذلك بممارسة الربا وهو الوجه السافر لاقتناص المال بالمال.  فالاسلام مثلا أبرز أكثر من سبعين شكلا للربا وكلها تؤول الى تضخيم حجم مال المرابي بكدح المستدينين الذين يقعون في النتيجة في عبودية هذا الدائن عمليا أو قانونيا.  وعند العودة والنظر الى أحوال جملة المجتمعات الانسانية قبل قيام الرأسمالية نجد، كما كنا ذكرنا في هذه الدراسة، أن ملكية وسائل العمل الذي كان حرفيا كانت سهلة ومتاحة لكل من يشاء أن يعمل فلا يبقى أمامه في تلك الظروف الاجتماعية سوى اتقان عمله بتلك الوسائل البسيطة نسبيا.  ونجد بالتالي أن العامل, كاجير أو صانع عند معلم الحرفة في تلك الأوقات, ياتي الى عمله، يأتي للقيام بدوره الاجتماعي في الانتاج، بملء ارادته دون أي قسر ما دام بامكانه على العموم أن يكون مستقلا بعمله, للسهولة النسبية لامتلاك وسائل العمل في الحالة التي يحصل فيها على المهارات اللازمة لهذا العمل.  فتكون اذن عندئذ اقامته وعمله عند المعلم نوعا من المدرسة التي تمكنه من امتلاك تلك المهارات، أو مجرد عدم رغبة منه في الاستقلال بعمله لأسباب تعود اليه حصرا.  وفي هاتين الحالتين، حالة الرغبة في كسب المهارات وحالة عدم الرغبة في الاستقلال، يقوم على العموم التكافؤ بين المعلم صاحب العمل وبين مساعديه وأجرائه.  بل ان العلاقة في المشغل الحرفي كانت علاقة عائلية تحكم فيها العاطفة الانسانية في التعاون والتكافل على العموم.  ثم ان المعلم اذ يعمل في المشغل الحرفي جنبا الى جنب مع مساعديه وأجرائه، بالاضافة الى اضطلاعه بالمهمات الأخرى الضرورية لانتاج السلعة وتسويقها مع قيادته العمل فنيا واداريا.  يؤدي نسبة كبيرة من مجموع أتعاب العاملين الضئيلي العدد في المشغل، وذلك على عكس الرأسمالي الذي تكون مساهمته في الجهد العام تبقى دوما صغيرة جدا بالنسبة الى مساهمة الجمهور الكبير للعاملين في معمله.  ان المعلم الحرفي لا يتجاوز على العموم ماديا واجتماعيا مساعديه الصناع.  وان مشغل الحرفة ما هو عمليا سوى تعاونية بسيطة يستفيد منها كل العاملين فيها فوائد متقاربة في حجمها ولا مجال فيها لربا يحصل بنماء مال المعلم بكدح شركائه الأحرار بالعمل في حدود أعراف وقوانين الحرفة: ان مال الربا مثلا يستهلكه المستدين وعليه أن يرده مضاعفا للدائن الذي لا يبذل أي جهد سوى تسليم المال وانتظار سداده مع فوائده، أما مال الرأسمالي فهي الأجور المدفوعة مع الوسائل المستهلكة بالعمل التي يردها جميعها منتجو القيم مضاعفة بعملهم القسري بوسائل الرأسماليين التي لا يمكنهم امتلاكها.  ونجد في النتيجة أن العبودية في عالم الحرفة، عالم الوسائل غير الكافية بضخامتها لاجبار الناس على الانخراط في سلاسل عملها، لا تكون أساسيا الا باسترقاق الانسان فعليا أو انتقاص ذاته من قبل كل من يتجاوزه بالقوة أو باستغلاله بالربا العادي.  أما في عهود الرأسمالية فان استرقاق الانسان يكون بامتلاك جزء من ذاته من قبل الرأسمالي، بامتلاك قوة عمله، لاجباره بالتالي على الكدح في ورشات الانتاج ومعامله ومكاتبه، وكذلك بانتقاص ذات الانسان من قبل الأقوى اجتماعيا، وبالربا الذي يأخذ في العصر الأميركي أشكال العبودية الرهيبة.

 

ولقد أولى الاسلام، كثورة كبرى على الظلم والنظم الاجتماعية الفاسدة الباطلة، اهتماما كبيرا بالعلاقات الاقتصادية في المجتمع.  فنجد القرآن الكريم يعيب بشدة الأحبار والرهبان المبطلين في سورة التوبة: "ياأيها الذين آمنوا ان كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل.  والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم".  وأمر الاسلام المؤمنين بألا يأكلوا أموالهم فيما بينهم بالباطل فنقرأ مثلا في سورة النساء الآية الكريمة التالية: "ياأيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل الا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم ان الله كان بكم رحيما".  وحرم الاسلام الربا بشكل مطلق، بكل أنواعه ومشتقاته ومصادره، فنقرأ في سورة البقرة الآية الكريمة التالية: "الذين يأكلون الربا لايقومون الا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا انما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ماسلف وأمره الى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون. يمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لايحب كل كفار أثيم".  وعاب القرآن الكريم بشدة اليهود والمرابين والمبطلين بالآية الكريمة التالية: "وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل".  ونلاحظ الأمر الهام وهو أن القرآن الكريم يسخر بشدة من أولئك الذين يشبهون الربا بالبيع، كما يفعل الرأسماليون عندما يعطى نظامهم، الذي يسمح لطغمهم باحتكار أسلوب الانتاج المعقد ووسائله الغالية، لتلك التجمعات البائسة للعمال الجائعين الذين يعرضون قواهم للبيع مقابل تجديدها فقط شكل سوق عمل حر يتعادل فيه المتخوم مالك الوسائل ومؤن تجديد قوة العمل واشباعها مع الجائع صاحب هذه القوة وعارضها للبيع، نقول ان القرآن الكريم يسخر بشدة من ذلك الادعاء الكاذب الذي يشبه سوق الربا الاسود بالسوق الحر الذي يتعادل فيه البيعان (البائع والشاري)، وهو يمسك عن الرد على أصحاب هذا الادعاء وعن تفنيد حججهم الباطلة لوضوح الامر وبداهته عند كل الناس بنتيجة تجاربهم المريرة مع المرابين.  والمرابي بنظر الاسلام كفار أثيم مبطل كما هو واضح في الآيات الكريمة أعلاه.

 

ان تبرير الباطل بتصويره بصورة الحق يضاعف من بشاعته.  فالبيع مثلا يقع بين جهتين حرتين تتبادلان به المنافع بالتكافؤ، أما الربا فيقع كما أشرنا أعلاه بين جهة مرابية تفرض شروطها وأخرى مستدينة تدفعها ظروفها للخضوع لهذه الشروط التي تجعل منها أسيرة الأولى. وكذلك يقول الرأسمالي فيدعي أنه يشتري قوة العمل المنتج ويدفع ثمنها لقاء تسليمها من صاحبها برضاه، وكأن هذه القوة بهذا الزعم الظالم شيء يتولد في جسم صاحبها وينفصل عنه ليذهب الى حوزة شاريها الرأسمالي كما تتولد دريهمات هذا الأخير لتذهب الى الكادح وتحل محل قوته، محل روحه التي تقوم بها حياته وتقوم بها ذاته!.. فمن الواضح البديهي أن هذه المزاعم وأمثالها من الكلام الفارغ تبسيط لحقيقة الواقع الرأسمالي المتخلف الذي يبيح احتكار وسائل العمل للطغم الرأسمالية وبالتالي يتيح لهذه الطغم التسلط على رقاب الأكثرية المحرومة التي لابد لها لتستمر في الوجود بالحياة من الوصول الى هذه الوسائل للعمل بها ولو بثمن التنازل عن ذاتها لعبودية الرأسمالي.  ولايقف الأمر عند هذه العلاقة القسرية بين محتكر وسائل الانتاج وبين المستعبدين للانتاج بهذه الوسائل.  فالنظام الرأسمالي المبني على هذا الظلم يتصاعد بظلمه لبيلغ، بتنافس طغم الظالمين الرأسماليين وبصراعاتهم وتسابقهم الهمجي لحيازة المنافع الأنانية بكل وسيلة، ارتكاب جرائم قتل الانسان وتجويعه ونهب ثرواته في كل مكان من جملة المجتمعات الانسانية.  ولننظر فيما يلي عن قرب أكثر الى الأمور التالية التي تبيحها الرأسمالية، كنظام عبودي، وذلك تحت مختلف الحجج والادعاءات الكاذبة:

 

1.    تثمير المال بالربا:

عرفت المجتمعات الانسانية مرض الربا منذ أقدم الحضارات.  فالحضارة البابلية مثلا ابتليت بهذا المرض.  ونقرأ في قصة الحضارة لديورانت حول هذا الموضوع مايلي: "كانت القروض تتخذ صورة بضائع أو عملة وكانت فوائدها عالية تحددها الحكومة بعشرين في المائة سنويا اذا كانت نقودا وبثلاثة وثلاثين في المائة اذا كانت بضاعة. على أن التجار كانوا يتجاوزون هذين السعرين الرسميين، ويستأجرون مهرة الكتاب ليخادعوا الموكلين بتنفيذ القانون... وكان الربا هو الكارثة التي رزئت بها بلاد بابل والثمن الذي أدته تجارتها، كما تؤديه الآن تجارتنا نحن..".  انتهى قول ديورانت.  أما الرأسمالية القائمة على المال الذي يبحث  صاحبه عن ساحة يقتنص به فيها قوى عمل انسانية تنميه فهي بمصارفها ومؤسساتها الاقتصادية المختلفة نظام الربا والمرابين قبل أن تكون النظام الذي يسعى فيه الانسان الى اقامة الحياة الاجتماعية.  فرأس المال، كما يدل عليه اسمه بكل اللغات الانسانية هو: "الأداة المتولدة من المال لجر المال"، بغض النظر عن الشكل، وليس لهدف البناء, الذي لايقوم عندئذ الا لتحقيق تلك الأداة وتنامي ذلك المال الذي ولدها.  وقد تطورت أبعاد عملية الربا واتسعت حجومها ومقاييسها في المرحلة الاحتكارية من الرأسمالية.  وفي العصر الأميركي الذي نعيشه تأتي آلية الربا المكشوف في مقدمة أساليب الاستعمار الجديد في امتصاص ثروات الشعوب ونهب كنوزها.

 

وكان للمرابي القديم وسائله لجلب الزبائن للاستدانة من ماله، ومنها مثلا، الى جانب الترغيب واستغلال الظروف الصعبة للناس، قسر المستضعف بمحاصرته وتعطيل أعماله والاعتداء عليه بمختلف أشكال الاعتداء التي منها الضرب من قبل أشقياء يعملون لحساب المرابي. أما المستعمرون الجدد فيقومون بقسر الشعوب والأمم وليس الأفراد فقط للاستقراض من مصارفهم ومؤسساتهم الاقتصادية بأسعار لاتقل عن أسعار ربا قدماء البابليين.  وقد اتى هؤلاء المستعمرون في اعقاب الحرب العالمية الثانية ليعمموا ما مارسوه عمليا في اميركا اللاتينية طوال مئات السنين على بقية العالم.  فعملوا بكل الوسائل لازاحة أو محاصرة كل حكومة أو دولة لايقبل قادتها الانخراط في شبكتهم الاحتكارية العالمية ويخضعوا لشروط "مساعداتهم" التي لاتؤول الا الى اخضاع اقتصاد بلدهم للنهب الاحتكاري الأميركي.  ويأتي على رأس قائمة "المساعدات الأميركية" القروض.  واستفحلت الاحتكارية العالمية أفقيا وعموديا وبرزت الشركات العملاقة المتعددة الجنسية على نسيج من العلاقات الاقتصادية الرأسمالية العالمية، المالية والصناعية، بحراسة أنظمة هي أقرب الى الوكالات المعتمدة من الأسياد الاحتكاريين منها الى الحكومات التي تحرس وترعى مصالح رعاياها.  واشتعلت حمى التنمية في العالم المتخلف، في العالم الثالث، تحت شعار : "بناء الاقتصاد الوطني واللحاق بالعالم المتقدم"، ولكن بالقروض الفاحشة الربا التي ينفق معظمها لا على التنمية  وانما على النظام حارس المصالح الاستعمارية وفي جيوب المنتفعين والمرتشين ومن لف لفهم من السراق.  ويلحق أيضا بهذا الطريق أضعاف تلك القروض الاستعمارية من الأموال الوطنية للدولة المستقرضة.  وبهذه الصورة تتسرب قيم أمثال هذه الدولة من المتخلفين وثرواتهم على شكل فوائد القروض الى خزائن المستعمرين.  ان البرازيل مثلا، البلد اللاتيني الذي بنى صناعته بقروض أجنبية بلغ حجمها في أواخر الثمانينات من القرن العشرين المائة والخمسين مليار دولار، توالت عليه العديد من الانقلابات العسكرية لتبلغ ديونه هذا الحجم الهاءل من الأموال. ونتيجة هذا الأمر هي أن انتاج هذه الصناعة "الحديثة" مع حصيلة كل الفروع الأخرى الزراعية والحرفية، الكبيرة والصغيرة، لاقتصاد هذا البلد التعيس، غدت لا تكفي لتسديد فوائد هذه الديون مع تسديد التكاليف الباهظة للنظام القائم هناك.  ونجد أن المستعمرين ينعمون في الغالب "بقروضهم"  على المتخلفين أصحاب الثروات الطبيعية الثمينة كالمكسيك مثلا والجزائر البلدين النفطيين.  وقد بلغت ديون المكسيك في مطلع التسعينات من القرن العشرين مبلغ المائة مليار بينما بلغت ديون الجزائر الخمسة والعشرين مليار دولار.  أما أفريقيا التي قامت على عظماء شهدائها ثروات الحضارات المعاصرة فتبلغ ديونها المائتين والسبعين مليار دولار في هذه الأوقات.  وعند امعان النظر في هذه الأحوال التي تكتنف العالم الثالث نجدها أمر وأدهى من تلك التي كان هذا العالم مبتليا بها أيام الاستعمار القديم عندما كان هذا الاستعمار يحتله احتلالا مباشرا بجيوشه ويفرض حكمه عليه وينهب ثرواته.  فالاستعمار الجديد بزعامة الولايات المتحدة الأميركية هو المالك الحقيقي لا لما ينميه المتخلفون في اقتصاد بلادهم فقط بما يستقرضونه منه وانما ايضا لبقية اقتصادهم: هناك الفوائد الفاحشة للقروض والتكاليف الباهظة للنظام الحاكم الذي يؤمن الارتباط والتبعية الذليلة للمستعمرين بحكمه الجائر الوحشي.

 

ويقع الأفراد بداهة في العالم الرأسمالي في أسر الربا، أغنياؤهم ومتوسطوهم وفقراؤهم.  ففي الولايات المتحدة الاميركية مثلا يسكن عامة الناس بالدين ويؤسسون بيوتهم بالدين ويركبون سياراتهم بالدين، كل نفقاتهم تخضع لعلاقة الدين والربا فهم يعيشون في جحيم الاستحقاقات.  وقد سبق لنا وقدمنا لبحث "الخبز والبنادق" للأستاذ نايجل هاريس فقلنا في هذا التقديم مايلي: "ان علاقات الربا في النظام الرأسمالي الاحتكاري العالمي لاتقتصر فقط على شد العالم الثالث الى الشبكة العالمية لهذا النظام، وانما تتناول كل جزء من هذا العالم فتروح خيوطها وتجيئ لتكبل الدول والبلديات والشركات والمزارع والأسر.  فالديون العامة للولايات المتحدة الاميركية تزيد بمعدل 4300 دولار في الثانية بحسب ماجاء في هذا البحث الذي بين أيدينا للأستاذ هاريس.  وهذا يعطي زيادة سنوية في ديون الدولة الأميركية تقرب من 136 مليار دولار يدفع ويغرم فوائدها وأقساطها الأزلية المستحقة سواد الشعب الأميركي وخاصة منهم الكادحين والفقراء بغلاء المعيشة وتصاعد التضخم.  ويقول الاستاذ هاريس في الفصل الرابع من هذا الكتاب: لقد تصاعدت فواتير الفائدة الصرف على الشركات الأميركية من 45 مليار دولار في عام 1979 الى 56 مليار دولار في عام 1980 ولعلها بلغت 65 مليار دولار في عام 1981 الخ.. انتهى قول الأستاذ هاريس.  ومن البديهي أن الذي يدفع هذه الفوائد هو المستهلك وليس بشكل خاص كبار مساهمي الشركات المستدينة الذين يكونون في آن واحد مساهمين كبارا في هذه الشركات وفي المصارف التي قدمت القروض لها، فيعود عليهم النفع المضاعف من أرباح الشركات وفوائد المصارف.  وعندما تقع خسارة في شركة من الشركات أو تفلس فان المتضررين يكونون من كل المساهمين عدا كبارهم الذين يكونون قد اتخذوا احتياطاتهم سلفا فاستخلصوا منها أموالهم وبقايا أموال غيرهم، لأنهم الوحيدون الذين يكونون على اطلاع تام على خفايا أحوالها وفي مراكز في ادارتها تمكنهم بسهولة من الهرب بأموالهم "سالمة" في الوقت المناسب".  انتهى قولنا في المقدمة الآنفة الذكر.

 

والخلاصة ان الربا هو مايقتنصه المال من أتعاب الغير ليربو بدون حق ويصل في قذارته وجوره الى أن الذي يسقط في حباله، فردا أو جماعة أو أمة، يفقد ذاته التي تغدو ملكا للجهة الدائنة عندما لايبقى لهذه الذات من سعيها للرزق بعد تأديتها فوائد الدين وأقساطه التي لاتنتهي أبدا سوى مايجدد قواها للكدح بهدف توفير هذه المستحقات الظالمة: ان سوء أحوال المستدين بسبب هذا الارتباط المشؤوم بالدين تضطره للاستقراض من جديد فيتفاقم سوء الحال بالاستقراض الى مالانهاية له في عذاب هذا الجحيم.  ثم ان الربا ينتشر أفقيا كي يصبح، كما هو حال الدنيا في هذا العصر الأميركي، العلاقة العامة في حياة الناس الذين طالما طمحوا، عبر جهادهم وتضحياتهم وتجاربهم المريرة، وعبر وثنيات مناسبة لأحوالهم المادية أيضا عند تعذر الجهاد، الى صلاح الأحوال ليخرجوا من هذا الجحيم وأمثاله الى المجتمع المنشود الذي يسود فيه التعارف والتعاون والتكامل والتكافل في ظل تكافؤ الفرص للجميع بدلا من سيادة المال وتألهه، الى المجتمع الذي تنجو فيه الذات الانسانية من الانتقاص والعبودية.

 

2.    تثمير المال برأس المال:

 أشرنا أعلاه الى أن "رأس المال" هو الشكل الذي يعطيه الرأسمالي لبعض ماله أو كله بهدف جر المزيد من المال الى خزائنه.  فوسائل الانتاج المتقدمة وأساليبه الراقية مع ملحقاتها وكل ماينجم عنها وبسببها, من نشاط اقتصادي تصبح في الواقع أدوات يقتنصها الرأسمالي ليحقق بها ذلك الهدف الأناني عندما يعترض نظامه حركة التقدم المادي والروحي للانسان ويحرفها لاقامة علاقاته التي تسمح بممارسة مثل هذا "الصيد".  وقد يبدو للغافل أن تلك الوسائل تقوم برأس مال الرأسمالي وبسعيه، وقد يدعي هو وفلاسفته الوثنيون بالفضل لنظامهم فيما تحقق من تقدم بها، ولكن العبودية بكل أشكالها، وخاصة منها الرأسمالية، هي المعوق الأول للتقدم الانساني.  وهذا التقدم مع ذلك يتحقق رغما عنها.  فالرأسماليون في تسابقهم الجنوني وراء الأرباح وسعيهم الدائب لتحقيق الأطماع الأنانية يهدرون حجوما هائلة من القيم.  انهم يعطلون مئات ملايين الطاقات في حروبهم ومباذلهم وفي جيوش المتعطلين عن العمل وفي القائمين على خدمتهم وحماية نظامهم هنا وهناك في الجملة الانسانية.  فهؤلاء لايعملون الا في اتجاه تأخير التقدم وفي السعي الى تجميد الدنيا في الساحات الضيقة المشتتة للمصالح المتناقضة لأسيادهم الأنانيين، وبالاجمال في كل ماتصوره الانسان من أضرار تنجم عن تجميد وتشويه أدوار الأفراد الاجتماعية وأدوار الشعوب في جملة المجتمعات الانسانية.  وذلك بشتى أنواع انتقاص الذات الانسانية واستعبادها وحرمانها من حقوقها ونهب ثرواتها لتجميدها في خزائن الرأسماليين وغير هذا مما يعانيه الانسان فلا جدوى من حصره واحصائه.  ولكن التقدم المادي والروحي لجملة المجتمعات الانسانية ككل لايتوقف أبدا مع كل هذا التعطيل والهدر لطاقات الحياة وعلى رأسها امكانات الانسان.

 

ولقد قلنا ان المجتمع الانساني، وليس الفرد المنعزل، هو صانع القيم بالعمل الايجابي الاجتماعي لأفراده، فبدون عمل وسعي من هذا النوع لاتقوم أي قيمة.  وأشرنا الى أن نظام المجتمع يوزع القيم الناتجة بالعملة.  واجتماع القيم والعملة هنا وهناك في المجتمع، على شكل ملكية يحددها ويعرفها النظام الاجتماعي القائم، يشكل الأموال التي تبرز لنا بحركتها وتوزيعها وجه المجتمع.  وقد قلنا ان طاقات أفراد المجتمع الانساني تتكافأ على العموم وان تنوعت فتتكافأ على العموم اذن أدوار للأفراد.  ولكي تسلم الذات الانسانية من الانتقاص في هذا الواقع الذي نراه يجب اذن أن لايكون التفاضل بين الناس الا بالعمل الايجابي المفيد وفي حدود التكافؤ، أي يجب أن يقوم التكافؤ في توزيع فوائد المجتمع وخساراته بين أفراده.  أي باختصار يمكن التعبير بالمسلمة التالية: ان المجتمع لكل الناس لأن الحياة الطبيعية المستمرة لايمكن أن تكون الا فيه, فهي حق لكل فرد من أفراده, ولاتنتقص وتحرف الى الصعوبات والشقاء, الا بنتيجة العلاقات المتخلفة الوحشية. وان أفضل صيغة للتعايش الاجتماعي هي التالية التي نكررها هنا وفي كل بحث من أبحاثنا: التعارف (بمعنى تبادل المعروف والخدمات وتلبية مايرضى به الناس عن طيبة خاطر) والتعاون والتكامل والتكافل في ظل تكافؤ الفرص.  ونجد، في مثل هذا المجتمع الذي تتكافأ فيه أدوار الأفراد وتتكافأ على العموم انصبتهم من الانتاج الاجتماعي، أن لامجال أبدا لفضول قيم تنتجها أكثرية الناس وتقتسمها أقلية ظلامهم.  وتعود عندئذ ملكية الأموال ومنافعها الى المجتمع وذلك مهما كان شكل ادارتها وكانت جهات الوصاية عليها.  وعنئذ يكون كل تبديد لها وانفاق لارضاء منافع فردية أنانية واشباع لذات فاجرة, خروجا على حقوق الجماعة وجرما بحق الناس, يستدعي المحاسبة والردع.  اننا بهذا نعود الى جوهر عقيدة التوحيد القائلة بأن المال هو مال الله, وأن ليس للفرد منه الا ماأكل فأفنى أو لبس فأبلى أو وهب فأمضى.  ولكن التوحيد أيضا لايمنع اتخاذ كل احتياط يمنع تأليه المال الوثن لخدمة أقليات ظالمة ويضمن قيام الملكية الاجتماعية له.  فالمال, بتكوينه المار ذكره، هو مقياس غنى المجتمع الانساني, لايملكه فرد واحد ولاجيل واحد وانما هو ميراث الاجيال، لحاضر المجتمع كما كان لماضيه وكما سيكون لمستقبله.  وقد قال التوحيد باختصار أنه مال الله.  والمال بهذه الصفة لاينمو بالعمل نموا انانيا لصالح فرد أو فئة من الناس دون أكثريتهم الباقية الا بالظلم والعدوان واقامة حكومات العبودية التي تبيح الربا مثلا وتبيح تحويل المال الى رأس مال، الى أغلال تقيد قوى العمل الكادحة من أجل أقلية ظالمة.

 

نقول اذن أن المجتمع ملك لكل انسان يعيش فيه فله فيه بالتالي دور مناسب من حيث المبدأ.  ونجد على هذا الأساس أن الناس يسلمون بأن التعامل لابد من أن يقوم على تكافؤ المتعاملين وليس على قواهم, تطبيقا للقاعدة الهمجية الزاعمة أن: "الحق للقوة".  ولكن الظالمين عبر كل التاريخ الانساني اعتادوا على تعطيل تلك المسلمة بالاحتيال تارة وبفرض الظلم بالقوة تارة أخرى وبالاثنين معا على العموم.  فالمرابي يقول مثلا أن المستدين يأتي اليه بملء ارادته للاستقراض.  ويقول الرأسمالي أن قوة العمل سلعة يعرضها صاحبها للبيع في سوق العمل.  ولكن هذا الانسان الذي يبيع قوة عمله يبيع ذاته لانسان آخر يشاركه العيش في المجتمع, فأين التكافؤ الاجتماعي في هذه الصفقة؟  فهل هناك تكافؤ بين السيد والعبد؟  ان الانسان ليس حرا ببيع حريته, لأن الحرية أمر اجتماعياً وليس فردياً, وانما النظام المتخلف هو الذي يبيح مثل هذه الصفقة ويحميها بقوانينه وعسكره.  وقد مر معنا ورأينا أن المستدين ضحية الربا هو الآخر أحد نماذج الرقيق.  ثم ان المال ينمو برأس المال بفضول القيم, أي يربو بعمل غير أصحابه فتكون الرأسمالية أيضا شكلا من أشكال الربا الذي ابتليت به الانسانية منذ أن أقامها أولئك المتوحشون الذين هدموا قيم التوحيد وتعارف الناس وتكافلهم بهدمهم دار الاسلام, ويطول بنا الحديث كثيرا فيما لو جئنا نفند حجج الكاذبين الرأسماليين وتبريرات وفلسفات كهنتهم وأدبائهم.  ولكن هل نحن بحاجة الى هذا العناء ونحن نعاني عمليا عذاب مايحاولون تبييضه من جرائمهم السوداء ضد الانسان؟.. مايحاولون تبييضه من جحيمهم الأسود القائم بنظامهم العالمي، نظام الحروب والجوع والدمار؟..

 

3.    تثمير المال بالاحتكار:

عندما قلنا أن المال في الجوهر هو مادة تتولد في المجتمع الانساني حصرا ويحدد نظام المجتمع شكل ملكيته فان هذا التحديد بالذات يمنح العلاقة العامة بين الأفراد والمجتمع.  فاذا عادت هذه الملكية مثلا الى طغمة أقلية من الناس دون أكثريتهم الباقية فان المجتمع يكون عندئذ برمته وجملة كيانه بنظر هذه الطغمة "آلة" لتوليد هذا المال وتنميته كحكر لها يتأله ويؤلهها.  أما اذا استرد المجتمع حقه في تملك هذا المال الذي انتجه فتوزعت الفوائد، ايجابية كانت أم سلبية، على أفراده بشكل متكافئ لقاء أدوارهم المتكافئة في بنائه وفي تحريك ودفع تقدمه وعلى انجاز مايلزم لتحقيق هذا التقدم، بشقيه المادي والروحي، فان مثل هذا المجتمع يكون سيد ذاته ويكون لأفراده ولمختلف جهاته ذوات غير منتقصة.  فاحتكار المال واحتكار منافعه من قبل أقلية من الناس بحجة "شرعية ملكيته الخاصة" لايعني في الجوهر الا العبودية.  ولقد عينت ثورات التوحيد، وفي قمتها الاسلام، وظيفة المال، فقالت بوجوب انفاقه في النفع العام، وحرمت حجز فوائده عن الناس واحتكارها من دونهم بالأنانية الفردية التي يبالغون في تقديسها عندما يطلقون عليها اسم "الملكية الخاصة المشروعة".  وقد مرت معنا أعلاه الآية الكريمة من سورة التوبة: "والذين يكنزون الذهب والفضة ولاينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب اليم".  فهل هناك بعد هذا من معنى للتملك الفردي الأناني للمال بنظر الاسلام؟  ثم ان وجوب انفاق المال في النفع العام يعني بداهة اعادته الى المجتمع الذي ولده في الأصل وذلك بشكل مناسب للعصر وللتقدم المادي والروحي فيه.

 

ولكن الاحتكار لايتجمد في حدود ملكية المال من قبل طغمة الأقلية.  فالرأسماليون مثلا ينوعونه ويضاعفون جبروته وأذاه. فتجدهم يبدأون بتحويل أموالهم الى رؤوس أموال تحتكرها طغمتهم.  وتجد في هذا الاحتكار العام شبكة من الاحتكارات المتنوعة الفردية التي يعود كل واحد منها الى جهة من الجهات الرأسمالية: هذا مثلا يحتكر الادارة العالمية للنفط، وذاك يحتكر انتاج الفولاذ، وثالث يحتكر المواد الكيماوية ورابع الخ... ونجد جهة تحتكر أسلوبا أو سرا من أسرار الصناعة، وكل هذا في هدف التنافس والركض للحصول الفردي الأناني على أكبر قسم من الحجم الكلي لفضول قيم المجتمع.  فصاحب الأسلوب المتقدم والوسائل الأرقى والأسرار الأخطر هو الأقدر على جر المغنم الأكبر من ذلك الحجم لفضول القيم، المغنم المسمى بلغتهم ربحا والذاهب ليكتنز في خزائنهم بعيدا عن سبيل الله.

 

ان الاحتكار لايعني سوى الخروج على المجتمع وتشكيل خلية مستقلة فيه لنفع فردي أناني، وبالتالي الانتهاء الى تقسيم المجتمع الانساني الى جهات وجماعات متناقضة متضاربة متحاربة، ثم الى كل العداوات الهدامة والعبوديات المنتقصة لذات الانسان أينما كانت هذه الذات بدون استثناء.  وقد كذب الرأسماليون وكهنتهم وفلاسفتهم عندما زعموا أن التنافس يدفع بالتقدم المادي.  والمثال الذي ضربوه لدعم هذا الكذب في فشل وتفكيك المعسكر الاشتراكي الاوربي وانهيار النظام الماركسي اللينيني في الاتحاد السوفياتي مؤخرا بعد محاولة انقلاب شهر آب هناك, هو أعجز من أن بيرهن على شيء في خضم الحركة الهائلة المعقدة للتاريخ المعاصر, سيما وأن من أتى ليستشهد به هي الجهة الرجعية التي لاتعرف بضبيعتها سوى انكار الحق والحقيقة وتعميتهما بكل وسيلة.  فهل يقتنع مثلا طغم الظلاّم الفراعنة المعاصرون, أن ماجرى ويجري في عالم الاشتراكية لاعلاقة له أبدا بغياب التنافس في هذا العالم, وغياب مضاربات وعمليات النهب التي تقوم في العادة في السوق الرأسمالية؟  وهل تعود أسباب جوع وتخلف مليارات بني الانسان في العالم الثالث, الذين يرزحون تحت أثقال السوق الرأسمالية, الى غير "نعم وخيرات" تنافس الرأسماليين ونهبهم؟  ان الثورة الاشتراكية المعاصرة نقلت على كل حال متخلفين ومستعمرات سابقة للنهب الرأسمالي, وجعلتهم يطولون القمر والكواكب الاخرى بمنجزاتهم, وان سبب سوء فهم قوانين الاشتراكية العلمية وسبب الأخطاء في تطبيق هذه القوانين هذا التأخير المؤقت في المسيرة العامة للتقدم الانساني.  ثم ان التطبيق المادي لأبسط النظريات لايلد كاملا, وانما ينشأ ويرتقي نحو الكمال عبر التجارب, حيث تغتني النظرية وتتكامل وتقترب باستمرار من التجسد المادي بنتيجة كل هذه التجارب الفاشلة أو الناجحة.  والنظرية العامة الاجتماعية المنيرة في الحياة, طريق المجاهدين ضد الظلم وفي سبيل التقدم الانساني, لاتشذ بطبيعة الحال عن قواعد النشوء والارتقاء, فطريقها لتتحقق وتقوم ماديا, هو التطبيق الذي لايكافئه في تعقده وصعوبته أي تطبيق آخر لثمرات الفكر.  ثم ان الانسانية في جهادها الطويل ضد الرأسمالية حققت منجزات هائلة في النظرية والتطبيق واكتسبت أسلحة مادية ورقيا روحيا, يجعلها أقدر بما لايقاس من ثوار اكتوبر وشركائهم وخلفائهم على انهاء الطور الرأسمالي, بانهاء المرحلة الحالية لانتقال الجملة الانسانية من هذا الطور القائم الى الطور الأعلى, بالسرعة التي يعجز عن تصورها هؤلاء الحمقى الرأسماليون الأميركان الذين يحلمون حاليا الأحلام الهتلرية لحكم العالم.

 

ان ثورة اكتوبر تشكل تاريخيا حدثا بارزا ومنعطفا عالميا حاسما في مرحلة انتقال الجملة الانسانية من الرأسمالية الى الاشتراكية.  وقد أدت رسالتها كاملة في دفع هذه الجملة الانسانية الى حالتها الحاضرة التي تخلصت فيها من الاستعمار القديم، وتوطد لدى انسانها كل مايحتاجه من مفاهيم للخلاص من الرأسمالية المتخلفة، وقامت فيها الأسس المادية والروحية الكافية لولوج عتبة الطور المقبل الذي يتعارف فيه الناس ويتكاملون ويتعاونون ويتكافلون في ظل قانون تكافؤ الفرص، لولوج عتبة الاشتراكية بمعناها الانساني العلمي وليس بالمعنى الوثني الجاهلي الذي يسمح لأعداء الانسان بالتشهير بها.  وماجرى ويجري حاليا في ذلك المعسكر الاشتراكي، ماسببته الرأسمالية من أذى للتقدم الانساني، أعجز من أن يوقف مسيرة الانتقال من النظام السائد عالميا للرأسمالية الى النظام الذي سيسود عالميا للاشتراكية.  ولكن البحوث النظرية والاجتهادات الفكرية التي بنيت عليها عقائد الثوار الخارجين على الرأسمالية، الذين دفعوا بالجملة الانسانية لتسير في مرحلة الانتقال المذكورة، لايمكن أن تكون كافية لبناء عقيدة مناسبة للثوار الذين سينهون هذه المرحلة ويدفعون بالجملة الى عتبة الطور المقبل، عتبة الطور الاشتراكي.

الزلزال الكبير

قام التغير العالمي المفاجئ الشامل وهو مع ذلك لا يخرج بداهة عما تقتضيه قوانين الطبيعة التي يتجاهلها المعاندون دوما فتفاجئهم بنتائجها.  فالاحتكاريون الرأسماليون بقيادة الولايات المتحدة الأميركية مرتاحون ومغتبطون بانهيار المعسكر الذي كان يعاديهم ويقض مضاجعهم ولكنهم لعنادهم وكفرهم بما يحكم حركة الطبيعة من قوانين لا سيما تلك التي تخضع لها حركة المجتمعات الانسانية, لا يصدقون أن التراكم الكمي لا يمكن أن يستمر الى ما لانهاية له, فهو محدود بنهايات تتقطع عندها تحت ثقله مختلف العلاقات وتنهار كل السدود التي تحتويه, فيقوم عندئذ ذلك التغير الكيفي الذي يفاجئ الغافلين.  وهؤلاء الاحتكاريون كالبيروقراطيين الوثنيين الذين طالما امتهنوا قوانين المادية الجدلية, لا يعتقدون بوحدة العالم في وجوده وتغيره.  فالأولون لا يرون في نظام جملة المجتمعات الانسانية الشامل سوى نظامهم الجزئي حامي منافعهم, ويتجاهلون متممات هذا النظام الجزئي في عالم المقهورين وعالم الاشتراكيين في ذلك الشامل.  فنراهم بالتالي مسرورين، بلا موجب، بانهيار المعسكر الاشتراكي ظنا منهم بأن عالمهم الجزئي بنجوة من ذلك الزلزال العام الكبير الذي بدأ بالاطاحة بشقه الآخر المتمثل بالمعسكر الاشتراكي وهو لابد من أن يمتد اليه ليطيح به بدون امهال.  أما الآخرون فظنوا أن التحول الى الطور الانساني الأعلى المقبل، الى مستقبل الانسانية يخصهم وحدهم حاليا فقط.  فأنكروا مرحلة الانتقال العالمي الى ذلك المستقبل كما أنكروا أن نظامهم الجزئي الذي مثله معسكرهم الاشتراكي ما هو الا جزء من هذه المرحلة العالمية وقالوا بالتالي بأنهم حققوا لوحدهم هذا المستقبل عندما انتهوا بزعمهم الخاطئ من بناء الطور الاشتراكي بكل أبعاده وتخطوا بمجتمعهم لوحده عتبة الطور الشيوعي.  وهم في الواقع ما انفصلوا ولا يمكن أن ينفصلوا عن المسيرة العامة لجملة المجتمعات الانسانية نحو طورها المقبل الأعلى.  وقد اختلطت عليهم قوانين المادية الجدلية حتى تجدهم في بعض الظروف يتجاهلون هذه القوانين عندما تتعارض مع جمودهم ووثنيتهم أو أنهم يسيئون تطبيقها.  فينطلقون مثلا من مبدأ غير صحيح وهو امكان تعايش الاشتراكية والرأسمالية كضدين متجادلين، كضدين تجمعهما وحدة جدلية، الى أن تنفي الأولى الثانية بحسب تأكيدات ما يتصورونه من قوانين المسيرة الانسانية الصاعدة وبحسب قانون وحدة ونضال المتضادات.  والواقع أن هذه النظرة الانتهازية ما هي سوى مجرد دجل وتلاعب بليد أخرق بقوانين المادية الجدلية.  فالجملة الانسانية كوحدة مادية على كوكب واحد في الكون وفي حدود عالم واحد للأحياء يتطور ويتقدم بحسب قوانين موضوعية، هذه الجملة لا تقوم فيها الا حالة عامة واحدة يفرضها نظام عام هو نظام أكثر المجتمعات تقدما ماديا فيها بحيث لا يقوم فيها الا طور انساني واحد. وهي تنتقل من طور الى طور خلال مرحلة انتقال عامة ككل الجمل المادية القائمة في هذا الكون.  فالرأسمالية مثلا هي طور واحد لكل الجملة الانسانية فتستوعب كل مجتمعاتها متقدمها ومتخلفها ونحن حاليا في هذا الطور الذي يتحول بمرحلة انتقال لها بكليتها الى الطور الأعلى المقبل الذي هو بحسب المفهوم الماركسي طور الاشتراكية الذي سيكون بدوره طورا سائدا عالميا بنفيه الطور الحالي، سيكون بدوره سائدا كل الجملة الانسانية فيستوعب كل مجتمعاتها.  ولننظر فيما يلي عن قرب أكثر الى تطبيقات قوانين المادية الجدلية على أحوال الطور الرأسمالي التي مرت بها الجملة الانسانية، هذه القوانين التي تقوم بطبيعة الحال في إطار قانون السببية العام فنقول:

 

أ - تقوم المادة على أزواج متضادات مناسبة, كل مزدوجة منها تشكل وحدة قطبين متعاكسين يتفاعلان بتفاعل مناسب وفق القانون الأول للمادية الجدلية: "وحدة ونضال المتضادين". وفي الطور الانساني الواحد تتغير مزدوجات التضاد بتغير الأحوال في جملة المجتمعات الانسانية، كما تتغير هذه المزدوجات بداهة من طور الى آخر فيقوم كل نقيضين معا ويزولان معا كوحدة جدلية: هناك مثلا متضادات الطور الرأسمالي كصاحب العمل والعامل، والدائن بالفائدة والمدين، والمستعمر الغاشم والمستعمر المنهوب الخ.. كل أزواج المتضادات هذه تخص الطور الرأسمالي حيث نجد كل زوج تضاد منها في وحدة تفاعل تجمعهما فلا تنفصم منذ قيامهما معا حتى زوالهما معا, حيث يقوم بعد هذا تضاد آخر لنقيضين آخرين يتفاعلان بتضاد مناسب وفي وحدة تجمعهما. وبديهي أن تختفي كل هذه المتضادات الرأسمالية بزوال طورها الرأسمالي لتنتقل الجملة الانسانية الى الطور الأعلى الذي له تناقضاته وتضاداته.

 

ويحدث بنتيجة التفاعلات في مختلف مزدوجات التضاد تراكمات مادية، كمية متنوعة في مختلف الاتجاهات الاجتماعية في الجملة الانسانية. فاذا ما بلغ هذا التراكم حدا مناسبا تنوء تحت ثقله مختلف علاقات وسدود النظام العام السائد في الجملة الانسانية برزت مختلف الأزمات مع محاولات حلها من قبل أصحاب النظام ولكن بدون طائل.  وقامت بالتالي مرحلة انتقال الجملة الى الطور الأعلى الذي يقوم عند حدوث التغير الكيفي بتقطع وانهيار علاقات وسدود النظام الغارب تحت ثقل التراكمات الكمية الآنفة الذكر وقيام علاقات مناسبة لنظام جديد لطور جديد للجملة.  هنا نقف لنرى عمل القانون الثاني للمادية الجدلية القائل أن: "التراكم الكمي يؤدي حتما الى التغير الكيفي عبر مرحلة انتقال مناسبة".  وكذلك يتحقق لدينا في ذات الوقت القانون الثالث للمادية الجدلية، قانون : "نفي النفي".  الطورالجديد نفى بقيامه بكل أبعاده الأساسية الطور السابق الذي كان قد نفى في الجملة الانسانية الطور الذي سبقه.  ثم اننا نعود ونكرر ما قلناه أعلاه من أن قوانين المادية الجدلية هذه تعمل في إطار قانون السببية الأعم.

 

ب - تشكل طغمات الرأسماليين، على اختلاف مواقع ووظائف أفرادهم وجماعاتهم وأعوانهم في نظامهم المحلي والعالمي، مع جماهير العالم المسحوقة بالرأسمالية من عمال وفلاحين فقراء وشعوب مغلوبة على أمرها جائعة منكوبة بالعدوان المستمر والنهب الرأسمالي، نقول تشكل هاتان المجموعتان، أقلية الظالمين وأكثرية المظلومين بمختلف أشكال الظلم، القطبين العامين المتضادين والموحدين بنظام طور واحد هو طور الرأسمالية العالمي للجملة الانسانية الواحدة الموحدة.  هذان القطبان العامان يتفاعلان بحسب قانون المادية الجدلية القائل بوحدة ونضال المتضادات في تكوين مادة الكون وتطويرها.  وقد أشرنا أعلاه الى أن مثل هذين القطبين لا بد من أن ينشآ معا ويتطورا معا بتفاعلهما ويزولا معا في الطور الواحد، ليقوم على آثارهما قطبان عامان متفاعلان آخران في الطور المقبل يمثل أحدهما الجمود الوثني، والمعيق لمسيرة التقدم الأزلي، والآخر حركة الدفع والتقدم وهكذا دواليك.

 

ج - ان مزدوجة القطبين العامين الآنفي الذكر لجملة المجتمعات الانسانية هي محصلة ما لانهاية له من شبيهاتها مزدوجات التضاد القائمة كل واحد منها في مجتمعات الجملة المذكورة على مركبتين متضادتين متفاعلتين.  ويمكن تصنيف هذه المزدوجات الجزئية في مجموعات متنوعة تخص كل مجموعة منها فئة من البشر أو أمة أو ما شابه.  وقد مر معنا أعلاه أمثلة واحداتها: صاحب العمل وعماله مثلا، والدائن بالفائدة والمدين، وكل جهة ظالمة والجهة المظلومة بظلمها في المجتمع الواحد وبين المجتمعات.  وان تفاعل مختلف مزدوجات المتضادات في كل المستويات الانسانية من أصغر الجماعات الى مستوى الجملة الانسانية يولد التراكم المادي، كما أشرنا أعلاه، ويدفع بمسيرة التطور الانساني العام سلبا أو ايجابا.  وعندما تنتهي مزدوجة تضاد وتنطفئ فان أخرى تقوم، عندما يغلق معمل أبوابه مثلا يقوم معمل آخر على أسس مادية مشابهة في طور انساني لا يتغير.  ثم ان عمليات تفاعل المتضادات الي لا تنتهي سلاسلها ليست عمليات نواسية عبثية نعود بها الى نقطة البدء فحسب وانما هي كما أشرنا أعلاه عمليات تراكم مادي ايجابي أو سلبي.  ونقول هنا ونكرر أن لكل طور انساني مزدوجات تضاد مناسبة.

 

د - ان الاشتراكية هي طور انساني عالمي يسود نظامه جملة المجتمعات الانسانية كلها عند قيامه كما ساد في هذه الجملة الطور الرأسمالي.  لذلك فانها لا تشكل مع هذا الطور الرأسمالي مزدوجة تضاد، لا تشكل القطب المعاكس له في مزدوجة واحدة، لا تكون معه في وحدة وتضاد، اذ لا معنى اطلاقا لهذه الصورة التي لو صحت لكان قيام هذين الطورين، طور الرأسمالية وطور الاشتراكية، معا وعيشهما معا وزوالهما معا ككل أزواج التضاد التي يشملها قانون وحدة ونضال المتضادين.  هنا يتضح لنا كم كان مخطئا ذلك الذي حاول أن يحشر هذين الطورين، طور الرأسمالية وطور الاشتراكية، في زمان واحد فقال بتعايشهما معا, وعيشهما وزوالهما معا ككل أزواج التضاد التي يشملها قانون وحدة ونضال المتضادين.  مع أن القانون الذي يرتبطان به ويخضعان لنتائجه الحتمية هو قانون "نفي النفي" القائل بأن الجديد ينفي سلفه ويقوم مقامه سائدا كليا كما نفى القديم الأقدم وقام مقامه وساد كليا.

 

هـ - أشرنا أعلاه الى أن علاقات وسدود النظام القائم للمادة يمكنها احتواء التراكمات المادية الحاصلة مادامت قادرة على تحمل أثقالها، ولا بد لها من التقطع والانهيار عند تجاوز هذه الأثقال حدودا معينة.  ولكن السدود والعلاقات المذكورة للنظام القائم ليست على العموم بالبساطة التي تجعلها متشابهة متطابقة من حيث قوة مقاومتها وثباتها في وجه المؤثرات والتغيرات.  لذلك فان تقطعها وانهيارها تحت ثقل التراكم لا يكون معا في آن واحد ولا بد من مرحلة انتقال مناسبة تنهار فيها علاقات وسدود النظام القديم بالتتابع بحسب ظروف كل واحد منها وحسب قابليته للمقاومة في هذه الظروف.  ونجد في مرحلة الانتقال هذه أن امتدادات القديم ما تزال قائمة ولكن في حالة الذوبان والتلاشي كما نجد بروز طلائع وبدايات الجديد التي ما تنفك تتأكد ويتصلب عودها حيث تنطلق عملية نفي الجديد للقديم: هذه العملية التي تتم بتمام الانتقال، بانتفاء الطور السابق كليا وقيام الطور الجديد مسيطرا بشكل مطلق. فتكون اذن مرحلة الانتقال هي مرحلة الثورة التي توصلنا الى الجديد وليست هي الجديد وانما هي امتداد لنهايات القديم التي لم يتم بعد نفيها وبشائر الجديد الذي لم يقم بعد بكل أبعاده.  فيمكن فيها اذن الردات وخيبات الأمل نتيجة التقصير في وعي الواقع وفي العمل بجدية على دفعه في اتجاه التقدم.

 

و - تتميز مرحلة الانتقال العالمية من النظام الرأسمالي الى النظام الاشتراكي التي نحن فيها حاليا بتتالي مزدوجات تضاد مرحلية معقدة.  فعند قيام الاحتكارية الرأسمالية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر اتسعت وتعمقت في أوربا المتقدمة ماديا الأفكار الانسانية المنادية بأخوة الانسان ومساواة الناس لا سيما منها أفكار الاشتراكيين وكتاباتهم (وان كان الأميركيون حينذاك منهمكين بابادة الهنود الحمر).  وانهمك الرأسماليون في تلك الأيام في اتمام اقتسام العالم فيما بين بعضهم بعضا، بينما اشتدت مقاومة المستضعفين المغلوبين على أمرهم من البشر فقامت الثورات ولم تتوقف في كل قارات الدنيا: من مقاومة الهنود الحمر في الولايات المتحدة الأميركية لعملية إبادتهم, الى ثورات العرب والمسلمين وأقوام أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية ومقاوماتهم لغزو أوطانهم من قبل الأوربيين.  وتبلور في بدايات مرحلة الانتقال، عند قيام أزمة الرأسمالية العامة واندلاع الحرب العالمية الأولى، مزدوجة تضاد مرحلية عامة: قطبها الواحد يتمثل بالامبريالية الرأسمالية التي تقودها أوربا بجيوش احتلالها للعالم، وقطبها الآخر يتمثل بثورات الشعوب للتحرر من قهر الرأسماليين بشكليه السياسي والاقتصادي حيث تأتي ثورة أكتوبر في روسيا القيصرية في واجهة تلك الثورات.  وتفاقمت أزمة النظام الرأسمالي  العالمي فيما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية.  وحوصر هذا النظام بتناقضاته الداخلية من جهة وثورات الشعوب المضطهدة من قبله من جهة أخرى بالاضافة الى تفاقم خطر الدعوة الاشتراكية العالمية وتنامي قوى الاتحاد السوفياتي.  واندلعت الحرب العالمية الثانية نتيجة لكل تلك العوامل وانتهت مزدوجة التضاد المرحلية الآنفة الذكر بسقوط الاستعمار القديم في نهاية تلك الحرب الأخيرة وقيام الاستعمار الجديد بزعامة الولايات المتحدة الأميركية وزوال المستعمرات القديمة التي شكل مجموعها ما نسمبه اليوم العالم الثالث وقيام المعسكر الاشتراكي الذي امتد من أواسط أوربا الى الصين فضم ما يقرب من ثلث الانسانية.

 

ز - شكل المعسكر الاشتراكي نظاما ثائرا خارجا على النظام الرأسمالي الاحتكاري، فاشتراكيته كانت كما قلنا أعلاه لا تشكل بالمعنى العلمي الصحيح ذلك الطور الاشتراكي الذي سينفي الطور الرأسمالي في جملة المجتمعات الانسانية ويحل محله سائدا بشكل مطلق.  لقد كانت اشتراكية ثوار مرحلة الانتقال العالمية, وان تحقق فيها عمليا ونظريا كثير من طموحات الانسانية ولكن في اطار علاقات وظروف لا تكفي لتحقيق طور انساني جديد مكتمل الأبعاد.  ونجد أنه قامت في نهاية الحرب العالمية الثانية مزدوجة تضاد مرحلية عالمية أحد قطبيها الاستعمار الجديد المتعدد الرؤوس بقيادة احتكارية الولايات المتحدة الأميركية أضخم هذه الرؤوس.  وكان القطب الآخر يجمع قوى التقدم والتحرر العالمية المتطلعة الى الخلاص من هذا الاستعمار الجديد وقد تصدرها المعسكر الاشتراكي.  فالقطب الأول مثل العدوان الذي كلف ملايين الضحايا بحروبه العدوانية وتجويعه للناس في مختلف أقطارهم ومجتمعاتهم لا سيما أولئك البشر في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية.  وهو يتمثل على الأخص بعلاقات الربا العالمية التي قيدت المتخلفين وزادتهم تخلفا ماديا على تخلفهم وأفسدت المتقدمين ماديا على فسادهم وضراوتهم في كره وعداء الانسان. وقد أصبح الربا في الاستعمار الجديد بعالميته العلاقة العامة لارتباط الانسان بالانسان ارتباطا ظالما والموزع العام للحجم العالمي لفضول القيم المتحققة في مختلف مجتمعات الجملة الانسانية ولكل القيم المغتصبة بطريقة من الطرق.  الموزع العام الذي تنتهي فروعه الى خزائن الغاصبين في مختلف أنحاء العالم.  وقد مر معنا في هذه الدراسة وصف الملامح الأساسية لنظام الربا الذي فرضه الاستعمار الجديد على العالم بكل ما يتوفر لديه من وسائل العدوان والطغيان.  أما القطب الثاني فيمثل تطلعات الانسانية الى مستقبل أفضل، الى الاشتراكية بمفهومها الانساني وليس بالوجه الذي يتخيله أعداءها ويجسده طلابها الحمقى الحاقدون، الى اللحاق بالمتقدمين ماديا، الى عالم التعارف والتعاون والتكامل والتكافل في حدود تكافؤ الفرص، الى أي عالم تحترم فيه بكل إخلاص الذات الانسانية تحت أي اسم أو يافطة فلا تنتقص بالظلم والقهر.  وقد انهار المعسكر الاشتراكي كما أشرنا اليه أعلاه في مطلع هذا القسم من دراستنا، وصرح قائد القطب الآخر للمزدوجة المرحلية الأخيرة، صرح جورج بوش بأنه يقود حاليا عملية إقامة نظام عالمي جديد، ظانا بأن القدر ملك يديه!

 

ح - ان مزدوجة التضاد المرحلية المقبلة لجملة المجتمعات الانسانية ، بعد أن انهارت بانهيار المعسكر الاشتراكي, تلك التي ولدتها ظروف الحرب العالمية الثانية وذيولها، لم يتم قيامها بعد بتمام استقطاب مختلف تناقضات العالم الحالي التي لا تحصى في قطبين عامين عالميين متفاعلين نضاليا على اتجاه مناسب محدد.  وستكون بتقديرنا آخر مزدوجة تضاد مرحلية عامة لجملة المجتمعات الانسانية المنتقلة الى الطور النافي للرأسمالية، ستكون المزدوجة الأخيرة التي ينتهي فيها استقطاب الظلم الرأسمالي واستقطاب مقاومات ضحاياه في العالم لتبرز عتبة الطور المقبل، طور الاشتراكية المنتصرة عالميا بمزدوجات التضاد الخاصة بها.  ونكرر بهذه المناسبة ما نقوله دوما وهو أن هذه الاشتراكية هي غير تلك المزعومة وثنيا التي ادعاها أصحابها طويلا وتوهموا قيامها حتى في ظروف سيادة النظام الرأسمالي العبودي عالميا.  انها نظام تعارف الناس بتبادلهم الخدمات والمعروف وتعاونهم وتكاملهم وتكافلهم في حدود تكافؤ الفرص للأفراد والجماعات والمجتمعات الانسانية.

 

وان الأسباب المادية التي دعتنا الى تقدير هذه النتيجة الأخيرة هي ما نراه الآن من فوضى عالمية بلغت أقصى ما يمكن تصوره الا في الظروف التي تسبق زوال طور انساني وقيام طور أعلى.  ثم ان النظم الجزئية الثلاثة التي كانت تتكامل وتشكل النظام العام لجملة المجتمعات الانسانية انهارت أو كادت تحت ضغط تناقضاتها وأزماتها لا سيما منه ذلك الضغط الهائل لجشع الطغمة العالمية للرأسماليين، الجشع الذي لا يرى حدا يقف عنده: انهار بشكل عام اقتصاد البلاد المتخلفة ماديا تحت أثقال فواتير الديون الباهظة وأثقال الأشكال الأخرى للنهب الاستعماري ووقع ما بقي لها من ثروات بعد نهب المستعمرين في أيدي أفراد يقفون على صيانة الارتباط بهؤلاء المستعمرين في الوقت الذي انفرط فيه العقد الاجتماعي الذي يربط الناس بعضهم ببعضهم الآخر في هذه البلاد المتخلفة فلم يبق فيها سوى الرباط البوليسي العاجز بطبيعته عن النفوذ الى الأعماق فلا يصون الا الظاهر السطحي الذي لا يثبت أمام متغيرات الواقع وزلازله.  وانهار المعسكر الاشتراكي الأوربي وتحفزت ملايينه للنزول بثقلها الرهيب على جيرانه الغربيين الذين أخذوا يصرخون خوفا من الزحف الآتي لملايين البشر الى بلادهم طلبا للقمة العيش، وذلك بالاضافة الى ماتم وصوله طوال السنوات الماضية من سيول الأغراب من مختلف أنحاء العالم الجائع الى هذه البلاد.  أما نظام المستعمرين الرأسماليين في كل بلد من بلادهم في أوربا وأميركا فهو يترنح في أزماته المتصاعدة بلا توقف وهو أعجز من أن يضبط ما سببه من فوضى عالمية في جملة المجتمعات الانسانية.  فتجمع الثروات والقوى المادية في أيدي طغمات القلة المستبدة في العالم تزيل كما أشرنا قبل هنيهة الروابط الاجتماعية بين الناس والجماعات والمجتمعات فلا يبقى الا القهر لتحقيق تماسك النظام العام للجملة الانسانية، التماسك الذي سينهار عند أول زلزال وما أكثر زلازل الطور الرأسمالي في هذه الأيام.  ان الرأسماليين يعترفون أنهم  بصدد بناء نظام جديد في العالم، أي أنهم يقومون في الواقع بتجديد عملية "البيرويسترويكا" ولكن في عالم الرأسمالية، فلن يكون حظهم اذن في هذه المغامرة أفضل من حظ سابقهم السوفياتي غورباتشوف في عالم قد انفلت بتزعزع أنظمته الثلاثة الآنفة الذكر وبالتالي سيحظون بانهيار معسكرهم الرأسمالي تماما كما انهار المعسكر الاشتراكي.

 

ان ما يمكن تصوره حول آخر مزدوجة تضاد مرحلية لنظام الطور الرأسمالي العالمي، المزدوجة المشار اليها أعلاه، هو أن بوش كرئيس سابق للمخابرات المركزية الأميركية سيعمل على بناء أحد قطبي هذه المزدوجة بنظامه العالمي الجديد تجاه القطب الآخر المتمثل بالانفلات العالمي الذي آل اليه النظام الرأسمالي الاحتكاري العالمي.  ونعتقد أن المخابرات المركزية ستتصدر كما لم تتصدر في السابق على عمق واتساع نفوذها العالمي، كل العلاقات الرجعية والاجرامية العالمية، في الوقت الذي ستتصدر فيه ثورة العالم الثالث ثورات العالم الأخرى الاجتماعية والتقنية.  وسيكون ميدان الصدام الرئيسي ميدان النفط.

طريق النجاة

ان العجز المادي الذي حال بين الناس في جملة المجتمعات الانسانية وبين بلوغهم السوية التي تحقق تكافؤ الأفراد وتكافؤ مختلف الجماعات والمجتمعات الانسانية ليكونوا في سوية مادية توفر للجميع حاجاتهم الأساسية بسهولة، هذا العجز شدد النزعات الفردية وجعل الناس يتسابقون الى تأمين حياتهم أولا ثم الى التفوق على الآخرين لنيل مختلف الفوائد والمنافع.  وكانت عدة التنافس دوما كل ما بالمستطاع وبمتناول اليد وبما يتلاءم مع النظام السائد في الجملة الانسانية.  فبرزت في النتيجة القوى المتصارعة واستأثرت الأقليات المحظوظة، استأثرت الطغم بالسلطان واستبدت بالأكثرية ليكون توزيع القيم بيدها التي تبدي نفسها على الآخرين في هذا التوزيع فتحتكر معظم هذه القيم عنوة واقتدارا.  وغدا المال دوما عصب القوة.  ولكن هذا الصراع الحيواني الوحشي للبقاء كان دوما مرتفع التكاليف وعلى حساب الذات الانسانية، بكل أشكالها الفردية والجماعية، وحساب حاجاتها الملحة: هنالك مثلا تكاليف الجيوش الباهظة وتكاليف حروبها المدمرة ثم تكاليف الأنصار والمحاسيب وتبديد القيم بالاسراف في انفاقها على مالانفع فيه وغيره مما نشير اليه دوما في هذه الدراسة وغيرها.  وقد وفر هذا العصر للانسان وسائل جبارة بالنسبة الى وسائل العصور السالفة.  ولكن تبديد النظام الرأسمالي لقدرات هذه الوسائل فيما لانفع فيه وخاصة في ايقاع الأذى بالانسان الى درجة أبادته وإبادة الحياة من حوله بها، هذا التبديد بلغ حاليا حدا يمكن القول معه أن توفير جزء صغير منه فقط وتوجيهه الى ما ينفع الناس يوقف جائحة الموت جوعا النازلة حاليا بالأفارقة وبغيرهم من بني الانسان في القارات الأخرى: اننا نقلنا أعلاه عن إذاعة مونتي كارلو, خبر تكاليف الحرب العراقية الايرانية وتكاليف حرب الكويت التي بلغ مجموعها ثمانمائة مليار دولار، وهذا دون حساب خسائر الدمار الناجم عن هاتين الحربين وبغض النظر عما نهبته وستنهبه الاحتكارات الرأسمالية العالمية وفي مقدمتها الاحتكارية الأميركية نتيجة لهذه الظروف.  فنحن لا نبالغ أبدا اذا قلنا أنه كان بالامكان تحرير الأمة العربية مع الأمة الايرانية من كل نواحي التخلف وخاصة منها أثقال التبعية للمستعمرين مع ايقاف جائحة الموت جوعا التي ضحاياها مئات ألوف السودانيين العرب فيما لو وفرت التكاليف الآنفة الذكر لما ينفع ويبني.

 

ولقد اعترف الرأسماليون بلسان بوش الذي أعلن إفلاس نظامه الاحتكاري الرأسمالي المتعدد الرؤوس بزعامة الاحتكارية الأميركية السائد في العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية والذي وعد الناس لذلك بإقامة نظام عالمي جديد.  وقلنا أعلاه أن هذه "البيريسترويكا" الرأسمالية لن يكون لها حظ أفضل من تلك الأخرى الاشتراكية التي أدت بالمعسكر الاشتراكي فنهايتها الحتمية باعتقادنا ستكون أيضا انهيار المعسكر الرأسمالي أو نهاية مرحلة الانتقال القائمة حاليا ودخول جملة المجتمعات الانسانية عتبة طور جديد.  وسيعمل الانسان في هذا الطور الجديد على الاستفادة من التقدم المادي الهائل في تسريع بناء اقتصاد عالمي يحرر ذاته ويوفر احتياجاته بالغاء دور المال كعصب للقوة المتحكمة المسيطرة وحصر هذا الدور في حدود النفع الاجتماعي العام كأن يكون المال مثلا مجرد وسيلة لوضع القيم المادية في المكان الذي يخدم تحرير الذات الفردية والجماعية ويمنع تسلط كل طغمة مهما كان شكلها، رأسمالية أو بيروقراطية.  ولكن التقدم وإلغاء العبودية بأشكالها المختلفة لا يتحققان من تلقاء ذاتهما ولا بد من الجهاد الكبير الصعب في مثل الظروف الحالية لجملة المجتمعات الانسانية لمنع أعداء الانسان من إطالة هذه المرحلة التي تمر بها هذه الجملة لتنتقل الى الطور الأعلى وتدوس عتبته.  لقد سبق وكانت الجملة الانسانية ناضجة كفاية في ظروف الحرب العالمية الثانية لانهاء مرحلة الانتقال التي تمر بها واتمام نفي النظام الرأسمالي العالمي وولوج الطور الاشتراكي العالمي بكل أبعاده الانسانية.  لقد كان النظام الرأسمالي، باستعماره وكل مصائبه التي يصيب بها العالم، لا سيما منها حروبه المدمرة وقهره لبني الانسان، كانت محرومة من القيادات الواعية لواقع تلك الأيام بحيث تتمكن من توحيد جهودها للخلاص من نظام القهر العالمي الذي كان يترنح حينذاك ويتمايل على طريق السقوط في الهاوية. وكانت الرأسمالية الاحتكارية الأميركية عند ذاك في المرصاد فأطلقت اقتراحها بتشكيل الأمم المتحدة المستقلة ظاهريا والمنخرطة في نظام استعماري جديد، تماما كما يحاول اليوم جورج بوش عندما حول منظمة تلك الأمم المتحدة من مجلس إدارة للاستعمار الجديد الى دائرة تابعة لخارجيته. وقد انخدع بكل أسف قادة العالم ما بعد تلك الحرب، قادة الثورة العالمية على قهر الاستعمار الرأسمالي الاحتكاري العالمي، بوعود النظام الاستعماري الجديد واستسلموا لوهم الاستقلال السياسي في إطار نظام الربا العالمي فحل بشعوبهم وأقوامهم أشكال من القهر تزري بتلك الأشكال القديمة التي كانت تنزل بهم أيام الاستعمار القديم.  واستطالت بذلك مرحلة انتقال جملة المجتمعات الانسانية من الطور الرأسمالي الى الطور الاشتراكي كل هذه السنوات التي طالت مدة نصف قرن. مع أنه كان يكفي صد الاستعمار الجديد من بداياته تلك ومنع توطد أركانه لتفوز الانسانية بإسقاط النظام الرأسمالي والوصول الى عتبة الطور المقبل، طور الاشتراكية المنتصرة في كل الجملة الانسانية. ذلك لأن احتياطي النظام الرأسمالي في تلك الأيام كانت الرأسمالية الاحتكارية الأميركية وما كان بوسعها العيش لانقاذ العبوديين الرأسماليين الآخرين الذين طحنتهم الحرب حينذاك الا بالترعرع والوصول الى كامل أبعاد نظامها.  ولكن قيادات التقدم الانساني كانت مقصرة حينذاك بوعيها لتتمكن من الافادة من تلك الثورة الانسانية، نقول للافادة من هذا الظرف الملائم لسد السبل على كل المستعمرين وفي مقدمتهم الأميركان.  ولعل من يقول أن المستعمرين الأميركان ضربوا اليابان بقنبلتي هيروشيما ونغازاكي الذريتين حينذاك.  وكان بالامكان أن يثيروا حربا نووية فيما لو سدت عليهم في تلك الأيام سبل إنقاذ النظام الرأسمالي.  والجواب على هذا الاعتراض هو أن أنوف هؤلاء المستعمرين الأميركان قد مرغت بالرغام أكثر من مرة لا سيما في حربي كوريا والفيتنام وفي تحرير الصين ذات المليار انسان، ولم يجسروا على استعمال قنابلهم الذرية لأن مصالحهم في العالم أكثر تعرضا من غيرها لأخطار الحروب النووية.  ثم انه على فرض أن قنبلتي هيروشيما وناغازاكي من صنع أميركي وليستا كما هو ثابت من مذكرات العالم الذري الألماني أوبرهايمر من صنع الألمان وقد غنمتهم الجيوش الأميركية الغازية لألمانيا في أواخر الحرب العالمية الثانية، نقول على هذا الفرض فان هاتين القنبلتين كانتا كل ما في الترسانة الذرية الأميركية ولم يغدو الانتاج الأميركي الذري لأغراض الحرب كثيفا بما فيه الكفاية الا في الستينات من هذا القرن فكان اذن هنالك زمنا كافيا للعمل على منع استشراء الاستعمار الجديد ثم ايقافه والقضاء عليه وعلى نظامه العالمي.  وما كانت بضع قنابل ذرية كافية لجعل أميركا القوة العسكرية الكافية لسحق مليارات بني الانسان المتعطشة الى الحرية وفي مقدمتها الاتحاد السوفياتي الخارج من الحرب كأكبر قوة عسكرية في العالم.  ولكن تنافر القوى الوطنية والتقدمية وشكوكها المتقابلة، وعلى الأخص شكوك القوميين والمتدينين في العالم المتخلف المقهور بالاشتراكيين، وشكوك الاشتراكيين بالقوميين والمتدينين، هذا التنافر كان أقوى من قنابل أميركا الذرية في تمهيد الطريق أمام توطد الاستعمار الجديد المتعدد الرؤوس الذي قام بزعامة أميركا في أعقاب تلك الحرب العالمية الثانية.

تنافر القوى التقدمية

قلنا اذن أن تنافر القوى العالمية التقدمية بمختلف أشكالها وأنواعها من الاشتراكيين حتى المتدينين غير الوثنيين أعداء الاستعمار وقهر الانسان للانسان, كان سببا في تحطيم كل مقاومتهم لترعرع الاستعمار المتعدد الرؤوس بقيادة الاحتكارية الرأسمالية الأميركية.  وهذا التنافر ما يزال قائما حتى الآن ويوشك بوش أن ينفذ منه ويتخطاه لاطالة مرحلة الانتقال الى الطور الأعلى مرة أخرى باستغفاله الانسانية وإقامة نظامه الاستعماري العالمي الذي يعرضه حاليا باسم النظام الجديد.  وقد أشرنا في هذه الدراسة وفي غيرها أنه ليس هنالك من سبب منطقي لتنافر القوى التقدمية العالمية سوى الجهل وقلة الفهم.  ولننظر فيما يلي الى بعض أشكال هذا التنافر:

 

- ان الانسانيين يجافون الحقيقة عندما لا يرون في استغلال العمال والفلاحين من قبل الطغم الرأسمالية في مختلف أنحاء العالم ظلما وانتقاصا لانسانية البشر في هاتين الطبقتين.  فمن البديهي اذن أن لايكون هناك تعارض بين الطبقية والانسانية.  ذلك لأن الجهاد من أجل تحرير الانسان من الاستغلال يتضمن تحرير العمال والفلاحين في الطليعة، كما أن الجهاد من أجل تحرير العمال والفلاحين والاستعانة بهاتين الطبقتين والاعتماد عليهما في الجهاد من أجل هذه الغاية الانسانية لا يعني إهمال بقية بني الانسان في قيود الظلم والقهر عندما يقوم هذا التحرير على أسس علمية تحققه بصدق وليس شكليا بحيث يذهب ظالم ويأتي آخر باسم التحرير الكاذب.

 

- ان القومية المعاصرة في العالم المقهور لا تعني سوى تحرير الأمة وإزالة الموانع في طريق تقدمها ولا تعني أبدا الخلاص من الظلم وبلوغ التحرر للتمكن من ظلم الآخرين واستعبادهم أو إعانة المستعمرين وخدمة أغراضهم السوداء.  والنتيجة الحتمية للتحرر بهذا المعنى هو أن تلتزم كل أمة بدورها العائد اليها في جملة المجتمعات الانسانية دون أن تتدخل في أدوار المجتمعات الأخرى.  ولا يمكن للاشتراكي العلمي أن يفهم التحرر الا بهذا الشكل.  أما مسألة بناء المجتمع عند تمام التحرر فتحل علميا على مبادئ الصدق والاخلاص.  وبالتالي فان الاشتراكي والقومي حليفان وليسا نقيضين.

 

- ان المتدين الصادق غير الوثني لايمكن أن يناصب العداء من يجاهد في سبيل تحرير الانسان من الظلم والقهر.  كما أن الاشتراكي العلمي الصادق بعلمه لابد له من أن يحترم كل ثورة نادت بتحرير الانسان وجاهد أصحابها من أجل القضاء على الفراعنة بأشكالهم المختلفة. وان ثورات التوحيد تأتي في الطليعة لتحرير الانسان ودفعه في طريق الانطلاق نحو التقدم والبناء الانساني فلا يجوز قياسها على من جمدها وتاجر بها من الوثنيين.  ومن الخطأ الفادح نعتها بأنها أفيون الشعوب في الوقت الذي ضحى أولئك الذين بنوها بأرواحهم من أجل نشرها وتوطيدها بهدف تحرير الانسان من العبودية.  ان ثورة أكتوبر، على عظمتها وأهميتها التاريخية ليست أول الثورات الانسانية ولا آخرها.  فالانسان ثار دوما على الظلم والتخلف: يقوم الهدوء والاستقرار في أعقاب انتصار الثورة، ويقوم الظرف الضروري لبناء الحالة الجديدة على أنقاض الحالة المنهارة الغاربة.  ولكن ذلك الهدوء والاستقرار يلائمان أيضا بروز وثنيات جديدة على أمجاد الثورة تجمد الأوضاع لمصلحة فئات مستغلة.  وعندما يبلغ التراكم الحد الملائم تنشأ الأزمات وتبدأ مرحلة الانتقال الى الأجد ثم الانقلاب الكيفي ليقوم هذا الأجد وهكذا دواليك.

 

- ان الوطني بجهاده من أجل تحرير وتقدم شعبه لا يمكن أن يتناقض مع فئات المتدينين أو القوميين أو الانسانيين أو الاشتراكيين والعكس بالعكس.

 

ليس في كل هذا اذن الا الجهل والوثنيات والتخلف الفكري أسبابا لتمزق المقهورين المستعبدين لصالح تلك الطغم الرأسمالية العبودية الأميركية التي يقوم بخدمتها بوش عندما يحاول إطالة أمد مرحلة الانتقال الى الطور الانساني الأعلى بنظامه المجدد.  وعندما يعي الناس هذه الأمور فانهم يصبحون عندئذ قادرين على محاصرة هذه الطغم الظالمة الفاجرة وإسقاط نظامها العبودي.

 

ان التقدم المادي الانساني قد تحقق دوما اجتماعيا كما سبق وأشرنا اليه في هذه الدراسة، فهو وكل منجزاته، لاسيما منها الطاقة النووية، ملك للانسان وليس لأولئك الغرباء أفراد تلك الطغم الجهلة الذين اغتصبوا ملكية المنجزات التي لا بد من أن تعود الى المجتمع الانساني ليبني بها الناس أوطانهم، وليس الى القوى الشريرة التي تمزق الناس وتستعبدهم.  ثم ان كل عبودية تأتي بوثنية تناسب نظامها حيث تقوم فيها عبادة المصالح الضيقة فينقسم الناس الى شيع وطوائف متناحرة تستعبدها أقواها، وهذا الأمر لايخص نظاما عبوديا معينا وانما هو الظاهرة الأساسية في كل العبوديات التي عرفها الانسان، فنقرأ في سورة القصص الآية الكريمة التالية: "ان فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا، يستضعف طائفة منهم، يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم، انه كان من المفسدين".  لذلك كان على الأكثرية الساحقة من الناس، أن يوحدوا ارادتهم حول جوهر واحد بسيط هو: نفي الاستعباد بكل أشكاله الفردية والجماعية بجعل التقدم المادي في خدمتهم جميعا وليس في خدمة تلك الطغم التي يحرسها نظام الولايات المتحدة الأمريكية العالمي القديم الجديد.

 

وبعد، انه استنادا الى كل ما مر معنا في هذه الدراسة نجد أن على الانسان أن يجاهد بصدق وعزيمة لا تنثني ولا تتراجع أبدا في هدف الغاء كل شكل من أشكال العبودية ومقاومة واحباط كل حالة تؤدي الى أي شكل من أشكالها أي باختصار منع انتهاك الذات الانسانية فردية كانت أو جماعية بتحديد دورها الطبيعي في المجتمع. ان الانسانية قد ظفرت في تحريم العبودية في قانونها العام السائد ولكن القوى الظالمة تحتال للتخلص من هذا المنع فتخترع أشكالا تغطي عبوديات، فردية وجماعية، تفوق بجحيمها تلك البدائية التي عاناها الانسان في عهوده القديمة. كذلك نجد أن على الانسان أن يقف بحزم لمنع العدوان على حقوقه واغتصابها في كل الظروف وأن يبذل الأرواح في سبيل هذا الهدف: يجب مثلا أن تصل أمتنا لتحشد كل ما بوسعها لمنع "قضم" أوطانها من قبل الصهاينة المدعومين من قبل المستعمرين الأميركان وصنائعهم.  لذلك نرى أن يكون في جوهر كل عقيدة جهاد في سبيل التقدم الانساني الأمور التالية:

 

1- الذات الانسانية بكل أشكالها الفردية والجماعية هي أمر اجتماعي يحرم انتقاصها من قبل أي جهة كانت، من أصحابها أو غير أصحابها: ان تنازل فرد أو جماعة أو مجتمع عن ذاته أو جزء منها أو السماح بمسها بما يسيء أمر باطل. وعلى كل فرد من أفراد المجتمع أن يقاومه بكل ما يستطيعه، وبديهي أن يكون باطلا أيضا كل ادعاء بحق تعطيل الدور الطبيعي المستقل لهذه الذات يصدر عن غريب عنها.  والدور الطبيعي للذات لا يخرج بالتعريف عن حدود العلاقة الانسانية المثلى: علاقة التعارف والتعاون والتكامل والتكافل في إطار قانون تكافؤ الفرص، العلاقة التي طالما رددناها وأشرنا اليها في هذه الدراسة.

 

2 - ان التراكم الحاصل من فضول القيم الناشئة عن الزيادات المختلفة للإنتاج على مجموع الاستهلاك الاجتماعي، التراكم الذي هو ضروري لتحقيق تطوير تقدمي للانتاج والذي ما يزال يلتزم بتحقيقه بشكل فوضوي أفراد يتنافسون ويقتتلون بكل وحشية على الأرباح وبالتالي يضيفون الى هذا التراكم كل ما يقومون بنهبه بأساليب الاغتصاب العبودي للشعوب والأمم والأفراد يهدرون معظمه على العدوان والحروب والمباذل وكل ما يضر بالانسان، ويؤخر تقدمه. هذا التراكم يجب أن تعود ادارته الى المجتمع الذي عليه أن ينظمه بشكل عادل لا يمس الذات الانسانية بكل أشكالها الفردية والجماعية فينتقصها بأي شكل من الأشكال، بالبيروقراطية الجاهلة والانتهازية مثلا.

 

3 - ان على الانسان أن يقوم بالجهاد الحاسم فيبذل كل ما بوسعه لمنع تحويل المال من وسيط لتوزيع القيم توزيعا عادلا يحقق لكل فرد وكل جماعة وكل مجتمع وكل دولة حيازة حقه الكامل الناشئ عن العلاقات المشار اليها أعلاه والتي نعود لتردادها: علاقة التعارف والتعاون والتكامل والتكافل في إطار تكافؤ الفرص، نقول على الانسان أن يمنع تحويل المال من وسيط الى قوة قاهرة تتأله وتفرض عبوديتها على البشر في الجماعات والمجتمعات والأمم.  لذلك يحرم كل شكل من أشكال الربا ويسقط في كل القوانين العامة و الخاصة في كل مجتمع وفي جملة المجتمعات الانسانية ويصبح تعاطيه جريمة وخيانة انسانية.  وقد مر معنا وصف هذا المرض الخطير فيما سبق من هذه الدراسة ورأينا أن من أشكال الربا هو كل فضل قيمة يحصل في المجتمع ويستولي عليه رأسمالي في المعمل أو ما شابهه بقوة ماله وليس بعمله المنتج الذي يجب أن يكافئ القيم التي يحصل عليها دون زيادة أو نقصان.

 

4 - ان قانون التبادل العادل هو الذي يقوم على تبادل القيم المتكافئ: قيمة تذهب مقابل قيمة مكافئة تأتي.  وكل احتيال على هذا القانون ساقط ولاغي.  وعندما لايحدث هذا التكافؤ في عملية التبادل فان غبنا يقوم ولا بد من إزالته لإحقاق حق المجتمع ولا عبرة لحجة الغابن بأن المغبون قد رضي بالغبن انصياعا منه لقانون السوق.  فالسوق جزء من المجتمع ولا يمكن أن يقوم فيه مثل هذا القانون الظالم الا بالقسر أي بانتهاك تكافؤ الذوات الانسانية وإشاعة عبوديتها.  وهذا ما قلنا أن من واجب الانسان أن يعمل على إلغائه بالجهاد.

 

5 - عندما يسقط كل غبن في تبادل المنافع وتتحرر الذات الانسانية من عبودية الرأسمالية يقوم التراكم وينمو بالاعتماد أكثر فأكثر على استخدام منجزات العلم وتطبيقاته التقنية بدلا من إنهاك الانسان لتشديد وتيرة استغلاله واستعباده.  ونجد عندئذ أن نسبة استهلاك المجتمع لإدامة الحياة الصحيحة فيه الى نسبة حجم الانتاج, تتضاءل بسرعة بتقدم التقنية وغياب سوء استعمال الحجم العام لفضول القيم وهدرها فيما لانفع فيه من قبل الطغمات المسيئة، وبالتالي تتوفر حجوم متزايدة لتحقيق التقدم الذي يتسارع سيره عندئذ.

 

ولنتساءل عن الكيفية التي يمكن أن يتحقق فيها التبادل العادل للقيم بحيث لا تذهب قيمة دون أن تأتي قيمة أخرى مكافئة لتحل محلها أو بالأحرى كيف يتم التوزيع العادل للقيم في المجتمع فلا تحتكرها جهة تستعبد بها الناس؟  لقد مرت الانسانية بثورات وتجارب منذ أقدم العصور حتى يومنا هذا الذي شاهدنا فيه انهيار المعسكر الاشتراكي بسبب العدوانية الرأسمالية والأخطاء والجرائم التي ارتكبها المسؤولون عن الثورة الاشتراكية العالمية.  فمن يضمن عدم تكرار الأخطاء وقيام ظروف معاكسة تؤخر خلاص الانسانية نهائيا من العبودية بكل أشكالها لتنطلق في بناء جملتها الانسانية وهي متحررة نهائيا من هذا الداء الوبيل؟  لقد سبق وأشرنا الى أن قيام الانتاج الوافر بالوسائل الجبارة التي حققها التقدم مع استرداد المجتمع الانساني لهذه الوسائل لتقوم بخدمته سيجعل من الركض لاحتكار القيم ومنعها عن الناس أمرا سخيفا مستهجنا تماما كمحاولة احتكار تنفس أوكسجين الهواء الكافي لتنفس كل الناس.  ولكن تردد  العبودية بأشكالها العديدة طال ألوف السنين على المجتمعات الانسانية ترك في نفوس البشر تلك الانحرافات الهمجية التي يأتي في مقدمتها الاستئثار والانفراد والتملك دون الناس والتحكم بهم بدون حق أو مزية نافعة وغير هذا من الأمور المشابهة، وترك من جهة أخرى الحذر والخوف من هذه النقائص بحيث تولد في نفوس البشر وتأصل مشاعر وحشية مقابلة للإحتماء والتنافس.  لذلك وجب في بدايات الطور الأعلى اتخاذ الاحتياطات الضرورية المادية والروحية بهدف الانتهاء الى قيام الثقة بين بني الانسان أفرادا وجماعات ومجتمعات وأمما ويقوم التعارف والتعاون والتكامل والتكافل في إطار تكافؤ الفرص.  ولا يتم هذا الأمر الأخير بالقسر وممارسة أي شكل من أشكال الديكتاتورية، ولكن بالموعظة الحسنة ورضى الناس عن فهم وعلم صحيحين، وبنتيجة جهاد اجتماعي جماعي يساهم به كل الناس بوعي وروية.  وهذا الأمر له الأهمية الحاسمة في شفاء المجتمع الانساني من أشكال العبودية والاستعلاء ولا بد من أن توفر له كل الدراسات العلمية الضرورية القائمة على أسس متينة من التصميم والارادة الطيبة، وأن يعطى كل الجهد والزمن الكافيين لتحقيقه.

 

ان من الثابت المؤكد أن الرأسمالية والاستعمار هما وجهان لنظام واحد وقد عنون لينين بحثه الرائع حول امتزاج القيم النقدية بالقيم الصناعية خلال تعاظم دور المصارف وانتشار الربا وتفاقمه عالميا بالعنوان الشهير "الاستعمار أعلى مراحل الرأسمالية".  ولا حاجة بنا الى البرهنة على أن النظم العبودية طوال عهودها في التاريخ كانت تستغل المستضعفين لتحقق التقدم المادي والقوة لبلادها بهدف التغلب على المنافسين في البلاد الأخرى، وسبقهم الى السيطرة على المجتمعات الأضعف في الجملة الانسانية ونهب ثرواتها.  وكان من الواضح الجلي أن الرأسماليين وفي مقدمتهم يأتي الاحتكاريون, استغلوا دوما اليد العاملة في بلادهم لتنمية قواهم وشحذ أسلحتهم لتحقيق المغانم في ميادين السباق نحو امتلاك القيم ونهب الشعوب المستضعفة.  فاستغلال الطغم الرأسمالية لعمال بلادها واستفادتها من عمل بحاثها وإدارييها في تطوير إنتاجها, ما هو بداهة الا العتبة التي توصلها للتحكم بكل المجتمعات في الجملة الانسانية ونهب ثرواتها.  فما يتحقق لها من أرباح في حدود بلادها لايعادل سوى جزء بسيط من تلك التي يتحقق لها بالنهب الاستعماري بمختلف أشكاله.  فاذا ما تمكن الانسان من بلوغ التحرر من الاستعمار فان  الرأسمالية  ستنهار بكل تأكيد والعكس بالعكس: ستختنق الرأسمالية عندما لايترك لها سوى مجال استعباد منتجي بلدها في المعامل والحقول لتحصل منهم فقط على أرباحها المكونة من فضول القيم، كذلك لا بد من انهيار الاستعمار والعدوان على الشعوب والأمم عندما لايكون هناك رأسمالية يدفعها معبودها رأس المال لتقوم بتغذيته بدماء وأموال الآخرين.  ونجد في النتيجة أن تحرر العالم الثالث من العلاقة التبعية الاستعمارية للدول المتقدمة ماديا وخاصة منها الولايات المتحدة الأميركية قائدة الظلم والعدوان العالمي, هو المدخل الى الطور الأعلى المقبل، طور الاشتراكية المنتصرة عالميا.  ويكون بلوغ هذا التحرر بالجهاد العظيم الذي لا بد له من أن يأخذ في البدء شكل الثورة الوطنية التي تعم مختلف أمم وأقطار المستضعفين في جملة المجتمعات الانسانية.

خلاصة البحث    

لنختصر ما مر معنا في هذه الدراسة بالنقاط التالية:

 

أ - أشرنا في هذا البحث الى أمر هام هو أن الانسان المنتج في بلاد المستعمرين عندما يولد فضول القيم للرأسماليين فانه في ذات الوقت يقوم بشحذ أسلحتهم وتطويرها وجعلها أشد مضاءاً في تنفيذ عدوانيتهم على شعوب العالم وخاصة منها شعوب المستضعفين. وقلنا أن ما يحققونه من مكاسب في النهب الاستعماري لا يقارن أبدا من حيث الأهمية بما يتحقق لهم من فضول قيم ينتجها لهم عمالهم في معاملهم ومزارعهم في بلادهم الأصلية.  فاجتهاد المنتجين لتحقيق الانتاج الأفضل في بلاد المستعمرين يخدم العدوان قبل أن يخدم الوطن فيجلب لهذا الوطن سخط الشعوب المنهوبة وردود أفعالها وعداء المنافسين الرأسماليين.  ثم ان تبسيط المسألة وجعلها مجرد علة تنشأ عن العلاقة التي تقوم بين الرأسمالي والعامل قد تنسينا النظام الذي تقوم هذه العلاقة في ظله وتحجب عنا خواصه وحقائقه الأساسية.  وبالفعل فقد غفل الثوار الماركسيون عن الخاصة الأساسية للنظام الرأسمالي وهي عالميته, وراحوا يقسمون جملة المجتمعات الانسانية الى مجتمعات رأسمالية ومجتمعات إقطاعية ومجتمعات عبودية وغيره مع أن هذه الجملة هي كل مادي موحد, لايمكن أن يكون الا في طور واحد يحكمه النظام الرأسمالي, بمختلف أوجهه المتقدمة والمتخلفة ماديا. والتخلف بكل أشكاله وظروفه, هو تخلف النظام العالمي, قبل تخلف المتخلف.

 

ب - ان بلدا واحدا أو مجموعة بلاد تشكل معسكرا لا يمكن أن يتحرر من النظام العالمي دون بقية بلاد العالم ويمكن فقط أن يكون ثائرا على هذا النظام العالمي ولكنه يبقى عندئذ جزءا منه ويتعامل معه في حدود الكل الذي هو جملة المجتمعات الانسانية.  ان المعسكر الاشتراكي السابق مثلا كان جزءا من النظام الرأسمالي العالمي الذي كان وما يزال يمر بمرحلة الزوال والانتقال الى نظام الطور الأعلى الذي هو الطور الاشتراكي بحسب المفاهيم الصحيحة للماركسية وليس بحسب أوهام الوثنيين الماركسيين الذين لا يرون الأهمية الحاسمة لمرحلة الانتقال هذه فغابت عن مفاهيمهم وغدوا تائهين في صحاري الفشل المظلمة.

 

جـ - ان الانتقال الى الطور الأعلى لا يمكن أن يكون الا حركة عامة لجملة المجتمعات الانسانية برمتها وليس لجزء منها.  فاذا لم يتم هذا الانتقال بدءا من المعسكر الاشتراكي السابق بحسب الآمال السابقة للثوار الاشتراكيين, فانه على كل حال مستمر ولا بد له من أن يبلغ نهايته ببلوغ الطور الأعلى, كما يحتم سير التاريخ, ولا تراجع الا بفناء الانسانية والحياة معها: هنالك حركة تقدم يراها العميان ويشعر بها فاقدو الاحساس، أفلا نسمع في هذه الأيام أخبار الجديد العالمي تأتينا من جهة أشد البشر عماء وقلة إحساس، من جهة الطغمة الأميركية القائدة للنظام العالمي الرجعي الحالي، الطغمة السائرة الى حتفها رغم أنفها بهذا التغير بالذات؟؟..

 

د - ان النظام المادي يقوم بالتعريف على علاقات ومرتكزات مادية وينهار بانهيار هذه العلاقات والمرتكزات.  وقد وصلت حاليا علاقات النظام الرأسمالي العالمي الى درجة خطيرة من التأزم بحيث قام قادة هذا النظام الأميركيون يدعون الى إصلاحه ببناء ما يسمونه الآن بالنظام الجديد (الشبيه بالانكشارية في عصور تفسخها، الانكشارية التي تعني باللغة التركية النظام الجديد أيضا: "يني تشاري").  ولكن التقدم العلمي والتقني الذي كان ضروريا لتوطد أركان النظام الرأسمالي العالمي أصبح في هذه الأيام مضرا بهذا النظام في جل علاقاته الاجتماعية وداعيا بقوة لانهائه لصالح نظام الطور الأعلى المقبل.  يقول مثلا "جاك دولور"، وهو من أبرز رجال المال الفرنسيين, وينتمي الى الحزب الاشتراكي القائد حاليا في فرنسا: أن التقدم التقني أصبح الآن فخريا لفرص العمل لملايين العاطلين عن العمل، وذلك في كلمة ألقاها في كوبنهاجن عاصمة الدانمرك أثناء بحث رؤساء دول ووزارات أعضاء السوق الأوربية المشتركة في اجتماعهم المنعقد في حزيران عام 1993 (بحسب ما جاء في عددي 22 و 23 حزيران لجريدة اللموند الباريزية).

 

هـ - ان النظام الرأسمالي هو نظام الطغمة المعادية لكل فئات الناس في كل مجتمع من مجتمعات الجملة الانسانية ولا عبرة لما يدعيه قادة هذا النظام وكهنته من حسنات له تناقضها وتكذبها كل خطوة في مسيرته الظالمة.  فالحرية مثلا بمفهوم تلك الطغمة قائدته ما هي سوى حرية الرأسماليين في استعباد الناس ونهبهم، ماهي الا حريتهم وحرية عملائهم في التخريب والتجسس هنا وهناك في العالم لعرقلة التقدم الانساني وتأبيد قهرهم للبشر، ما هي باختصار غير قمعهم بكل وسيلة لحريات الآخرين.  والديموقراطية بمفهومهم هي تلك التي لا تتعدى حدود طغمتهم، فالعبيد كالأحرار الضعفاء ليس لهم، كما في روما واليونان، أي وزن أو حساب في الوجود الاجتماعي بنظرهم.  ونجد في النتيجة أن هذه الطغمة تقيم وثنية تستند الى جملة مفاهيم فكرية وأخلاقية مناسبة تلائم مصالح أفرادها الأنانية وان خدع في بعض الظروف بريقها الكاذب البسطاء والسطحيين وساند كذب الانتهازيين.

 

و - يقدر الرأسماليون عدد العاطلين عن العمل حاليا في البلاد الصناعية المتقدمة بما يزيد على سبعة وعشرين مليون عامل.  أما من هم في عيش دون مستوى الفقر في الولايات المتحدة الأميركية فيفوق الثلاثين مليون نسمة.  وهذا غيض من فيض في هذا الباب في العالم.  فاذا أردنا مثلا إحصاء المتوازنين ماديا خارج وجهاء الطغمة المتسلطة في العالم المتقدم صناعيا، وهؤلاء الناس يشكلون أوساطا غير مستقرة في عالم الرأسمالية الخاضع للصدف العمياء، فاننا نجد نسبتهم ضئيلة جدا الى مجموع جماهير الناس الغارقين هناك في الشقاء.  أما الشقاء في العالم المتخلف، حيث يموت الملايين جوعا وقتلا بالفتن والحروب الاستعمارية فحدث عنه ولا حرج.

 

نجد اذن بناء على كل ما تقدم في هذه الدراسة أنه آن للانسان، الذي قلنا أن حياته تجري بدافعين الأول فردي أناني والآخر غيري اجتماعي، نقول آن لهذا الانسان أن ينظم أفعال هذين الدافعين كي يستمر وجوده كانسان بعد أن ملك من الوسائل ما يمكنه من تدمير هذا الوجود أو من دفعه في سبيل التقدم نحو مجتمعات في الجملة الانسانية ينتفي فيها كل عبودية لذاته الفردية أو الجماعية.  وان فهم هذا الأمر في غاية البساطة.  فما دام الانسان "حيوان اجتماعي"، بمعنى أن حياته لا بد من أن تقوم في مجتمع وليس هناك من حياة خارج المجتمع الا في أوهام الحمقى وأعداء الانسان الأنانيين، نقول ما دام الانسان بهذه الصورة فان المجتمع هو ضمان لوجوده. وكذلك ندرك بسهولة وجوب مقاومة كل نظام يجعل من المجتمع أداة سحق للفرد الذي هو الخلية الأولى فيه.  وان تنظيم الدافعين المذكورين، دافع الفردية ودافع الجماعية، هو بارتباط الذات الانسانية بكل أنواعها الفردية والجماعية بمهمتها الاجتماعية: بدون أي إكراه ينتقصها.  وقد يقول بعضهم، قد يقول الرجعيون مثلا، أن تحقيق مثل هذا الأمر لا يكون عن طريق حرياتهم وديموقراطياتهم، والجواب هو أن وجود الحياة لا يكون أبدا بالسير في طرق العدوان والفناء.

 

نعود ونكرر اذن ونقول أن ما نعرضه هنا بسيط يدركه العقل المتزن فيكون لذلك أساسا لعقيدة الجهاد في سبيل محاصرة تلك الطغمة العدوانية المتحكمة بهذا العالم العبودي الرأسمالي وإسقاطها بالتالي.  الا أنه لا بد من أن تفيض مثل هذه العقيدة من العقول المصدقة لها لتؤمن بها النفوس فتبذل في سبيل نشرها وتحقيق غاياتها كل ما يلزم من جهد وتضحية كما كان الأمر دوما وكما سيبقى أبدا في ثورات الانسان على التخلف، على الجاهليات.  والطغمة الرجعية الرأسمالية الاحتكارية العالمية المعاصرة تستحق كل جهد وتضحية لمحاصرتها وإسقاطها لأن نظامها العالمي أمسى خطرا على وجود الحياة على الكرة الأرضية.