الفصل الثالث

 

منجزات العرب الحضارية

 

دورنا الحضاري

 

أشرنا في أكثر من مناسبة في هذه الدراسة الى الأهمية البارزة لموقع الوطن العربي بالنسبة الى بقية العالم من كل النواحي الجغرافية والتاريخية والاقتصادية والسياسية، وقلنا أنه يتوسط وما يزال وسيبقى متوسطا بين أوطان العالم. ورأينا في القسم الأول من هذه الدراسة انطلاق فكر التوحيد وثوراته من المنطقة العربية الى بقية أقطار العالم لتحرير بني الانسان من عبوديات الرق والوثنية. وقلنا أن هذه الأمة هي أمة الحضارات والجهاد. الا أنه ليس بوسع أحد أن يفي أي حضارة انسانية حقها الكامل بما حملته الى الناس من منجزات وما ساهمت به في دفع تقدمهم وتصعيد ارتقائهم فيستحيل علينا بداهة اذن أن نقدم صورة تامة للسلسلة الطويلة لحضارات أمة العرب خلال نشوئها وارتقائها عبر العديد من عشرات القرون. ومع ذلك فان بالامكان التذكيربمنجزات حاسمة في تقدم البشر تمت بفضل أمتنا وتقدم حضاراتها. وعلينا أيضا، قبل أي أمر آخر أن نصحح أفكارا شائعة فيها ظلم كبير لأمتنا وتاريخها المجيد فنقول مثلا: ان الحضارات الفارسية واليونانية والرومية كانت حضارات عالمية ساهمت في بنائها أقوام جملة المجتمعات الانسانية في منطقة البحر الأبيض المتوسط التي تشمل البلاد المطلة على هذا البحر وتمتد الى تخوم الهند والصين. فتكون أقوام الروافد التي كونت أمتنا العربية بمجموعها من أكبر المساهمين في بناء تلك الحضارات: ان مسيرة التقدم الانساني في هذه المنطقة أدت الى قيام أمم تأتي الأمة العربية في مقدمتها من حيث ضخامة عدد سكانهاواتساع وطنها. فالعرب اليوم يعدون مائتي مليون نسمة في وطن شاسع الأرجاء فيتجاوزون من بعيد بهذا التعداد السكاني والاتساع الأرضي كل قومية أخرى قامت في هذه المنطقة. وهناك أقوام الأمة الاسلامية التي شاركت العرب في إقامة الحضارات الآنفة الذكر وفي إقامة دار الاسلام وحضارتها وهي تشغل كل منطقة البحر الأبيض المتوسطالمبينة آنفاعدا القسم الأوربي منها الذي لايتجاوز عدد سكانه حاليا السبعين مليونا تجاه أكثر من أربعمائة مليون مسلم فيها. وهذه النسبة ما كانت لتختلف كثيرا في أيام تلك الحضارات المذكورة، وهي ان تغيرت يكون تغيرها لصالح العرب والأقوام الاسلامية. وينتج عن هذا أن الحضارة الاسلامية لم تأخذ من الحضارات التي سبقتها، حضارات الفرس واليونان والروم الآنفة الذكر، كما أخذ الأوربين منها، ولكنها ورثت هذه الحضارات التي هي حضاراتها في الأصل، عندما كانت تساهم في إقامتها بتلك النسبة الكبيرة وعندما كانت تعبر عن منجزاتها بلغات الأقوام المتسلطة في أزمانها، فترجمتها وأعادتها الى لغتها الأصلية التي هي العربية. ان ما يبعث على السخرية اليوم مثلا هو ذلك المستشرق الذي يقف على الآثار العظيمة التي قامت في عهدي اليونان والروم في الوطن العربي كتدمر وبعلبك مثلا فيتوهم ويوهم الناس "بعلمه" وينسب إقامة تلك الصروح الجميلة الضخمة المدهشة الى اليونان أو الروم حصرا، وكأن هذه الأقوام جلبت حجاريها ومعماريها في بلدها الأصلي لينجزوا ذلك العمل الرائع وأمثاله التي لا تحصى في كل تلك الدنيا الواسعة التي خضعت لعلمهم بينما وقفت الأقوام الأخرى لهذه الدنيا بمهندسيها ومعماريها وعمالها "تتسلى" بمشاهدتهم!.. والصحيح أن اليونان والروم تعلموا من العرب ليقيموا تلك الصروح في بلادهم الأصلية. ومما لاريب فيه أن مهندسيهم وفنانيهم ساهموا في تطوير ما تعلموه. وليس من الصدف أن الفرس لا يذكرون في التاريخ الأوربي للحضارات بالمقدار الذي يذكر فيه اليونان والروم،فهم بنظر هؤلاء العرقيين الأوربيين قد خرجوا من الآرية عندما دخلوا في دين العرب.

وكان من المنجزات الحاسمة التي قدمتها أمتنا العربية الى الانسانية، بالاضافة الى النسبة الكبيرة التي ساهمت بها في بناء الحضارات اليونانية والرومية والفارسية المشار اليها أعلاه، الوسائل الآتي ذكرها في سياق هذه الدراسة والتي بدونها ما كان بالامكان تحقيق كل هذا التقدم المادي والفكري القائم حاليا في الجملة الانسانية، كالأبجدية والحساب العشري وصناعة الورق وغيره. ولكن لنبدأ باللغة العربية.

المعاني والبيان

 

اللغة كما تعرفها المعاجم المعاصرة والموسوعات هي جملة رموز اصطلاحية ، كلامية أو كتابية، يتواصل بها بنو البشر بعضهم ببعضهم الآخر كأعضاء في فئة اجتماعية معينة ينتمون الى ثقافاتها. ويقول أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ في باب "البيان والتبيين": "المعاني القائمة في صدور العبادالمتصورة في أذهانهم، والمتخلجة (المتحركة، الحية) في نفوسهم، والمتصلة بخواطرهم، والحادثة عن فكرهم، مستورة خفية، وبعيدة وحشية، ومحجوبة مكنونة، وموجودة في معنى معدومة، لا يعرف الانسان ضمير صاحبه، ولا حاجة أخيه وخليطه، ولا معنى شريكه والمعاون له على أموره، وعلى ما لا يبلغه من حاجات نفسه الا بغيره. وانما تحيا تلك المعاني في ذكرهم لها، واخبارهم عنها واستعمالهم اياها. وهذه الخصال هي التي تقربها من الفهم وتجلبها للعقل، وتجعل الخفي منها ظاهرا، والغائب شاهدا، والبعيد قريبا. وهي التي تخلص الملتبس وتحل المنعقد، وتجعل المهمل مقيدا، والمقيد مطلقا، والمجهول معروفا، والوحشي مألوفا، والغفل موسوما، والمرسوم معلوما، وعلى قدر وضوح الدلالة وصواب الاسارة ، وحسن الاختصار، ودقة المدخل، يكون اظهار المعنى. وكلما كانت الدلالة أوضح وأفصح، وكانت الاشارة أبين وأنور، كان أنفع وأنجع. والدلالة الظاهرة على المعنى الخفي هو البيان الذي سمعت الله تبارك وتعالى يمدحه ويدعو اليه ويحث عليه. وبذلك نطق القرآن . وبذلك تفاخرت العرب وتفاضلت.

"والبيان اسم جامع لكل شيء كشف لك قناع المعنى، وهتك الحجب دون الضمير حتى يفضي السامع الى حقيقته، ويهجم على محصوله، كائنا ما كان ذلك البيان، ومن أي جنس كان ذلك الدليل ، لأن مدار الأمر والغاية التي اليها يجري القائل والسامع انما هو الفهم والافهام. فبأي شيء بلغت الأفهام وأوضحت عن المعنى، فذلك هو البيان في ذلك الموضع.

"ثم اعلم حفظك الله أن حكم المعاني خلاف حكم الألفاظ. لأن المعاني مبسوطة الى غير غاية، وممتعة الى غير نهاية، وأسماء المعاني مقصورة معدودة، ومحصلة محدودة وجميع أصناف الدلالات على المعاني من لفظ وغير لفظ خمسة أشياء لا تنقص ولا تزيد أولها اللفظ، ثم الاشارة ، ثم العقد، ثم الخط، ثم الحال وتسمى نصبة... قد قلنا في الدلالة باللفظ، فأما الاشارة فباليد وبالرأس وبالعين والحاجب والمنكب، اذا تباعد الشخصان، وبالثوب وبالسيف. وقد يتهدد رافع السوط والسيف فيكون ذلك زاجرا رادعا، ويكون وعيدا وتحذيرا...  قد قلنا في الدلالة الاشارة. فأما الخط فمما ذكر الله تبارك وتعالى في كتابه من فضيلة الخط والأنعام بمنافع الكتاب قوله لنبيه (صلعم): "اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الانسان ما لم يعلم" وأقسم به في كتابه المنزل على نبيه المرسل (صلعم) حيث قال "ن والقلم وما يسطرون" ولذلك قالوا أن القلم أحد اللسانين. وأما القول في العقد فهو الحساب، دون اللفظ والخط... وأما النصبة فهي الحال الناطقة بغير اللفظ والمشيرة بغير اليد. وذلك ظاهر في خلق السماوات والأرض، وفي كل صامت وناطق، وجامد ونام، ومقيم وظاعن، وزائد وناقص. فالدلالة التي في الموات الجامد، كالدلالة التي في الحيوان الناطق. فالصامت ناطق من جهة الدلالة، والعجماء معربة من جهة البرهان... وقال خطيب من الخطباء حين قام على سرير الاسكندر وهو ميت: الاسكندر كان أمس أنطق منه اليوم، وهو اليوم أوعظ منه أمس. ومتى دل الشيء على معنى فقد أخبر عنه وان كان صامتا، وأشار اليه وان كان ساكنا. وهذا القول شائع في جميع اللغات، ومتفق عليه مع إفراط الاختلافات".

هناك الفرد واحساساته التي يشاهد بها محيطه فتنتقل صور كائنات هذا المحيط الى ذهنه الذي يحولها الى الذاكرة: للحفظ اذا كانت المشاهدة هي الأولى من نوعها، أو للتذكر وتأكيد الحفظ اذا كانت المشاهدة تكرارا لمثيلات لها سبقت. ويمكن وصف هذه العملية الفيزيائية بقولنا أن كائنات المحيط المختلفة هي مواضيع بالنسبة الى الفرد الذي يشكل لها بإحساساته المناسبة صورا على صفحة ذهنه ثم يحيلها الى ذاكرته الحافظة. ثم ان صورة الموضوع الحية المتحركة وعلاقاته بمحيطه وبالفرد المشاهد على صفحة الذهن تشكل مفهوميته وادراكه، وأما حفظ هذه الصورة في الذاكرة فتشكل معلوميته. ويقوم المعنى على التمايز بين مختلف الصور الحية لمواضيعالمحيط المختلفة على أرضية كامل تجارب الفرد وتجارب محيطه وأسلافه الذين أورثوه صفاته، أي باختصار على مفاهيمه وادراكه. والمعنى يبقى مستورا خفيا في ضمير الفرد ما لم تبرز عنه في الفرد ردود أفعال محسوسة من قبل الأفراد الآخرين تنبئ عنه: ان الجائع مثلا ينبئ محيطه عن المعنى المتولد في ذهنه عند رؤية الطعام بإقدامه على تناوله، وشكل هذا الاقدام ينبئ عن شدة هذا المعنى.

وللصورة العصبية المتولدة في الذهن أبعادها وحياتها التي تعكس أبعاد وحياة موضوعها في الواقع المادي المكانية والزمانية وهي أبعاد موهومة بالمعنى الفيزيائي الضوئي: ان الصورة في المرآة مثلا هي كائن موهوم يتشكل عن الامتدادات الوهمية الى ما وراء المرآة لانعكاس الأشعة التي يصدرها موضوعها على المرآة. أي أن المرآة تعطي لنصف العالم الحقيقي القائم أمامها صورة وهمية تقوم في النصف الآخر للعالم الحقيقي القائم وراءها. فالحيوانات الراقية مثلا عندما تشاهد الصور في المرآة لأول مرة تذهب الى خلف المرآة لتبحث عن الصورة فلا تجد شيئا بطبيعة الحال. ويمكن القول أن الذهن هو عالم وهمي، كعالم صور المرآة (فراغ وهمي بأبعاد مكانية زمانية وهمية) يتشكل من الامتدادات الوهمية للانعكاسات العصبية على اختلاف أنواعها ودرجاتها، يتشكل باختصار من الاحساسات على اختلافها بمواضيع المحيط. ولكن الصورة الوهمية لموضوع المحيط التي تشكلها الجملة العصبية لا تنفصل عن الموضوع وانما تنطبق على هذا الموضوع وتتلبسه، بينما صورة الموضوع في المرآة المستوية تكون نظيرته بالنسبة لمستوى المرآة. ولو اختلف مكان وزمان الصورة العصبية عن مكان وزمان موضوعها لما تمكن الفرد من الاهتداء الى الموضوع والالتقاء به عندما يستدل ، كما هي الطبيعة ، بصورته العصبية الذهنية. وكذلك ينطبق في النتيجة العالم الوهمي الذهني الذي هو صورة العالم الواقعي الخارجي الذهنية على هذا العالم الواقعي تمام الانطباق في الأحوال العادية، عند الفرد السوي، وعند حدوث هذا الأمر فان هذا بعني أن الفرد المتعامل مع العالم الواقعي المذكور مصاب بشكل من مرض انفصام الشخصية: ان الدائخ مثلا الذي تضطرب صور العالم في ذهنه يكون مصابا بهذا الخلل الذي يزول بزوال الدوخة.

ان العالم الوهمي الذهني هو اذن الصورة الذهنية الوهمية لعالم الظواهر، أو عالم المشاهدة، الذي ينمو ويتسع ويتعمق باستمرار بازدياد قدرة الانسان على الاحساس بالواقع، على مشاهدته بمختلف حواسه ووسائله والتعمق فيه وتكوين معارف جديدة عنه، فيتسع معه بطبيعة الحال عالم صوره في الذهن، يتسع الذهن الذي هو عمليا الصورة العصبية الوهمية للعالم الخارجي. وتتسع كذلك الذاكرة التي تحفظ تلك الصور الذهنية وتتكون فيها المعلومية عن العالم، حاضرا وماضيا. وقد قلنا أن المعنى يقوم على التمايز بين مختلف الصور الحية لمواضيع المحيط المختلفة، فهو من عنى ودل، وموضوعه في الواقع مختلف الظواهر والأحوال التي تعبر عن كل كيان مادي مشاهد وتميزه من غيره، انه صورة تعبير كائن المحيط المشاهد، صورة تعبير الواقع برمته، بتمايزه ومختلف علاقاته، صورة بيان وإفصاح الواقع عن حقائقه بمختلف أشكال الإفصاح من النصبة الى البيان بمختلف الأصوات والحركات المادية. وبالاختصار: ان المعاني القائمة على مفاهيم الفرد وإدراكه تشكل لدى الفرد عالم المفاهيم والإدراك، وهو عالم ذاتي كعالم الذهن، ينطبق بمقدار صحته على التعبير المادي للمحيط كانطباق الصورة الذهنية على موضوعها في المحيط المادي، وهو كهذا التعبير المادي للمحيط مجرد عن كل بعد مكاني وزماني. فلا مكان ولا قبل ولا بعد في المعاني ولا في الحقائق: ان معاني الخير والشر مثلا والجمال والمساواة وعكسيهما والنظريات العلمية والمقولات وغيره مما لايحصى هي من المعاني التي تصور في الإدراك حقائق موضوعية تقوم في العالم المادي وهي مع موضوعاتها هذه لا ترتبط بمكان ولا بزمان.

ان ما يشاهده الفرد بحواسه ويدركه بعقله من مواضيع المحيط وأحواله هو جزء بسيط من العالم المادي. فبيان المحيط للفرد ستناسب في اتساعه وعمقه في أغوار الحقيقة المادية مع سعة الملكات العصبية لهذا الفرد وتقدم هذه الملكات في ميادين التجربة مع تقدم وسائلها. وبالامكان تمييز ثلاثة أنواع من الحقائق: الحقيقة الفردية، على اعتبار الفرد كائن قائم بذاته، وحقيقة كلية تتضمن كل الحقائق الفردية لأفراد جماعة أو مجتمع، على اعتبار أن الفرد جزء من الجماعة، جزء من كل، والحقيقة العامة المشتركة بين كل الأفراد. وان مختلف تفاعلات الأجزاء فيما بين بعضها بعضا ضمن الكل تقع في أساس مختلف أشكال التعبير وخاصة منها تلك التي تقع بين الأفراد الانسانيين. ويتناسب التعبير في اتساعه وعمقه، بطبيعة الحال مع اتساع المعاني وعمقها. وقد أشرنا قبل هنيهة الى أن هذه المعاني في الفرد الواحد تتناسب في اتساعها وعمقها مع ما تمسه وتتلبسه من الحقيقة على أنواعها في الواقع، وهي دوما تبقى على شواطئ هذه الحقيقة التي لا نهاية لأغوارها واتساعها في الواقع. نقول اذن باختصار أن عالما وهميا ينشأ في الفرد هو انعكاس يقابل عالم الواقع تعطيه الجملة العصبية لهذا الواقع وكائناته وحقائقه على شكل صور ومعان، وذلك بمقدار يتناسب مع اتساع وعمق الاحساس بالواقع. والفرد بطبيعة الحال جزء من الواقع المادي ويتحدد بمكان أفعال العالم المحيط فيه ورده على هذه الأفعال. ويميز إدراك الفرد ومعلوميته في المعاني التي يكتسبها مختلف أجزاء الواقع بعضها من بعضها الآخر بحدود تتناسب مع اتساعهما وعمقهما، ويميز على الأخص أنه هو ذاته من بقية الواقع بحدوده القائمة بأفعال المحيط فيه ورده على هذه الأفعال. فيقوم اذن في وهم الانسان الفرد، في إدراكه ومعلوميته، معاني الأنا والأنت والهو، تمييزا للمدرك والمدرك الغائب غير المحسوس من الواقع: أنا للذات المدركة، وأنت كل ما هو من عالم الظواهر، والهو يرمز الى ما وراء الظواهر من الواقع الذي لم يصله الادراك مع كل ما يعبر عنه على العموم بتعبير "ما وراء الطبيعة".

ولنعد الى قول الجاحظ من أن البيان اسم جامع لكل شيء يكشف قناع المعنى القائم في ضمير الفرد لأمثاله في الجماعة التي ينتمي اليها، وتأتي اللغة في مقدمة وسائل الكشف عن المعنى. وليكن، كما هو الحال، موضوعنا محصورا في الجماعات الانسانية. فالفرد في هذه الجماعات نشأ وارتقى في تيار من أمثاله من بني الانسان شكل رافدا من روافد أمته وذلك في ظروف مادية، جغرافية وتاريخية مثلا، متكاملة متشابهة. وقامت بالضرورة بعملية تكون الأمة عمليات نشوء وارتقاء لمختلف أشكال البيان في كل جماعة من الجماعات التي انتهت الى الالتقاء بشبيهاتها لإتمام التكون المذكور للأمة. ذلك لأن البيان الذي له بالضرورة ذات الأشكال التعبيرية لدى كل أفراد الجماعة الواحدة ليحصل التفاهم فيما بينهم فيتكاشفون به المعاني المكنونة في ضمائرهم يشكل الرابطة التي تجمعهم فلا تقوم جماعتهم الا بها. لذلك يمكن القول بصورة عامة أن البيان نشأ وارتقى بنشوء الأفراد وارتقائهم من التراب حتى بلغوا سوية الانسان الاجتماعي، فأخذ في هذه المسيرة الطويلة أشكالا وتفرع الى أشكال وتشذب واختفى غير الملائم وقام المناسب الخ.. وفي كل هذا كانت اللغة. وهي كما قال الجاحظ رأس البيان وأفصح أشكاله، تتوسع بقواعدها وتعابيرها لنقل كل المعاني الحاصلة لدى أفراد الجماعة الانسانية بين بعضهم بعضا فتوفر بهذا مختلف ارتباطاتهم وتعبر عن شتى تناقضاتهم المتناسبة مع التقدم الحضاري الذي بلغوه. فاللغة اذن باختصار هي مع أشكال البيان الأخرى صنو الجماعة في نشوئها وارتقائها لتغدو في النتيجة جزءا في أمة من أمم جملة المجتمعات الانسانية.

ويمكن القول أن الجملة العصبية للفرد الواحد من الجماعة الواحدة هي بمثابة "محطة" بث واستقبال في شبكة محطات معقدة تتألف منها ومن الجمل العصبية لأفراد الجماعة الآخرين، وان عمل هذه الشبكة يمثل تعامل مختلف أفراد الجماعة فيما بين بعضهم بعضا، يمثل حياة الجماعة ضمن عالم الأحياء والطبيعة المحيطة بهذا العالم بتغيراتها ومفاجآتها. فاللغة وبقية أشكال البيان تقوم بدور الرموز في الشبكة المذكورة لتبادل المعلومات، المعاني، فيما بين مختلف محطاتها، فيما بين مختلف الأفراد. وتكون اذن في هذه الصورة كل محطة من الشبكة المذكورة، كل جملة عصبية لفرد في الجماعة المعنية، مختزنة معجم رموز، مختزنة اللغة وبقية أشكال البيان، فتصيغ بهذه الرموز، باللغة وأدوات البيان الأخرى، رسائلها الى المحطات الأخرى، الى الجمل العصبية الأخرى، كما تستلم رسائل هذه المحطات بذات الرموز. وعلينا أن ننبه هنا الى أن هذه الصورة التي نعطيها لمجمل الاتصالات الاجتماعية هي بطبيعة الحال صورة فجة صلبة مبتسرة لا تحيط كليا بالصورة المرنة الشديدة التنوع لواقع الحياة الاجتماعية، ولكنها تعطي على كل حال مفهوما عاما لهذا الواقع. ونقول اذن باختصار: "اللغة ملكة في الانسان تجعل منه كائنا اجتماعيا"، أو أنها: "الملكة الأساسية لأعلى أشكال الحيوان الاجتماعي".

واللغة اذ توحد المعاني، صور الحقائق المادية في إدراك أفراد الجماعة الواحدة، وذلك بنتيجة التعايش طوال نشوء وارتقاء الجماعة، تكون اللفظة منها رمزا لمعنى حقيقة عامة في الواقع المادي لها مفهوم واحد لدى كل أفراد الجماعة، وتكون بكليتها، بكل ما يقال ويؤلف بها، التعبير المعقدالحي ما بفيت الجماعة حية في الوجود لمعاني الحقيقة الكلية للواقع المادي المحيط. انها اللسان المعقد المتطور لحياة الجماعة، التعبير المادي للمعاني والصور القائمة في ضمير الفرد للحقائق والظواهر المادية في حدود إطلاع الجماعة الحالي والماضي وحدود تقديراتها في المستقبل. ان بالامكان إعطاء مخطط لدورة التفاعل بين الجملة العصبية والمحيط المادي بالشكل العام التالي:

 

 

 

 

 

 


قلنا اذن أن اللغة تتوسع وتدق معانيها التي تعبر عنها بما يتناسب مع سعة اتصالات الأمة صاحبتها فيما بين جماعاتها وأفرادها، وفيما بينها وبين الأمم الأخرى، وفيما بينها وبين محيطها المادي، أي أنها باختصار تتوسع وتدق بحسب تقدم الأمة صاحبتها في نشوئها وارتقائها وبحسب الوظيفة التي قامت بها في نشوء وتقدم جملة المجتمعات الانسانية. ثم ان أصولها تنشأ في روافد الأمة فتتفاعل فيما بين بعضها بعضا بمختلف الأشكال ويتأثر بعضها ببعضها الآخر وتغتني بتفاعل تلك الروافد بين بعضها بعضا لتشكل الأمة في النتيجة. واغتناء اللغة يأتي على الأخص من تعدد أصولها وتكامل هذه الأصول، أي من تنوع التجارب التي مرت بها الأمة بمختلف روافدها وفي مختلف الأزمان. ذلك لأن الحقيقة المادية لها أوجه تتعدد بتعدد المكان ومضي الزمان فتتعدد معانيها مع بقائهامتكاملة ومتقاربة ويتعدد التعبير عنها وأسلوب عرضها.

وان من الطبيعي البديهي أن تتعدد اللهجات في اللغة بتعدد أصولها: لكل رافد من روافد الأمة لهجته في التعبير. الا أنه بتقارب الروافد والتقائها لتشكل الأمة تتوحد الأصول في لغة واحدة بعدد من اللهجات، وتكون بطبيعة الحال سهلة عفوية مرنة القواعد والالتزام، أي تكون ما ندعوه باسم "العامية". ونعني بالعامية لغة العموم، وليس "العوام" من الطبقات الدنيا قليلة الثقافة كما هو شائع. فالعامية هي السهولة والبداهة فتسمح للمعبر أن يفصح عن معانيه وحاجاته المباشرة آنيا دون الحاجة الى أي إعمال للفكر، الأمر الذي يشترك في الحاجة اليه كل الناس: مثقفهم وجاهلهم ونخبتهم وعامتهم. وهذا أمر ضروري لتعايش كل الناس في جماعة واحدة وبلغة واحدة يتصلون بها بعضهم ببعض بدون استثناء بعفوية. فالاستثناء هنا يخرج المستثنى من الجماعة بقيام لغة مختلفة فيه واختلاف اللهجات تكون في هذه العامية.

هنالك ظرفان تخرج بهما اللغة عن العامية والعفوية:

الأول: ندعوه ظرف التجويد في التعبير الذي يشبه ظرف التأنق في السلوك ولكنه ليس تأنقا وانما طبيعة وضرورة دعت اليها حاجة الموضوع وحالة المعبر معا، لشرح معنى صعب مثلا يحتاج الى انتقاء الألفاظ واستقامة الأسلوب، أو لإشاعة جو معين، جو مرح أو حزن، بألفظ منتقاة وأسلوب مناسب، أو لاستجداء أمر أو رفضه وغيره. والتفصح يكون في الأصل باللهجة المناسبة وبانتقاء الألفاظ وسبكها بأسلوب مناسب. فلهجة الاستعطاف مثلا تكون مع الألفاظ اللينة للاستجداء بينما تتسم لهجة التعنيف بقسوة اللهجة وغلظة التعبير.

ان التقاء روافد الأمة الواحدة يكون بداهة كثيفا في الظروف الأكثر اتصالا بمعيشتهم المشتركة كظروف السواق والمواسم والأعياد المشتركة وفي ظروف تاريخية حاسمة. فالروافد التي انتهت الى تكوين الأمة العربية مثلا التقت على الأخص بالعلاقات التجارية التي ربطتها طوال أزمنة مديدة بعضها ببعضها الآخر. وكان هناك أسواق العرب الشهيرة في الجزيرة العربية على مفتاحي الطريقين التاريخيين المشهورين طريق التوابل وطريق الحرير، وخاصة منها سوق عكاظ الذي كان المنتدى العام لتلك الروافد. وخلال القرون العديدة التي قامت فيها الأسواق حول مكة نمت وتكونت لهجة عربية عامة هي اللهجة القرشية التي غدت بصقلها طوال تلك اللقاءات في المواسم وبسهولتها اللهجة المحببة لكل أصول الأمة العربية في الأهليلج الخصيب. وقد انصبت عناية مستخدمي هذه اللهجة طوال قرون عديدة على تحسين إدائها لمختلف الأغراض العملية والعاطفية فنشأت لها قواعد وأساليب، كما ارتقى الاستعمال الى تسجيعها ثم نظمها شعرا وهو بحسب تعريف أبي العلاء المعري: "كلام موزون تقبله الغريزة على شرائط، ان زاد أو نقص أبانه الحس"، أي أن الحكم فيه لإحساس الجملة العصبية التي يرجع اليها تقدير الزيادة أو النقصان المخلين بالوزن. ونجد أخيرا أنفسنا أمام وسيلة للبيان تقوم بنتيجة عمل اجتماعي يتطور هادفا خلال حقب مديدة من الزمن ليرتكز على قواعد وأساليب تشكل بمجموعها علما واسع الآفاق عميق الأغوار متعدد الفروع هو اللغة الفصحى. ثم ان الظروف المناسبة لانتشار هذه الفصحى لتعم كل أقطار العرب أتت بالاسلام. ولكن العامية بلهجاتها المختلفة باختلاف أقطار العرب بقيت لغة الحياة العادية العفوية، وأساساترتوي منه تلك المحسنة المجودة التي يتفصح بها في الظروف الخاصة الكتاب والعلماء والخطباء والشعراء. فالفصحى اذن طبيعة لايمكن أن تلغى ما دام للانسان مناسبات يتجمل بها ويتأنق، وما دام بحاجة الى بيان لفظي وكتابي دقيق منظم بحيب قواعد وأساليب مناسبة للتعبير عن حقائق الكون ويتقدم بالتالي في معارج المعرفة. فهؤلاء الحمقى المطالبون بالاقتصار على العامية سيجدون أنفسهم ينشئون فصحى أخرى فيما لو فازوا بقتل الفصحى القائمة حاليا. ولكنهم في الواقع انفصاليون يبغون الخروج من أمتهم بالخروج من فصحاها التي عممها الطور الاسلامي.

الثاني: يشتق من الأول فهو فصحى لغرض التعبير في مجال مختص من مجالات المعاني كالرياضيات مثلا والفيزياء وبقية العلوم الطبيعية والفلسفة بأقسامها والعلوم الاجتماعية وكل العلوم والفنون الأخرى حيث تبرز أشكال من التعبير أو اللغة تناسب المجال.

ان اللغة شرط لازم للدلالة على أمة من الأمم ولكنها ليست شرطا كافيا. فاللغة الانجابزية مثلا هي لغة الأمة الانجليزية بالضرورة ولكن هناك أمم أخرى تتكلم الانجليزية كالأمة الأميركية في الولايات المتحدة وغيرها. ثم ان أصول اللغة الواحدة هي عاميات روافد الأمة صاحبة هذه اللغة، وتكون كما هو مبين في هذه الدراسة بحالة التقدم نحو مزيد من التكامل والتقارب بعضها من بعضها الآخر طوال تفاعل هذه الروافد لتكوين الأمة ثم تنقلب الى لهجات في مواطن نشوئها عندما يتم قيام الأمة في جملة المجتمعات الانسانية. أما اللغة الفصحى فتبقى واحدة لكل الروافد في درجة متقدمة من اندماج مختلف الأصول لتكون لغة عامية واحدة ولو كانت بلهجات متعددة بعدد تلك الأصول. ذلك لأن الفصحى هي أفضل نخب ممكن بين مختلف لهجات اللغة العامية الواحدة يوضع في أفضل قالب معبر بقواعد صارمة مناسبة، وليس هناك في التفضيل الا الأفضل الواحد.

الفصحى القرشية

 

ان الأمة أقامت، طوال تاريخ تكونها وإدائها وظيفتها في تكوين جملة المجتمعات الانسانية، سلسلة طويلة من الحضارات واشتركت في في إقامة حضارات انسانية أخرى مع غيرها من الأمم والأقوام، وقد أشرنا الى هذه الأمور في أكثر من مناسبة في هذه الدراسة. لذلك فانها اختزنت كنزا ضخما من المعاني عن حقائق الكون والوجود والحياة، من المعاني التي قيدتها بتعابير مختلف لهجاتها التي قامت في مختلف روافدها ثم انتقلت في ظروف دار الاسلام للاستقرار في بيان العربية القرشية الفصحى مع ما استقر من معاني انتقلت الى هذا البيان من اللغات الحضارية الأخرى كالفارسية واليونانية والرومية والهندية والصينية وغيرها. الأمر الذي وسع بالضرورة في بيان الفصحى العربية المذكورة وعمقه باتساع المعاني المذكورة وتعمقها.

ان تطور المعاني يتبع بالضرورة الأشكال التي تمر بها حياة الجماعة صاحبتها وأنواع اهتماماتها، فقبل بناء دار الاسلام كانت الاهتمامات الغالبة لروافد الأمة العربية في الإهليلج الخصيب وفي وادي النيل ترتبط بالتوسط بين أقوام العالم الفديم من شرقه الى غربه. وكانت طرق وواحات ومدن وموانئ الجزيرة العربية تشكل منافذ للمنطقة العربية المذكورة. لذلك كثرت الأسواق في هذه الجزيرة وارتقت شبكة الطرق التجارية في تلك الأيام وتطورتالى مستويات رفيعة فنون الانتقال بالقوافل على تلك الطرق كما تطورت وارتقت مختلف المهن المرتبطة بتلك النشاطات. لقد كانت الحركة والعمل المباشر والمبادرة هناك شغل الناس الغالب على المشاغل الأخرى الموجهة نحو البحوث المنهجية الفكرية التي كان يقوم بها المستقرون في المناطق العربية الأخرى. ولا يعني هذا انقطاع أهل هذه الجزيرة عن أشقائهم في مختلف مناطق الإهليلج الخصيب ووادي النيل، بل ان نشاطهم في حياتهم المذكورة كان كما نرى متمما لنشاط الأشقاء المستقرين وسببا للاتصال الوثيق بهم: كان الجميع في الإهليلج الخصيب ووادي النيل يشكلون كتلة اقتصادية واحدة للانتاج والتوسط العالمي وكان عرب الجزيرة العربية يشكلون جهاز النقل والتوسط لهذه الكتلة الاقتصادية بقوافلهم البرية والبحرية وبأسواقهم. لذلك كان هؤلاء العرب على اتصال وثيق اذن بكل حضارة قامت في تلك المنطقة الكلية، في الإهليلج والوادي المذكورين، وكانوا غير مقصرين من الناحية الفكرية عن أشقائهم في بقية المنطقة لا سيما في فهم الاتجاه العام لأحداث التاريخ حينذاك، تلك الأحداث التي كانت تسير بهم الى الدور العظيم الذي قاموا به وهو إنهاء طور الرق والصعود بجملة المجتمعات الانسانية الى الطور الأعلى، طور الاسلام أو طور الحرفة الحرة والتجارة العالمية النشطة بالثورة الاسلامية العظمى.

وكانت اللغة القرشية لا تتوقف عن النهوض والتوسع والتعمق في أقوام الجزيرة العربية وفي امتدادات هذه الأقوام في سورية والعراق، بينما كانت شقيقتها الآرامية بلهجاتها المختلفة تتوقف لتنحدر بعد بلوغها الأوج في الاتساع العالمي، وذلك بفعل منافستها مع اليونانية والفارسية وبفعل تفسخ ذلك العالم وانقسامه الى فارسي ورومي ما كانا ينفكان عن التناحر والتقاتل. وظهرت في النتيجة المدرسة القرشية في التعبير عن المعاني فنافست شقيقتها الآرامية التي انتهت أخيرا بقيام دار الاسلام وحلول القرشية محلها وتجاوزها بهذه اللغة التي أصبحت لغة الأمة العربية واللغة العالمية للحضارة الاسلامية في طور الاسلام.

ان التشكيك "بالأدب الجاهلي" لانكاره، الأدب الذي نشأت وترعرعت في حناياه لغة قريش، لايعني في النتيجة سوى انكار وجود لغة متقدمة لدى الرافد الأساسي للأمة العربية، لدى عرب الجزيرة العربية وامتداداتهم في الهلال الخصيب. ويتبع هذا بطبيعة الحال انكار انسان متقدم حضاريا في هذا الرافد، كما حدث وصور بالفعل هذا الانسان بصورة أولئك البدو التعساء الذين انقطعوا عن أصولهم بالهجمة الرأسمالية وتردوا بالفقر بعد أن أمحلت أوطانهم بالدمار الذي أنزله الاستعمار بها. لقد كان ذلك الانكار متمما للهجمة الاستعمارية المعاصرة على ديار العرب. وقد ساهم في حملة الانكار هذه الى جانب المستعمرين حمقى من العرب بشتى الدوافع كالجهل والصهينة والوثنية. فالأخيرون مثلا يجدون في فكرة تخلف العرب وانقلابهم بالاسلام الى قوة متقدمة برهانا على قدرة الله وكأن هذه القدرة ليست بديهية فهي بحاجة برهان يثبتها، وكأن جدارة العربي وتقدمه المادي والروحي ليكون جديرا بتغيير الدنيا الى الأفضل لايكونان بقدرته عز وجل. ان طه حسين مثلا أحد المشككين وعلما من أعلام أدبنا العربي، استغرب نظم أشعار الجاهلية بلهجة واحدة هي اللهجة القرشية مع أن الشعراء لا ينتمون كلهم بطبيعة الحال الى قريش وانما الى أوساط لها لهجات مختلفة. فهل كان يغيب عن هذا الكاتب الكبير الذي يبلغ التشكيك بذكائه وفهمه مبلغ التشكيك بأدبنا الجاهلي، نقول هل غاب عنه أن اللغة الفصحى لابد من أن تكون واحدة، كما مر معنا أعلاه، وبالتالي فان الشعر الجاهلي موحد بهذه اللغة وهو ليس برجل عامي؟ نرجو ذلك لا سيما أنه تراجع بعض الشيء في بقية عمره عن سوء ظنه بلغتنا التي بلغ فيها هو بالذات مبلغ الأستذة التي جعلته الرمز الكبير في أدبنا وفكرنا.

ان مسيرة الأدب العربي ، بنشوئه وتقدمه وارتقائه، من الجاهلي الى المخضرم الاسلامي فالحجازي الاسلامي والأموي فالعباسي المشرقي والأندلسي فالانحطاط الخ.. هي مسيرة لاانقطاع فيها ولا تنبع من فراغ. فأصولها ثابتة في الجاهلية بدلالة المخضرمين العمالقة في هذين العصرين من أمثال الخنساء وحسان بن ثابت وكعب بن زهير والحطيئة وغيرهم، اذ لاسبيل الى التشكيك بوجود هؤلاء ووجود أشعارهم كما رويت لنا وبالتالي لاسبيل الى انكار وجود عمالقة من وزنهم عاصروهم أو سبقوهم في الجاهلية وقالوا الشعر بالفصحى التي رويت أشعارهم بها. تقول الدكتورة عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ) في دراستها للخنساء ما يلي: "ان دعوى الشك في الشعر الجاهلي جملة لاينهض بها مانسلم به من أسباب النحل ودواعيه، وإنما أقصى ما يمكن أن تعطيه هذه الأسباب هو أنها أضافت الى الشعر الجاهلي ما ليس منه، لكن ليس الى ذلك المدى الواسع النطاق الذي يجعل شعر العصر كله موضع الاتهام.. واستطاع خبراء الشعر في عصر مبكر أن يزنوا الرواة بأدق موازين الجرح والتعديل فميزوا الوضاع منهم، والأمناء.. وكان للشعر في عصر التدوين الأولي علماؤه الخبراء به، يعرفونه بكثرة المدارسة كما يعرف الجوهري صنوف الجوهر وكما يعرف الصيرفي الدرهم والدينار، وهو قول "ابن سلام" في مقدمة كتابه "طبقات الشعراء".. وربما أمكن أن يقال لأيضا، أن الذين انتحلوا الشعر وأضافوه الى الجاهليين التماسا للمنفعة في عصر التدوين، أو إرضاء لأهواء العشائر والأحزاب والعصبيات أو.. أو.. كانوا بلا ريب يحرصون أشد الحرص على أن يكون هذا الشعر المنحول ممثلا للذي سلم الى عهدهم من تراث الجاهلية الغني كيما تجوز نسبته الى شعرائها، وحتى يفوت علماء الشعر إدراك زيفه، أو يشكل أمره عليهم كما نص على ذلك "ابن سلام". وهذ يجعل الشعر المنحول الذي فات أولئك العلماء أن يكشفوه حظه من التقدير من حيث دلالته على عصره وتمثيله للخصائص الفنية للشعراء الجاهليين".

ويدور الجدل وتقوم التساؤلات حول العديد من الأمور المرتبطة بأدبنا الجاهلي منها مثلا أمرالمعلقات وسبب تسميتها بهذا الاسم وعددها. فمن ناحية العدد فقد تراوحت الروايات بين الأربع والعشر معلقات. وسبب الاختلاف والجدل في هذه الأمور هو برأينا الابتعاد عن واقع الحياة والانطلاق في متاهات الأبراج العاجية. والشيء الثابت أنه كانت هناك أسواق للعرب ومواسم. وكانت تلك الأسواق وما زالت أمثالها، كما هو معلوم، لا تقتصر على البيع والشراء وإنما تقوم بمناسباتهانشاطات أخرى متعددة متنوعة، فهي معارض دولية بلغة هذه الأيام. كانت تقوم مختلف المباريات مثلا والعروض الفنية والمفاخرة بأنواعها والاحتفالات والدعوات الخ.. فأول اتصال بين النبي عليه السلام وبين الذين غدوا أنصاره فيما بعد من الأوس والخزرج كان في موسم الحج في مكة كما أن الاتفاق على أن تكون يثرب دارا وعاصمة الدعوة كان في الموسم الذي تلا الأول. وتكون للمباريات بطبيعة الحال قواعدها وحكماؤها الموكول اليهم إدارتها ومراقبة حسن تطبيق قواعدها والخضوع لقوانينها. وكان القاصون يروون للناس أخبار الأقوام وحكاياتهم، والخطباء يلقون عليهم خطبهم ومواعظهم والشعراء أشعارهم. والناس يحبون، على العموم، الشعر ويهرعون الى ندواته، ولكن العرب كانوا يطلبونه للأخبار التي يرويها لهم حول أمورهم الاجتماعية والسياسية التي كانت تشغل بالهم. وكانوا يستوحون من تعابيره صور الحياة التي تحيط بهم فيطربون لجمالها ويحزنون لمصائبها ويتفكهون بنكاتها، ويستزيدون لثقافتهم من جميل تعابيره ومتين سبكه وصحيح قواعده وتعابيره وطرافة محسناته وأصالتها، ويستفيدون من حكمه وأمثاله وغيره وغيره. وكان العرب على الأخص مغرمين بالشعر لأنه بسهولة حفظه وسرعة انتقاله يشكل وسيلة ممتازة للإعلام وديوانا سهلا للحفظ، فبه كانوا يبثون ما يريدون من معلومات، وبتعابيره المؤثرة يقدمون حججهم ويدحضون جميع خصومهم، وفيه يودعون ذكرياتهم وتاريخهم. يقول ابن عباس: "الشعر علم العرب وديوانها فتعلموه"، ويقول عمر بن الخطاب : "من أراد أن يفهم كلام الله فعليه بديوان الجاهلية"، ويقول: "محاسن الشعر تدل على مكارمالأخلاق وتنهى عن مساويها "، ويقول: "أفضل صناعات الرجل الأبيات من جيد الشعر". ويروي السيوطي عن ابن رشيق قوله: "كانت القبيلة من العرب اذا نبغ فيها الشاعر أتت القبائل فهنأتها بذلك، وصنعت الأطعمة، واجتمع النساء يلعبن بالمزاهر كما يصنعن بالأعراس، وتتباشر الرجال والولدان، لأنهحماية لأعراضهم، وذب عن أحسابهم، وتخليد لمآثرهم، وإشادة لذكرهم". كل هذا كان إشارة الى لغة تتهيأ لتكون لغة طور انساني مقبل مشرق هو طور الاسلام أو طور الحرفة الحرة والتجارة العالمية النشطة. وقد أتى القرآن ليجعل من هذه اللغة لغة أمة تم قيامها بإدائها وظيفة توحيد العالم في جملة مجتمعات انسانية واحدة بعد أن قضت على نظام الرق وأقامت لأول مرة في تاريخ الانسان دارا حضارية تقوم على تعارف الناس وتعاونهم وتكاملهم وتكافلهم بغض النظر عن أصولهم وأعراقهم.

كان الشعراء وغيرهم من الخطباء يأتون اذن الى أسواق الجاهلية الموسمية ليلقوا بأشعارهم وخطبهم في في احتفالات ولقاءات منظمة من قبل هيئات معينة في مكة: من قبل بني هاشم مثلا الذين أوكل اليهم قبيل الدعوة الاسلامية وظيقة السقاية والرفادة (أي تنظيم إقامة الضيوف والوافدين الى مكة في الموسم). وكانت تقوم مناقشات حول المواضيع المطروحة والقصائد الملقاة من قبل الشعراء، وكان الحكماء يديرون تلك المناقشات ويحكمون لهذا أو ذاك بالتفوق. وخبر النابغة الذبياني عندما جلس في الحفل الذي أنشد فيه الأعشى والخنساء وحسان بن ثابت حيث حكم للخنساء على حسان وغضب هذا الأخير ورد حكمه مشهور في كتب تاريخ الأدب العربي ويدل بوضوح على هذا الأمر الذي نطرحه هنا. كما أن عادة تعليق القصائد والأعمال الأدبية الجيدة في الكعبة أمر مشهور أيضا وان أنكره بعض الين تغيب عنهم الأهمية الكبيرة لحسن سير أمور الموسم ولتنظيمه واعداده للنجاح بالنسبة الى القيادات المكية التي كانت كما نرى تنشئ هيئة خاصة بالرفادة والسهر على تنظيم الموسم. ولا أدل على الجدية البالغة التي كان القرشيون يأخذون بها أمر مواسمهم وتنظيمها وحمايتها من كل ما يسيئ الى سمعتها من ذلك الحلف الذي قام في دار عبد الله بن جدعان وسموه حلف الفضول والذي اتفق فيه المتحالفون على أن يردوا على كل مغبون غبنه في الموسم ويعوضوه خسارته الحاصلة بسبب هذا الغبن. وقد حضر الرسول (صلعم) مع أعمامه عقد هذا الحلف في دار ابن جدعان قبل قيامه بالدعوة الاسلامية وكان يستحسنه ويذكره دوما بالرضى والاعجاب. ونجدفي النتيجة أنه كان بديهيا أن يسعى قادة هؤلاء الناس الى تهيئة كل ما من شأنه إنجاح مواسمهم وتشجيع الناس على ارتيادها بمختلف الوسائل التي من جملتها مثلا دهوة كبار الشعراء إلقاء أشعارهم في ندوات تقام فيها. وكان من جملة الجوائز التشجيعية لأولئك الشعراء تعليق قصائد المجيدين منهم في لأقدس مكان عندهم الذي هو الكعبة. ونجد بالتالي أن عدد المعلقات كان كبيرا من من مرتبة عدد المواسم على الأقل الذي يزيد على العشرين والمائة موسم: من مولد امرؤ القيس عام 500 ميلادية حتى وفاة زهير بن أبي سلمى عام 620 ميلادية، على اعتبار أنه كان هناك موسم كبير على الأقل في كل عام. وقد أصبح لهذا السبب التعليق في الكعبةرمزا لجودة القصيدة وذيوع شهرتها وخلودها أجرى تعليقها في الكعبة أم لم يجر. فتكون اذن تلك التقديرات لعدد المعلقات المار ذكرها أعلاه والمتراوحة بين أربع معلقات وعشر إعدادا لنتخبات أو لمفضليات لدى أولئك الذين انتقوها بين أشعار الجاهليين في العصر العباسي، انها أفضل ما علق في الكعبة من الشعر الجاهلي الجيد برأي أولئك النقاد العباسيين.

ان مجرد قيام تنافس في العمل الأدبي أمام حكم يحكم لهذه الجهة أو تلك هو دلالة قاطعة على أن هناك في مجتمع المتنافسين مقاييس وقواعد للجودة تبين مقدار صدق وصحة وجمال العمل المذكورفي تعبيره عن المعاني المقصودة. وكان الجاهليون الذين طوروا تلك الفصحى القرشية بتجربتهم واحتكاكهم وتفاعلهم بين بعضهم بعضا يحكمون على العمل الأدبي ، شعرا كان أم نثرا، بذوقهم وسليقتهم. وكانوا في المناسبات الكبيرة ، في المواسم مثلا يأتون بحكماء موثوقين بتمرسهم باللغة وعلو ذوقهم من أمثال النابغة الذبياني ليحكموا ويقدروا قيمة ما يعرض من أعمال أدبية وليفاضلوا فيما بينها. وكانت مقاييس المفاضلة والقواعد التي تستند اليها مضمرة في تعابير اللغة المقبولة المفهومة وفي الأقوال المأثورة والأشعار المشهورة وما كانت منظمة تنظيما منهجياعلميا كالذي جاء فيما بعد في العصر الإسلامي الذي استند بداهة الى ذات تلك القواعد والمقاييس بعد استنباطها من نصوص لايرقى الشك الى فصاحتها كالقرآن الكريم وأقوال النبي الثابتة وكلام عرب الجاهلية. وهنا علينا أن ننبه الى أمر هام هو أن اللغة، عامية كانت أم فصحى، تلتزم بقواعد تجعلها قادرة على التعبير عن المعاني المستقرة في ضمير الانسان، كما بينا هذا الأمر أعلاه، والا فانها لاتكون في  الحالة المعاكسة تلك الوسيلة للتعبير عن المعاني وبيانها، لاتكون لغة وانما مجرد أصوات لاتكشف عن شيء . والعامية التي تصبح سليقة في الانسان بسبب التربية والممارسة الدائمة (والتي تسجل تسجيلا عصبيا في الجملة العصبية يشبه التسجيل على الأشرطة الممغنطة بصدقه ولكنه أعلى منه بما لايقاس بتعقيده واتساعه وعمقه وتعدد أبعاده) نقول أن العامية التي تصبح سليقة بالتربية وبعفويتها وقرب أغراضها لاتحتاج لتعلم قواعد ومقاييس لضبطها وحسن إدائها ما دامن ملكة طبيعية في الفرد تنشأ بنشوئه من طفولته وترتقي معه الى مماته ككل ملكة أخرىكالحركة في الفرد والغذاء وغيره: رأينا أعلاه أنه لابد للانسان من لغة يبين بها معانيه المضمرة في ضميره المعبرة على الأخص عن حاجاته الحياتية المباشرة. ويكونللعامية بطبيعة الحال سويات وأشكال بحسب بيئة الفرد الذي يعبر بها. ولكن هذه السويات الدنيا لأهل البيئات قليلة الثقافة، الأمر الذي يبقيها لغة واحدة تخدم الجميع. أما الفصحى فقد سبق أن قلنا أنها مشتقة من العامية كاشتقاق التجمل من العادة، من أفضل ما يتقنه اللإنسان كفرد إجتماعي وذلك لأغراض ومناسبات خاصة ، وهي لاتأتي الا بالتعلم. ويمكن أن تصبح سليقة بطول الدراسة والممارسة ولكنها لاتبلغ في تأصلها في طبيعة الانسان ما تبلغه العامية. لذلك كان لها قواعد ومقاييس لابد من الالتزام بها لتؤدي أغراضها كلغة هي الوسيلة الأولى والحاسمة في البيان وكشف المعاني المضمرة: عند امتهان تلك القواعد والمقاييس فيما يسمونه اللحن وسوء التعبير فان الفصحى تتعطل أو تقصر عن استيعاب المعنى المطلوب كشفه. ان الذي يقول عبارة "أشهد أن محمدا رسول الله"، بفتح كلمة رسول التي تصبح عندئذ صفة لمحمد، لايؤدي المعنى الذي يقصده وهوالشهادة لمحمد بالرسالة، وانما يلفظ بهذا التعبير جملة ناقصة المعنى بغياب خبر "ان" الذي كان كلمة "رسول" فتحولت باللحن الى صفة. واللحن هنا يتناول قواعد النحو وهو شائع. وهناك سوء التعبير الحاصل من امتهان قواعد الصرف كاجمع غير الصحيح وسوء تصريف الأفعال الذي يغير أزمانها وما شابه. وكل هذا يتعلق بلفظ مفردات اللغة، أي بالتعبير لبيان معنى من المعاني، بينما هناك من الخطأ أو سوء التعبير ما يتعلق بأسلوب بيان المعنى المضمر كالتشبيه الخطأ والاطناب في موضع الايجاز أو العكس. وقد يكون المعنى بذاته غير صحيح فلا ينطبق على حقيقة في الواقع فيكون التعبير عنه نوعا من الخطأ أو الكذب. هنا نجد أخطاء البيان والبلاغة.

ان لحن الفصحى والتقصير بأدائها بشكل من الأشكال يأتي من الجهل باللغة ودواؤه مزيد من التعلم والتدرب، أما العامية فامتهان قواعدها هو مرض كأي مرض آخر من أمراض الجسم وقصور الملكات الطبيعية: لابد للانسان من أن يمتلك الوسائل التي تمكنه من معايشة الجماعة وتأتي العامية في رأس هذه الوسائل. ان الأخرس مثلا فيه عجز جسمي فيستعيض مضطرا عن اللغة باللسان باللغة بالإشارة ليتمكن من معايشة الجماعة. والنسيان والأوهام مرضان يعطلان الصلة بالجماعة موقتا أو بشكل دائم عندما يستعصيان. وكذلك سوء النطق بالحروف ينقص البيان والكشف عن المعاني. الا أنه لابد للإنسان السوي من أن يفصح عن معاني ضميره بلغة محيطه، بالعامية، التي هي ملكة النطق عنده وعند أمثاله كأي ملكة أخرى كالسير ومختلف الاحساسات وغيره. ثم ان العامية ترتفع وتتحسن لتقترب من الفصحى في ظروف مناسبة كظروف نهوض الأمة عندما ينتشر العلم في المجتمع، كما يتحسن إداء الفصحى بذاتها عندئذ. ويحدث العكس في عصر الإنحطاط فتتجمد الفصحى وتبتعد العامية عنهاوتنحط معاني وأغراض وأشكال البيان بهاتين اللهجتين.

يقول ابن فارس أحمد، اللغوي النحوي الكوفي المذهب: "كانت قريش مع فصاحتها اذا أتتهم الوفود تخيروا من كلامهم وأشعارهم أحسن لغاتهم وأصفى كلامهم، فاجتمع ما تخيروا من تلك اللغات الى نحائزهم وسلائقهم التي طبعوا عليها فصاروا بذلك أفصح العرب".

وقلنا أعلاه أن لغة الجاهليةالفصحى كانت تتسع وتتعمق لتكون بالتالي لغة الطور العالمي الذي قام بقيام الاسلام. فالأحداث في المنطقة وفي العالم كانت تؤسس وتدفع الى هذا الأمر. ثم أتى القرآن الكريم وأتت أقوال النبي وأقوال صحبه بالقرسية الفصحى كلسان مقدس للدعوة يعبر عن أشرف طموحات الانسان لتجديد العالم بقلب طور الرق العالمي وإلغاء عبوديته وإقامة الطور الإسلامي، طور التقاء الانسان للتعارف والتعاون والتكامل والتكافل في مجتمعات تكافؤ الفرص بالشكل الذي أتاحه التطور المادي للجملة الانسانية في تلك الأيام، الشكل الذي أشرنا اليه في القسم الأول من هذه الدراسة المنشور في الحلقة الأولى من سلسلة القسام. وكان من نتيجة ذلك الجدل الكبير الواسع العميق في كل الأوساط وعلى كل المستويات الفكرية في الجزيرة العربية طوال ذلك الصراع العنيف الذي دار بين خطي الوثنية والتوحيد من مبعث النبي (صلعم) حتى وفاته، أي طوال أكثر من عشرين سنة، ان امتلك العرب بالإضافة الى فصحاهم الأدبية فصحى عقائدية جدلية. ولننظر الى الصورة التالية التي يعطيها الجاحظ حول هذا الأمر في كتاب البيان والتبيين حيث يقول: "وذكر الله تعالى لنبيه حال قريش من بلاغة المنطق ورجاحة الأحلام وصحة العقول. وذكر العرب وما فيها من الدهاء والنكراء والمكر، ومن بلاغة الألسنة واللدد عند الخصومة فقال: "اذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد"، "وتنذر به قوما لدا"... ثم ذكر خلابة لسانهم واستمالتهم الأسماع بحسن منطقهم فقال: "وان يقولوا تسمع لقولهم"، "ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا، واذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد". وكان المؤمنون، الذين يتزايد عددهم باستمرار طوال ذلك الصراع، يتلقفون الآيات القرآنية التي تتتالىوأحاديث الرسول المعلم باهتمام بالغ وشوق عارم فيحفظوها عن ظهر قلب ويتناقلوها وأخبار مناسباتها في أحاديثهم وسمرهم ويبشر بها بعضهم بعضا. ويمكن القول أن أولئك المؤمنين الذين استجابوا للدعوة وبشروا بها انقلبت حياتهم بكل دقائقها مع حياة من استجاب لهم وآمن الى مناسبة في غاية الجدية فكانوا لايعبرون عن معاني ضمائرهم الا بأسلوب جدي يقوم على اللغة الفصحى التي جلاها عندهم القرآن وكلام الرسول. وبعد وفاة النبي وانتصار الإسلام وخروجه بدعوته الى العالم اندمجت العامية بالفصحى في أوساط كل أولئك الذين اضطلعوا بتلك المهمة التاريخية العالمية الهائلة: لقد شمل التهذيب كل وجود الانسان الفرد وكل نواحي حياته في الجماعة. شمل جسمه بالابتعاد عما يضره وبالعمل على تقويته، وشمل نفسه ووجدانه بتعشق الخير والجمال البريْء، وشمل علاقاته بالآخرين بالانسجام معهم، وشمل لسانه بتصحيح إعوجاجه والإرتفاع به الى تعابير الفصحى عن المعاني الشريفة المقدسة المكنونة في ضميره. بل ان الأمر قد وصل في تلك المدرسة الهائلة التي غيرت ذلك العالم ميلغ معاقبة ذلك المقصر في تهذيب نفسه جسمانيا وروحيا ولسانا. ويورد الأستاذ سعيد الأفغاني بعض الأمثلة على التشدد في السلوك واللسان في بحثه "أصول النحو" فيقول: "فاذا بلغنا عهد عمر رأينا المصادرتثبت عددا من حوادث اللحن فتذكر أن عمر مر على قوم بسيئون الرمي فقرعهم فقالوا: "انا قوم متعلمين" فأعرض مغضبا وقال: والله لخطؤكم في لسانكم أشد علي من خطئكم في رميكم.  وورد الى عمر كتاب أوله: من أبو موسى الأشعري، فكتب عمرلأبي موسى بضرب الكاتب سوطا".

وانتشرت اللغة العربية في كل الأقوام التي ظللها علم الاسلام. هذه الأقوام التي أحبت الاسلام وآمنت به وتعلمت لغة قرآنه ولغة أحاديث نبيه وقدستها. وقد روى التاريخ أخبار هذا الانتشار للاسلام فقال مثلا مهرو في كتابه الذي كتبه وهو في سجون المستعمرين الإنجليز تحت عنوان"نظرات حول تاريخ العالم" الآتي: "ان الديانة التي بشر بها محمد وبساطتها واستقامتها والديموقراطية والمساواة اللتين أعلنتهما هذه الديانة كل ذلك حظي بصدى واسع. فالشعوب عانت لأمد طويل من نير الحكام الملوك الطغاة ومن نير الكهان والقساوسة الذين ما كانوا أقل طغيانا وتعسفا من الملوك، وتعبت من النظام القديم ونضجت لتقبل الجديد. وقدم لها الاسلام هذا الجديد الذي كان أمرا مرغوبا حمل اليها الأفضل ووضع حدا للكثير من الشرور؟. ويقول المؤرخ جيبون الفقرة التالية في بحث له حول وحدانية الاسلام منشور في المجلد 41 من "مجموعة الكتب العظيمة للغرب": "لقد كان مذهب محمد منزها عن الريبة والغموض، والقرآن شهادة مجيدة على وحدانية الله. ولقد رفض نبي مكة عبادة الأوثان والرجال والنجوم والكواكب. معتمدا على مبدأ عقلاني بأن كل ما يشرق يغيب، وكل ما يحيا يموت، وكل ما هو فاسد مصيره التآكل والفناء. ان منظم الكون في حماسه العقلاني آمن بكائن أبدي غير محدود، بدون شكل ولا مكان، بدون ولد ولا سبيه، حاضر في أعمق أعماق أسرارنا، موجود بضرورة طبيعته، ومستمد من نفسه جمع الكمال الذهني والأخلاقي. ان هذه الحقائق الرائعة، التي أعلنتبلسان النبي، قد اعتنقها أتباعه. وحددها شارحو القرآن بدقة ميتافيزيقية. ان فيلسوفا مؤمنا بالله يمكنه أن يتبع المذهب الجماهيري لمحمد، وهو مذهب قد يكون أرفع من مؤهلاتنا الحاضرة". وقال هربرت ويلز المؤرخ البريطاني في مقال له: "لقد توجه الدين الاسلامي الى جماهير الناس الذي نزل عليها فبشرها بأن الله هو اله العدل. وكان تبني تعاليم النبي محمد ونهجه قد فتح الباب على مصراعيه أمام روح الأخوة والثقة بين الناس على وجه البسيطة في ذلك العالم المليئ بالشكوك والخيانة والعوائق المستعصية. لقد فتح تبني تعاليم محمد ومنهجه كذلك أبواب الجنة، ولكنها ليست جنة العبادة والصلاة بلا انقطاع التي يشغل فيها رجال الدين والكهنوت والملوك المهمدون مواقعهم الرفيعة كالسابق، بل هي جنة الأخوة الحقة والملذات البسيطة المفهومة التي تتعطش اليها الروح. لقد غرس محمد هذه الحقائق الرائعة في أفئدة البشرية بدون أي رموز مريبة وبدون محاريب معتمة ولا ابتهالات يتلوها القساوسة.. لقد انتصر الإسلام لأنه كان أفضل نظام إجتماعي وسياسي ظهر في ذلك العصر". ويقول ضياء الدين خان في مؤلفه "الإسلام والمسلمون في الإتحاد السوفياتي" ما يلي: "كان من المتعذر على العرب أن يحرزوا الانتصارات وأن ينشروا الإسلام على مساحات شاسعة من العالم لو كان يصطدم بمقاومة الجماهير. وكانت الجماهير الكادحة والناس البسطاء في الفرس والإمبراطورية البيزنطية ينظرون الى العرب كمن يحمل اليهم أفضل العقائد عن نظم الحياة. وقد استقبلت هذه الشعوب العرب بوصفهم المنقذين من الظلم والاضطهاد والجهل والفقر. فكيف لا وان الإسلام كان ينشر في الآفاق والموعظة الحسنة والله تعالى يقول: "لاإكراه في الدين".

نطقت الحضارة العالمية الاسلامية اذن باللغة العربية طوعا كما اعتقدت بالاسلام دينا من حدود الصين حتى فرنسا، فألفت علومها وكتبت أبحاثها وأنشدت أشعارها بها. وبلغ تأثر أقوام هذه الحضارة باللغة العربية درجة نظموا معها أشعار لغتهم الأصلية بتفعيلات الخليل بن أحمد بعد أن انتشرت مفردات وتراكيب العربية في لغاتهم هذه كانتشار اللاتينية واليونانية في اللغات الأوربية وكما انتشرت أيضا مفردات العربية في هذه اللغات ذاتها. ثم اننا أشرنا أعلاهالى أن اللغة العربية استردت كل المعاني الحضارية للحقائق التي اكتشفتها أو شاركت باكتشافها روافد أمتها المختلفة أثناء ازدهار الحضارات التاريخية لجملة مجتمعات البحر الأبيض المتوسط، وذلك بنقل تلك المعاني من اللهجات العربية القديمة أو ترجمتها من الفارسية واليونانية واللاتينية والهندية والصينية الى فصحاها في العصر العباسي. ولا حاجة بنا الى تكرار ما حفلت به البحوث والمكاتب حول هذا الموضوع ولكننا نرد على على أولئك المستشرقين وأتباعهم من حمقى أمتنا الذين يجعلون من علماء الاسلام مجرد تراجمة وحفظة لأفكار الحضارات القديمة آنفة الذكر، التي نكرر ونؤكد على أنها ميراثهم وهم أحق بها من غيرهم اذا كان للحضارات مالك كما يعتقده ويصوره المستشرقون المذكورون عندما يخصصون هذه الحضارة أو تلك لهذا القوم أو ذاك، فنقول أن البحوث العلمية هي سلاسل طويلة من الحقائق التي يمهد معرفة القديم منها كشف الجديد فالأجد وهكذا الى ما لا نهاية. فالحضارة الاسلامية حلقة هامة في سلسلة الحضارات الانسانية، وكان لابد منها لقيام الحلقة التالية التي هي الحضارة المعاصرة.

قلنا أعلاه أن اللغة معجم رموز تنكشف وتتبين بها المعاني وتنتقل فيما بين أفراد الجماعة صاحبتها التي تشكل بهذا شبكة حياتها وحياة الفرد بشكل يتناسب مع الظروف القائمة. ورأينا في القسم الأول من هذه الدراسة أن الجماعة الانسانية في نشوئها وارتقائها عبر سلسلة الحضارات تحكمها أنظمة تتراوح على العموم بين شكلين عامين: العبودية والتكافؤ فيما بين الأفراد وفيما بين مختلف الجماعات في جملة المجتمعات الانسانية، التكافؤ الذي يكمله ويعززه التعارف والتكامل والتعاون والتكافل بين بني الإنسان أفرادا كانوا أم جماعات. ورأينا أن الفردية والفئوية التعددية تطغى في العبودية فيقوم الجمود وتطغى الوثنية في الجماعة، بينما تنتشر الجماعية في أنظمة التكافؤ الانساني فيقوم التقدم والتوحيد في الجماعة. ان التعددية الفردية الأنانية والفئوية المنغلقة التي تفرط عقد الجماعة بسلوكها ثم توحده بقهر وتسلط العبودية الوثنية لها حقائقها الجامدة المعقدة المتراكبة المتعاظلة غير الواقعية وبالتالي تنقسم المعاني في عالمها الذي تبنيه الى قسمين متعارضين: معاني القاهرين ومعاني المقهورين، مفاهيم الجمود عند الأنانيات المنغلقة ومفاهيم الحياة الثائرة المتغيرة. فالمعاني في ضمير الأفراد القاهرين وضمير جماعاتهم تكشف عنها أشكال البيان العبودي المتراوحة بين مظاهر العنف العدواني وبين اللغة الظالمة التي تصيغ قوانين القهر والعبودية. والمعاني الكامنة في ضمائر المقهورين تكشف عنها أشكال البيان الرافض المتراوح بين مظاهر العنف الثوري الذي يرد على العنف العدواني وبين لغة الإحتجاج على القوانين الظالمة. وهناك أيضا الإستخذاء المعبر عن معنى الرضى والإستسلام للظلم في ضمير المظلوم. فاذا عدنا الى اللغة العربية نجد أن بيانها في القرآن الكريم وأحاديث النبي ولغة المجاهدين أصحاب النبي وجند الإسلام يكشف ويعبر عن المعاني الدافعة الى التغيير من جمود الوثنية وقهر العبودية الى التحرر بإقامة نظام تكافؤ وتعاون الأفراد والجماعات والمجتمعات الانسانية وتكاملهم وتكافلهم. فالحق المطلق سبب كل سبب في الكون قام له في ضمير المسلم المجاهد معنى اللامنتهي في كبره، الرحمن الرحيم بالإنسان وهاديه الى النعم والراضي عنه ما اهتدى وابتعد عن الضلال فهو معبوده بداهة. وقد بينت اللغة العربية وكشفت عن هذا المعنى بتعبير "الله أكبر"، أي أكبر من كل تقدير لكل نوع أو صفة يمكن أن توجد أو تمر في الخاطر، وعنونت كل عمل يخدم الحياة والتقدم الإنساني بعنوان "بسم الله الرحمن الرحيم". وقد كانت معاني هذه التعابير عامة ومتزامنة في ضمائر أولئك المجاهدين الذين ذهبوا لذلك كتلة متراصة لإقامة ذلك الطور الإنساني بإقامة دار الإسلام: كانت هذه المعاني، وما اشتق عنها من معان مشابهة، تقوم في وقت واحد في ضمائر أفراد هذه الأمة المجاهدة وتتكشف كل يوم فيما بين جماهيرها بلغتها وبمختلف أدوات بيانهاالأخرى المشتركة كالصلاة مثلا التي تتكرر خمس مرات يوميا، عذا الالتزام الدائم بهذه المعاني جماعيا وإفراديا في مختلف ممارساتهم في حياتهم الطبيعية.

كانت اذن تلك المعاني أعلاه هي التي قام عليها ضمير العربي والمسلم إبان إقامة الطور الإسلامي العالمي وعن هذا الضمير كشفت لغتهم العربية وعبرت. وقد أقام الفقه الإسلامي بفصحى العربية نظاما عالميا يرتكز على تلك المعاني الانسانية وتخضع لقوانينه ومقاييسه المعاملات الفردية والدولية لذلك الطور الإسلامي. فأي معان يا ترى كمنت في ضمائر الوثنيين العبوديين الذين أهلكوا البشر بشتى الأشكال ونعني هنا أولئك الرأسماليين الاحتكاريين على الأخص الذين  أبادوا الأجناس في مسيرتهم الوحشية لإقامة نظامهم العالمي العبودي. ان الحديث عن همجية هذا الطور يطول الا أن بالإمكان التذكير به بالإشارة الى أشأم مرحلة فيه التي هي المرحلة الأميركية. لقد ملأت الرأسمالية الإحتكارية الأميركية الدنيا فسادا وجورا فعبرت مثلا عن تلك المعاني التي نتساءل عنها والتي كمنت في ضمائر أصحابها النتنة بإبادة الهنود الحمر بعد الإستيلاء على مرابعهم، وبإهلاك اليابانيين بالقنابل الذرية، وبقتل الفيتناميين واللبنانيين بالأسلحة الفتاكة، وباستعباد العرب وسلبهم وطنهم فلسطين ليحولوا هذا الوطن الى قاعدة عدوان عليهم وعلى الأمم الأخرى، وبما لايحصى من الجرائم. والآن في شتاء عام 1990 نجد الرأسمالية الإحتكارية الأميركية تجرب إبادة ما بقي من الهنود الحمر في البرازيل للإستيلاء على الذهب الكامن في أراضيهم، تماما كما فعلت في أواخر القرن الماضي عندما أبادت الهنود الحمر في زحفها الهمجي الدامي نحو الغرب للإستيلاء على الذهب أيضا، وذلك بوقاحة ووحشية واستكلاب لايوصف. ثم ان الذهب الأسود في أرض العرب والإسلام يفوق في رنينه واصفراره الذهب الأصفر في أرض الهنود الحمر. لذلك نجد الرأسمالية الأميركية مع شركائها في شتى أنحاء العالم تصر على إبادة الشعب العربي الفلسطيني لتكون لها على أرضه تلك القاعدة العدوانية. ونجد لكل هذا أن لغات الحضارة الرأسمالية الاحتكارية ان تضمنت تعبيرا يدل على معبود رحمان رحيم فان هذا التعبير لايكشف عن أي معنى في ضمائر أصحاب هذه الحضارة يغطي حقيقة من الحقائق، انه مجرد رياء أو أنه بالأحرى يكشف عن معنى يغطي معبودا وثنيا لصاحبه: ان معبود الرأسماليينهو الأنا القابع في اللاشعور عند كل واحد منهم فيسهر على مصالحه الأنانية، لذلك تتعدد آلهتهم بتعدد أفرادهم وفئاتهم وتتعارض في أكثر الأحيان.

ان لكل لغة عبقريتها ومميزاتها المرتبطة بدور الأمة صاحبتها في بناء جملة المجتمعات الإنسانية. وعبقرية اللغة العربية ولألاؤها عند قيام الدعوة الإسلامية لتغيير النظام العبودي العالمي كانا يتمثلان في البيان الساطع المبهر للقرآن الكريم وما تسلسل عنه من أحاديث النبي وأقوال صحابته المقرونة جميعها بمناسباتها. فهذا البيان عبر عن معاني استقرت في ضمائر العرب المجاهدين ووحدت نفوسهم التي كشفت عن مكنوناتها تلك، لغتهم العربية التي وصلت فيما بينهم وكتلتهم في بناء مرصوص كانت له تلك الإرادة لتحرير الانسان من عبودية الرق. فالعربية الفصحى كانت أول لغة في نشوء وتقدم جملة المجتمعات الانسانية، تعبر عن ثورة تدفع بهذه الجملة الى طور أعلى. وهي جديرة أيضا بدور مشابه ينتظرها للتعبير عن ثورة أخرى كبرى تناسب موقع الأمة العربية صاحبتها في الجملة الانسانية، هذا الموقع الحاسم الذي طالما وصفناه في دراستنا الحالية بقسميها الحالي والسابق. وهذا شرف عظيم قلما حظيت به لغة أخرى. أما أن اللغة العربية جديرة باستيعاب العلوم الحديثة فلا ينكره الا كل جاهل أو حاقد أو أحمق. فهذه اللغة التي كسرت كل طوق جامد منذ ما قبل الاسلام، وبالإسلام على الأخص عندما خرجت به لتصبح لغة عالمية ، والتي عبرت بيسر وطلاقة عن معاني كل الحضارات التي عرفها الانسان من أقدم عصور الانسان حتى يومنا هذا، لن تقف أبدا عاجزة عن مسايرة التقدم والتعبير عن المعاني الجديدة وعن المساعدة في الكشف عن مزيد من المعاني الجديدة.

وبعد، اننا لاننكر الجمال أينما كان، في لغتنا وفي لغات غيرنا، ولا نلتفت أيضا الى الحمقى الذين ينكرون الجمال في لغتنا فهم لا يستحقون أي اهتمام تجاه مليارات من البشر أحبوا لغتنا واستفادوا منها وألفوا بها الروائع التي لاتحصى خلال العديد من القرون.

الأبجدية والكتاب العربيان

 

رأينا أعلاه أن حقائق الكون المادية تتصور في ذهن الانسان بالمعاني التي تكشف بأشكال البيان المختلفة التي تأتي اللغة في مقدمتها. والكتابي بطبيعة الحال هو البيان المنظم الأثبت والأبقى، أما الشفهي فهو المباشر الأسهل والأوضح، وهو أيضا الملكة التي توفر الإرتباط العفوي المباشر للفرد بجماعته في كل لحظة من حياته، بينما يوفر البيان الكتابي وينظم الارتباطات الاجتماعية، ويبين علاقات الجماعةبمحيطها المادي، ويختزن ماديا بيانا كليا للمعاني الأساسية التي كمنت في ضمائر الجماعة في الماضي والحاضر مع التطلعات الى معاني محتملة في المستقبل.

ان الأمة عندما تساهم مع الأمم الأخرى في بناء جملة المجتمعات الإنسانية، وذلك بحسب الوظائف التي اضطلعت بها أثناء هذه العملية، تمر بسلسلة طويلة من الحضارات وبالتالي تستقر في ضمائر أفرادها معاني تلك الحقائق المادية التي لامستها في الكون فيكون بالتالي بيان هذه المعاني بالكتابة الوسيلة الفضلى لحفظها. ونجد أن جملة المجتمعات الإنسانية حققت بحضاراتها ولغاتها المكتوبة طوال نشوئها وتكونها تسجيلا هائلا لحقائق الكون المادية، التي منها حقائقها وصورها هي ذاتها طوال عهودها الماضية. وهذا التسجيل ، الذي هو مادي يضاف الى ظواهر الكون وحقائقه ويشكل ثروة هائلة لها مكنوزة في ملايين كتبها في مكتباتها الفردية والخاصة والعامة، كان، بطبيعة الحال، ممكنا فقط بتطوير الأبجدية. وطبيعي أن يكون التسجيل المذكور قد تناول حقائق الكون في أكثر من جانب في أحيان كثيرة، وتناول تطورها عبر الزمان، وأن يكون فيه أغلاط وأخطاء وتقصير ومبالغات وكذب، وأن يتصف بالتكرار غير المجدي وغيره وغيره. وتقف الأمة العربية في هذا الميدان موقف المجلي عندما ابتدأت بها الحضارات الانسانية وعندما شاركت بأشكال مختلفة في بناء حضارات الأمم الأخرى أو التأسيس لها أو نقلت وعبرت بلغتها العربية عن أفكارها. ومن العبث أن نحاول إعطاء إحصائيات حول ما سجلته اللغة العربية من أفكار بكتبها ومكتباتها ولكن بالإمكان أن نعطي صورة تدل على ضخامة مساهمة هذه اللغة في المكتبة العامة لجملة المجتمعات الإنسانية، وسبق أمتنا عبرها في هذا المجال. يقول آدم متز، أستاذ اللغات الشرقية في جامعة بازل السويسرية في مؤلفه "الحضارة الإسلامية في عصر النهضة في الإسلام" مايلي: "وكان في كل جامع كبير مكتبة لأنه كان من عادة العلماء أن يوقفوا كتبهم على الجامع... وقد ترنم ياقوت الحموي بذكرى مكاتب مرو فكان بها على عهده اثنتا عشرة مكتبة، بإحداها نحو من إثني عشر ألف مجلد... وكان للخليفة العزيز المتوفي سنة 996 ميلادية خزانة كتب تحتوي على مليون وستمائة ألف كتاب... وقد استدعى السلطان نوح بن منصور الساماني الصاحب بن عباد المتوفي سنة 994 ميلادية ليوليه وزارته فكان مما اعتذر به أنه لا يستطيع حمل كتبه التي تحتاج الى أربعمائة جمل وأكثر لنقلها، وكان فهرس كتبه يقع في عشر مجلدات... وكان القاضي أبو مطرف المتوفي سنة 1011 ميلادية قاضي الجماعة بقرطبة، وقد جمع من الكتب ما لم يجمعه أحد من أهل عصره بالأندلس، وكان له ستة وراقين ينسخون له دائما، وكان متى علم بكتاب حسن عند أحد من الناس طلبه ليشتريه منه مهما كان ثمنه... ولما أراد البرقاني العالم البغدادي المتوفي سنة 1023 ميلادية أن ينتقل احتاج الى ستين من الأعدال..". وهذه المعلومات ليستسوى متفرقات من هنا وهناك في ذلك العالم الاسلامي الواسع الذي امتد من الصين الى فرانسا وقامت في كل مدينة هامة فيه، وكانت كثيرة، منارة شامخة للمعرفة. ويكفي للدلالة على الإتساع الضخم للمكتبة العربية أن نشير الى الجريمة الوحشية التي ارتكبها ذلك الهمجي هولاكو بإلقائه كتب بيت الحكمة في الدجلة فاسودت مياه هذا النهر الكبير الى مسافات بعيدة بحبر تلك الكتب. وقد حرض على ارتكاب هذه الجريمة رسل بابا روما الذين رافقوا تلك الحملة الهمجية. ولم تؤد، مع ذلك، هذه الضربة وأمثالها التي وقعت في سورية واسبانيا على يد الصليبيين الحاقدين الى الإقلال من شأن ذلك الكنز الكتابي العظيم لاتساعه.

ان التراكم في الكنوز الإنسانية الكتابية ما كان بداهة ممكنا الا بالأبجدية وسيلة الكتابة. ويعود شرف البدء وتطوير هذه الوسيلة الحاسمة للبيان حصرا الى روافد أمتنا العربية التي نشأت وتطورت والتقت لتكوين هذه الأمة انطلاقا من الإهليلج الخصيب ووادي النيل. وهذا أمر لا مرية فيه فثبته بعد مخاض عسير ولأي في نهاية بحثه حتى ذلك الذي تناول هذا الموضوع في الموسوعة بريتانيكا. وقد حاول هذا الباحث في بادئ الأمر إعادة شرف تطوير الأبجدية الى اليونان، كما حاول أثناء بحثه دس اليهود الجهلة الرجعيين في هذا الموضوع تحت اسم الساميين. يقول الباحث المذكور: "ان كتابات عصر البرونز المكتشفة في فلسطين في الثلاثينات من هذا القرن بسطت المسألة الى درجة كبيرة، ومع ذلك ليس هنالك اتفاق تام حول هذا الموضوع. فهذه النصوص الموصوفة بحق ككتابة كنعانية قديمة تجعلنا نفكر بأنها تشكل حلقة بين الكتابة السينائية (وهي كتابة كنعانية مصرية تطورت في سيناء: من عندنا) وبين تلك الأشكال السامية الشمالية التي تضمنت الأشكال  الفينيقية الأولى الشبيهة الى حد كبير بالأبجدية اليونانية مما يدعو الى الجزم عموما بأن هذه الأخيرة هي من أصل فينيقي. كل المراجع المختصة تقبل بدون جدل قرابة الأبجديتين. ولكن الفينيقية هي واحدة فقط من عدد من اللهجات السامية الشمالية (كنعانية بكل تأكيد) المكتوبة فيجب أن ننظر الى الأبجدية اليونانية على أنها من أصل سامي شمالي باحتمال أن الفينيقيين كانوا وسطاء اليونانيين للحصول على أبجديتهم... وكان التنسيب اليوناني الأساسي هو تحريك اثنين وعشرين حرفا ساميا وإضافة بعض الأحرف. وأقدم كتابات وجدت بالأبجدية اليونانية كانت تلك التي وجدت عام 1896 في جزيرة "طيرة" وتعود الى القرن الثامن وربما التاسع قبل الميلاد.أما كتابات أبي سمبل في مصر العليا فتعود الى القرن السابع قبل الميلاد. وهناك كتابات تعود الى القرن السادس قبل الميلاد في أثينا، وهناك كتابات أقدم. وفي جزيرة طيرة تذهب أقدم الكتابات من اليمين الى اليسار (كالسامية) وبعضها تذهب من اليمين الى اليسار ثم تعود من اليسار الى اليمين فالى اليسار الخ.. (كبعض الكتابات السامية). وبعضها تكتب من اليسار الى اليمين... الأبجدية الهندية مشتقة من منبعين: الأبجدية الخاروسطية والأبجدية البراهمية. وهناك محاولات لإظهار أن الكتابة البراهمية تطورت حصرا في الهند دون أية علاقة خارجية ولكن هذا الإدعاء لا يمكن إثباته. فهناكتشابه واضح للأبجدية البراهمية مع الساميات الجنوبية التي ربما أتت مع التجار اليمانيين. أما الأبجدية الخاروسطية فهي اقتباس للأبجدية الآرامية بما يناسب اللغة الهندية. وقد ظهر  استعمالها هناك في القرن الثالث قبل الميلاد..".ثم ان لفظ الحرف في الأبجدية الكنعانية له معناه في اللغة العربية واللغات السامية الأخرى، بينما انتقلت هذه الحروف الى اللغات الأخرى بألفاظها الأصلية الكنعانية دون أن يكون بطبيعة الحال لهذه الألفاظ أي معنى في تلك اللغات الأجنبية التي تنطقها، الأمر الذي يدل بشكل قاطع على أصلها في الروافد القديمة للأمة العربية.

وقد تفنن العرب والمسلمون برسم الخط فكان لهم حسب الاستعمال والبيئة سبعة أشكال رئيسية للخط العربي وهي: الثلثي والنسخي والرقعي والديواني والريحاني والفارسي والكوفي. فكان (وما يزال)هناك خطاطون كبار يكتبون آيات قرآنية مثلا أو أحاديث نبوية أو حكما أو أقوالا مأثورة على لوحات بخط عربي مناسب يتبع قاعدة معينة بغرض التزيين أو التبرك أو التذكير. وان تجليد بعض الكتب الثمينة التي يأتي القرآن الكريم في مقدمتها وعنونة الجلد يشكل من أشكال الخط العربي يشكل قطعة فنية رائعة في آثار أمتنا الاسلامية. يقول آدم متز في كتلب الحضارة الاسلامية الآنف الذكر: "وقد أهدي في القرن الخامس الهجري للوزير نظام الملك مصحف بخط أحد المجودين بالخط الواضح. فكتب كاتبه اختلاف القراءات بين سطوره بالحمرة ، وتفسير غريبه بالخضرة، وإعرابه بالزرقة. وكتب بالذهب علامات على الآيات التي تصلح في العهود والمكاتبات وآيات الوعد والوعيد وما يكتب في التعازي والتهاني.وكان أكبر ما يعنى به عشاق الكتب تلك التي كنبها كبار الخطاطين والتي لأصحابها في النسخ أصل منسوب". وتقول بريتانيكا: "ان أول ظهور لفني الرسم الملون والخط العربي في العصرالإسلامي كان مع إنتاج الكتب. ففي نهايات القرن السابع الميلادي كان إنتاج المصاحف الجميلة المكتوب بالخط الكوفي على الرق في الكوفة والبصرة شائعا. الا أنه في البدء ماكان لها تلك الزينة الفضفاضة وانما كان تأثيرها يقوم على النمط المصقول بشدة للحروف القديمة. وبلغ هذا الفرع من الفن الإسلامي في القرنين الثامن والتاسع الميلاديين أول طور من بهائه بتشجيع خلفاء بغداد القوي، وكان معلمو الخط الكوفي الذين ازدهروا حينذاك لا يقتصرون على العرب فقط وانما كان فيهم أيضا خطاطو البصرة الفرس. وأخذ الخط النسخي ذو الأحرف المدورة يقوم بمختلف أشكاله الى جانب الكوفي المتعامد. ويقال أن أول كاتب بالخط الثلث المشتق من النسخي لغرض التزيين كان الخطاط ابراهيم الصفزي من سجستان،ويعود الفضل الى تلميذه الأستاذ عواد الذي اشتهر بأنه كان الأول في وضع ومناقشة تجويد الخط أيام الخليفة المأمون. وكان بدوره الأستاذ لابن مقلة الذي عمم استعمال الخط النسخي في الكتابة العادية بدلا من الكوفي. وهو الذي كان ينظر اليه كأكبر مرجع لجميع مبادئ هذا الفن. وكان من مدرسة ابن مقلة تلامذة مشهورون مثل ابن البواب وحسن السيرافي وفناخسرو".

ان التفسيرات التي تقول أن تقدم وارتقاء فن الخط العربي دون الفنون الأخرى التي منها رسم الأشخاص وصنع التماثيل يعود الى أن الاسلام حرم هذه الفنون لارتباطها بالوثنية والإستعلاء لاتقوم على أي أساس صحيح. فليس في الواقع أي تحريم لأي فن من الفنون لا في القرآن الكريم ولا في أحاديث النبي عليه السلام، وان كان المسلمون بفطرتهم الإسلامية قد تجنبوا، وهم على حق، كل ما يذكر بالأصنام والأوثان ويبرز التأله والإستعلاء. فمن الثابت مثلا أن عمر بن الخطاب أمر باجتثاث شجرة الرضوان التي تمت تحتها بيعة المسلمين للرسول على الإستشهاد يوم الحديبية وذلك لأن المسلمين اتخذوا منها مزارا وجسدوا بها ذكرى تلك الحادثة المجيدة، ذكرى تلك البيعة، وفي هذا ما فيه من خطر انقلاب الشجرة الى وثن، وبالتالي انحراف المسلمين الى عبادة آثار الرسول. فالوثنية تقوم في الواقع على تجميد الأشكال والنصوص التي قامت بها وعندها الأحداث العظيمة الحاسمة لجهة التقدم الإنساني، وذلك خدمة لمصالح فئة من الناس على حساب المسيرة الإنسانية الايجابية.ونجد في النتيجة أن بالإمكان وضع الفن في خدمة الوثنية بالإكثار من إقامة التماثيل والصور ويافطات الكلمات المأثورة لتغطية وشل عقائد الناس الطبيعية الداعية في جوهرها الى نبذ كل ما يؤدي الى ظلمهم والجور بهم، الى ما يوقع الأضرار الفادحة بسوادهم وبمستقبلهم. ونجد أيضا أن الفن بذاته يمكن أن يوضع في خدمة تثقيف الناس وتحريضهم للبذل والصبر على مجاهدة الفساد والعمل على اجتثاثه لفتح الطريق أمام مسيرة الأمة والانسانية نحو أهدافها المتقدمة ماديا وروحيا. لقد قيلت مثلا أيام الدعوة الإسلامية أشعارا تناصرها كما قيلت أشعارا ضدها. وروي عن النبي حديث يقول : "انما الشعر كلام فمن الكلام خبيث وطيب". وتغنى المجاهدون بأغان وهزجوا بأهازيج تبعث في النفس المعاني الشريفة كما تغنى أعداء الانسان وهزجوا بكل بذيئ ودنيئ. ثم ان الفن ميل انساني طبيعي وملكة للتعبير عن معاني الضمير تتنوع في الانسان بحسب مؤهلاته فلا يمكن للثورة أن توقف منه الا الضار البذيئ الوثني أما النافع فتتبناه وتشجعه. ولم يطلق المسلمون فن الرسم الملون والنحت وإنما استمروا في ممارسة هذين الفنين الى جانب الفنون الأخرى وفقا للذوق العام الذي تولد في النفس الإسلامية والذي يميل على العموم الى شجب وثنية الرق المتخلفة التي أهانت طوال عصور مديدة الانسانية وعذبتها ثم نفاها التوحيد أخيرا وألقى بها في مزابل التاريخ. ففي الإسلام مثلا ليس هنالك أي معنى لإقامة تمثال لإنسان فان لاسيما عندما لايكون هذا الإنسان مستحقا للخلود الا بسيئ أعماله، أو إقامة أهرام يموت ألوف الناس في بنائه كما كان يجري أيام الفراعنة لمجرد جعله تربة لفرعون يهلك الحرث والنسل بظلمه، وذلك مهما كان في مثل هذا الأثر من جمال وضخامة وفن رفيع. لقد كان الذوق الإسلامي ينشد البساطة والصدق والإنسانية في الفن، كان يستجيب الى كل ما يذكره بالمعاني الشريفة لذلك ارتقت الى قمم الجمال والخلود تلك الأعمال المعبرة عن هذه المعاني في الفن الإسلامي وخاصة منه لوحات الخط العربي المعبر الأول والأفصح عن معاني الإسلام الخالدة.

ان مختلف أنواع الفنون هي، كما يفهم مما مر معنا أعلاه في هذا الفصل ، طرائق للتعبير عن معان في ضمير الفنان القائم بإنتاج العمل الفني. والعمل الفني ينقل فكر الفنان صانعه كحقيقة قائمة فيه الى المشاهدين الذين يكونون على العموم أكثر من واحد، يكونون جماهير وفئات من الناس الذين يمرون به في معرض أو متحف أو ما شابه. فالفنان كالكاتب والخطيب يؤلف بحثا يولد في ميدانه الفني في ضمائر الناس المعاني التي يريدها. هنا نفهم أن للفن، كما للكتابة ، قواعد ومحسنات بديعية أو جمالية، وذلك بحسب نوعه بين الفنون وبحسب مدرسته. وله صفات أيضا يتصف بها، فمنه القوي والضعيف مثلا والصادق والكاذب والشريف والمنحط البذيئ. ومنه مايخدم الناس وما يضرهم والتقدمي والرجعي الخ.. ويتجمد الفن في النظام الرأسمالي بالملكية الرأسمالية فتضاف اليه صفة ترتبط بموقف النقاد من مبدعه أكثر مما ترتبط به وبمبدعه. فاللوحات الزيتية في هذا النظام مثلا لايكون لها ثمن مالم يقم نقاد معينون هم في كثير من الأحيان كهنة أكثر من علماء في الرسم فلا يدخلون في "جنة الأسعار" سوى الملائم لآلهة النظام. ان الرسام الهولندي الشهير "فان غوخ" مثلا أبدع في رسم الحياة في الطبيعة وفي بؤس عمال المناجم وكدح الفلاحين كان يعيش على مساعدات أخيه "ثيو" ومات فقيرا معدما. ثم دخلت لوحاته بعد موته دوامة الأسعار الرأسمالية التي رفعت أسعارها حتى جعلت ملايينها تغطي على كل المعاني الانسانية التي قصد صاحبها غوخ تعبيرها بها.

صناعة الورق

 

ان التقدم الانساني المادي والروحي العاصف ما كان ممكنا بدون اكتشاف صناعة الورق وتعميمه، وبدون تطوير التعداد العشري ليصل الى مستواه الحالي، وقد كان للأمة العربية شرف تحقيق هذين الأمرين عندما أدت وظيفتها في بناء جملة المجتمعات الانسانية. وقد عبر الانسان خلال عصور مديدة، وما يزال يعبر حتى الآن في حالات خاصة، بحفر أو رسم على الصخور والأحجار. ولكن مثل هذه الكتابة لاتصلح الا لتسجيل الذكريات البسيطة الساذجة ببضع كلمات أو سطور أو للاشارة الى جهة أو طريق ولا تخدم أبدا التقدم الحضاري كما خدمه الورق: كان لابدمن الصحفوالكتب التي يسهل حملها وانتقالها وتداولها. وقد تطورت صناعة الكتب بتطور مادتها الأولية، بتطور الصحف من أقدم أشكالها لوحات الصلصال المشوي عند قدماء السومريين والبابليين والآشوريين وطوابير (ملفات) البردي عند قدماء المصريين الى الصحف الورقية لكتب العباسيين التي ورثتها صناعة الكتب المعاصرة.

ان لوحات الآجر (الصلصال المشوي) تميزت بكونها ذات مقاومة ممتازة فبقيت على حالها منذ أن كتب عليها قبل آلاف السنين حتى يومنا هذا. وهي بأشكال وحجوم مختلفة وأعم هذه الأشكال كان الهرم ذو الثلاثة أوجه مثلثة على قاعدة مثلثة طول كل ضلع فيه نحو عشرة سنتمترات. وكان كل وجه يشكل صفحة يكتب عليها بأحرف صغيرة. والكل يشكل أصغر كتاب ممكن، كتاب بأربع صفحات. وقد يتطلب الموضوع أكثر من هرم واحد فيكون التتالي فيما بينها مرتبا بالترقيم وكلمة الوصل. أما تسجيل الكتابة فيكون بمرقم مناسب عندما تكون الآجرة رطبة . ثم توضع هذه في الشمس أو تشوى.

وتصنع طوابير البردي من نوع من القصب ينبت في وادي النيل بكثرة، وهي السلف المباشر لكتب اليوم، وهي في قدمها تماثل لوحات الآجر الآنفة الذكر. وهذا الورق بلون الكريم وبعرض نحو عشرة سنتمترات يختلف فيه طول الطومار بحسب الموضوع المكتوب فيه وقد يبلغ بضعة الأمتار. وكان يكتب على هذا الورق بريشة القصب وبالحبر وهو بطبيعة الحال قليل المقاومة تجاه العوامل الطبيعية وعوادي الزمن، ومع ذلك فان هناك طومارا بقي منذ عام 2500 قبل الميلاد حتى يومنا هذا. وتقول بريتانيكا أن الصين تأتي بعيدا ثالث بلد بعد رافدي الأمة العربية المصري والبابلي في صناعة الكتب. فما بقي سالما من الأدب الصيني لما قبل المسيح يدل بكل تأكيد على أن الصينيين كتبوا، وربما ألفوا كتبا وبحوثا في أزمان يرجع قدمها الى 1300 قبل الميلاد. وقد صنع هناك ورق الكتب من شرائح الخيزران مضمومة بعضها الى بعضها الآخر بحبال أو من الخشب.. وظهرت مكتبات صينية تحتوي على بحوث في الطب والأمور العسكرية والفلسفة والشعر والفلك وغيره في القرن الأول قبل المسيح. تقول بريتانيكا: "في العصر الذهبي لأثينا في القرن الخامس قبل الميلاد كانت الكتب معروفة هناك ولكنها قليلا ما كانت معتبرة سبيلا للمعرفة. وقد تعلقت البحوث العلمية لزمن سقراط بما كان يمكن رؤيته في حياة المشاهدة المباشرة كما تركز الاهتمام على المجال الجغرافي الضيق للبلدة الدولة التي هي أثينا. لقد كان عصرا لتألق الكلام المستند الى المشاهدة والتجربة الشخصية. واتجه الإهتمام في الأدب نحو التراجيديا والكوميديا والخطابة والشعر والقصص. وتشير كل الدلائل الى أن الطريقة المثلى للاذاعة كانت المشافهة... ومما لاريب فيه أن الأثينيين كانوا يقرأون الكتب التي بحوزتهم، ولكن هذا لايعني أن كل من كان بعيش في هذه المدينة كان يحسن القراءة، فهذا كان محصورا في الدوائر الضيقة للكتاب والباحثين الذين اعتادوا منذ شبابهم على احترام الكتب ووطنوا النفس على امتهان الفن الصعب للكتابة والقراءة. وتوسعت النظرة اليونانية المحدودة بمجيئ الإسكندر المقدوني واتسعت من شبه جزيرتهم الى العالمية التي انعكست على استعمال الكتاب... وقد اشتهرت مكتبة الاسكندرية بأنها تحتوي على عدد من الطوامير (الكتب) يتراوح ما بين مائتي ألف وسبعمائة ألف طومار...".ونلاحظ في النتيجة أن الحضارة اليونانية ككل حضارة انسانية ما ارتقت الا بعالميتها التي تحققت عندما ضمت امبراطوريتها روافد الأمة العربية في الهلال الخصيب ومصر فساهمت هذه الروافد مساهمة فعالة في بنائها. فمكتبة الاسكندرية المذكورة مثلا أقامها علماء من أصل مصري خلال الزمن الذي ارتفع فيها هناك العلم اليوناني وما ترك اليونانيون بلادهم الأصلية ليأتوا ويحلوا مكان المصريين في الاسكندرية وغيرها من مدن مصر ليقيموا هذه المكتبة مع الآثار الثقافية الأخرى. وقد أشرنا الى هذه المعاني أكثر من مرة في هذه الدراسة.

ونجد مما مر معنا أعلاه من أوصاف الكتابة على الحجر ولوحاتالآجر وورق البردي ورقاق الجلد والعظام عقم نتائج مثل هذه الكتابة على الثقافة العامة وتقدم المعرفة بالمقارنة مع الكتابة على ورق الكاغد الذي ظهرت صناعته في العصر الإسلامي. فأفضل تلك الوسائل القديمة وهو ورق البردي أو رقاق الجلد ماكان بالإمكان أن يوفر تلك السهولة والمرونة في استعمال صحفه وكتبه ما تعطيه صحائف الكاغد من سهولة في الكتابة ونقل الكتاب وانتشاره مع بساطة إنتاج الورق ووفرة مواده الأولية ورخصه. لقد كانت هناك مراكز قليلة لإنتاج ورق البردي، ثلاث مراكز على العموم: مصر وسورية ثم صقلية، بالإضافة الى ضآلة إنتاجيته. ماكان بالإمكان سد حاجة الجماهير على النطاق العالمي بهذا النوع من الورق. أما ورق الكاغد فمادته الأولية متوفرة بأنواع عديدة وغزيرة من النبات، وإنتاجية صناعته كبيرة وقد لبت الحاجات الجماهيرية الواسعة لدار الإسلام وما حول هذه الدار من العالم. وهذا بالإضافة الى نظافة هذا الورق وسهولة استعماله من كل الأوجه.

كانت الحضارات الانسانية التي سبقت الحضارة الاسلامية التي انتشر وتعمم فيها استعمال الورق الكاغد حضارات تغلب عليها الشفهية وبالإمكان تسميتها بالأمية لا سيما عندما نوغل في القدم. والأمية لغة تعني التعلم الطبيعي الذي تتلقاه الأحياء عن الأم. وعند الانسان تغلب الشفهية على هذا الشكل من اكتساب المعرفة. ان الآية العشرين من سورة آل عمران مثلا أشارت الى القرشيين باسم الأميين تمييزا لهم من اليهود والنصارى الذين أطلقت عليهم تسمية "الذين أوتوا الكتاب". ففي القرشيين كثيرون كانوا يحسنون الكتابة والقراءة وهم مع ذلك أميون بحسب التعريف القرآني الآنف الذكر. ويمكن لهذا السبب تسمية "الأثينيين" المذكورين أعلاه، وكانوا كما رأينا كالقرشيين لا يعتمدون كثيرا على الكتب والكتابة في المعرفة، أميين أيضا.

تقول بريتانيكا: "ان صناعة ورق الكاغد من مواد ليفية كانت كما يبدو موجودة في الصين منذ القدم، منذ القرن الثاني قبل الميلاد. وما تيسر لبقية العالم استعماله الا اعتبارا من منتصف القرن الثامن بعد الميلاد (حيث انتقلت صناعته الى العرب) وانتشرت في دار الإسلام.. واستعمل العرب الكتان في صناعة الورق والخرق البالية وكل نبات ذي ألياف مناسبة والقطن أحيانا. وكان هذا الانتاج العربي مشهورا في تلك الأيام بثباته وبسطحه الصقيل ونظافته من النقاط الشفافة. ومن المؤكد أن صناعة الورق لم تنتقل الى روم القسطنطينية قبل منتصف القرن الثالث عشر (أي في أعقاب الحروب الصليبية: من عندنا). فنقدر اذن من كل ما سبق الدور العظيم الذي اضطلعت به أمتنا في توحيد جملة المجتمعات الانسانية بوصل العالم بعضه ببعضه الآخر وبإقامة طور الحرفة والتجارة العالمية النشطة، ونرى ما نتج عن ذلك من تطوير لصناعة الورق الوسيلة الأساسية للكتابة، الوسيلة التي نقلت حضارات الانسان من الأمية الى الكتابية، وذلك الى جانب تطويرها الأبجدية. وليس من قبيل الصدف أن صناعة ورق الكاغد ظهرت في البدء على الطريق التجاري الشهير الذي هو طريق الحرير الذي افتتحه تجار أمتنا منذ فجر التاريخ ثم عبده وأزال عنه كل مانع وصعوبة لاجتيازه العرب عندما قاموادار الإسلام التي وصلت مشرق الأرض بمغربه. وليس صحيحا ما زعمته بريتانيكا بقولها أن الأسرى الصينيين، الذين وقعوا بأيدي العرب عند زحف جيوشهم نحو الشرق، خانوا قومهم وأفشوا أسرار صناعة الكاغد. والصحيح هو أن تطوير هذه الأداة الحاسمة للكتابة كان نتيجة جهاد مرير خاضته روافد أمتنا العربية ضد الوثنية وتخلفها وتقطيعها المجتمعات البشرية الى كتل متعارضة متعادية طوال عصور مديدة حتى قام الاسلام بداره التي تعاون فيها الناس وتكاملوا ليرفعوا الى العلى وسائل تقدم البشر التي تأتي في مقدمتها الكتابة وأدواتها.

تطوير العلوم الرياضية

 

ان مساهمة الأمة العربية في تطوير العلوم الرياضية لا ينكره الا جاهل ولا يشوشه ويشوهه الا حاقد وكل هذا لا يساهم بداهة في الكشف عن الحقيقة لمصلحة الإنسانية كلها. ولا يمكن في مثل موقفنا هنا أن ننصف أمتنا الا بالإشارة والتنبيه الى المساهمة الآنفة الذكر دون محاولة الدخول في تفاصيلها التي تتطلب ساحة موسوعية للإحاطة بذكر بحوثها وكتبها. لذلك سنقتصر فيما يلي على الإشارة الى ما كان له أهمية حاسمة في تقدم الانسانية في هذا الفرع الأساسي من المعرفة:

أ - ان القاعدة العشرية تطورت منذ عهد الروافد الأولى لأمتنا العربية في وادي النيل والإهليلج الخصيب، ثم استمرت في التقدم نحو الكمال على يد تجارنا وعلمائنا  الى أن بلغته في العصر العباسي. لقد كان بداهة من المستحيل إحراز أي تقدم مادي وروحي يتجاوز أزمنة اليونان والروم دون إتمام هذا التطور العظيم في القاعدة العشرية خلال سلسلة الحضارات الانسانية التي أقامتها أمتنا أو ساهمت بها روافدها التاريخية مع روافد الأمم الأخرى. وعلينا في هذا البحث أن نركز على مفهومين أساسيين فلا نضل في متاهات المعلومات الثانوية التي تغرق الأهمية العلمية الحاسمة لهما. والمفهومان المقصودان هما: مفهوم دورية التعداد العشري ومفهوم الصفر.

1 . ان العدد عشرة يلتصق بالانسان التصاق أصابع يديه ورجليه التي استعملها في أهم أموره العملية التي منها التعداد. وهناك أعداد أخرى ترتبط بالحياة العادية للانسان منها مثلا طلوع الشمس وغروبها نحو ستين وثلاثمائة مرة بين بدأين متتاليين لفصل واحد، وليكن الربيع أو غيره من الفصول. هذا الفاصل الزمني سماه الأقدمون سنة شمسية. وهناك القمر الذي لهج بجماله سكان الإهليلج الخصيب ومصر وشبه عشاقهم وجه أحبتهم به وعبدوه. فهو يطل عليهم بأحسن صوره كل ثلاثين يوما تقريبا ويختفي أيضا في المحاق كل ثلاثين يوما أيضا. وله أوجه سبعة يظهر بها أثناء مروره بهم. وقد رأى أولئك الأجداد الشمس تتنقل طوال العام في اثني عشر برجا سماويا يتألف الواحد منها من مجموعة نجوم فتستقر في البرج الواحد مدة ثلاثين يوما. ثم أدهشتهم بساطة العلاقة الحسابية بين هذه الأرقام على الرغم من بعد الأبراج والشمس والقمر عنهم وفيما بين بعضها بعضا، وذلك أمام تعقيدات حياتهم واختلاط أمورها وصعوبة فهمها. فاذا ضربنا عدد الأبراج مثلا الذي هو اثنا عشر بعدد الأيام بين اختفاءين متتاليين للقمر أو بين تألقين أعظميين متتاليين له، عندما يكون في المحاق أو بدرا، وهو ثلاثون يوما يحصل لدينا العدد ستون وثلاثمائة الذي هو عدد الأيام الفاصلة بين بدأي خريفين أو ربيعين أو شتاءين أو صيفين متتاليين. وقد خطر ببال أولئك الناس بسبب هذه البساطة في العلاقات "السماوية" بأنهم وقعوا على منفذ الى أسرار الكون والحياة، أسرار المستقبل وأسرار ما خفي من أمور الحياة، فقام التنجيم عندهم وأصبح برأيهم للأبراج السماوية تأثيرها على مصائر الأحداث (وما يزال حتى يومنا هذا البرج الذي يلد تحته الانسان له أهميته عند كثير من "الأوساط المتمدنة" الأميركية والأوربية فتنشر حظوظه في الجرائد المتصفة بالجدية عندهم). واكتسبت تلك الأرقام القداسة عندهم فأصبح مباركا مجموع عدده اثناعشر أو سبعة. وقام التعداد الإثني عشري والسبعي والحساب الستيني، حساب الزمن بالساعات والأيام والأسابيع والأشهر والسنين.

وبقي مع ذلك الحساب العشري البسيط، القائم على العشرة، عدد أصابع اليدين أو على العشرين عدد أصابع اليدين والرجلين معا، هو الحساب الدارج عند عامة الناس، عند التجار والباعة على الأخص، أما الآخر الستيني المعقد القائم على تلك الأرقام الفلكية فقد بقي ساريا في المعابد وعند المنجمين والمهتمين بأمور الفلك وفي الأمور المتعلقة بتقدير الزمن والتأريخ.

ومما لا ريب فيه أن الانسان اهتدى في الحساب العشري البدائي الى تركيب الأعداد الأصغر والأكبر من عشرة بالمثل الذي قدمه له خلقه هو بالذات وخلق أمثاله من الناس. فكل اصبع من أصابع يديه مثلا يمثل وحدة مبدأية تتكرر في يديه عشر مرات. واليد الواحدة تمثل وحدة أكبر تعادل خمس مرات الوحدة السابقة. واليدان معا تمثلان وحدة أكبر هي ضعف السابقة وعشرة أضعاف المبدئية. وهو بذاته اذ يمثل يدين اثنتين وقدمين اثنين يمثل ضعف السابقة . وهذه الأخيرة تتضاعف بشخصين وهكذا دواليك. ثم ان هذا الذي نفصله هنا مجرد مثال يمكن للإنسان مشاهدة العديد من أشباهه حوله ليحصل على استنتاجات مماثلة ولكننا نفضله لأنه الأقرب ولأن الإنسان حتى يومنا هذا والى مستقبل غير منظور ما يزال يعد على أصابعه. وما يجب أن نستخلصه هنا هو أن أجدادنا استخلصوا من هذه الأمثلة الملتصقة أو المحيطة بهم مفهومين: الأول هو العدد البسيط الذي يتكرر ورمزوا له بالكتابة بالرمز واحد الذي يشبه اإصبع، والثاني هو العدد المركب الذي يحتوي على عشرة أعداد بسيطة، عشرة أصابع، ويتمثل بشخص واحد كما يتكرر أيضا ليمثل أعدادا أكبر. وكما أن هذا العدد الأخير هو العشرة يحوي عشرة وحدات أبسط فان بالإمكان تصور عدد أكبر يحوي عشرة منه، أي يحوي عشر مرات. ويمكن الإستمرار على هذا المنوال الى مالانهاية. ولكن هناك أعدادا تختلف عن هذه الأعداد التي لا تحتوي الا على وحدات تامة مثل: ثلاثوخمسون ومائتين، أو غيره. فهذا العدد الأخير فيه ثلاث وحدات مبدئية وخمس مرات عشرة ومرتان عشر عشرات فكان المصريون والبابليون مثلا يكتبون هذا العدد من اليسار الى اليمين بتكرار رمزالعشر عشرات مرتين اثنتين، وهكذا دواليك. فنجد أن هذا الشكل من بيان معنى الأعداد على تعاظله يتضمن الدورية بحيث تتكرر الأعداد التامة في مختلف مراتبها، الآحاد والعشرات والمئات و..، بذات الكيفية الواحدة حتى التسعة مرات بحسب الحاجة. فالعدد ثلاث وخمسون ومائتان كتب بالهيروغليفية في عهود 3400 قبل الميلاد في مصر بالشكل التالي كما ورد في بريتانيكا:

 

Text Box: ℮℮LLL ½½½
LL

على اعتبار أن الرمز ½ هو الواحد، والرمز L  هو العشرة والرمز هو المائة.

2. لنأخذ مثلنا السابق وهو العدد ثلاثة وخمسون  ومائتان، واننظر الى لفظه وقراءته باللغة العربية الفصحى ثم الى بيانه الكتابي فنجد أنهما، اللفظ والكتابة يتعارضان بالنسبة الى أسلوب القراءة السامي من اليمين الى اليسار وكان الأشبه كي يزول التعارض أن تكون مثلا كتابة هذا العدد بدءابالوحدات الأولية من اليمين ثم العشرات فالمئات، أي أن يكتب العدد بالشكل التالي:

 

Text Box: ℮℮LLL ½½½ 
          LL

 

فلو أمعنا النظر في هذه الكتابة نجد ثقلا وحشوا لالزوم له في بيانها. فالآحاد مثلا تحتل مكانا خاصا بها لا تحتله العشرات التي لها مكانها الذي يلي الأول، ثم يأتي مكان المئات الخاص بها أيضا. واذا كان العدد يتضمن الألوف فهذه الأخيرة لها مكانها الخاص في السطر وهكذا الى ما لانهاية. أي أن هناك مراتب ، وكل مرتبة لها مكانها في الكتابة فتبدأ بالآحاد في أقصى اليمين ثم العشرات الى يسارها فالمئات فالألوف الخ.. فعلام اذن إثقال الكتابة برموز تختلف باختلاف المرتبة فيكون للآحاد رمزه½، وللعشرات L ، وللمئات الخ.. فبالإمكان توحيد هذه الرموز ما دام مكانها في الكتابة يعين مرتبتها. ان بالامكان مثلا أن نكتب عددنا الآنف الذكر بالشكل التالي دون أي حرج باستعمال أبسط الرموز الذي هو رمز الواحد بالشكل التالي:

= 253
 

 

 


وقد احطنا مكان المرتبة بدائرة لنفصلها عما يجاورها من المراتب فلا تختلط الواحدات بعضها ببعضها الآخر في الوقت الذي هي فيه من مراتب مختلفة: ان الواحد في الدائرة الأولى مثلا هو مجرد وحدة مبدأية, اما في الدائرة الثانية فيمثل عشر وحدات, وفي الثالثة يمثل مائة وهكذا دواليك. هنا تبرز بوضوح كاف دورية هذا التعبير الكمي: الواحدة ذاتها تعود للظهور في كل مرتبة بقيمة تساوي عشرة اضعاف مثيلتها في المرتبة السابقة وعشر مثيلتها في المرتبة التالية. ثم اتت خطواة اخرى في التبسيط وهي ترميز مكررات الواحدة الى التسع مرات وليس اكثر. فيمكن اذن ان يكون لدينا تسعة رموز فقط لتكون هذه الطريقة في الكتابة كافية للتعبير عن اي عدد شئناه. وقد وجدت روافد امتنا هذه الرموز عندما طورت التعداد العشري خلال القرون المديدة لحضاراتها والتي نعرفها باسم الحروف العربية المستعملة حاليا في الشمال الافريقي العربي:

9 =½½½½½½½½½,…., 3 =½½½, 2 =½½, 1 =½

وعلى هذا الاساس يمكننا ان نكتب مثالنا السابق وهو ثلاثة وخمسون ومائتان بالشكل المبسط التالي:

= 253
 

 

 


ولكن الترميز الجديد يعفينا من هذه الدوائر الدالة على مرتبة الرقم كما هو واضح في الطرف الأول من المساواة السابقة: البدء يمثل الآحاد مثلا وهو هنا يساوي ثلاثة وحدات مبدأية، وتلي المرتبة التي فيها الوحدة تساوي العشرة وفيها خمس وحدات، ثم مرتبة العشر عشرات أو المئات وفيها وحدتان. ولكن هناك حالة واحدة نضطر فيها الى الاحتفاظ بالدائرة المحيطة بمكان المرتبة وذلك عندما لايكون في هذه المرتبة أي وحدة: ان العدد ثلاثة ومائتين مثلا فيه مرتبة العشرات فارغة من أي رقم من الأرقام التسعة الآنفة الذكر فلا بد اذن من الاحتفاظ بما يحدد مرتبة العشرات والا فان المئات تلي عندئذ مباشرة الآحاد فيختلط عددنا وهو ثلاثة ومائتان بالعدد ثلاثة وعشرين. أي أنه يجب علينا أن نكتب عددنا بالشكل التالي الذي نحتفظ فيه بالدائرة التي تحدد مكان مرتبة العشرات:

3

 

2

 
= 253 

 

نجد هنا أن الدائرة في الطرف الأيسر من المساواة حفظت مرتبة العشرات وبالتالي تميزت مرتبة المئات. الا اننا عندما ننظر الى طرفي المساواة الأخيرة معا يقفز الى ناظرينا أصل الصفر وهو تلك الدائرة الفارغة التي تحفظ للمرتبة مكانها عند خلوها من كل رقم. فالصفر في الطرف الأيمن من المساواة، في 203، يذكر بالدائرة في الطرف الثاني، في

 

 


يفصل مرتبتي الآحاد والمئات الواحدة عن الأخرى ويحفظ للعدد مرتبة العشرات برسم دائرة صغيرة حولها.

ان تمييز المراتب في العدد، بعضها من بعضها الآخر، مع ادخال مفهوم الصفر، اتم دورية التعداد وبسطها، وخلص الذهن البشري من عبء التعداد الرومي الباهظ الثقل. فقد اصبح باستطاعتنا أن نكتب اي عدد شئناه بدون أي تحديد بالرموز العربية التسعة للأرقام وبمساعدة مفهوم الصفر الذي يحفظ مراتب التعداد. ان الواحد مثلا هو واحد لايتغير في كل المراتب: واحد آحاد، وواحد عشرات، وواحد مئات الخ..، والصفر يحدد مرتبته:

مرتبة الآحاد:  1 ، مرتبة العشرات:  10 ، مرتبة المئات:  100 ، الخ.. ونجد ذات الشيء لمضاعفات الواحد حتى التسعة. وعلى هذا الترتيب بني الحساب النظري بكل عملياته، من العمليات الأربعة الأساسية حتى أعقد العمليات. ولكن هذا كلف مسيرة حضارية طويلة دامت من عصر السومريين والفراعنة والكلدانيين والفينيقيين، وكلهم روافد الأمة العربية حتى عصر العباسيين الذي تمت فيه هذه المسيرة الحضارية الطويلة الرائعة.

وبعد، نقول لأولئك الذين لايطيقون سماع أو رؤية أي فضل لأمتنا، أنه لايكفي رؤية رقمين أو ثلاثة أرقام على صخرة في الهند أو اليونان، أو رؤية الصفر قبل الميلاد أو بعده هنا أو هناك منقوشا على صخرة من صخور العالم القديم ومغائرة للحكم بسبق هذا القوم أو غيره في اكتشاف اسس التعداد والحساب، فالظاهرة الواحدة لايمكن أن تغطي مسيرة حضارية دامت آلاف السنين، لاتغطي تجارب الرعاة والتجار والعلماء، لاتغطي تجارب ملايين الناس لتتولد في ضمائرهم المعاني اللازمة لأسس علم تقوم عليه الحضارة الانسانية كعلم الرياضيات. وتقول بريتانيكا ان الصفر عرف بكل تأكيد في الهند قبل ميلاد المسيح الا انه ليست لدينا كتابة تثبت هذا الأمر وكان علينا أن ننتظر القرن التاسع، وهو القرن الذي ازدهرت فيه الحضارة العربية لنحصل على المفهوم الكامل للصفر. وهذه النتيجة طبيعية تتفق تماما مع واقع المسيرة الانسانية. فقد برهنا اعلاه ان دورية التعداد العشري ومفهوم الصفر لايمكن أن يكونا قد أخذا كامل أبعادهما الا بنتيجة عملية نشوء وارتقاء طويلة. ونلاحظ أن معنى العدم الشائع الذي يعطيه الصفر ثانوي بالنسبة الى المعنى الأصلي وهو المار معنا أعلاه ومفاده أن الصفر هو حافظ المرتبة من أن تختلط وتضيع بين المرتبتين قبلها وبعدها، وبالتالي تزداد اهميته الى يمين الكتابة وتتلاشى في أقصى يسارها. أما العدم فهو فراغ المرتبة التي يحفظها الصفر وليس في معنى الصفر الذي علقت فيه العدمية تعسفا وبحسب العادة الساهية. لذلك فان الصفر الدارج في الشمال الأفريقي الذي انتقل مع الأرقام العربية الى الاستعمال الأوربي، وهو الذي يعطى برمز الدائرة الصغيرة، هو الرمز الصحيح الذي ينطبق على واقع الحال وليس الرمز المعطى بنقطة الذي نجده في استعمال العرب المشارقة فيما سموه الترقيم الهندي والذي يوهم بالعدم قبل أن يدل على حفظ المرتبة وهو على كل حال دائرة منعدمة.

ب - تقول بريتانيكا: "انفصل الجبر عن الحساب من باكورة تقدم علوم الرياضيات، ربما في بابل عندما ادخلت المعادلات وطرق حلها هناك. وقد وجد العديد من لوحات الرياضيات المسمارية من عهد سلالة حمورابي (1800-1600 ق.م) وهي تتناول مواضيع الجبر كما تصنف اليوم. وتبين حلول أمثلة ذلك العصر ان هدف الحل كان ابراز الطريقة وليس الحصول على النتائج العددية. وكان حل معادلات الدرجة الثانية يعطى بمساعة لوحات أو بارجاعها الى استخراج الجذر التربيعي لعدد مناسب... وقد توصلوا الى الحل الكامل لمسألة فيثاغورس بمعادلة من الدرجة الرابعة ترجع الى الشكل الكلاسيكي للمعادلة من الدرجة الثانية، تماما كما نفعل في أيامنا هذه. وقاموا ايضا بحل بعض أشكال المعادلة من الدرجة الثالثة. ويبدو أن المصريين كانوا تلامذة البابليين... وتأثر اليونان بقوة بثقافات آسيا الصغرى وبابل، ومما لاريب فيه أنهم حصلوا على المعلومات الأساسية للجبر من هذه المصادر... وكانت الاسكندرية في العصر اليوناني أشد التصاقا بالمصادر البابلية في بحوث الرياضيات... أما فيما يخص الهند والصين واليابان فالبدء الحقيقي للجبر فيها جميعا كان متأثرا بمدرستي بابل واليونان... وفي ظل الإسلام أصبح العالم العربي مركز الدراسات الرياضية. وقد كتب عدد من الرياضيين العرب تعليقات حول هندسة اليونان الا أنه من الواضح كانت لهم مساهماتهم في الجبر (وكان لهم علماؤهم الكبار) من أمثال أبي عبد الله الماهاني (850م) وثابت بن قرة (870م) والخازن (1000م) والشاعر الرياضي عمر الخيام (1100)الذي حصل على حل معادلة الدرجة الثالثة بتقاطع المخاريط. وكان كتاب "الجبر والمقابلة" الذي ألفه الخوارزمي في بغداد عام 825م عملا له أكبر الأثر في هذا الميدان. وقد بقي اسم هذا الكتاب، بقيت كلمة الجبر، عنوانا لعلم الرياضيات الذي يقوم على بحوث المعادلات" ونقول نحن أن اسم هذا العالم العربي أصبح عنوانا لبحث اللوغاريتما: هذا اللفظ "لوغاريتما" هو تشويه لاسم "الخوارزمي". وهناك تشويه آخر لهذا الاسم هو: "الإلغوريزم" الذي يعني "تعبيرا جبريا.. وخلاصة القول أن هذا العلم هو في أساس التقدم الحضاري الانساني وهو علم طوره العرب والمسلمون بعد أن آل اليهم من الروافد التي التقت وتفاعلت لتشكل الأمة العربية.

ج - يقوم علم المثلثات على الفروع الثلاثة للرياضيات: الهندسة والحساب والجبر، ويعود الى العرب حصرا انشاؤه وتطويره بفرعيه: المثلثات الكروية والمثلثات المسطحة. ويكفي للدلالة على المساهمة الحاسمة لأمتنا العربية في دفع التقدم الإنساني أن نذكر بأن الرياضيات التطبيقية بكل فروعها، أي أسس الحضارة المادية المعاصرة تقوم على هذا العلم. ومن علمائه الفلكي الرقي أبو عبد الله التباني (858 - 929م) الذي كان له أثر كبير في تطوير هذا العلم، وقد شرح الزيج والمقالات الأربع لبطليموس العربي المصري أيضا. ومنهم أبو الوفا محمد البغدادي (940 - 998م) الذي وضع طريقة محكمة لحساب جيب الزاوية وتعميما كاملا لقانون الجيب في المثلث الكروي وأدخل مفاهيم القاطع وقاطع التمام وغيره. وجابر بن أفلح الاشبيلي الذي أصلح آراء بطليموس وأثبت أن الزهرة وعطارد أقرب الى الأرض من الشمس. ونصير الدين الطوسي الذي أكمل استقلال علم المثلثات وجعله علما قائما بذاته.

د - تقول بريتانيكا: "ان معظم معارفنا القديمة حول الأجسام السماوية وأفلاكها تعود الى الأقوام التي قطنت في وادي الفرات والدجلة، المنطقة التي هي اليوم العراق، وهذه الأقوام هم البابليون والآشوريون والكلدانيون، وقبلهم السومريون. ومعلوماتنا عما كانت تعرفه هذه الأقوام عن السماوات يأتي بعضها من نصوص مسمارية كتبها كهنتهم على لوحات فخارية اكتشفت في مواقع مدنهم.وقد لوحظ أن بعض معارفهم الفلكية نقل فيما يبدو الى الشعوب المجاورة، وخاصة منها اليونان... وعرفت أقوام ما بين النهرين عددا من المجموعات النجمية المشهورة منذ ما قبل الميلاد بثلاثة آلاف عام وأعطتها أسماء الحيوان كمجموعة "الأسد" وأسماء المهن كمجموعة الراعي.وقد انتقلت معرفة هذه المجموعات النجمية الى اليونان بأسماء أخرى احيانا، ثم الينا بعد إضافة مجموعات جديدة عليها. ويعترف للبابليين باختراعهم علامات دائرة  البروج، فهذه الأقسام الإثنا عشر المتساوية تخدم بشكل أفضل في تعيين مكان الشمس أو القمر أو الكواكب السيارة الأخرى من تلك الاثنتي عشرة مجموعة نجمية التي تشكل البروج (الحقيقية) والتي تنتشر على دائرة البروج الواقعية بأطوال غير متساويةولكن أسماؤها أطلقت على العلامات المخترعةالآنفة الذكرلدائرة البروج الفرضية. ويبدو أن هذه الأقوامعرفت تقدم نقطة الاعتدال الربيعي على دائرة الكسوف، وبالتالي عرفت أن علامات الأبراجتتقدم بالتدريج نحو الغرب مع الأخذ بالاعتبار مجموعات النجوم المقابلة لها. وقدم الحضارة المصرية كقدم حضارات ما بين النهرين... كما عرف المصريون أن طول السنة هو خمس وستون وثلاثمائة يوم وربع".

ان علينا هنا أن نلاحظ أن ديانة الصابئة ظهرت أولا وانتشرت فيما بين النهرين وبقيت حران عاصمة لها. وتقوم هذه الديانة على عبادة النجوم واشتهر من علمائهم الرياضيين والفلكيين: ابراهيم الحراني الصابئي، وثابت بن قرة والتباني المار ذكرهما أعلاه.

وللحضارة الإسلامية باع طويل في علم الفلك. وقد انتقلت مصطلحاتهم الشهيرة الى اللغات الأخرى بألففاظها العربية. وتم في أيام الخليفة المأمون قياس ربع دائرة الطول الأرضية في صحراء سنجار فكانت نتيجة القياس تسعة وخمسون وثلاثمائة وعشرة آلاف كيلومتر، أي بخطأ أقل من 6.3 %.

وبعد برهنا في هذه الدراسة على أن نشوء وتكون الأمة العربية في جملة المجتمعات الانسانية وحد هذه الجملة ونقلها الى طور عالمي جديدهو طور الحرفة الحرة والتجارة العالمية النشطة وذلك بعد أن قضى على عبودية طور الرق. وما كان بوسع المستعمرين ومدارسهم وتلامذتهم من أهلنا العرب والمسلمين أن ينكروا قيام حضارة إسلامية، ولكننا نجدهم عند الكلام بالتفصيل في أمور هذه الحضارة يوجهون عنايتهم لانتقاص دور أمتنا في هذا الأمر أو ذاك. انهم مثلا كثيرا ما جعلوا منا مجرد "تراجمة " أو وسطاء لنقل الحضارات القديمة. وهم بهذا وأشباههيتجاهلون ويجهلون التسلسل النمتصل السببي لتطور المجتمعات الإنسانية وتقدم حضاراتها، ويتجاهلون على الأخص أن هذه الأمة العربية كان لها كغيرها من الأمم روافد وأصول بنت وساهمت في بناء الحضارات السابقة. فكانت بالتالي حضارتها الإسلامية استمرارا لعطائها الانساني الشامخ الذي بلغت فيه،مع من شاركها من الأقوام الإسلامية المستويات الطبيعية للحضارات العالمية في الظروف التاريخية العائدة لكل منها. وليس بوسعنا هنا ولا من مهامنا الا بيان الخط العام لهذه الحضارة، أما الدخول في تفاصيل هذا الأمر فهو من مهام المؤرخين المنصفين. ولكننا رأينا مع ذلك أن نتكلم بشيء من التفصيل عن منجزات حضارية حاسمة يعود شرف تحقيقها حصرا الى أمتنا كأمثلة تبين المكانة المرموقة التي احتلتها هذه الأمة في المسيرة الحضارية العالمية. وقد اخترنا أمثلتنا تلك في الرياضيات . وبديهي أن تكون لنا أسماء لامعة في الفروع الأخرى للمعرفة. وشاهدنا الذي لايدحض المكتبة الإسلامية الرافد الأساسي للمكتبة العالمية.