الفصل الثاني

 

دار الاسلام

 

كيف نقرأ تاريخ الاسلام

 

 ان التاريخ في كل الأحوال ، مكتوبا كان أم منقولا عبر روايات الرواة هو كما وصفه ابن خلدون: "أخبار يتطرق اليها الكذب من نواح شتى لذلك لايكفي مجرد النقل فيه بل لا بد من عرض محتوياته على معيار العقل والبرهان وشواهد التجربة والواقع، وقياسها بأشباهها لتمحيص ما خامرها من تزييف، وما داخلها من مغالط، وانساب اليها من افتراء. وكان لابد أيضا من ربط الحوادث بأسبابها، والمعلولات بعللها، فان الظروف المتشابهة تثمر نتائج متشابهة". فيجدر بنا اذن أن نتذكر هذه القواعد الثمينة لابن خلدون عندما ننظر الى ما نقل الينا من أخبار المسلمين في كل عصورهم وأحوالهم. فالصعوبة هنا في استجلاء الحقيقة لا تكمن فقط في فيض الأخبار المدسوسة عن هوى في تاريخنا وانما أيضا في تأويل ووضع الخبر المتواتر المقبول في موضعه الصحيح من مجريات الأحداث. بل ان هذه المجريات بذاتها قد تكون بحاجة الى التصحيح.  فالرافد الأساسي للأمة العربية المكون من عرب الجزيرة الذين حملوا الأعباء الأولى للدعوة الاسلامية له صور متناقضة في روايات المؤرخين بل لدى المؤرخ الواحد. فديورانت مثلا في قصة الحضارة يروي بأن أقوام هذه الجزيرة عريقون في تعاطي النشاط التجاري وأنهم سبقوا الى هذا النشاط منذ عهود تاريخية بعيدة واستمروا فيه الى عهود الدعوة الاسلامية (التي تطابق ظفرها مع انتصارها الحاسم في الصراع المرير الذي خاضته ضد الشرك والوثنية اليهودية على طرق التجارة الأساسية في جزيرة العرب). الا أن ديورانت بذاته يعود فيقول في مكان آخر ما يلي: ".. ولد محمد في اقليم ثلاثة أرباعه صحراء مجدبة قليلة السكان، أهله من قبائل البدو الرحل اذا جمعت ثروتهم كلها فانها لاتكاد تكفي إنشاء كنيسة أيا صوفيا..". ولكن أولئك التجار الذين ينشطون في موقع كالجزيرة العربية، ويحتكرون مهمة الوساطة بين مشرق العالم ومغربه، وهذا أمر لاحظه ديورانت أيضا، لايمكن أن يكونوا بهذا الاملاق الموصوف بعبارته هذه بشكل يناقض تماما واقع الحال المؤكد الذي نعرفه: وجد في قريش مثلا تاجر كان بإمكانه لوحده تجهيز أكثر من حملة مجاهدة دون أن يتأثر وضعه المادي وهو الصحابي عثمان بن عفان، فهل هذا الأمر ممكن في سوق مملقين؟.. ووجد أيضا شخصان فقط، هما هرم بن سنان والحارث بن عوف، تمكنا من تحمل ديات حرب كبيرة وطويلة هي حرب داحس والغبراء وبقيا مع ذلك في وضع مادي جيد. وفي حنين كانت غنائم المسلمين ما ان وزعت بالتساوي على عائلات أعدائهم الذين أخذت منهم، وهم قبيلة هوازن، لأصاب العائلة الواحدة اثنا عشر بعيرا وعشرون شاة وأوقيتان من الفضة وغيره. وعند الأخذ بالاعتبار أن في تلك القبيلة أغنياء وفقراء ومتوسطي الحال نجد أنه كان هنالك من يملك الآلاف من الأباعر والشياه وغيره. وهوازن من الأعراب وما كانت من العرب سكان المدن. فنرى اذن أن منطقة ريفية بحجم هوازن وبثرواتها لاتنطبق عليها أوصاف ديورانت في عبارته الآنفة الذكر حتى في وطنه الولايات المتحدة الأميركية أكثر بلاد العالم تقدما ماديا في عصرناالحالي. ثم ان ذلك المجتمع الذي تدل جماع أخباره ولغته وأشعاره على غير ما صورته عبارة ديورانت كان ينشط في عدد من المجالات الاقتصادية الأخرى غير التجارة كالزراعة في اليمن وعمان والواحات وتربية الماشية بأعداد كبيرة عند العرب الرحل والحرف المتنوعة وأعمال البناء كإقامة السدود التي منها سد مأرب الشهير وغيره. ثم إن الحياة في مناخ الجزيرةالصحراوي تتطلب بساطة المظهر وخفة الحركة، ليس فقط بين أعراب الخيم، وانما أيضا في المدن والواحات التي كانت تتعاطى أعمال تنظيم القوافل وتكافح قسوة الطبيعة. وكانت هذه البساطة لاتعني الفقر وانما ضرورة يفرضها المناخ. ومع ذلك فقد كانت تظهر صور البذخ والراحة هنا وهناك من المناطق حيث كانت تقوم حالات الاستقرار:

"لقد كان لسبأ في مسكنهم آية. جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم

واشكروا له. بلدة طيبة ورب غفور".

سبأ 15

وخلاصة القول كان لأقوام الجزيرة العربية ما يكفي من الإمكانات المادية لتغيير شكل العالم برمته حينذاك الى الأفضل.

ان أرض اليونان ما كانت تفوق أرض الجزيرة العربية: لابغناها ولا بكثرة سكانها. ولكن العرب مارسوا التجارة من موقع جغرافي يفضل بكثير موقع اليونان، كما مارسوها حقبا أطول بكثير من اليونان. وكانت لهم قبل الاسلام ممالك عرفت الغنى والترف مثل ممالك: تدمر والبتراء وحمير وكندة والمناذرة والغساسنة. وفي أواخر طور الرق الذي أنهاه الاسلام، أي في عهد الامبراطورية الرومية، برز عرب الاهليلج الخصيب كأقوام متميزة لها نفوذوتأثير حاسم في كل نواحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية في منطقة البحر الأبيض المتوسط، كما برزوا قبل هذا خلال قرون عديدة كبناة ومؤسسين للحضارات الانسانية العريقة قبل أن يسمع أحد باسم الفرس واليونان والروم. وكانت الامبراطورية التدمرية مؤهلة للحلول مكان الامبراطورية الرومية لو أنها مع ما كانت تملك تملك من مؤهلات مادية كبيرة تصدت لانجاز مهمة تاريخية تغير من واقع العالم القديم كما فعل الاسلام عندما أنجز مهمة القضاء على الطور العبودي العالمي. ومن الواضح أن التراكم المادي في اقتصاد الامبراطورية الرومية هو الذي مكن من مواجهة التكاليف الكبيرة لبناء الكنيسة الجميلة أيا صوفيا التي أتى ذكرها أعلاه في كلمة ديورانت وسمح بقيام كل ذلك الترف الذي يحيط بها. وقد كان العرب بكل الروافد التي شكلت أمتهم ، من المحيط الى الخليج، يشكلون الغالبية الساحقة لأقوام تلك الامبراطورية فساهموا بأكبر نصيب في تكوين ذلك التراكم المادي فيها وكان في مقدمة المساهمين منهم أولئك التجار قاطنو ذلك الموزع للحركة التجارية العالمية حينذاك: قاطنو الجزيرة العربية. وليس هذا فحسب بل أن هؤلاء التجار كان لهم نصيب كبير في تكوين الاقتصاد الآخر المنافس في ذلك العصر وهو اقتصاد الامبراطورية الفارسية. فلا يمكن اذن أن يكونوا على تلك الدرجة من الحرمان والفاقة والتخلف الاجتماعي التي يضعهم فيها الشعوبين المتعصبون على اختلاف أشكالهم.

ومما يؤسف له أن كثيرا من العرب والمسلمين يقعون في تلك التناقضات ويشوهون صورة العرب بأشكال مختلفة منها مثلا : محاولات التشهير بأمتنا وشتمها والدس عليها والاستخفاف بأقوامها وخاصة منهم عرب الجزيرة بنعتهم بالتخلف الروحي والمادي من قبل الأعداء؛ ومنها توهم من يأخذه "الحماس" منا فيعتقد أن قيمة "جنسنا" تعلو وتزداد عند إعطاء أجدادنا صورة المعدمين المتخلفين الذين يتغلبون مع ذلك على سادة الدنيا في ذلك العصر بسبب تفوقهم العرقي و"أصالتهم"..ومنها (وهو الأشد خطورة والأكثر فائدة للمشوهين أعداء الحقيقة) اصرار من جمدوا عقيدتهم وحولوها الى وثنية فرأوا مع الدجالينى أنه من الأكثر انسجاما مع "الايمان"أن يكون العربي متخلفا معدما، ماديا وروحيا، فينتصر بقرة الله عز وجل على أعدائه الأقوياء الأغنياء المتقدمين... وكأن جدارة العربي وتقدمه المادي والروحي لايكونان بقدرته تعالى ليكون مؤهلا أكثر من غيره لإصلاح الأرض بعد فسادها..ولقد أمر المسلمون بالآية التالية التي جاءت مطلقة (غير مقيدة بالمناسبة التي أتت من أجلها بعد موقعة بدر) فأصبحت قانونا أسساسيا في كل جهاد يخوضونه من أجل إزالة الفساد، ولا سيما منه ذلك الذي خاضوه ضد الامبراطوريتين العبوديتين، امبراطوريتي الروم والفرس، لقد أمروا أن يعدوا أسباب القوة المادية:

"وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله

 وعدوكم"

الأنفال 61

فالعربي ما كان اذن ذلك المعدم المتخلف وانما كان باستطاعتهإعداد كل ما يلزم من قوى ضد حارستي العبودية العالمية حينذاك. ولننظر فيما يلي الى خبر أراد به محدثوه بيان ورع عمر بن الخطاب وشدة ايمانه، مع أنه يناقض تماما ما يؤمر به المؤمن بالآية الآنفة الذكر كما يناقض تماما ما اشتهر به هذا الصحابي الجليل من واقعية وذكاء وفهم عميق لأبعاد الدعوة الاسلامية والأسس التي ترتكز عليها. يقول الدكتور أحمد فريد الرفاعي في فصل تحول المدنية من كتاب عصر المأمون: ".. لقد تحوات الاعتبارات الاجتماعية وفاقا للتغيرات المادية؛ فبعد أيام الورع وغلبة سلطان الدين والعدل في أعطيات المسلمين، بعد أيام عمر وصحابة عمر التي نعلم الشيء الكثير من وجهة نظر عمد الدين الاسلامي فيها للمال- ةهو عنصر حيوي شديد الأثر في تحول النظم المعيشية والاجتماعية والسياسية أيضا- والى ضرورة اختزانه، فقد قال قائل لعمر بن الخطاب: يا أمير المؤمنين لو تركت في بيوت الأموال شيئا يكون عدة لحادث اذا حدث . فزجره عمر وقال له: تلك كلمة ألقاها الشيطان في فيك وقاني الله شرها! ةهي فتنى لمن بعدي. اني لا أعد للحادث الذي يحدث سوى طاعة الله ورسوله، وهي عدتنا التي بلغنا فيها ما بلغناه". فمثل هذا الخبر المناقض تماما الآية الآنفة الذكر والذي لا يصح على رجلمثل عمر رضي الله عنه لابد من أن يكون محرفا ان لم يكن غير صحيح من أساسه. فقد يكون هذا الحديث قد دار مثلا بين الخليفة والرجل حول ما يتحمله بيت المال من أعباء باهظة في الأعطيات المتوجبة للمسلمينفنصح هذا الرجل باختصار هذه الأعطيات وحفظها في بيت المال لمواجهة الطوارئأو ما شابه هذا فرد الخليفة بذلك الجواب. وهنا علينا أن ننظر عن قرب الى مسألة تلك الأعطيات ووجوبها. انها ليست مجرد "إحسان" و "جوائز" و "استرضاء" للسابقين الأولين الى الإسلام ولغيرهم من المجاهدين العرب. وهي لا تهدف الى جعل المجتمع العربي مجتمعا للكسالى الطفيليين الذين يعيشون عليها من بيت المال، فالمشهور عن عمر أنه طرد رجلا كان يلازمالمسجد للتعبد وهو يقول له قولتهالشهيرة: ان السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة وعليه أن يعمل كي يعيش. إنها جزء أساسي من نظام وضرورة أساسية في تلك العملية الهائلة التي تفرغت لها أقوام الجزيرة العربية لتحقيق انتقال العالم حينذاك من طور العبودية الى طور الحرفة الحرة والتجارة العالمية النشطة. فجند هذا التغير العالمي كانوا في بادئ الأمر من عرب الجزيرة فقط وقادتهم من السابقين الأولين. كان على هؤلاء الناس أن يوفروا عناصر ذلك الجهاز الهائل: من أصغر جندي الى مختلف مراتب القادة والأمراء والاداريين، أن يوفروا كل عناصر جهاز الحكومة الناشئة. فالمسلمون الأوائل مثلا أقاموا الأمصار والثغور كالبصرة والكوفة والفسطاط وقنسرين وغيرها لحشد الحاميات المسلمة فيها (الأجناد). فكانت نفقات كل ذلك الجهاز الضخم تأتي من بيوت المال. لقد انطلق العرب بمئات الألوف في صدر الاسلام الى الجهاد في سبيل تغيير العالم الى الأفضل فتركوا أعمالهم المدنية، كما تركوا كثيرا من عوائلهم في جزيرتهم بلا معيل، فكان لابد من وضع نظام مالي لمواجهة هذه المشكلة الاجتماعية. وقد قام الخليفة عمر بن الخطاب بالذات في تنظيم هذا الأمر. ولعل تلك المرأة وأطفالها الجياع عندما أتى عمر ليلا الى غوثهم وإطعامهم هي واحدة من عائلات أولئك المجاهدين البعيدين في جبهات القتال، العائلات التي كان يستطلع أحوالها على الدوام عندما يتفرغ من شؤون الدولة.

ويورد الدكتور الرفاعي في عصر المأمون أيضا ما يلي: ".. بعد أن كانت الأموال في أيام النبي صلى الله عليه وسلم نحو أربعين ألفا بين إبل وخيل، وبعد أن كان عمر بن الخطاب دهشا مرتابا حينما أبلغه أبو هريرة عند قدومه من البحرين أنه أتى بخمسمائة ألف درهم فاستكثرها عمر وقال: أتدري ما تقول؟ قال: نعم مائة ألف خمس مرات. فصعد المنبر وقال: أيها الناس، قد جاءنا مال كثير ، فان شئتم كلنا لكم كيلا وان شئتم عددنا لكم عدا. بعد أن كان دهشا من هذه الثروة أصبحنا نرى، بعد عهده بقليل، جسامة الهبات مما لا تعد هذه الأموال في جانبها شيئا مذكورا". فعند التمعن في هذا الخبر يبرز التناقض فيه. فالأموال المشار اليها في عهد النبي، وهي الأربعون ألفا بين إبل وخيل، تكافئ تماما أعداد الماشية التي غنمها المسلمون في غزوة حنين. فلو قدرنا ثمن كل رأس من هذه الماشية بعشرة دراهم لوجدنا أن هذه الأموال تكافئ أيضا الثروة التي جلبها أبو هريرة من البحرين. فلا مجال اذن لدهشة عمر من مثل حجم هذه الثروة فمثلها وأكثر منها كان موجودا في جزيرة العرب. أما أن يصعد عمر على المنبر، وهو واضع نظام بيت المال وقواعد الأعطيات بحسب روايات كل سير الخلفاء الراشدين، وينادي بكثرة الوارد من الأموال وأنه مستعد لتوزيعها كيلا أو عدا، أي بلا حساب، فأمر لا يصح أبدا مع ذلك النظام الذي وضعه هو بذاته. وقد يكون عمر بن الخطاب قد أظهر دهشته من ضخامة أموال جلبتها الفتوحات لبيت المال. ولكن ذلك ما كان بسبب ما يزعم كذبا من بساطة إدراكه ومن تجاوز تلك الأموالبحجومها حدود خياله، بل على العكس من هذا كانت دهشته لعميق إدراكه مبلغ ما تنبئ عنه ضخامة تلك الغنائم من مظالم فادحة كان ينزلها بالناس ذلك النظام العبودي العالمي الذي كان الاسلام يعمل على إزالته. اذ من البديهي أن تلك الأموال الضخمة التي كان يغنمها المجاهدون فيرسلون منها نصيب بيت المال وهو الخمس ما كانت بحوزة الفقراء والعبيد وبقية المستضعفين الذين يشكلون سواد الناس وإنما كانت تشكل ثروات الأسياد العبوديين فضخامتها مقياس مادي للظلم النازل بأولئك الناس. فكان عمر اذن يبدي دهشته لقيام مثل ذلك العالم العجيب بنظامه الذي يمكنه استحلاب كل تلك الثروات من جلود الناس لصالح فئة صغيرة منهم. ان قراءة تاريخ من شادوا دار الاسلام يجب أن تختلف تماما عن قراءة فتوحات العبوديين القدامى وفتوحات جنرالات العبوديين الجدد الرأسماليين. فالعبوديون من كل الأشكال يهدمون كل ما هو أقرب الى الانسانية ويفاقمون سوء النظم السيئة فيزيدون في نكايتها وظلمها لبني الانسان. أما الاسلام فكان عند بنائه داره يعمل على إزالة العبودية وهمه الدائم إنصاف المستضعفين من الناس، كان يعمل على تحقيق ما حلمت به الانسانية وجاهدت من أجله طوال عهود التاريخ التي سبقت دعوته. لننظر مثلا الى رد فعل ذلك الخليفة الذي جسد بسيرته المعاني الاسلامية في تحرير الانسان من قيود الطبقية والتمييز بالأنساب، لننظر الى موقفه عندما عرض عليه الهرمزان أسيرا بكسوته من الديباج المذهب وتاجه المكلل بالياقوت وكل حلاه فقال: "الحمد لله الذي أذل بالاسلام هذا وأشباهه". لقد كان مشهدا لتقويض العبودية رتبه جند الاسلام بإرسال ذلك السيد العبودي بكل مظاهر السيادة العبودية الى أمير المؤمنين الذي علق عليه بتلك العبارة البالغة الدلالة لا على أخلاقية عمر فحسب وإنما فبل هذا على ما كان عمر وجنده يقومون به من إزالة الطور العبوديوالصعود بالانسانية الى الطور الأعلى. ونجد ذات المعاني في مشهد آخر. فسير الخلفاء تجمع على أن "حذيفة بن اليمان بعد انتصار المسلمين في نهاوند، فتح الفتوح، أرسل السائب بن الأقرع بخمس الغنائم والبشارة، فلما قارب المدينة وجد عمر خارجا يتنسم الأخبار، فلما رأى السائب قال ما وراءك قال خيرا يا أمير المؤمنين فتح الله عليك وأعظم الفتح، واستشهد النعمان بن مقرن. قال عمر (انا لله وانا اليه راجعون) ثم بكى فنشج حتى بانت فروع كتفيه فوق         . فلما رأى السائب ذلك قال يا أمير المؤمنين ما أصيب بعد النعمان رجل يعرف وجهه فقال عمر أولئك المستضعفون من المسلمين ولكن الذي أكرمهم بالشهادة يعرف وجوههم وأنسابهم، وما يصنع أولئك بمعرفة عمر؟". لقد كان المستضعفون الشغل الشاغل لبناة دار الاسلام أما النسب فيرتفع عندهم بالأعمال الحسنة ما دام لكل انسان أب وأم من الانسان ولا يشذ أحد عن هذه القاعدة البديهية. لذلك استوى عند عمر بالشهادة المجاهدون الأبطال المجهولون والقائد العام البطل فاتح المدائن قبل نهاوند النعمان بن المقرن.

ان أحوال العرب قبل الاسلام كانت في المتوسط أفضل من أحوال غيرهم من بني الانسان وذلك لموقعهم الجغرافي الذي نشير اليه دوما في دراستنا هذه والذي جعل منهم محتكري التوسط بين مشرق الأرض ومغربها، ولكون ثرواتهم كانت موزعة في مجتمعهم بشكل أقرب الى العدالة الاجتماعية مما في المجتمعات العبودية الأخرى: صحيح أنه ما كان بين أغنيائهم من يملك الكنوز الضخمة كأغنياء مجتمعات العبودية المحيطة بهم، الا أن جزيرتهم ما كانت تضم ذلك العدد الهائل من الفقراء والعبيد والمستضعفين الآخرين كالذي كان موجودا عند غيرهم. وبعد الاسلام وتمام بناء داره كان تحسن أحوال العرب وارتفاع مداخيلهم بسبب تبدل الطور الانساني وارتفاعه من طور العبودية الى طور الحرفة الحرة والتجارة العالمية النشطة وبالتالي انتعاش الاقتصاد العالمي الذي أفاد غير العرب كما أفاد العرب. ويكفي للدلالة على هذا الأمر أن ننقل حرفيا شهادة ديورانت التالية في قصة الحضارة، وديورانت مؤرخ بعيد جدا عن مجاملة العرب والاسلام، ولكنه ممن يحترم الحقيقة عندما يهتدي اليها. يقول مؤرخنا: "لايسعنا الا أن نسلم بأن الخلفاء الأولين من أبي بكر الى المأمون (الذين أتموا بناء دار الاسلام بكل أبعادها المادية والروحية والفكرية: من عندنا) قد وضعوا النظم الصالحة الموفقة للحياة الانسانية في رقعة واسعة من العالم (هي دار الاسلام العقد الوسيط لذلك العالم الذي هيمن عليه اقتصادها: من عندنا)، وأنهم كانوا من أقدر الحكام في التاريخ كله (رضي الناس عنهم لأن جوهر حكمهم تحرير الانسان وليس استعباده واستضعافه: من عندنا). ولقد كان في مقدورهم أن يصادروا كل شيء ، وأن يخربوا كل شيء ، كما فعل المغول أو المجر أو أهل الشمال من الأوربيين، ولكنهم لم يفعلوا هذا بل اكتفوا بفرض الضرائب (لامجال هنا لهذه المقارنة ولكن ديورانت لم يدرك حقيقة الدور الذي كان الاسلام يقوم به وهو القضاء على طور عالمي متخلف لبناء طور آخر متقدم ماديا و روحيا. ثم ان ديورانت يتجاهل هنا حقيقة أن هؤلاء العرب لا يشبهون أبدا هؤلاء الذين يقارنهم بهم فهم أبناء حضارات عريقة: من عندنا). ولما أن فتح عمرو بن العاص مصر أبى أن يستمع الى نصيحة الزبير حين أشار عليه بتقسيم أرضها بين العرب الفاتحين، فأيده الخليفة في هذا الرأي وأمره أن يتركها بين أيدي الشعب يتعهدها فتثمر. وفي زمن الخلفاء الراشدين مسحت الأراضي، واحتفظت الحكومة بسجلاتها، وأنشأت عددا كبيرا من الطرق وعنيت بصيانتها، وأقيمت الجسور فوق الأنهار والسدود لمنع فيضانها. وكانت العراق قبل الفتح الاسلامي صحراء جرداء فاستحالت أرضها بعده جنانا فيحاء، وكان كثير من أرض فلسطين قبيل الفتح رملا وحجارة فأصبحت خصبة غنية عامرة بالسكان... وقد أمن الخلفائء الناس الى حد بعيد على حياتهم وثمار جهودهم، وهيأوا الفرص لذوي المواهب . ونشروا الرخاء مدى ستة قرون في أصقاع لم تر قط مثل هذا الرخاء بعد عهدهم، وبفضل تشجيعهم ومعونتهم انتشر التعليم وازدهرت العلوم والآداب والفلسفة والفنون ازدهارا جعل من آسيا الغربية مدى خمسة قرون أرقى أقاليم العالم كله حضارة".

دار الاسلام دار الانسان 

 

ان دار الاسلام اذن برقعتها الجغرافية وسننها وكيانها الاقتصادي كانت الأساس الذي ارتكز عليه طور عالمي جديد هو طور الحرفة الحرة والتجارة العالمية النشطة. فالاقتصاد العالمي حينذاك، وخاصة منه في تلك الدار ، كان يقوم أساسيا على إنتاج الأحرار بالأسلوب الحرفي، ذلك الانتاج الذي اتسع وامتد الى قصور الأمراء والخلفاء. لقد كان من الورع والتقى أن يأكل المسلم مما تصنعه يداه وذلك اتباعا لقوله صلى الله عليه وسلم المتفق عليه بين رواة الحديث:

"ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يده"

ويروي الطبري حكاية المشادة التي قامت بين الخليفة موسى الهادي وأمه الخيزران فيقول الخليفة لأمه: ".. ماهذه المواكب التي تغدو وتروح الى بابك في كل يوم! أما لك مغزل يشغلك، أو مصحف يذكرك، أو بيت يصونك!..". ونقرأ في عصر المأمون للدكتور رفاعي الحكاية التالية: "وحدث الوضين بن عطاء قال: استزارني أبو جعفر المنصور، وكانت بيني وبينه خلالة قبل الخلافة. فصرت الى مدينة السلام فخلونا يوما فقال لي: يا أبا عبد الله ما مالك؟ فقلت الخير الذي يعرفه أمير المؤمنين. قال: وما عيالك؟ قلت: ثلاث بنات والمرأة وخادم لهن. فقال لي أربع في بيتك؟ قلت: نعم. قال: فوالله لردد ذلك علي حتى ظننت أنه سيمولني. قال: ثم رفع رأسه الي فقال: أنت أيسر العرب، أربع مغازل يدرن في بيتك!..". نلاحظ هنا أن الخليفة عد الزوجة وبناتها كعاملات على المغازل وأخرج الخادم من هذا العدد، وهو أمر يدل ‘لى أن الخادم لا تشارك في عملية الانتاج الاجتماعي الحرفي الا بتأدية الخدمات بينما السيدة وبناتها ينخرطن في عملية انتاج السلع المجسدة، إنتاج الغزل وأشباهه. ولا يعني هذا أن العبيد في هذا الطور ما كانوا موجودين في العملية العامة للإنتاج الاجتماعي الاسلامي، بل على العكس فقد كان هناك عبيد يشاركون في الانتاج في دار الاسلام وفي غيرها، ولكن سبق وأشرنا أكثر من مرة في هذه الدراسة الى أن اللأسلوب الأكثر تقدما في جملة المجتمعات الانسانية في طورها القائم هو الذي يسيطر على بقية الأساليب الأقل تقدما ويجعلها متمماته وامتداداته هنا وهناك في مختلف أنحاء العالم. وقد بقي انتاج العبيد قائما حتى في الطور الرأسمالي ولم يتلاش دورهم فيه الا في عهد قريب جدا من أيامنا هذه. فحرب تحرير العبيد مثلا في الولايات المتحدة الأميركية، أولى الدول الرأسمالية، وقعت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ميلادي (في ذات الفترة التي اشتدت فيها مطاردة الهنود الحمر وإبادتهم كجنس والاستيلاء على أراضيهم وممتلكاتهم من قبل فريقي تلك الحرب: أنصار تحرير العبيد "أصحاب الأردية الزرقاء" ومعارضي تحريرهم "أصحاب الأردية الرمادية"). ولكن الاسلام جعل من تحرير العبيد هدفا أساسيا منذ بواكير دعوته في مكة. فقبل الهجرة مثلا كان أحد عتاة الشرك "أبو الأشد بن كلدة" يتبجح بين قومه تاقرشيين ويقول أنه بذل مالا كثيرا في محاربة الاسلام. فأتت سورة البلد تسخر من عتوه ومن تضييع أمواله في سيل الشر بدلا من إنفاقها في طريق الخير بدءا من عتق رقيق (وهذا حسب تفسير الجلالين وغيرهما):

"ألم نجعل له عينين، ولسانا وشفتين، وهديناه النجدين، فلا اقتحم العقبة، وما أدراك ما العقبة، فك رقبة، أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما ذا مقربة، أو مسكينا ذا متربة.."

البلد 8 - 16

لم يترك الاسلام مناسبة دون الحض على تحرير الرقاب فجعلها مثلا في مقدمة الكفارات الواجبة لكل من استطاع. وقد تعدل في النتيجة كثيرا الموقع الاجتماعي للعبيد في دار الاسلام وفي عملية الانتاج في الحالات التي يكون فيها العبد منتجا في غير قطاع الخدمات بحيث أصبحت الملكية العبودية علاقة اجتماعية لا تلزم العبد بأكثر من تأدية أتاوة لمالكه ويكون بعدها حرا بمسكنه وعائلته وعيشه، فيمارس في عمله أساليب أي حرفي حر آخر. وقد تطورت أحوال العبيد بتوالي الأيام حتى بلغت جماعات منهم درجة من القوة مكنتهم من تأسيس الممالك كدولتي الترك والشراكسة في مصر مثلا اللتين دافعتا دفاعا مجيدا لاينسى عن الاسلام وداره ضد الغزاة الفرنج والتتر.

لقد اتسعت دار الاسلام بسرعة هائلة غير معهودة في اتساع الدول والممالك، ذلك لأنها ما كانت بمعانيها الأساسية دولة ولا مملكة وانما طورا انسانيا، لم يجاهد المسلمون وحدهم من أجل تحقيقه وانما جاهد الانسان بكل أخياره، بسواده، من أجا اقامته فبذل لبلوغ ذلك المهج والأرواح خلال عصور طويلة، وذلك الى جانب كدحه الطويل لبناء الثروات المادية والروحية. ولقد قلنا في هذه الدراسة أن دعوات التوحيد كانت الثورات الكبرى المنظمة بالعقائد المادية والروحية ضد العبودية وهي بمجموعهاسلسلة واحدة تتكامل حلقاتها. وكان الناس بعد كل حلقة يتطلعون الى الحلقة المقبلة، الى الثورة المقبلة، علها تكون الحاسمة فتحقق ما كانوا يطمحون اليه من الخلاص من الاستعلاء وما يتبعه من شقاء للناس الذين تصبح مصائرهم فيه ومقدراتهم مربوطة بآراء المستعلي الضيقة النابعة من مصالحه الضيقة. ثم أتى الاسلام، آخر حلقة في ثورات التوحيد يبشر ويقدم الوسائل بدماء المجاهدين وأموال العبوديين التي اغتصبها هؤلاء من المستضعفين وفي الظروف الملائمة للعصر ليأخذ بتحقيق تلك الأحلام الرائعة للانسانية. يقول نهروفي كتابه "نظرات حول تاريخ العالم"، وهو كتاب ألفه في سجون المستعمرين الانجليز: "ان الديانة التي بشر بها محمد وبساطتها واستقامتها والديموقراطية والمساواة اللتين أعلنتهما هذه الديانة كل ذلك حظي بصدى واسع لدى شعوب البلدان المجاورة. ولقد عانت هذه البلدان لأمد طويل من نير الحكام الملوك الطغاة ومن نير الكهان والقساوسة الذين لم يكونوا أقل طغيانا وتعسفا من الملوك. لقد تعبت الشعوب من النظام القديم ونضجت لتقبل الجديد. وقدم لها الاسلام هذا الجديد. وكان ذلك الجديد أمرا مرغوبا فيه لأنه حمل اليها الأفضل ووضع حدا لكثير من الشرور الناجمة عن النظام القديم". ويقول جيبون في المجلد 41 من مجموعة الكتب العظيمة للغرب في وصف وحدانية الاسلام ما يلي: "كان مسيحيو القرن السابع قد ارتكسوا دون وعي الى ما يشبه الوثنية... لقد كان مذهب محمد منزها من الريبة والغموض.. ولقد رفض نبي مكة عبادة الأوثان والرجال.. فهذه الحقائق الرائعة التي أعلنت بلسان النبي قد اعتنقها أتباعه وحددها شارحو القرآن بدقة..". انتهى قول جيبون.

لقد حقق اذن الاسلام طوره بإقامة دار الاسلام. وكان على الانسان أن يشجع المعاني الانسانية التي أتى بها هذا الطور فيدفع باستمرار بالأمور في درجات الرقي المادي والروحي، وليس بالعودة الى وثنيات طور انقضى بكل شروره، الى وثنيات تكونت بجمود وانحراف ورثة ثورات سابقة. ولكن المؤسف أن المسلمين تفشت فيهم الوثنية كما تفشت فيمن قبلهم من أقوام ثورات التوحيد الأخرى. ومن جهة ثانية قام للاسلام، ولكل العالم، صهيونية رهيبة تزري بوحشيتها كل عبوديات التاريخ. فقد أخذت هذه الصهيونية، وهي تنمو وتشتد وتتنوع بأشكالها دون أن يتغير مضمونها العبودي، تتربص بالانسان والانسانية بروح تناقض تماما روح كل ثورات التوحيد وكل انتفاضات المستضعفين في التاريخ ضد قاهريهم.