جملة المجتمعات الانسانية

المقدمة

 

أن هذه الدراسة هي محاولة للكشف عن بعض الحقائق التي نظن أنها أساسية في فهم مسيرة التاريخ الانساني, و التي كان من نتيجة الابتعاد عنها من قبل أصحاب المصلحة فيها, وقوع تلك الردة الهمجية في مسيرة التقدم الانساني وزوال معسكر ضم المئات من ملايين بني الانسان.  وكنا ندرك جيداً, عندما ألقينا بأنفسنا في هذا الخضم, أن ماله صلة بمصالح الناس المباشرة و غير المباشرة لا يتثبت في لوحة المسلمات مالم يتثبت أولاً في لوحة الواقع الملموس.  كنا ندرك صعوبة الأمر و أنا سوف نغضب بدون قصد أصدقاء طالما جاهدوا و ضحوا في سبيل التقدم ومن أجل رفع الظلم عن بني الانسان ولكنهم مع ذلك وقعوا في أوهام أشباه الحقائق و انتهوا الى ماانتهوا إليه.

 

إننا في هذه الدراسة نتناول أموراً كنا أعطينا لها صورة وافية منذ أكثر من ربع قرن من الزمان في مقالات نشرتها لنا الصحيفة اللبنانية "إلى الأمام" فأغضبنا أولئك الأصدقاء.  لقد قلنا, منذ تلك الأيام في أواخر الستينات من هذا القرن:  أن ما يمر به العالم حالياً هو مرحلة انتقال مادامت الرأسمالية مزدهرة عالمياً و متفوقة في بعض جنباتها.  ذلك لأن الطور الانساني هو طور الجملة الانسانية وليس طور مجتمع واحد أو معسكر مجتمعات محدودة العدد.  ولأن كل منجز انساني على طريق التقدم هو, ككل المنجزات الأخرى التي أنضجت مرحلة الانتقال الآنفة الذكر, أيضاً لمزيد من الانضاج من أجل الارتقاء الى الطور المقبل وليس ملكاً لشرق أو لغرب.  وهذا يعني أن ذلك المعسكر الذي كان قائماً ماكان في الواقع سوى الجزء الطليعي من الجملة الانسانية السائرة بقدم ثابتة نحو طورها الاشتراكي وليس معسكراً تم فيه بناء الاشتراكية.  إنه كان الجزء من هذه الجملة الانسانية الخارج الثائر على الرأسمالية و قد أدى مهمته التاريخية دون أن يعني هذا أن مسيرة التقدم الى الطور الأعلى قد توقفت, إن القدر قد توقف, إن التاريخ قد أغلق بابه.

 

ولنعطي فيما يلي تعريف لدراستنا يشير الى أهم نقاطها:

 

1-   جملة المجتمعات الانسانية و أطوارها

ونعني بها "مجتمع المجتمعات الانسانية" .  وقد عرفناها, فقلنا أن الانسان قضى دهوراً طوالاً كي يرتقي الى مرحلة الحياة الاجتماعية في بداية جملة مجتمعات تنشأ و تنمو و تتكامل.  وقد مرت هذه الجملة حتى الآن بالأطوار و المراحل التالية:  طور المشاعة البدائية, طور الرق, الطور الاسلامي أو طور الحرفة الحرة, الطور الرأسمالي, مرحلة الانتقال من الرأسمالية الى الاشتراكية.  وقلنا أن الجملة الانسانية نبتت من بذورها الأولى التي هي المشاعة البدائية, وبنتيجة تطور وسائل الانسان وتقدم علاقات مجتمعاته في طور الرق قام لهذه الجملة نموذج في كل منطقة متصلة على الكرة الأرضية لا تجزؤها حواجز جغرافية يصعب التغلب عليها و اجتيازها بوسائل انسان تلك العهود: كالمحيطات مثلاً و الكتل الجبلية الضخمة و الصحاري الواسعة.  وقد تم قيام ثلاث جمل مجتمعات انسانية رئيسية في طور الرق المذكور قبل توحد هذه الجمل في الطور الاسلامي.  وقد أولينا اهتمامنا في هذه الدراسة الى جملة مجتمعات البحر الابيض المتوسط التي نشأت وتطورت فيها الأمة العربية موضع بحثنا الأساسي الذي كثرت فيه دراسات الطامعين أصحاب المصالح حتى اختفت بداهته.

 

2-   الأمة

قلنا في هذه الدراسة أن الأمم هي نتيجة عمليات اجتماعية تمتد بزمانها على مدى التاريخ.  فهي لا تختص بطور من أطوار الجملة الانسانية, وأنما تتكون بتكون هذه الجملة كأعضاء فيها لكل واحد دوره في كيانها الناشئ المتطور عبر التاريخ.  وفي هذه الدراسة نعارض كلياً آراء العرقيين في تكون المجتمعات الانسانية و الأمم, و نرى أن ارتقاء الكائن بنوعه يتصاعد بتعدد روافده المتنوعة التي تبنيه, و ليس بهمجيته البسيطة في أصولها وبنيتها.  وقد انتهنيا في البحث الى أن نشوء الأمة وتكاملها, عملية تاريخية لها وجهان: فهي في الوقت الذي تشكل فيه عملية نشوئها و ارتقائها ككائن قائم بذاته له هويته المميزة فإنها, أي العملية التاريخية, تؤلف دورها الذي تضطلع به في بناء جملة المجتمعات الإنسانية.  وهنا نلاحظ الأهمية القصوى لدور, لوظيفة الأمم (والمجتمعات على العموم) في قيام الجملة الانسانية فهو يعادل و جودها.  وإن الاستعمار و كل أشكال العبودية عندما تسبب شلل الوظيفة المذكورة أو تلغيها فإنها تشل أو تقتل في ذات الوقت المجتمع صاحب هذه الوظيفة.

 

3-   الأمة العربية

إن الأقطار التي قطنتها الأصول الأولى للأمة العربية: مصر و جزيرة العرب و أرض مابين النهرين و سورية, أو باختصار وادي النيل و الأهليلج الخصيب, هذه الأقطار كانت منذ أقدم العصور مسرحاً للهجرات المتقابلة فيما بينها للبشر الذي قطنها.  و ان هذا يعني بوضوح أن تلك الأصول تكونت بعملية تاريخية واحدة هي قيام المشاعات البدائية في منطقة الاقطار المذكورة, ثم توزعها على هذه الأقطار وتفاعلها فيما بينها, واختلاطها عدداً كبيراً من المرات طوال العهود التي قام فيها طور المشاعة.  وفي نهاية الأمر برز في كل قطر من الأقطار الآنفة الذكر رافد متميز من روافد الأمة العربية.  ولم يقف التفاعل بين هذه الأصول ليسير كل واحد منها في طريق يبعده عن الأخرين, بل استمر و اشتد على الدوام بتقدم الوسائل المادية للاتصال.  ثم امتدت التفاعلات الى أقطار أبعد, فبرزت روافد أخرى للأمة العربية في وسط وشمال أفريقيا منذ حقب متقدمة من طور الرق, منذ ذهب ملوك مصر يبحثون عن الذهب و الثروات الأخرى في السودان مثلاً ومنذ ذهب الفنيقيون يقيمون مدنهم في الساحل الشمالي لأفريقيا.

 

4-   أرض اللبن و العسل

إن منطقة الأهليلج الخصيب ووادي النيل من الوطن العربي تتحكم بطريقين عالميين واسعي الشهرة: طريق التوابل الذاهب الى المحيط الهندي عبر البحار العربية أو بواسطة القوافل البرية عبر وديان الأهليلج الخصيب, و طريق الحرير الذاهب الى الصين براً.  لذلك اضطلعت الروافد العربية الأولى بحكم هذا الموقع الهام لأوطانها بدور الوسيط العالمي بين مشرق العالم المعروف ومغربه, فكانت القيم و الثروات تمر عبر تلك الأوطان و تتدفق فيها حتى جعلتها تشتهر عالمياً بأنها "أرض اللبن و العسل".  وهي اليوم أرض الطاقة المحركة للإنتاج و الاتصال العالميين.  كذلك غدت هذه الأرض موضع طمع الطامعين في كل عصور التاريخ حتى يومنا هذا.  وقد أتاح هذا الوضع المادي لتلك الروافد الأولى لأمتنا العربية بأن تسبق في اقامة الحضارات الانسانية الشهيرة, كما فرض على سواد انسانها تحمل عبء الطامعين من الأهل و الغرباء, و الجهاد من أجل تحقيق التقدم المادي لهذا الانسان وتحقيق تحرره الروحي بتحرير مجتمعاته من جمود وثنيات أولئك الطامعين.  فقامت فيهم ثورات التوحيد الكبرى الداعية إلى تساوي الناس، وذلك انسجاماً مع دورهم في الجملة الإنسانية كوسطاء عالميين. وكانت البحوث التاريخية وما تزال حتى يومنا هذا تركز، عندما تنصفنا وتعترف لنا بميزة إقامة الحضارات، على بريق هذه الحضارات وجمالها، وفي هذا التركيز أنصاف وصواب، ولكنه من جهة أخرى يهمل وجهاً أساسياً يقوم وراء هذا الجمال وذلك البريق وهو جهاد أقوامنا ومعاناتهم المريرة الدائمة في سبيل تصحيح المسيرة الإنسانية التي طالما حرفها الطامعون وشوهوها بعدوانهم و عبودياتهم ووثنياتهم.  إن إنسان الروافد الأولى لأمتنا العربية رفع بثورات التوحيد احترام العقائد الصحيحة الصادقة المحررة لنفس الإنسان من كذب وجمود الوثنيات ومن أطماع الوثنين إلى مرتبة القداسة الدينية.  ونحن في هذا البحث نحاول جهدنا لإلقاء الأضواء بشكل خاص على هذه الناحية الهامة من تاريخ أمتنا و تاريخ جملة المجتمعات الانسانية بشكل عام.

 

5-   دار الإسلام

لقد بنت أمتنا بثورتها الإسلامية على النظام العبودي العالمي هذه الدار التي وحدت الانسانية لأول مرة في التاريخ في جملة مجتمعات انسانية واحدة, وفتحت الأبواب لانجازات حضارية غنية عن التعريف ومن العبث محاولة عرضها في بحث واحد لضخامتها الهائلة.  وكان انطلاقها لانجاز عملية البناء العالمية هذه من الشرعية التي قامت وترسخت على تضحيات الانسان وجهاده الذي ما انقطع طوال دهور التاريخ, ولن ينقطع أبداً لأنه قانون الوجود و التقدم, نقول على هذا الجهاد وتلك التضحيات في سبيل الخلاص من أنظمة الأقليات المتفرعنة التي طالما سببت الشقاء للبشر بعدوانيتها.  فكانت تلك السلسلة الطويلة من ثورات التوحيد التي كان شعارها الأزلي: "وحدة الانسان و قوته تحت جناح الحق الدائم في مواجهة مذلة الاختلاف تحت حكم الباطل الظالم الذي تفرضه دوماً تلك الأقليات المتألهة".  و هذه الشرعية, شرعية الأكثرية الساحقة للبشر المكتوية دوماً بالحرمان وقهر الظالمين, تختلف كلياً عن شرعية السيد بوش و أهله من الأحتكاريين الذين طالما باد أمثالهم عبر مراحل التاريخ.

 

أننا في النتيجة لانفخر إلا بما عانت و جاهدت في سبيله أمتنا وهو إعادة ما أنجزه المجتمع الانساني الى المجتمع الانساني بكل طريقة تناسب الحضارة القائمة, وذلك لا يكون إلا بتعارف الناس بإشاعة العرف فيما بينهم و بتعاونهم و تكاملهم و تكافلهم في إطار قانون تكافؤ الانسان وفرصه.  فالإسلام هو بالتعريف كل ثورات التوحيد وهو, على عكس مايدعيه الوثنيون محتكرو العقائد من كل النحل الى جانب محتكري أرزاق البشر و حاجاتهم, الآمر باحترام الذات الانسانية الفردية و الجماعية و عدم انتقاصها بأي شكل من الأشكال.  وهذا لا يكون بنظر الإسلام إلا بتوفير الظروف ليقوم الفرد بدوره في جماعته و تقوم الجماعة بدورها في مجتمعها و الأمة بدورها بين الأمم في إطار جملة المجتمعات الانسانية.

 

                                                                                      الفريق عفيف البزري