الفصل الأول

 

الاسلام يكافح شرك قريش ووثنية اليهود

 

ملتقى طرق التجارة العالمية

 

قامت الجزيرة العربية بوظيفة موزع الحركة التجارية العالمية منذ عصور موغلة في القدم: عندها تلتقي الطرق البرية والبحريةللقوافل الآتية من مشرق العالم القديم ومغربه. وقد مر معنا أن مناطقها المحاذية للبحار المحيطة بها والموفرة أكثر من مناطقها الصحراوية الداخليةأسبلب الحياة تشكل الفرع الجنوبي للأهليلج الخصيب، بينما تشكل وديان الأنهر السورية مع واديي الرافدين الفرع الشمالي للاهليلج المذكور أو ما اعتدنا على تسميته الهلال الخصيب. وفي هذا الشكل العام كانت الطرق الداخلية للقوافل التي تصل مختلف ثغور وأسواق الجزيرة بعضها ببعضها الآخر في زمن الدعوة الاسلامية تتوزع على العموم كما يلي:

1.      الطريق الجنوبي : مسقط - عكاظ، ويحاذي سواحل بحر العرب والمحيط الهندي مارا بمأرب ونجران؛

2.      الطريق اليمني: عدن - عكاظ ويلتقي بالسابق في مأرب؛

3.      الطريق الشمالي الغربي: بصرى - عكاظ، المار بمعان وتبوك وخيبر، ويمتد شمالا الى دمشق كما يتفرع غربا الى كل من القدس وغزة وايلة،

4.      الطريق الشمالي الشرقي: الحيرة - عكاظ، المار بدومة الجندل (الجوف) وتيماء وخيبر؛

5.      الطريق المتوسط: هجر في البحرين - عكاظ، المار بقلب نجد في يبرين والسليل ونجران.

أما الثغورفكان أهمها:

مسقط: ثغر آسيا الجنوبية بدءا من الهند؛

عدن: ثغر أفريقيا الشرقية بدءا من الحبشة؛

ايلة: ثغر مصر وأفريقيا الشمالية؛

غزة: ثغر البحر الأبيض المتوسط؛

معان: ثغر سوريا وآسيا الصغرى؛

الحيرة: ثغر ما بين النهرين وفارس؛

وعند قيام الدعوة الاسلامية كان في الجزيرة العربية اثنا عشر سوقا موزعة بانتظام على أشهر السنة القمرية وعلى الطرق التجارية. وكان من أشهرها تلك التي كانت تقوم حول مكة المكرمة: سوق عكاظ بين نخلة والطائف ويقوم لمدة عشرين يوما من شوال، وسوق ذي المجاز خلف عرفة، والمجنة قرب مكة ويقوم في أيام الحج. ثم أسواق دومة الجندل في ربيع الأول، وهجر في ربيع الآخر، وعمان في جمادي الأول، وعدن وصنعاء في رمضان، وحضرموت في ذي القعدة وغيرها. يقول ديورانت في قصة الحضارة:

"نحن نسمع عن التجارة بين العرب ومصر منذ عام 2745 ق.م. وأكبر الضن أن الاتجار مع الهند ما كان يقل قدما عن الاتجار مع مصر. وكانت الأسواق والمواسم السنوية تستدعي التجار الى هذه المدينة تارة والى تلك تارة أخرى. وكان يجتمع في سوق عكاظ الشهيرة القريبة من مكة مئات التجار والخطباء والشعراء".

ولا يقوم السوق ولا تجري معاملاته الا في حد أدنى من التراضي بين الناس، ووجوده غير ممكن الا في أجواء السلام. انه يجسد الدرجة التي يبلغها الانسان لتحقيق طموحه الى التعارف والتعاون والتكامل، ويعبر عن الشوط الذي الذي قطعه البشر في تقدمهم المادي والروحي نحو قيام هذا الشعار في الواقع بكل أبعاده. ثم انه كان لا بد من قيام عمليات تبادل السلع والخدمات في السوق اعتبارا من المرحلة التي تخلص فيها الانسان من الاقتصاد الطبيعي الذي يستهلك فيه ما ينتجه هو نفسه وذلك كي يتمكن نوعه من البقاء والارتقاء بأحواله. ونجد أن السوق يقترب من التوزيع العادل للقيم بمقدار اقتراب قوى المتبادلين فيه من التعادل، وهذا ما يحدث على الأخص في حالة التنافس الحر عندما تكون تلك القوى صغيرة وعديدة. وعندما ينتشر الاحتكار في الاقتصاد وتستفحل الطبقية الاجتماعية وتتصاعد الى مختلف أشكال العبودية فان القوى الموجهة لنشاط السوق تتعملق مع فقدان الضوابط الانسانية فيها وينقص عددها فيتوقف لذلك فعل قانون الأعداد الكبيرة للقوى الصغيرة في عملية التوازن ويفقد السوق مرونته وتسيطر عليه قوى طاغية تنزل بثقلها على المستضعفين. فالسوق في النتيجة هو مرآة النظام السائد في كل أوجهه المادية والروحية، وهو دوما موضع عناية النظام بكل أشكالهسعيا منهالى البقاء. كما أن الثورات الانسانية جعلت دوما من تصحيح وتحسين العلاقات فيه هدفا أساسيا من أهدافها فهو العقد الوسيط بين مختلف جماعاتها ومجتمعاتها.

ان الأقوام التي تشكلت منها روافد الأمة العربية في جملة مجتمعات البحر الأبيض المتوسط كانت أول الأقوام التي صعدت بالعلاقات الانسانية الى مرحلة تبادل السلع والخدمات القائمة على التخصص في الانتاج. فطورتالأسواق وربطتها بمختلف المواسم والأعياد، أو بالأحرى جعلت لها مواسم وأعيادالدفعها الاى الازدهار. ووفرت لها أجواء السلام في مناطقها وعلى الطرق المؤدية الى مناطقها. واكتشفت بطول الممارسة أن العيش وتنظيمه بأفضل شكل يرضي الناس ليس فقط من الأمور المادية الآلية وانما أيضا من الأمور الروحية التي تقوم عليها عقيدة توحد نفوس الناس في سلوك معين. فنجد عرب الجزيرة في جاهليتهم يتوحدون في تقديس أوقات وأمكنة مواسمهم التي تقوم فيها أسواقهم، كالأشهر الحرم مثلا ومكة التي بنوا فيها الكعبة  وملؤوها بمعبودات مختلف أقوامهم وجماعاتهم.  وقد سبقوا كل الأقوام الأخرى في جملة مجتمعات البحر الأبيض المتوسط في هذه الأمور فعلموهم اياها: ان الكعبة مثلا وجدت قبل أولمب اليونان ومجمع آلهتهم هناك بالعديد من القرون، كما تقدمت أيضا على هيكل سليمان، فقامت أعيادها ومواسمها ونظمت أسواقها منذ عهود موغلة في القدم. وقد أقر الاسلام الجوهر الذي قام عليه نظام تلك المواسم وزاد بأن جعل حج بيت الله الحرام بعد العمل على تطهيره من الأوثان ركنا من أركانه. فالقرآن الكريم أشار الى قدم البيت ونص على فريضة الحج بالآيتين التاليتين:

"ان أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين. فيه آيات بينات مقام ابراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على الناس حج البيت من استطاع اليه سبيلا ومن كفر فان الله غني عن العالمين".

آل عمران 96، 97

ونقرأ في تفسير الجلالين، جلال الدين المحلي وجلال الدين السيوطي، أن الباء في عبارة "للذي ببكة" الواردة في الآية لغة في مكة  اتدل هذه التسمية على أن أعناق الجبابرة تبك هناك أي تدق. فازالة التألهين مستعبدي الناس والمتعالين عليهم مع نظامهم تقترن اذن بنظر القرآن الكريم بالتوحيد (الذي قلنا أنه ثورة على العبودية بكل أشكالها) وتقترن أيضا بالبركة والهدى الى الصواب للبشر أجمع وبأمن الناس وسلامهم. ولننظر الى الواقعتين التاليتين اللتبن تعطيان الصورة التي كانت قريش تنظر بها مع بقية عرب الجزيرة الى مكة ومواسمها في عصر الدعوة الاسلامية. فنقرأ في نور اليقين للخضري ما يلي:

حرب الفجار: أيام الفجار أربعة الأول كان بين كنانة وهوازن، والثاني بين قريش وكنانة، والثالث بين كنانة وبني نضر بن معاوية والفجار الأخير بين قريش وكنانة كلها... وجمعت قريش جموعها وكان رئيس بني هاشم الزبير بن عبد المطلب ومعه إخوته أبو طالب  والحمزة والعباس وابن أخيه النبي الكريم، وكلن على بني أمية حرب بن أمية، وله القيادة العامة لمكانه في قريش شرفا وسنا. وهكذا كان على كل بطن من قريش رئيس ثم تناجزوا الحرب، فكان يوما من أشد أيام العرب هولا؛ ولما استحل فيه من حرمات مكة التي كانت مقدسة عند العرب سمي يوم الفجار...

حلف الفضول: وعند رجوع قريش من حرب الفجار تداعوا لحلف الفضول فتم في دار عبدالله بن جدعان التميمي أحد رؤساء قريش، وكان المتحالفون بني هاشم، وبني المطلب ابني عبد مناف، وبني أسد لبن عبد العزى، وبني زهرة بن كلاب، وبني تيم بن مرة تحالفوا وتعاقدوا الا يجدوا بمكة مظلوما من أهلها أو من غيرهم من سائر الناس الا قاموا معه حتى ترد اليه مظلمته، وقد حضر هذا الحلف رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أعمامه، وقال بعد أن شرفه الله بالرسالة: "لقد شهدت مع عمومتي حلفا في دار عبدالله بن جدعان ما أحب أن لي به حمر النعم ولو دعيت به في الاسلام لأجبت". وقد دعا بهذا الحلف كثيرون فأنصفوا.

والفضول هي فضول القيم التي تنتقل ظلما من أحد البيعين الى الآخر وكل ما شابه هذا في مختلف العقود والاتفاقات المبرمة. فنرى اذن أنه تشكل قبيل الدعوة الاسلامية جبهة تسهر على رفع الحيف وتحقيق الانصاف في المعاملات الجارية في أسواق مكة وخاصة أيام المواسم. وعندما جاء الاسلام أيد هذا السلوك وجعل من المعاملات والعقود المنصفة نصف الدينالى جانب النصف الآخر الذي هو العبادات. فكان النبي يردد دوما: "بعثت لأتمم مكارم الأخلاق". وقال عندما بركت ناقته في مهبط الحديبية بثنية المرار أثناء تلك الغزوة: "..حبسها حابس الفيل. والذي نفس محمد بيده لاتدعوني قريش لخصلة فيها تعظيم الحرمات الا أجبتهم اليها". والخلاصة أن أقوام الجزيرة العربية منذ ما قبل الاسلام بأزمنة طويلة وعوا تماما الأهمية الحاسمة لجزيرتهم ولدورهم العالمي فيها ففعلوا كل ما يجب عليهم فعله لتأدية هذا الدور على أفضل وجه يتناسب مع الظروف والامكانات القائمة. وبهذا أعدوا كل العناصر المادية والمعنوية لقيام الثورة الاسلامية العظمى التي قضت على النظام العبودي العالمي ووحدت الانسان في جملة مجتمعات انسانية واحدة.

اليهود في جزيرة العرب

انتشر اليهود، كعادتهم في التمركز على الطرق التجارية الهامة وحيث تنشط الأعمال، في جزيرة العرب، وعلى الأخص في اليمن والحجاز. ولعل هذا الانتشار بدأ في القرن العاشرقبل الميلاد، في أثر قيامالعلاقات التجارية الوثيقة المنظمة بين مملكة سبأ ومملكة سليمان الذي قالت التوراة أن بلقيس قد زارته لهذه الغاية فقام في النتيجة اتحاد الممالك التجارية الذي ضم ممالك صور وسبأ وامتد من البحر الأبيض المتوسط الى المحيط الهندي. وقد استفحل نفوذهم في اليمن التي كانت في الجاهلية، بالاضافة الى زراعتها المتقدمة محطة تجارية هامة طالما تنافس الروم والفرس على إلحاقها واحتوائها والتي غدا فيها اليمني بنظر العربي مرادفا للتاجر فيقول امرؤ القيس مثلا في معلقته:

 

وألقى بصحراء الغبيط بعاعه نزول اليماني ذي العياب المحمل

 

هنا شبه الشاعر نزول المطر الذي أنبت الكلأ والأزهار بألوانها المختلفة بنزول التاجر اليماني الذي فتح حقائبه ونشر ما فيها من بضاعة مختلفة الألوان (من شرح الزوزني). نقول أن أمر اليهود قد استفحل هناك عندما اعتنق ذو نواس ملك الحميريين اليهودية حوالي عام 520 ميلادية. ولكن هذا الملك فام بمجازر وحشية ضد المسيحيين في نجران أدت الى فقده استقلال بلده بتدخل الحبشة المسيحية واحتلالها اليمن ثم تدخل الفرس الذين طردوا الأحباش منها وأقاموا واليا عليها من قبلهم. وقد شجب القرآن الكريم بشدة تلك المجازر التي كان يصنع فيها للمسيحيين أخدودا (شقا في الأرض ) تضرم فيه النيران ويلقى فيه بالمسيحيين أحياء بينما كان أولئك السفاحون يجلسون على الكراسي حول الأخدود يتسلون بمشهد عذابهم (سورة البروج). ثم انه هنالك سلسلة من الوديان تبدأ من وادي العقيق في منتصف الطريق بين مكة ويثرب وتصل الى وادي  الجزل في منتصف الطريق بين يثرب وتبوك. وتتفرع هذه السلسلة في شماليها باتجاه شمال شرق بواد يمر بالعلا ومدائن صالح وتيماء التي تطل على صحراء النفود الكبرى وتقع على الطريق التجاري المار ذكره أعلاه والذاهب الى وادي الرافدين باتجاه الحيرة. وتقع يثرب في هذه السلسلة من الوديان التي يمر بها طريق مكة التجاري الى الشام والعراق. كما أن وادي القرى يشكل الجزء الأعمق والأخصب منها. وسمي بهذا الاسم لاحتوائه حينذاك على عدد من القرى الزراعية - الحرفية- التجارية. وهذا الوادي الأخيرمفتوح على الغرب بوادي الحمض المؤدي الى مدينة الوجه على البحر الأحمر. وتقع يثرب على المشارف الجنوبية لوادي القرى بينما تقع كل من خيبر وفدك على مشارفه الشرقية.فاليهود قبل الرسالة كانوا يتوضعون بقوة في هذه المنطقة من الحجاز التي لا تضاهيها في هذا القطر منطقة أخرى من حيث الأهمية الاقتصادية، كانت منطقة الزراعة والحرفة والتجارة من يثرب الى خيبر ففدك فوادي القرى فتيماء. يضاف اليها منطقة اليمن التي تكملها في أهميتها الاقتصادية. هنا لابأس من الاستطراد والقول بأن وجود اليهود في الجزيرة العربية بهذا الشكل هو بينة قوية الى جانب ما لايحصى من بينات على بطلان دعواهم "بالشتات" وعلى تأكيد أنهم انما خرج من خرج منهم من فلسطين بمحض إرادته على العموم. فقبل الاسلام (كبعده) لم يأت أي عربي الى فلسطين ليحمل اليهود قسرا الى الجزيرة العربية . ونكرر مرة أخرى القول بأن اليهود كغيرهم من البشر (وليس وحدهم فقط كما توهم أكاذيبهم ودعاياتهم) عانوا من العدوان والأسر والنفي والتشريد، ولكن هذا جميعه ما كان سببا لاختفائهم وزوالهم من فلسطين والسبب هو أنهم زالوا هناك كدين وليس كلنسان (كما زال مثلا وثنيو قريش) فتحول بعضهم الى المسيحية وبعضهم الى الاسلام. وقد هاجر أيضا بملء إرادته كثيرون منهم الى أقطار أخرى. وها هو ديورانت الذي لايترك مناسبة في قصة الحضارة دون الاشادة بهم وتمجيدهم يقول في بحثه هذا: ".. ولما استولى صلاح الدين على بيت المقدس عام 1187 أعقب ذلك ازدياد كبير في عدد اليهود، واستقبل الملك العادل أخو صلاح الدين ثلثمائة من أحبارهم الذين فروا من انجلترة وفرنسة استقبالا حسنا. ولكن ابن نجمان لم يجد فيها بعد خمسين عاما من ذلك الوقت الا حفنة صغيرة من اليهود، ذلك أن سكان بيت المقدس كانوا قد أصبحوا كلهم تقريبا من المسلمين (دون حدوث أي إكراه أو نفي أو اضطهاد) .. وظل اليهود كثيري العدد في سورية وفارس والعراق رغم اعتناق عدد منهم دين الاسلام". وكثير من العرب المسلمين مثلا تنصروا وبقوا في اسبانيا على الرغم من كل المذابح والمحارق التي أوقعها بهم الغزاة المسيحيون، كما أنه في سنة أربعين ميلادية كان اليهود يشكلون نحو أربعين بالمائة من سكان الاسكندرية وما كانت العودة الى فلسطين ممنوعة فبقوا مع ذلك حيث هم في ذلك الثغر الذي كان على غاية من الأهمية الاقتصادية بحيث نافس عاصمة الامبراطورية روما في ازدهاره. أما اليوم ففي أميركا منهم ضعف ما في كل من فلسطين وروسيا، فما الذي يمنع هؤلاء اليهود الأميركيين من "تلك العودة " التي يتباكون عليها؟.. يمنعهم كونهم أغراب عن فلسطين تاريخيا وجنسا وتمنعهم الصهيونية التي يقضي مخططها أن يكون لها عدد كاف يعزز نفوذها في هذا البلد الذي يتزعم حاليا النظام الرأسمالي العالمي اقتصاديا وسياسيا.

ان من أشد العقبات التي تعترض طريق الثورات الكبرى التي تدفع بجملة المجتمعات الانسانية من طور الى طور أعلى، أو تدفعها للسير في مرحلة انتقال الى الطور الأعلى، هي القوى الوارثة لعقائد كانت في ماضي الزمان ثورة على الفساد والتخلف المادي والروحي، ثم تجمدت بفعل الأيام وأصابها العقم والتشويه والانتهاز والدجل بحيث تغدو في نهاية الأمر وثنية تسحق بثقلها الناس مع أنها قامت في الأصل لنفعهم وخلاصهم. فالرجعيون ورثة الثورات الخامدة، الذين يتسلحون بعقائد جامدة شوهاء، ولكنها تبقى متماسكة وخادعة يشكلون دوما في كل مراحل التاريخ أعداءا خطرين للثورات ولكل تغير نحو الأفضل : انهم باسم خلاص الانسان يسحقون الانسان وهم بما لديهم من بقايا أفكار انسانية كانت جملتها ثورة قديمة يخدعون كتل البسطاء من الناس ليتخلى هؤلاء عن انسانيتهم ويمدوا بأعناقهم لتطوقها أغلال عبودية جديدة. فالدعوة الاسلامية عند قيامها لم تصادف شرك قريش وبقية العرب فقط وانما وجدت في طريقها أيضا ديانات التوحيد الأخرى بكل ما خلفته فيها القرون الطويلة من تشويه لمحتواها وتعطيل لجوهرها الصافي الذي قامت به  وهو: الكفاح من أجل أخوة البشر والقضاء على العبودية بكل أشكالها. فشرك قريش والعرب الآخرين ما كان في واقع الأمر الا العقبة الأولى في طريق الاسلام نحو القضاء على الطور العبودي أما العقبات الكبرى والأساسية فكانت العبودية العالمية القائمة في منطقة البحر المتوسط على عقائد توحيد منحرفة: مسيحية الروم وزرادشتية الفرس التي غلبتها المجوسية واليهودية التي كان لها ذلك الامتداد القوي الموصوف أعلاه في جزيرة العرب.

قلنا أن اليهود انتشروا في الحجاز، في يثرب وخيبر وغيرها. وامتهنت هذه الجماعات التجارة ومختلف الحرف والزراعة. وشاعت فيها اللغة العربية التي غدت لغتها الوحيدة بمرور الزمن، غدت لغة الأم. وكان فيهم شعراء مجيدون بها كالسموءل مثلا صاحب الخبر المشهور مع امرؤ القيس، وكأبي عفك الذي كان يهجو الرسول بشعره فأمر بقتله وغيرهما.وقد قطن في يثرب ثلاث عشائر: بنو قينقاع والنضير وقريظة. وكانت كل واحدة منها تحالف فئة تناسبها من عرب المدينة. كان بنو قينقاع وبنو النضير مثلا عند إجلائهم عن يثرب حلفاء الخزرج. أما بنو قريظة فكانوا حلفاء الأوس. وكانت يثرب تقوم في عصر النبي صلى الله عليه وسلم على مجموعة قرى، فكان لكل عشيرة من العشائر اليهودية الثلاث الآنفة الذكر قريتها التي تتحصن بها. وعندما وصل النبي مهاجرا اليها عقد مع اليهود عهدا بترك الحرب والأذى، وأن لايعينوا عليه أحدا، وان داهمه عدو ينصرونه، ولهم شأنهم ودينهم. ولكن الاسلام منذ بدئه ما كان مريحا لليهود. فالعرب أصبحوا به أصحاب كتاب يصحح كثيرا من انحرافات عقيدتهم الكتابية ويعيب تلك الانحرافات كما ينسخ ما لا يتلاءم من هذه العقيدة مع تقدم العصر. ولكن أشد ما كان يخيفهم هو أن الاسلام بتقدم دعوته وتكامل نظامه أخذ يغير كل المعالم المادية والروحية "للمناخ" الاجتماعي "للتربة" التي كانت تقوم فيها كياناتهم. فكان عداؤهم يتصاعد بتصاعدقوى الاسلام واتساع نفوذه وهيبته، كما أن تلهفهم على بقاء الشرك وانتصاره، تلهفهم على بقاء تلك البيئة التي قامت فيها كياناتهم الطفيلية، يشتد بعد كل انتصار يحرزه النبي على المشركين كاشفين بهذا عن وثنيتهم التي كانوا يغطونها (وما يزالون) بغطاء شفاف من الطقوس والشعائر الفارغة التي يقدمونها على أنها نتيجو الجهاد المرير الذي قام به موسى عليه السلام من أجل خلاص الانسان من كل وثنية وعبودية. ولكن وثنيتهم هذه التي قامت على تجميد الموسوية وحرفها لخدمة مصالح كهنتهم وأسيادهم كانت ككل عقيدة مشابهة تحاول مزج الباطل بالصحيحتقودهم الى سلوك متناقض في الحياة وتجعل منهم شيعا متعددة متعادية. فوجدناهم مثلا وهم يدعون الوحدانية يحالفون الوثنيين ضد الموحدين المسيحيين والمسلمين. ورأيناهم يحرمون العبودية بين أبناء عقيدتهم ويحلونها تجاه الانسان من غير ملتهم (في ذات الوقت الذي يجعلون فيه أحوال المستضعفين منهم كأحوال العبيد وأسوأ). وهم يحرمون قتل بعضهم بعضا في الوقت الذي يشنون فيه حروب الجاهلية ضد بعضهم بعضا الخ... ان موسى عليه السلام قام بدعوته لتحرير العبيد والمستضعفين بشكل مطلق. فوجدناه يؤسس لهذا الهدف العظيم قاعدة انطلاق في سيناء ووجدنا خلفاءه من يوشع الى القضاة ينشئون اتحاد مدن العبيد والمستضعفين الذي وقف ندا  زهاء قرن من الزمان للنظام العبودي برمته في المنطقة قبل أن ينحرف به الورثة الاقطاعيون ويحولوه الى دولة عبودية تنخرط في النظام العبودي العام. وأتى كتبة التوراة فيما بعد ليجعلوا من هذا الانحراف عقيدة ودينا فيقولون أن الخلاص من العبودية هو لليهودي فقط ويحلون ما حرمه الله ودعا موسى الى الجهاد من أجل الخلاص منه، الخلاص من استعباد الانسان بكل أجناسه. فاليهود عند قيام دعوته ما كانوا بداهة موجودين ولا يمكن مسخ هذه الدعوة وتحويلها الى "مؤامرة" لاطلاق من اتبعها فقط من العبيد والمسخرين فهي دعوة عامة ككل الدعوات التاريخية الكبرى لتغيير النظام برمته وتحقيق أخوة البشر عامة دون التمييز فيما بينهم "بشعب مختار" مثلا. وقد كشف القرآن الكريم عما خلفته انحرافاتهم عن دعوة موسى عليه السلام من تناقضات في سلوكهم، منها مثلا الموقف الذي وضعوا أنفسهم فيه عندما حالف قسم منهم قبل الاسلام الخزرج المشركين وقسم آخر الأوس المشركين. وكانت العداوات فيما بينهم والحروب تؤدي الى أن يقع بعضهم في عبودية الأوس والخزرج الذين كانوا يجرون الى تلك الحروب بنتيجة الحلفين المذكورين، بالاضافة الى أن اليهودي كان عندئذ يقتل اليهودي وينهب ممتلكاته ويخرجه من أرضه وينفيه الأمور التي حرمتها التوراة.الا أنهم في نهاية كل حرب كانوا يفتدون الأسرى منهم عند الأوس والخزرج وذلك تظاهرا منهم بطاعة كتابهم الذي يأمرهم بالقيام بمثل هذا الأمر في الوقت الذي كانوا يعصون هذا الكتاب بشن بعضهم الحروب ضد البعض الآخر. وقد جاء القرآن الكريم يندد بشدة بهذه الأخلاقية ويسخر من هذا السلوك المتناقض، بحسب ما اتفق عليه المفسرون كالجلالين وابن كثير وغيرهم:

"واذ أخذنا ميثاقكم لاتسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم  ثم أقررتم وأنتم تشهدون. ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظهرون عليهم بالإثم والعدوان وإن يأتوكم أسرى تفتدوهم وهو محرم عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون الى أشد العذاب وما اللهبغافل عما تعملون. أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون".

البقرة 84- 86

 

اليهودية حليفة الشرك ضد التوحيد

كان انتصار المسلمين ببدر ومصرع عتاة الشرك فيها كأبي جهل وأمية بن خلف وابنه علي وعتبة وشيبة ابني ربيعة وغيرهم باعثا على انفجار غيظ اليهود وبروز كوامن حقدهم وكرههم للاسلام والمسلمين. فكعب بن الأشرف أحد سادة بني النضير مثلا، عندما رأى أسرى مشركي بدر مقيدين في الجبال في موكب العودة الظافرة للنبي الى المدينة، خرج الى قريش يبكي قتلاهم ويحرضهم على الثأر من المسلمين وراح ينظم الشعر بهجاء النبي. وقد فعل مثله الشاعر اليهودي الآخر أبو عفك. أما بنو قينقاع فقد ذهبوا بالشر الى أبعد من الكلام، الى الفعل. فنبذوا ما عاهدوا عليه الرسول وأخذوا يتحرشون بالمسلمين. فاعتدوا مثلا على امرأة أنصارية كانت تمر ببعضهم بأن مزقوا ثوبها وأخذوا يضحكون منها. عندئذ دعا النبي رؤساءهم وحذرهم عاقبة نكث العهد والعدوان على المسلمين. فما كان منهم الا أن قالوا: "يا محمد لايغرنك ما لقيت من قومك فانهم لاعلم لهم بالحرب ولو لقيتنا لتعلمن أنا نحن الناس". وكان جوابهم المتغطرس هذا يدل بوضوح على ما كانوا يبيتون من غدرونبذ للعهد الذي كان قائما بينهم وبين المسلمين. وقد أشارت الآية الكريمة التالية الى هذا الخبر:

"قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون الى جهنم وبئس المهاد. قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين والله يؤيد بنصره من يشاء ان في ذلك لعبرة لأولي الأبصار".

آل عمران 12، 13

كان المسلمون في ذلك الوقت يواجهون بثورتهم، التي حققت حينذاك أول انتصار عسكري كبير لها ببدر، حلفا غير مكتوب ولكنه قائم من الناحية العملية وأطرافه: المشركونوعلى رأسهم قريش واليهود الذين أعطينا أعلاه ملامحهم العامة والمنافقون. وكان يساكنهم في يثرب العدوان الأخيران اللذان طالما تعاونا وقاما بالدس والافتراء والفساد في صفوف المسلمين والتجسس عليهم لصالح العدو الثالث قريش. وكان هذا العدو حينذاك لايهدأ في تأليب كشركي العرب على المسلمين وفي جمع الجموع وتجهيز الحملات العسكرية لاستئصال الاسلام. فبعد أقل من مضي أربعة أشهر على بدر نجد أبا سفيان يعد لمعركة أحد. فقد أتى على رأس قوة خفيفة ليستطلع مواقع يثرب وأحوالها، ويقوم أيضا بعرض قوة وتحد للمسلمين، قبل مجيئه لقتالهم في أحد بنحو عشرة أشهر. فاتصل بقادة اليهود مثل سلام بن مشكم، وأرسل بعض رجاله الى مزارع المسلمين حيث قاموا بقتل أنصاري وحرق بعض أشجار النخل، ثم عاد مسرعا في اتجاه مكة. ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يتخذ الموقف السلبي أمام هذا التحدي بل سارع بمطاردة المشركين المذكورين الذين أخذ انسحابهم شكل الفرار فكانوا يلقون بأثقالهم وحتى بأغذيتهم التي كانت تتألف من السويق (وهو طحين معجون بالسمن والعسل) للتخفيف عن دوابهم وزيادة سرعتها في الهرب . ولذلك سميت هذه الواقعة غزوة السويق. فالاسلام كان يمر اذن في ظروف خطيرة في أعقاب بدر حيث تكالب عليه أعداؤه: المشركون واليهود ، مدعو التوحيد والمنافقون. فكان لابد من المبادرة بدءا من ضرب أخطر الأعداء في يثرب مدينة المسلمين وموئلهم. وقد ورد هذا الأمر بالآية التالية:

"وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ اليهم على سواء ان الله لايحب الخائنين".

الأنفال 56

وهذا يعني أمرا للرسول بطرح العهد قبل مناجزة بني قينقاع الحرب كي يكونوا على علم بالأمر ولا يؤخذوا غدرا بدلالة جملة "ان الله لايحب الخائنين". وقد تبرأ من حلف هذه العشيرة اليهودية الصحابي عبادة بن الصامت أحد رؤساء الخزرج عندما وصلت الأمور الى الحد الذي أوجب على النبي طردهم من يثرب، بينما تشبث بحلفهم المنافق عبد الله بن أبي. وكان بنو قينقاع يعتمدون على مثل هذا الخلاف  لشق صفوف المسلمين عندما عاندوا النبي عليه السلام. الا أن النبي لم يمهلهم وأخذهم بكل حزم فسار اليهم في منتصف شوال من السنة الثانية هجرية وحاصرهم واضطرهم في النتيجة الى الرحيل من الجزبرة العربية وذهبوا الى أذرعات(درعا السورية حاليا وليس القرية السورية أزرع كما ورد في بعض كتب التاريخ). وهذه المدينة هي عاصمة حوران التي كانت تدعى أهراء روما لخصوبة أرضها ونشاط سوقها.

وكانت العلاقات بين المسلمين وبين بني النضير ، العشيرة اليهودية الأخرى التي كانت تحالف الخزرج كعشيرة بني قينقاع الآنفة الذكر، تتفاقم بتوالي الأيام وتوطد الكيان الاسلامي في الجزبرة العربية:

"ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاق الله فان الله شديد العقاب".

الحشر 4

وحاولت هذه الفئة اليهودية بعد نكسة أحد أن توجه ضربة للاسلام باغتيال الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك بطرح صخرة عليه من فوق سطح بيت كان من المتوقع أن يمر بحذائه. وقد وصل خبر هذه المؤامرة الى المسلمين فأحبطوها. وفي إثر ذلك أنذرهم النبي بالرحيل وترك يثرب ، على أن يأخذوا أموالهم ويقيموا وكلاء على بساتينهم ومزارعهم. ولكن المنافق عبدالله بن أبي حرضهم على الرفض ووعدهم بالمساعدة فيما لو تعرضوا لهجوم من قبل المسلمين. وقد أطاعوه في تحريضه لهم فسار عندئذ النبي وحاصرهم وقطع غراس نخلهم. أما المنافقون الذين وعدوهم بالمساعدة فقد تركوهم ولم ينصروهم:

"ألم تر الى الذين نافقوا يقولون لاخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبدا وان قوتلتم لننصرنكم والله يشهد أنهم لكاذبون. لئن أخرجوا لايخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ولئن نصروهم ليولن الأدبار ثم لاينصرون".

الحشر11، 12

واشتد عليهم الحصار ودب الرعب في قلوبهم فسلموا بشروط أشد من تلك التي عرضت عليهم ورفضوها وهي : "أخذ ما تستطيع ابلهم حمله من المنقولات دون السلاح الذي يسلم الى المسلمين. والتخلي عن مزارعهم وبساتينهم". ثم خرجوا بعد أن هدموا بيوتهم بأيديهم وذهبوا الى خيبر، وذهب بعضهم الى أذرعات لاحقين بمن سبقهم اليها من بني قينقاع.

عندما عاد المشركون من أحد أخذوا يتلاومون ويقولون فيما بينهم أن نصرهم لاقيمة له ما دام محمد حيا وما دام الاسلام قائما في المدينة. وتقول كتب السيرة أن رؤساء بني النضير لم يهدأ لهم بال بعد طردهم من المدينة وعملوا كل ما بوسعهم لتجهيز حملة تقضي على الاسلام فيها. فقام وفد منهمومن أهل خيبر الى مكة لتحريض قريشعلى تنفيذ هذا المشروع بإقامة حلف من المشركين ووعدوهم بالعمل على ضم ما بقي من يهود في يثرب، وهم بنو قريظة ، الى هذا الحلف . وذهب الوفد المذكور الى غطفان وأقنعوها بالانضمام الى الحلف بعد أن أخبروها بأن قريشا قد قبلت بتزعم الحملة على يثرب التي ستهاجم من خارجها بالمشركين من العرب ومن داخلها باليهود من بني قريظة. وكان في الوفد اليهودي حيي بن أخطب سيد بني النضير وأبو رافع سلام بن أبي الحقيق سيد أهل خيبر الذي كان لقبه تاجر أهل الحجازلاتسلع أعماله التجارية ولثروته الطائلة. ثم أن أبا سفيان سأل حيي بن أخطب هذا عندما كان مع الوفد المذكور في مكة يحرض قريش على استئصال الاسلام من يثرب فيما اذا كان توحيد محمد خير من شركه فأجابه حيي: "كلا ان دينكم خير من دينه، أقول هذا وأنا من أهل الكتاب" الخ.. وبنتيجة مساعي اليهود ومشركي قريش قام حلف الأحزاب وانضم اليه بنو قريظة. وكانت النتيجة بعد هزيمة الأحزاب أن طهرت يثرب من كل أعداء الاسلام بالقضاء على القريظيين:

"وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم وقذف في قلوبهم الرعب فريقا تقتلون وتأسرون فريقا.وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطؤوها وكان الله على كل شيء قديرا"

الأحزاب 26، 27

وكانت النتيجة أن برز الاسلام في يثرب وفيما حولها القوة الوحيدة التي لاينافسها منافس. وهذا وضع جديد تمامافي الجزيرة العربية التي كانت تنتشر فيها "المدن الجمهورية" التي عرفت مثيلاتها في اليونان قبل قيام امبراطورية الاسكندر. لقد كانت يثرب قبل الاسلام مدينة زراعية على الشريان النجاري الكبير الذاهب من مكة، القلب النابض للتجارة العربية، الى الشام والى ما بين النهرين. ولكن سكان يثرب ما كانوا قبل الاسلام يشبهون قريش في وحدتهم وتجانسهم. كان القتال لايهدأ بين القبيلتين الرئيسيتين الأوس والخزرج. كما لم يكن كل سكانها عربا كمكة، وانما يساكنهم يهود يتخاصمون فيما بينهم أيضا. أما بعد غزوة الخندق، وانهاء وجود اليهود فيها، وكانت قبل هذا القبيلتان: الأوس والخزرج قد انتهتا الى أخوة الاسلام، نقول أن يثرب برزت أمام العرب بعد الخندق ليس فقط كند لمكة وانما أيضا كقوة صاهدة يصعب حينذاك تخمين الحدود التيستقف عندها. لقد أصبح حينذاك للتوحيد الثائر على وثنية العبودية وعلى التوحيد المشوه المنحرف الى خدمة العبودية مدينته الخالصة لسلطته. وكان هذا الوضع مقدمة لصلح الحديبية العظيم، مقدمة للفتح العظيم الموصوف بسورة الفتح من القرآن الكريم، الفتح الذي حيد قريش موقتا وأنهى وجود الوثنية اليهودية في الجزيرة العربية بطردها من خيبر ووادي القرى وتيماء، ثم أسقط وثنية قريش بضم مكة الى الاسلام وتحطيم أصنامها البشرية والحجرية.

ان التوحيد لا ينفصل أبدا عن الايمان والعمل على تحرير البشر من كل أشكال العبودية الآيلة كلها الى وضع مصير الانسان وقدره بيد طغمة باغية مستغلة تتأله على الناس بشتى الأشكال التي تتراوح بين الشكل القديم الذي أعقب المشاعات الأولية وبين الشكل الجديد الذي يعرضه سادة النظام العالمي الحالي الذين لايكتفون بعبيدهم في معاملهم ومؤسساتهم وانما يتسلطون أيضا على أقدار الشعوب بكامل كياناتها فيمزقوها اذا شاؤوا كما فعلوا بشعبي فلسطين ولبنان أو يقيدوها بما يناسب نظامهم ومصالحهم الأنانية. وأشرنا الى أن الوثنية ترافق العبودية وتتشكل ألوانها وأشكالها عندما تقوم بخدمتها. فاليهودية ، التي جمدت الثورة الموسوية على عبودية الفراعنة وجعلت منها وثنية خدمت كل النظم العبودية التي مرت على الانسان طوال تاريخها: من عصر انحرافها حتى عصر الصهيونية الحالي، هذه اليهودية كانت مع الشرك عقبة كأداء في طريق الاسلام الى إزالة الطور العبودي. وقد كان لابد من إزالتها من جزيرة العرب لإقامة قاعدة الانطلاق لإنجاز تلك المهمة التاريخية الحاسمة في إقامة دار الاسلام وطورها الانساني. واليوم نجد أنفسنا كعرب ومسلمين غارقين في جاهليتنا المعاصرة أمام مهمة مشابهة وهي إزالة الكيان الصهيوني من فلسطين للانطلاق نحو إقامة تلك الدار التي هدمها العبوديون الرأسماليون التي ستدفع الانسان الى الطور الأعلى.