الفصل  الرابع

 

خطان متعارضان

الإسلام والصهيونية العالمية

 

الإسلام تحرير للإنسان

 

ان الانسانية في مسيرة نشوئها وارتقائها غبر الأطوار التي تتابعت على جملة مجتمعاتها تجاوزت عقبات مختلفة الأنواع والحجوم في كل مرحلة من هذه المسيرة الطويلة. وبالإمكان رد الصعوبات والعقبات المعترضة المذكورة الى فئات ثلاث بصورة عامة:

1 . الطبقية التي تميز الناس بعضهم من بعض بموجب ما يتوفر بأيديهم من قوى مادية ومواقع اجتماعية فتجمد تطور المجتمعات في حدود مصالحها الضيقة:تقف سدا أمام كل ضرورة مادية وروحية تحصل بموجب التراكم الناشئ عن الحياة عندما تكون هذه الضرورة غير ملائمة لها، فتقوم بالتالي علاقات القسر والعبودية بين الناس؛

2 . العقبات الفكرية والمادية، فالتقدم العلمي والثروات المادية التي حققها الانسان ما هي الا أور نسبية لا تقف أبدا عند حد وإنما هي باتساع مستمر؛

3 . الوثنية وهي ما يؤول اليه الجمود العقائدي الذي يتعامى عن تغيرات الحياة وظروفها ويصل في النتيجة الى تقييدها لخدمة أغراض فئوية ضيقة.

وكان الانسان يحطم أشكال تلك الحواجز بالثورات المناسبة لينتقل بأحواله من مرحلة الى أخرى وينتقل بجملة مجتمعاته من طور الى طور. فقامت لذلك ثورات اجتماعية ضد الظلم والعبودية وقامت ثورات فكرية تقدمت بموجبهاالمعرفة الانسانية. وكان كل هذا يشكل عالم صراعات مريرة لا يخلو في كثير من الأحيان من الكوارث المفجعة التي تنزل بالمجتمعات الانسانية: حطم الانسان ما لا يحصى من الحواجز التي اعترضت تقدم معارفه فجرب وصاغ القوانين وجلا كثيرا من الأوهام منذ تمكن من ايقاد النار الى اليومالذي سار فيه على سطح القمر. ولم تحدث النهضة العلمية في أوربا الا بعد الثورة الفكرية ضد مبدأ السلفية  الذي كانت تفرضه الكنيسة الى جانب فرضها طريقة المنطق الصوري. واندلع ما لا يحصى من الثورات على نظم العبودية والإستعلاء كثورة سبارتكوس مثلا ضد العبودية الرومية، ثم كل الثورات الأخرى التي يرويها التاريخ والتي منها ثورات التحرر من نير المستعمرين المعاصرين. وقامت ثورات عقائدية كثورة أخناتون مثلا ضد تصورات وثنيي عصرهوضد طغيان وفساد كهنة تلك الوثنية، وكثورات مختلف أنبياء إسرائيل ضد ارتداد اليهود عن العقيدة الموسوية الخ.. ولكن كل تلك الثورات الفكرية ضد مختلف أشكال الظلم كانت ذات أبعاد محدودة وأهداف ضيقة نسبيا وان ساهمت على العموم بشكل ايجابي في تصعيد التراكمات المادية والروحية التي أدت الى الثورات الإنسانية الشاملة التي دفعت الجملة الإنسانية على طريق تصعيد أطوارها. ولقد تكلمنا بالتفصيل في بحثنا هذا عن سلسلة ثورات التوحيد، الثورات التي تتميز بشمولها فتستهدف تحرير الانسان من العبودية والإستعلاء القائمين بهدم وإزالة مرتكزاتهما المادية والروحية وذلك بتنظيم الجهاد بحسب قواعد مادية وفكرية وأخلاقية تشكل جملة مترابطة هي العقيدة أو المذهب أو الدين. وبناء على المسلمة البديهية التي هي: عدم اختلاف الناس في نوعهم وتكافؤهم بشكل عام بقدراتهم مع تنوع مؤهلاتهم وتكاملها، فإنها (أي ثورات التوحيد)عملت على تقريب الانسان من تحقيق طور لجملة مجتمعاته يقوم على قاعدة التعارف بين الأفراد والأمم والتعاون والتكامل في إطار ينتفي فيه الظلم والاستعلاء بشكل مطلق، ويمنع فيه قيام كل حاجز مادي أو روحي يحول بين الإنسان وتقدمه المستمر نحو تحقيق طموحاتهالشريفة. وما كانت أقوام الروافد التي تفاعلت والتقت لتشكل الأمة العربية (أقوام الروافد التي قامت فيها ثورات التوحيد في أقطار ما بين النهرين وسورية ومصر والجزيرة العربية) كما وصفهم الأستاذ ألبير ريفو المحاضر في جامعة باريس في كتاب "تاريخ الفلسفة": أصحاب "مزاج خاص" يدفعهم الى التبشير"بالديانات"، وذلك بحسب رأي الأستاذ المذكور، على عكس اليونان والروم أصحاب "المزاج" الذي يدفعهم الى العقلانية!.. لقد كان أولئك الثوار على العبودية في قمة العقلانية عندما أدركوا قبل غيرهم أن الإنسان يشكل مجتمعاته جملة إنسانية واحدة، وليس له وجود سوى هذا الوجود، فلا بد له اذن من العمل على دفعه في أفضل طريق مستطاع. وفي النتيجة نجد أنفسنا حاليا في ظروف بينت بكل جلاء : أن بقاء الانسان كجنس، مع ما بيده من إمكانات هائلة للإبادة والدمار المطلق، مرهون بتحقق ما كانت تطمح اليه ثورات التوحيد من وضع الجملة الإنسانية في ذلك الطور الذي يقوم فيه مبدأ تعارف وتعاون وتكامل بني الانسان دون ظلم أو استعلاء. فوسائل الدمار الشامل، ماهو قائم منها حاليا وما سيأتي عما قريب وهو الأفظع، تبين لنا كم كانت تلك الثورات محقة و "عقلانية" بدأبها وجهادها من أجل أخوة الأنسان للإنسان: يقوم حاليا تعارض مطلق بين بقاء البشرية كجنس وبين استمرار وجود تلك الأقلية الاحتكارية التي "تتأله" في ذرى النظام الرأسمالي الإحتكاري العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية، فلا يدري الانسان متى وكيف ستقوده هذه الأقلية الى الهلاك بوسائل الدمار المتوفرة والممكن توفرها ما لم يبادر الى حصارها واقتلاعها وإبادة نظامها. إن التطور الانساني  وصل الى الدرجة التي ينتفي فيها تواجد الحياة في ظلام الوثنيات، والحياة أقوى وستبدد هذا الظلام.

كان اذن هناك اتجاه انساني مستمر مثلته ثورات التوحيد عندما كانت تسعى الى تحرير الانسان من نير العبودية ووثنياتها. وأتى الإسلام آخر حلقة في سلسلة تلك الثورات ليحقق ذلك الطور المشرق الذي ننقل له صورة وضعها ديورانت، وهو مؤرخ بعيد جدا عن "هضم" ومحاباة كل ما يمت الى الإسلام بصلة، فقال عنه: انه عهد وفر لكل الأقوام في دار الإسلام على مدى ستة قرون اقتصادا مزدهرا وحضارة متفوقة لم يشهد لهما مثيل فيما بعد. وهذه ال "فيما بعد" تشير بكل وضوح الى الطور الرأسمالي الذي أتى بعد الطور الاسلامي ليدمر تلك الدار العالمية ويلقي بإنسانها بكل أجناسه في جحيم التخلف والتعاسة، وذلك بمساعدة وثنيي هذه الدار الذين أداروا الظهر للاسلام واستعاضوا عن وحدانيته البسيطة الجميلة الأخاذة بتصورات وتبريرات تجعل لكل فرد منهم "إلها على مقاسه وطبقا لرغباته وأطماعه"!.. ولكن ديورانت هذا بعيد جدا عن إدراك ما وقع بشكل صحيح بقيام دار الإسلام العقد الوسيط بين مشرق الأرض ومغربها. إنها كانت، كإنجاز لآخر حلقة في تلك السلسلة الطويلة لثورات التوحيد، قاعدة انطلاق الإنسانية من الطور الإسلامي الى الأطوار الإنسانية العليا التالية. ولكن مشيئة القدر حتمت على الانسانية المرور بجحيم الرأسمالية قبل أن تصل الى تلك الأطوار العليا.

الوجه الأوربي للصهيونية

 

ان الكنيسة الغربية التي قطعت مع بيزنطة منذ عهد غريغور الأول (540- 604) أخذت بالكانل زمام القيادة الزمنية لأقوام غربي أوربا منذ النصف الثاني للقرن التاسع. فالبابا نقولا الأول مثلا (858-867) أصدر الفتوى التالية التي تشكل نموذجا للمنطق الصوري الكنسي: "ان المسيح ابن الله أنشأ الكنيسة بأن جعل الرسول بطرس أول رئيس لها. وقد ورث أساقفة روما سلطات بطرس فيكون البابا اذن ممثل الله على الأرض، ويجب أن تكون السيادة العليا والسلطان الأعظم على جميع المسيحيين حكاما ومحكومين في جميع الشؤون بدءا من شؤون الدين والأخلاق". وكان للبابوية في أوربا الغربية في القرن الحادي عشر أكثر من ألفي دير لها أراضيها وزراعاتها وحرفها وأتباعها مما يشكل العديد من مئات ألوف الناس المرتبطسن مباشرة ماديا وروحيا بإدارة البابا، ولا يدخل في هذا إقطاعات الكرادلة والقساوسة التي كانت تنافس باتساعها وسطوتها هناك أكبر إقطاعات النبلاء الآخرين. وكانت الكنائس الرومية قد تجمدت بعقائدها منذ زمن طويل فادارت الظهر للجهاد والكفاح من أجل تحرير العبيد والمستضعفين وانخرطت في نظام العبودية الذي غدت تدافع عنه وتبحث عن مبررات لدوامه. فوسعت مثلا من "ملكوت الله" فيما وراء الطبيعة في الوقت الذي ضيقت فيه من واقع الحياة الدنيا وكأن هذا الواقع خارج عن ذلك الملكوت وتافه بالنسبة اليه؛ وبالتالي ليس هناك من أهمية فيما اذا شقي الانسان وظلم في الدنيا وعليه أن يستسلم للعذاب والمعذبين وأن يطلب السعادة والراحة في السماء الخ.. ان القادة الأوائل للكنيسة، بعد تجربتهم الخاصة وما شاهدوه وما سمعوا عنه من تجارب الثورات ضد العبودية لا سيما منها ثورة سبارتكوس التي قامت في زمن غير بعيد من زمن الدعوة المسيحية (70ق.م)، ثم ثورة اليهود ضد روما وقمعها بالشدة القصوى من قبل تيتوس (70م)، كل هذا وما شابهه من ظروف دفع بأولئك القادة الى أن يبتكروا ويسلكوا طريقا غير عادي للقضاء على العبودية وتحرير الإنسان من نظامها (في الحياة الدنيا التي هي أيضا بنظرهم جزء من ملكوت الله). لقد رأوا مثلا أن الثورات الفاشلة المجهضة تعزز النظام العبودي بدلا من أن تضعفه فلا بد اذن من العمل بدأب وبصبر ونفس طويل وبسرية تامة على جلب العبيد والمستضعفين وكل انسان شريف للإنضمام الى الكنيسة. وأن ينظم المؤمنون على غرار ما كان موسى عليه السلام يفعل في تنظيم جماعته في مصر قبل الخروج. ولكن التنظيم في هذه المرة يجب أن يكون في غاية التعقيد بحيث يصعب على السلطات الوثنية اكتشافه برمته في كل مدينة هامة من مدن الامبراطورية، واذا صدفواكتشفت حلقة منه فان هذه الحلقة وحدها هي التي تسقط ويبقى النظام الثوري بنجوة من الإنهيار برمته: كان المسيحيون مثلا يفعلون كل ما بوسعهم لإخفاء أمكنة اجتماعاتهم وعباداتهم ففي روما يمكن للسائح حاليا أن يزور كنائس شيدت بعيدا تحت الأرض. وكان يطلب الى العبيد المؤمنين، زيادة في التخفي ، أن لايظهروا ايمانهم بالمسيحية وأن يتظاهروا بأنهم باقون على الوثنية. وكانوا ينصحون على الأخص بالابتعاد عن كل مظاهر التذمر من الأعمال الشاقة للعبودية وأن يتحملوا الإهانات بصبر وجلد الى اليوم الذي تصبح فيه قواهم في النظام العبودي كافية لقلب النظام. ان الرسول بولس يحض العبيد مثلا على تقديم الخضوع لأسيادهم وأن يعتادوا على خدمتهم بمودة وإخلاص، وذلك زيادة في التمويه عليهم . وبالاختصار، كانت الكنيسة تطويرا خلاقا للتنظيم الموسوي للثوار على شكل أسباط. فكانت بنظامها دارا وموئلا للمؤمنين الذين كانوا يرتبطون بها كلية ماديا وروحيا فكانوا مثلا يحملون اليها كل ما يملكون من ثمار أعمالهم ونشاطاتهم وهي بدورها تقوم بأودهم وتهرع الى إغاثتهم ماديا عند الضرورة. وكانوا يتبارون فيما بينهمبالرضى بأدنى سويات المعيشة ليوفروا ويخففوا من أعبائها، بل ان من أعلى مظاهر الايمان عندهم أن تحمل اليها ثمرات الأتعاب دون أي مقابل منها حتى الحمد والثناء، فأفضل الصدقات ما كانت بين العبد وربه. كانت الكنيسة اذن جهازا تعاونيا إنسانيا بلغ من قوته الاجتماعية وانتشاره في المجتمع الرومي في عهد قسطنطين (274-337)، أول امبراطور رومي أعلن حرية العقيدة المسيحية، درجة تجاوز بها قوة الوثنية في الامبراطورية، فحققت الكنيسة بهذا نصرا مؤزرا للانسانية لم يسبق له مثيل في تاريخ الثورات. ولكن أمراء الكنيسة، كقادة أحزاب الاستراكية الدولية التي تنشط الصهيونية بشدة في صفوفها في عصرنا الحالي ما أن يكسبوا التأييد الشعبي ويمسكوا بزمام الحكم في بلد من بلاد الرأسمالية الإحتكارية حتى نجدهم يديرون الظهر تماما لكل وعودهم الانتخابية لا سيما منها وعودهم بالخلاص من هيمنة المستعمرين الأميركان ومن قواعدهم العسكرية وفي مقدمتها الذرية، فيحشدون لذلك كل ما يستطيعون من دجالين ومرتزقة فكر لصياغة الأكاذيب المبررة لنكولهم عن وعودهم المقطوعة ولقلب خياناتهم للمبادئ الى ضرورات تمليها "الحصافة" و "حسن التدبير"، نقول ولكن أمراء الكنيسة بعد ذلك النصر الكبير ارتدوا الى الجمود والوثنية والى الانخراط في نظام جديد للعبودية. فهذا القديس أوغسطين (354-430)و أفلاطون الكنيسة، أفرغ وصية الرسول بولس الآنفة الذكر من مضمونها وحرفها عن هدفها واتخذها قاعدة "لفلسفة" تبرر العبودية وتجعلها من الأمور الأزلية المقدرة على بني الإنسان (من غير الأسياد بطبيعة الحال) وذلك تكفيرا عن "الخطيئة " وكأن العبيد والمستضعفين هم وحدهم المسؤولون عن تلك "الخطيئة" فعليهم أن يدفعوا بجحيمهم كفاراتها الأزلية!.. اننا نقرأ في كتاب القديس أوغسطين "مدينة الله" (مجلد 19 من مجموعة الكتب العظيمة في العالم الغربي)، الذي أتى على غرار "المدينة الفاضلة لأفلاطون"، ما يلي: "ان أصل كلمة عبد في اللاتينية تكمن في الظروف التي بموجبها كان المنتصرون يحتفظون بأولئك الذين كان قتلهم مباحا حسب قانون الحرب. وهذه الظروف ما كانت لتقوم الا بسبب "الخطيئة". فحتى حين نشن حربا عادلة فلا بد من أن يكون أعداؤنا خطاة. وكل نصر (حتى لو كسبه الأشرار) هو نتيجة القضاء الأول للإله للتكفير عن خطايا المقهور لعقابه عليها. ولكن الله عندما خلقنا لأول مرة، لم يكن الانسان عبدا للإنسان أو للخطيئة. ولذا فان هذه العبودية عقوبة له، أقرها القانون لحفظ النظام الطبيعي وهو يمنع خرقه.. ولهذا فان الرسول بولس يحض العبيد على أن يخضعوا لأسيادهم ويخدموهم بمودة وإخلاص. فاذا لم يحررهم أسيادهم فانهم يجعلون عبوديتهم حرة بطريقة ما، بخدمتهم أسيادهم بحب مخلص بدل الخوف الماكر والرهبة..".

وأوغل الفرع الغربي من الكنيسة الرومية، الذي غدا رأسا للكثلكة في العالم، في الجهل والتجهيل. وبسط دكتاتورية صارمة على أقوام أوربا الغربية أصبحت عنوانا لكل ما كان يجري من عجائب التخلف الفكري ومفارقات الحياة فيما سموه القرون الوسطى الخاصة حصرا بتلك الديار الأوربية. لقد كا ن البابوات مثلا يبيعون صكوك الغفران التي تعطي لحاملها بحسب زعمهم حق تملك أرض في الجنة، كما كانوا ينتهزون قرب تهاية كل قرن ليعلنوا وشك قيام يوم الدينونة في تلك النهاية، فعلى المؤمنين أن يتخلوا عن كل ما يملكون للكنيسة ليضمنوا الغفران لأنفسهم. وقد قامت البابوية بأكبر عملية احتيال عندما أثارت عاصفة من الجنون العام في اقتراب نهاية الألف الأولى ميلادية. فقد أعلنت ان القيامة قائمة "بكل تأكيد في هذه المرة في السنة الألف". فراح كثير من بسطاء الناس يتسابقون ويزدحمون على أبواب ممثليات البابوية ليتنازلوا عن ممتلكاتهم وأموالهم لقاء الحصول على صكوك الغفران ومساحات مناسبة من أرض الجنة. ولكن الإقطاعيين الأوربيين ما كانوا كلهم بتلك البساطة ليتنازلوا بسهولة عن ممتلكاتهم وثرواتهم لذلك الإقطاعي الكبير الذي كان يجلس على كرسي البابوية في تلك الأيام. بل ان أحدهم وهو هنري الرابع، امبراطور ألمانيا الملقب بامبراطور الغرب (1056-1106)، كان يقطع الطريق على جباة البابوية لأموال الغفران الآنفة الذكر فحرمه البابا غريغوار السابع وحرض رعيته على عدم طاعته والخروج عليه، وقامت حرب طويلة بين الإثنين اضطر فيها الامبراطور المذكور مرة أن يأتي الى روما ماشيا ليطلب غفران البابا. ان المؤرخ ديورانت ، بالمقارنة مع سلطات الانتداب الفرنسي الكاثوليكية الرجعية التي ما كانت مع ذلك تمنع في برامج تدريس التاريخ في ثانويات سورية الكشف عن الفظائع التي ارتكبتها كنيسة روما في العصور الوسطى وفي مطلع عصر النهضة الأوربية، وعن الدرك الذي انحدرت اليه هذه الكنيسة، كان في عرضه لأخبارها أقرب الى التسامح والتبرير منه الى إلقاء الضوء على الواقع الذي جرى. ومع ذلك فان بالامكان استخلاص هذا الواقع من عرضه المذكور الذي نعطي فيما يلي نموذجا منه:

".. ولما أن تضاعف عدد القديسين المعبودين، نشأت الحاجة الى معرفتهم وتذكرهم فظهرت لهم ولمريم العذراء كثير من الصور (هنا ديورانت يبرر الوثنية ويرى لزومها لكثرة القديسين!..: من عندنا). ولم يعظم الناس الصور التي يزعمون أنها تمثل المسيح فحسب بل عظموا معها خشبة الصليب حتى لقد أصبح الصليب بنظر السذج طلسماذا قوة سحرية عجيبة. وأطلق الشعب العنان لفطرته فحول الآثار والصور والتماثيل المقدسة الى معبودات يسجد الناس لها ويقبلونها ويوقدون الشموع ويحرقون البخور أمامها ويتوجونها بالأزهار ويطلبون المعجزات بتأثيرها الخفي... وكم من مرة نادى آباء الكنيسة ونادت مجالسها بأن الصور ليست آلهة بل هي تذكير بها فحسب. ولكن الشعب لم يكن يأبه بهذه التفرقة (هنا ديورانت يتهم الشعب بالوثنية ويبرئ قادة الكنيسة: من عندنا) وغضب ليو الثالث من هذا الإفراط وخيل اليه أن الوثنية أخذت تغزو المسيحية وحز في نفسه ما كان يوجهه المسلمون واليهود والشيع المسيحية المنشقة   من المطاعن للخرافات السائدة عند جماهير المسيحيين وأراد أن يضعف من سلطان الأساقفة على الشعب والحكومة (هنا يعود ديورانت ويقول عكس ما قال في أول هذه الكلمة فيبرئ الشعب والحكومة ويضع اللوم على الأساقفة الذين يشجعون الوثنية توطيدا لسلطانهم ومصالحهم: من عندنا).. فعقد مجلسا من الأساقفة وأعضاء مجلس الشيوخ وأذاع بموافقتهم عام 726 مرسوما يمنع الصور والتماثيل في الكنائس وحرم تصوير المسيح والعذراء.. فقامت الإضطرابات في جميع أنحاء الامبراطورية... واجتمع مجلس من أساقفة الغرب دعا اليه البابا غريغوار الأول الثاني وصب اللعنة على محطمي الصور.. ولم ينفذ المرسوم.. ان البابا غريغوار الأول الكبير ترك كتبا في الدين حوت كثيرا من السخف مثل تحريك الحجارة الضخمة بالصلوات، ومثل "طاقية الإخفاء" والسموم التي يذهب ضررها بعلامة الصليب الخ.. وهو مع ذلك حرر البابوية من سلطة الإمبراطورية الشرقية..".

بعد أن أدارت الكنيسة الرومية الظهر لثورة السيد المسيح لم يبق عندها من الأدب الروحي الا التوراة المحرفة التي زورها يهود بابل واليونان فحشوها بالأكاذيب والأساطير السخيفة لإبعاد الأذهان عن مثل عظيم للجهاد من أجل خلاص الانسان وهو جهاد موسى عليه السلام، وبالتالي إفساح المجال لتبريرات المنحرفين الوثنيين. فالكنيسة الغربية بحالتها هذه هي التي قادت إقطاعيي أوربا لمقاومة الإسلام أولا، ثم قادت الرأسمالية الصاعدة لغزو دار الإسلام والعمل بكل الوسائل لتقويض هذه الدار من أساساتها. ان الكهنة اليهود وقادتهم العبوديين عملوا دوما، كما مر معنا مطولا في هذه الدراسة، على استغلال عواطف أتباعهم وتكتيلهم تحت سلطتهم تحت شعار إقامة ما اندثر من ملكهم على طريق حيرام- سليمان- بلقيس؛ ذلك الطريق الأسطوري الذي يصل البحر المتوسط بالمحيط الهندي وتمر عليه، جيئة وذهابا، تجارة مشرق الأرض ومغربها وثروات العالم الأسطورية من أقدم العصور حتى أيامنا هذه. فصهيون، الجبل الذي بنى عليه سليمان هيكله بتشجيع ومساعدة حيرام ليكون جبل السلام الذي يلتقي عليه أقوام المنطقة ليتعارفوا ويتبادلوا المنافع المادية والروحية، ثم حوله الوثنيون اليهود الى "مغارة لصوص" (بحسب تعبير السيد المسيح الوارد في الآية 18 من الفصل الحادي عشر من إنجيل مرقس وفي الأناجيل الأخرى)، نقول أن صهيون لايعني الا ذلك الطريق بمختلف أشكاله التاريخية التي انتهت الى شكل السويس ثم إسرائيل الحالية. والصهيونية بكل أشكالها اليهودية وغير اليهودية لاتعني في جوهرها الا السيطرة على هذا الطريق وما يمثله من ثروات أسطورية وموقع ستراتيجي لا يضارعه أي موقع آخر في العالم. أما دلالتها الروحية فلا تعني أي شيء جدي من اليوم الذي أدار فيه مدعوها ظهورهم للجهاد والعمل من أجل تحرير الإنسان من كل عبودية واستعلاء، لا تعني الا ستارا شفافا للنهب واللصوصية وقهر إنسان هذه المنطقة وسلبه دوره الطبيعي الذي يقوم به على أرضها. وعندما ورثت الكنيسة الرومية توراة الوثنيين اليهود ورثت أيضا أطماعهم في أرض الميعاد التي هي أيضا مهد المسيح والمسيحية وفيها قبر المسيح؛ وهذا بالإضافة الى أن أمراء تلك الكنيسة كانوا من أشراف الروم الذين كانت لهم "ذكريات" من سيطرة روما على ذلك الطريق تشبه "ذكريات" و "أشواق" اليهود اليه التي غدت في النتيجة سلعة يتاجرون بها ويعرضونها على أقوياء الغزاة والمستعمرين على مدى التاريخ. وفي أواخر القرن الحادي عشر شكل غريغوار السابع المار ذكره جيشا لشن الحروب الصليبية تحت شعار "تخليص قبر المسيح من يد الكفار المسلمين". ولكن حروب هذا البابا مع هنري الرابع الألماني الآنفة الذكر شغلته عن كل أمر آخر. فأتى أوربان الثاني ودعأ مجمع كليرمون (1095) الذي قرر البدء بشن الحروب الصليبية. وبهذا أخذت الصهيونية وجهها الأوربي الغربي، والوجه الذي تطورت أشكاله خلال الصراع المرير بين الإسلام وأوربا النصرانية ثم بين الإسلام وأوربا الرأسمالية وأدى الى هدم دار الإسلام وقيام الطور الرأسمالي العالمي بكل أبعاده التي أحاطت بكل البشر.

ان البابوية قادت الخطوات التمهيدية للطور الرأسمالي حتى توطد عصر "النهضة الأوربية" ولا حاجة بنا لإضاعة الوقت بسرد تفاصيل ماارتكبته هذه القيادة من فظائع ضد الانسان في كل أنحاء العالم بدءا من أوربا والأوربيين بالذات، فكتب التاريخ مليئة بها. واذا كنا نشير الى بعضها فلأننا نحاول الكشف عن الأسس التي قامت عليها تلك "النهضة" التي كلفت الإنسانية وما تزال تكلفها الضحايا البريئة التي أمست تعد بعشرات الملايين في الكوارث التي يصنعها النظام الرأسمالي. لقد قلنا في هذه الدراسة وكررنا كثيرا أن طموح البشر هو الوصول الى طور لجملة المجتمعات يقوم فيه التعارف والتعاون والتكامل بين البشر مع نفي الإستعلاء بكل أشكاله وإبعاد كل أسباب الركود في مستنقعات الكسل والتخلف. ولطالما ثار البشر على العوائق التي تقف في سبيل هذا الطور الذي يستحق جهاد الانسان وتضحيته. فبقاء الإنسان كجنس، بل الحياة على الأرض، مرهون كما قلنا أعلاه بالوصول الى هذا الطور قبل انطلاق جحيم الدمار من عقاله. فهل كان الطور الرأسمالي حلقة لابد منها للإنسانية كي تصل الى طور الأمان؟.. ان ضرورة طور العبودية بعدالمشاعة مفهومة لقلة وسائل الانسان حينذاك. أما الرأسمالية فانها على كل حال كانت ثمنا باهظا جدا دفعته الإنسانية فنجاز ما حققته فيها من تقدم مادي ولقاء ما استفادته من مآسيها من عبر. ان الإسلام كان ثورة إنسانية كبرى دفع اليها ذلك الطموح الدائب للبشر للوصول الى طور الأمان. أما الرأسمالية فقد كانت ردة كبرى في علاقات الانسان بعضه ببعض، ردة دفعت اليها أطماع وثنية في قهر البشر ونهب ثرواتهم. فكان كهنة الكنيسة التي أدارت الظهر للجهاد من أجل خلاص الإنسان من العبودية والإستعلاء والتي عاشت القرون في التحريض على الإسلام الذي قام وحقق ما دعا اليه السيد المسيح، نقول كان أولئك الكهنة يقودون الحملات الأولى للغزو الرأسمالي للعالم: في أميركا وعلى طريق رأس الرجاء الصالح الخ.. وكانوا يحرضون على إبادة الانسان في طريقهم الى إقامة العبودية الجديدة ، فحرقوا مثلا قرى المسلمين في أفريقيا الشرقية بأهلها وقتلوا الهاربين من محارقهم بالرصاص. وكثيرا ما أفتوا بأن غير الأوربي هو غير إنسان فيحل قتله، وكثيرا ما تخيلوا الشيطان في أجسام أعدائهم من أوربيين وغير أوربيين فحرقوهم أحياء "لحرق الشيطان". أما الهنود الحمر، أما زنوج أميركا، فعذابهم الجهنمي دام قرونا طويلة، وما زالت ذيوله مستمرة حتى أيامنا هذه، وهو موصوف بشكل مريع يفتت الأكباد في ألوف المؤلفات والنشرات ونشير بهذه المناسبة الى واحد منها هو "تاريخ الهنود الحمر" للانسان الأميركي الشريف "دي براون" الذي شرف القلم بصدقه ونقاء إنسانيته. أما حروب الرأسماليين بين بعضهم بعضا، أما فظائعهم التي ارتكبوها ضد الثائرين على نظامهم الدامي، فأخبارها طويلة سوداء بطول وظلام عهودهم.

تهود الخزر

 

رأينا في حلقات سابقة من هذه الدراسة كيف انتشر اليهود في مناطق الأعمال والإرتزاق من العالم. ورأيناهم على الأخص في مدن امبراطوريتي الفرس والروم على الطرق التجارية: في ايطاليا واليونان ومصر والشمال الأفريقي وفيما ين النهرين وحول بحر الخزر. وعند قيام دار الإسلام تكاثفت نشاطاتهم فيها في الثغور التي تنطلق منها وتأتي اليها قوافل التجار. فرأينا مثلا أن الرحالة اليهودي بنيامين التطيلي رآهم منتشرين في فارس. وخاصة في كردستان القريبة من بحر الخزر، ثم على تخوم الهند والصين وحتى التبت وقدر عددهم في جميع تلك المناطق بنحو ثلاثين ألفا. لقد كانت دار الإسلام منطلقا لكل نشاطاتهم في العالم تماما كما هي أميركا حاليا منطلقا لنشاطهم العالمي مع فارق هام هو: أن دار الإسلام ما كانت دارا للعدوان كالولايات المتحدة الأميركية وإنما كانت تشتهر بإنسانية حضارتها الباسقة حتى كان الكثير من الأقوام يدخلون الإسلام وهم على بعد شاسع منها بمجرد اتصالهم بتجارها وسماعهم أخبار أهلها كسكان أفريقيا في الجنوب والبلغار في أقصى الشمال الذين زارهم الرحالة العربي الشهير ابن فضلان، والأندنوسيين في أقصى الشرق وغيرهم. ولم نسمع أبدا أن واحدا من الناس مثلا آمن بالمثل الأميركية الا أن يكون عميلا لمخابراتها ال (سي. آي. أي) السيئة الصيت أو أن يكون واحدا من أولئك المنتفعين بنظامها العالمي فيسير تحت أعلامها لقهر البشر في مختلف أنحاء العالم أو عضوا في طغمة الإحتكارية العالمية أو عاملا في جهازها الإستعماري العالمي كقادة الصهاينة وقادة جنوب أفريقيا العرقيين أو أشباههم من الأعوان على القهر والذل على سطح الأرض.فدار الإسلام ما كانت تتيح لليهود المنطلقين منها الى مختلف أنحاء العالم بغير النشاط التجاري والحرفي ذي المنافع المتبادلة وليس نشاط التخريب والفساد في الأرض الذي يقوم به الصهاينة حاليا خدمة للمستعمرين الأميركان والذي يشجبه الأسلام ويحرمه على أهله ولو كان موجها ضد أعدائهم وذلك امتثالا لنواهي القرآن الكريم:

"ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا واذا تولى سعى في الأرض

 ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد"

البقرة 204، 205

"ياأيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم

على أن تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله ان الله خبير بما

 تعملون"

 المائدة 9

لقد كان اليهود يذهبون من دار الإسلام الى الأقوام خارج هذه الدار وهم يحملون حضارتها ورقيها المادي فيفيدون ويستفيدون. وعلى هذا الأساس أتوا الى أقوام الخزر وأقوام أوربا الأخرى وانتشروا في أوساطها، فاذا كان قد ظهر فيهم التفوق في تلك الأوساط فانه كان تفوق الحضارة اإسلامية التي تأثروا بها واستمدوا منها بحكم اتصالهم بها دون من ساكنوهم من الأقوام المذكورة.

ان ما نهتم به في هذه الدراسة بشكل خاص هو انتشار اليهودية في أقوام الخزر وفي من جاورهم من أقوام الذين تؤلف حاليا سلالاتهم أكثر من ثلثي يهود العالم، ومن أوساطهم انطلقت الصهيونية المعاصرة التي التقت بالصهيونية الأوربية المسيحية وانتهت بإنزال تلك الكارثة بالعرب والمسلمين باحتلال فلسطين وتشريد بعض أهلها واستعباد من لم يشرد منهم. ولننظر الى تلك الأقوام التي كانت تقطن السهوب الجليدية فيما وراء القفقاس وهم خليط من أتراك بمختلف أجناسهم ومن صقالبة وغيرهم. فالمؤرخون والجغرافيون والرحالة العرب، وخاصة منهم ابن فضلان وابن حوقل والمسعودي وياقوت الحموي وآخرين وصفوا تلك الأصقاع وتدثوا عن إنسانها فأعطوا صورة صادقة ومفصلة لتلك الأقوام في العصر الذي انتشرت فيه اليهودية في منطقة الخزر. كان الناس هناك على درجة كبيرة من التخلف والفقر المادي والروحي. وكانت دياناتهم في غاية السذاجة والبدائية، بالإضافة الى إقليم قاس تصعب الحياة الإنسانية فيه بوسائلها المتوفرة حينذاك. وكانوا كثيرا ما يقومون بالغارات على مناطق المدنية في القفقاس وشمال فارسوآسيا الصغرى. وكان الخزر في القرنين الثامن والتاسع يبسطون سلطانهم على قبائل عديدة تمتد أراضيها من بحر الخزر حتى القرم، وحاولوا مرة التصدي للمسلمين فخرجوا يريدون غزو أرمينيا فسحقهم مسلمة بن عبد الملك في معركة الباب عام 737 ولم يعودوا بعدها الى مثلها حتى دالت دولتهم. غن أديان التوحيد وفي مقدمتها حلقة الإسلام كانت تمثل الحضارة الانسانية في تلك العصور. وكان تماس تلك الأقوام المتخلفة المذكورة بتلك الأديان يحصل بواسطة التجار الذاهبين اليهم بسلعهم أو المقيمين بينهم. فالرحالة العرب شاهدوا مثلا في "أتل" عاصمة الخزر جاليات من أديان التوحيد الثلاثة مع أمكنة عباداتهم. ودون الدخول في فرضيات وحكايات تقبل الأخذ والرد يمكن القول أن تلك الأقوام المتخلفة التي كانت تقطن تلك السهوب الجليدية في شمالي الخط الذاهب من السواحل الشمالية لبحر الخزر فشمال القفقاس فسواحل البحر الأسود الشمالية كانت تحت تأثير ديانات التوحيد الثلاث: اإسلام والمسيحية واليهودية. وكان لا بد لمعتقداتها الساذجة البدائية من أن تتراجع أمام معتقدات التوحيد المذكورة فينتشر كل دين من أديانها الثلاثة بين تلك الأقوام المتخلفة بمقدار يتناسب مع ظروف ومدى تأثير أصحابه. فوجدنا مثلا أن معظم الأقوام التركية والمغولية قد دخلت الأسلام بينما انتشرت الأرثوذكسية بين السلاف وانتشرت اليهودية في أكثر عشائر الخزر. وكان تهود خاقان الخزر حسب أخبار الرحالة العرب بعد هزيمتهم على يد مسلمة بن عبد الملك وقبل عصر هارون الرشيد (740-810). وربما كان بولخان هو الخاقان المتهود وذلك بحسب أقوال أحد أحفاده الخاقان يوسف في رسالة أرسلها الى كاتب الخليفة الأموي في الأندلس عبد الرحمن الثالث وهو يهودي اسمه حسداي بن شبروط، أو ربما يكون الخاقان المتهود ابن بولخان المذكور أو حفيده. والمهم في الموضوع أن نصيب اليهودية من الخزر ومن القبائل الأخرى المجاورة المتناسب كما قلنا مع مدى تأثير اليهود حينذاك كان بحيث بلغ تعداد أحفادهم يهود روسيا القيصرية مثلا بضعة ملايين، بينما بلغ تعداد كل من المسلمين والنصارى هناك عشرات الملايين.

ان آرثر كوستلر مؤلف كتاب "امبراطورية الخزر وميراثها" أو "السبط الثالث عشر" ردد ما كان أورده المؤرخون والجغرافيون والرحالة العرب عن الخزر ولكن مع تعليقات وتفسيرات تناسبه كيهودي من أصل خزري. ولا يهمنا هنا الرد على تلك التعليقات، الا أن بعضها يروج لأفكار خاطئة تأخذ بها بعض دراساتنا. من هذه اأفكار مثلا محاولة كوستلر "نفخ" الخزر، وذلك على عادة اليهود في "نفخ" كل ما هو يهودي. وجعلهم امبراطورية تقف في مصاف دار الإسلام وبيزنطة، مع أن أوصاف هذه الأقوام التي يوردها هو بالذات والتي لا تدل الا على تخلفهم الشديد من كل النواحي المادية والروحية تعارض تماما هذا الزعم. واذا كان كل من الروم والإسلام قد أضربوا عن إلحاق تلك الأصقاع بدولتيهم فذلك أمر مفهوم جيدا لتخلف تلك الأقوام وصعوبة العيش في صحاريهم الجليدية. فهم خير من يستثمر تلك الصحارى التي ولدوا وترعرعوا فيها، أما المسلمون والبيزنطيون فتكفيهم ثمرات الاتجار معهم كعلاقة مادية. ثم إن كوستلر "تخيل" وجود "كماشة" إسلامية حاولت الإطباق على أوربا فكسر شارل مارتل فرعها الغربي في معركة تور (بلاط الشهداء) وكسر الخزر الأخرى في القوقاز ووفروا الحماية لبيزنطة من السقوط. وفي الواقع أن سكان أوربا الغربية من جهة (عدا أقوام البحر الأبيض المتوسط منهم الذين كانوا من الناحية العملية تابعين لدار الإسلام) كانوا في أقاليمهم أو في معاشهم في أحوال لا ترتفع كثيرا عن سوية أقوام السهوب فيما وراء القفقاس المار ذكرهم آنفا، فينطبق عليهم اذن ما قلناه عن هذه الأقوام وعلاقتها بالإسلام. كما أن الإسلام من جهة أخرى لم يكن في يوم من الأيام كالرأسماليين المستعمرين طامعا في ثروات البشر ليخطط لإقامة "كماشات" تخنق أعداءه، وانما أتى ليقيم طورا إنسانيا مشرقا وقد أنجز هذه المهمة العظيمة ببناء داره. ثم إن الخزر ما حموا بيزنطة من دفع الجزية لدار الإسلام وبذلك كانت تدخل في تبعية هذه الدار في أكثر أوقاتها. ونحن نضرب عن مناقشة "القرابة" التي "اكتشفها" كوستلر بين قبائل الخزر الرحل على ضفاف نهر الفولغا وبين قبائل العابيرو الرحل "أيضا" على ضفاف نهر الأردن، ولكنه نسي أن يقول، لتكون تلك القرابة أوثق ويزداد "استحقاق" الخزر في إرث فلسطين دون أهلها، أن كلا القومين (العابيرو والخزر) من البشر الذي يأكل الطعام وأن الفولغا يصب في بحر مغلق هو الخزر كالأردن الذي يصب أيضا في بحر مغلق هو الميت.