الفصل الخامس

 

الصهيونية قناع المستعمرين

 

حافة الجحيم النووي

 

نقرأ في "الوطن"، العدد الملون لخميس 19 شباط 1987, خبرا مفاده أن هناك حركة تطلق على نفسها اسم "الهوية المسيحية"، وهي حركة عنصرية تجاهر بعدائها للزنوج والمسلمين وتمارس أعمال العنف وتبشر بقرب يوم القيامة. وتمتلك هذه الحركة الأموال النقدية والعقارات والأسلحة. ولها معبد تسميه "كنيسة عيسى المسيح" وهي لا تحجم عن ارتكاب جرائم القتل ومهاجمة المصارف لنهب أموالها. وتشكل هنا وهناك الجمعيات والنوادي كنادي "العهد والسيف" و "ذراع الرب" في ولاية أركنساس مثلا. وتنشر خرافة ظهرت في أواخر القرن التاسع عشر مفادها: أن الأسباط العشرة الضائعة كانت في الواقع قد ارتحلت من الشرق الأدنى باتجاه الشمال الغربي حتى استقر بها الترحال في بريطانياحيث شكلت عرق الأنجلوسكسون. أما اليهود، بحسب هذه الخرافة فيشكلون السبطين الباقيين من الأسباط الإثني عشر. وتخبرنا "الوطن" أن خرافة الأصل اليهودي للإنجليز والأميركيين وأقوام الشمال الأوربي يبشر بها على نطاق واسع من قبل مؤسسة تطلق على نفسها اسم "كنيسة الله" وهي حركة تمتلك محطة إذاعة وتنفق عشرات ملايين الدولارات سنويا وتشرف على كلية لاهوت اسمها "أمبسادور كوليدج" وتقيم عددا من المراكز في مختلف أنحاء العالم وتوزع مجانا الكتب والنشرات والأشرطة المسجلة وكاسيتات الفيديو. وتستمد منها حركة "الهوية المسيحية" الآنفة الذكر كثيرا من أفكارها التي منها مثلا أن الإنسان الآري يدخل الجنة بدون حساب ولمجرد كونه آريا الخ...

ان ما نراه من شذوذ في هذا الخبر ليس أمرا عابرا معزولا لاسيما عندما يكون الشذوذ في مجتمع يخضع للنظام الأميركي الذي قامت فيه عمليات إبادة جنس إنساني بكامله هو الجنس الهندي الأحمر، والذي اتسع للإستعباد الوحشي للزنوج، ولأعمال الإجرام الواسعة الشهيرة في كل أنحاء العالم الخ.. فأوساط الإجرام هناك مثلا تصل بسطوتها ونفوذها الى حد التأثير الفعال على سير ما يسمونه "نمط الحياة الأميركي". ونحن لا نبالغ أبدا اذا قلنا أن تأثير هذه الأوساط يتناول إجراءات العدالة هناك وعمليات انتخاب مختلف السلطات والمراجع حتى انتخاب رئيس الدولة. والشواهد على هذا الأمر كثيرة شهيرة في الصحف الأميركية وفي الأدب الأميركي على العموم. وبعد، أليست ال (سي، آي، أي) بؤرة فساد وإفساد عالمية ومحلية؟ ولا يقف عند هذا الجانب من "نمط الحياة الأميركي". فأوساط التخلف الفكري التي تنشط فيها مختلف الجماعات الهمجية من أمثال جماعة "كنيسة عيسى المسيح" وجماعة "كنيسة الله" الآنفتي الذكر لها من التأثير في المجتمع الأميركي بحيث نجد لها ممثلين في البيت الأبيض منهم كان سيد هذا البيت ريغن. ويشهد على هذا الأمر الصحافة الأميركية بالذات. فالواشنطن بوست مثلا نشرت تحقيقا قام به الصحفي الشهير "روني دجر" ونقلته عنها الجارديان الأسبوعية في عددها ليوم 6 أيار 1984 نجتزئ منه ما يلي:

"لقد ألمح رونالد ريغن ما لا يقل عن الخمس مرات خلال السنين الأربع الماضية عن اعتقاده بأن معركة هرمجدون (التوراتية) قد تقع خلال جيلنا الحالي وقد تنجم عن الوضع في الشرق الأوسط. وهو يقرن هرمجدون بنهاية العالم. ويسند هاجسه هذا بترديد نبوءة العهدين القديم والجديد واجتهادات بعض علماء اللاهوت. وما قاله حول هذا الموضوع يقرب من تعليقات رجال الدين البروتستنت المؤمنين بحرفية وعصمة الكتاب المقدس والذين يتنبؤون بحتمية معركة فاصلة ستقع قريبا بين قوى الخير وقوى الشر تعم الشرق الأوسط وتستخدم فيها الأسلحة الذرية؛ وبظهور عجائب أشارت اليها المخطوطات القديمة يليها ظهور المسيح. ثم يعقب ذلك فترة سلام تدوم ألف سنة. وهذا يعني نهاية عالم قديم وبداية عالم جديد (كان هتلر النازي الغيبي يردد دوما أن انتصاره في الحرب سيقرر مصير الإنسانية لمدة ألف عام: من عندنا)... ونستخلص مما قاله ريغن بالتأكيد أن الأميركيين ليتساءلون عما اذا كان رئيسهم - وله ما له من سلطات هائلة تتحكم بالحرب والسلام وحتى بالضغط على زر الحرب الذرية- مستعدا نفسيابنتيجة ايمانه بعصمة المخطوطات القديمة اللاهوتية لامكان قيام معركة على شكل هرمجدون، بدءا من حرب ذرية تقع في الشرق الأوسط. ولقد أورد "س. س. كريب" عميد الكهنة الإنجيليين المتحدين في كتاب أصدره عام 1977 أن الملك يسوع سيدمر الملايين المجتمعة من عساكر الديكتاتور الشيطاني عدو المسيح... وخلال حملة الانتخابات الرئاسية عام 1980 وفي مقابلة تلفزيونية من شبكة تلفزيون P.T.L. قال ريغن بشكل مفاجئ وهو يناقش أمر العودة الى الروحانيات أن جيلنا قد يكون جيل هرمجدون. وقال خلال حديثه أمام جمع من يهود نيويورك في تلك الحملة الانتخابية: ان اسرائيل هي الديموقراطية الوحيدة الراسخة التي يمكننا الإعتماد عليها في تلك البقعة من العالم التي قد تشهد مذبحة هرمجدون. وبعد ستة أسابيع من استلامه زمام الرئاسة الأميركية قال نصيره الأكبر بين الواعظين الانجيليين القس جيري فول ول: اننا نعتقد أن روسيا سوف تغزو الشرق الأوسط وأخص منه اسرائيل وعندئذ ستقع الحرب الذرية والدمار الشامل للأرض. وأضاف هذا القس بأن ريغن يشاطره هذه الآراء وأنه قال له أثناء الحملة الإنتخابية، وقد كانا سوية في مقعد السيارة الخلفي وضابط الحراسة يجلس الى جانب السائق: لأعتقد يا جيري بأننا نسير الآن قدما نحو معركة هرمجدون... وقد هتف ريغن في 18 تشرين الأول 1983 الى الشيخ اليهودي الأميركي توماس ديان وقال له انني أعود الى أنبيائكم في العهد القديم والى النذر التي جاءت فيه والتي تسبق هرمجدون وأسائل نفسي عما اذا كان جيلنا سيرى الواقعة هذه. لا أدري اذا ما لاحظت أنت مثلي تحقق هذه النبوءات. صدقني أنهم يصفون بكل وضوح أيامنا التي نعيشها الآن. وقد نشرت الجيروزاليم بوست هذا المقطع من الحديث في وقته. وبعد أقل من شهر، أي السادس من كانون الأول، تقابل صحافيان من مجلة "بايبل" مع ريغن الذي أجابهما: ... ان اللاهوتيين يذكرون لي أن كثيرا من النبوءات تحققت كلها مجتمعة. لقد أتى على الإنسان في ماضي الأيام ما جعله يعتقد بأن نهاية العالم غدت قريبة ولكن لم تكن تلك النذر واضحة وضوحها في هذه الأيام. فاذا حانت نهاية العالم فان على الجيل الحالي أن يفعل ما يراه صوابا (أي أن يستسلم: من عندنا). فالغرض من قراءة الكتاب المقدس هو للتحقق من أن العالم هذا وأرواحنا ليست ملكا لنا. ان ما يريده الرب من كل منا ومن العالم أجمع يعود اليه وحده. وليس لي ولك الا الإنصياع لمشيئته. وقد أجاب كاسبار وينبرغر وزير الدفاع الأميركي على سؤال طرحه عليه طلاب جامعة هارفرد حول نهاية العالم بالاستناد الى التوراة فقال: اني أعتقد بأن عالمنا سيأتي الى نهايته بمشيئة الرب- وهذا ما أتمناه- والوقت يمر سريعا والنهاية واقعة... كتب البروفسور وليم مارتن أستاذ علم الإجتماع في جامعة رايس مقالا في عدد حزيران عام 1981 لمجلة أتلانتيك حول ما تعتقده اللاهوتية الإنجيلية عن نهاية الكون فقال: اذا ما أراد الرئيس تعيين واحد أو أكثر من أةلئك المؤمنين بحرفية التوراة لوظائف حساسة في السلك السياسي الخارجي والجيش فإنه لن تكون لدى هؤلاء الحوافز للعمل على تأمين سلام دائم وعادل في الشرق الأوسط. وهم اذ يعتقدون بأن هجوما روسيا على إسرائيل هو المقدمة الحتمية لتلك الألف السنة السعيدة التي تنبأت بها الكتب المقدسة فهل هناك من ضمان يمنع ذلك السياسي أو ذلك الجنرال (المؤمنين بحتمية النصوص التولراتية) من أن يضغط على ذلك الزر الرهيب ويطلق الحرب الذرية وهو يعتقد بأنه ليس سوى أداة ربانية في خدمة الخلود؟..". وفي المقال صور أخرى تدعو الى العجب والسخرية معا وقد تركناها لسخفها وعدم جدواها في إضافة أي جديد على ما أوردنا.

ان ما نستخلصه من خبر الوطن ومقال الواشنطن بوست الآنفي الذكر ي}كد لنا أن هذا النظام العالمي الذي تقوده الرأسمالية الإحتكارية الإميركية أصبح خطرا مؤكدا على وجود الحياة على الأرض وأن على الأنسان لدرء هذا الخطر وضمان سلامته وسلامة الحياة على الأرض أن يجد طريقا الى كبح هذا النظام الوحشي أولا ثم أن يعمل على إزالته بأسرع ما يمكن. أما هؤلاء أشياع هذا النظام ومسهلي أموره في العالم الثالث، وخاصة منهم في أمتنا العربية المقهورة به، فانهم كالصهاينة الوثنيين في أحط درك من الإنسانية. الا أنه اذا كان ريغن، بحسب ما تصفه به صحافة بلاده، رجلا بدائي الثقافة الى درجة أنه في كثير من الإجتماعات التي كانت تعقد برئاسته يجلس صامتا لعدم قدرته على مجاراة ما يدور فيها من مناقشات فيكون بالتالي ايمانه بخرافات التوراة أمرا مفهوما، فان الأوساط الاحتكارية التي أوصلته الى سدة الرئاسة ليست من البساطة لتأخذ بتلك الخرافات ففيها أولئك الذين ساهموا بشكل فعال في بناء وتقدم تلك القوة المادية التي تتمتع بها هذه الدولة الإستعمارية. فالإحتكاريون الأميركان هم على العموم آخر من يؤمن بأكاذيب وسخافة التوراة وأول من يرتعب من الجحيم النووي الذي يتناول أول ما يتناول مصالحهم وثرواتهم المنتشرة في طول العالم وعرضه. وهم، عندما يكونون وراء إطلاق أو مسايرة إطلاق مثل تلك الحكايات المخيفة في مجتمعهم وفي العالم في أيام الإقتراب من نهاية الألف الثانية من ميلاد المسيح، يشبهون بابوات القرون الوسطى الذين كانوا يبشرون بقيام القيامة كل مرة يقترب فيها العالم من نهاية القرن، لاسيما في تلك المرة التي سبقت انتهاء الألف الأولى من ميلاد المسيح، لتخويف الناس وجعلهم يتخلون عن ثرواتهم للكنيسة. فاحتكاريو أميركا اليوم يحاولون تخويف الناس بوضع العالم على حافة الجحيم النووي، يحاولون تخويف الناس بلعبة الحافة النووية التي كان السيئ الصيت دالس يمارسها في ستراتيجية الحرب الباردة، لكي لا يكون هناك أي هامش يبعد العالم عن هذه الحافة ويسمح للاتحاد السوفياتي ولقوى الثورة العالمية بالعمل ضد نظامهم بمأمن من السقوط في الجحيم النووي. ويعتقد ستراتيجيو أميركا الذين يمثلهم وزير دفاعهم كاسبر وينبرغر الذي تركناه أعلاه في مقال الواشنطن بوست "مسرورا" بقرب نهاية الحياة على الأرض أن السوفيات في مثل هذا الجو لايحجمون فقط عن الإتيان بأية حركة مهما كانت صغيرة على حافة الجحيم النووي خيفة السقوط فيه وإنما أيضا يفعلون كل ما بوسعهم لتسهيل عمل المستعمرين في قمع ثورات العالم المقهور التي قد قد تسبب تصعيد التوتر في العالم بحسب زعمهم. وخلاصة القول، ان بابوات القرون الوسطى كانوا بالنسبة الى إحتكاريي أميركا اليوم كقطاع الطرق التافهين الذين يقنعون بسلب إسورة امرأة أو كيس نقود مسافر بالنسبة الى عصابات الغانغستر الأميركية التي تتعامل بالمليارات. إن الإستعمار الأميركي يضع العالم على حافة الجحيم النووي ليحتفظ بمواقعه فيه وخاصة منها مواقعه في الشرق الأوسط التي تأتي قاعدته اسرائيل المار ذكرها أعلاه في خبر الوطن ومقال الواشنطن بوست في مقدمتها. وهنا نقع على الصهيونية الرأسمالية الإحتكارية بالشكل النووي الذي تتقنع به الولايات المتحدة لتغطي أطماعها في ثروات الأمم ومطامحها في تخليد بقائها وسيطرتها على المواقع الستراتيجية في مختلف أنحاء العالم وفي مقدمتها طريق الثروات الأزلي الذي نعود اليه دوما في هذه الدراسة والذي أخذ مختلف الأسماء وبقي هو بذاته لم يتغير فبدأ باسم طريق حيرام- سليمان- بلقيس وانتهى باسم القاعدة إسرائيل على طريق إحتياطي النفط العالمي في الخليج العربي وبقية ثروات العالم الثالث لاسيما منها ثروات شواطئ المحيط الهندي الأسيوية والأفريقية. ولكن شكله أيام سليمان كان فيه النفع والأمان لأصحابه، أما شكله الحالي ففيه كما نرى ذبح وتشريد أصحابه بيد الصهاينة الأميركان والمتهودين الخزر. لقد كانت أرض الميعاد قناعا للوثنية اليهودية يخفى مطامعها في إدارة عجلة التاريخ الى الوراء لتعود وتحتل المكان الذي كانت تحتله على ذلك الطريق الأسطوري. ثم غدا قبر المسيح قناعا لأمراء الكنيسة أحفاد الروم لإرجاع عجلة التاريخ أيضا الى الأيام التي كانت فيها روما الوثنية تسيطر على الطريق المذكور. ثم غدا الطريق وطنا قوميا للصهاينة اليهود يغطي طريق الهند للمستعمرين البريطانيين. أما الرأسمالية الإحتكارية الأميركية فان أكاذيب وخرافات التوراة كلها تشكل قناعا لها للإحتفاظ بقاعدتها اسرائيل، كما أن نذر التوراة بخراب العالم وقيام القيامة النووية تشكل تهديدا لكل من يقترب من هذه القاعدة لاقتلاعها.

أطوار الصهيونية الأوربية

 

مرت الصهيونية الأوربية بأربعة أطوار هي التالية:

الطور الأول:

 بدأ بالسيطرة الزمنية لكنيسة روما على ملوك وإقطاعيي أوربا. وفيه أعلن الباباغريغوار السابع في أواخر القرن الحادي عشر ميلاد الصهيونية الأوربية بتعبئة الأوربيين للعمل على "خلاص" القبر المقدس من حكم المسلمين. ثم قامت الحرب الصليبية التي بدأها البابا أوربان الثاني وقد أشرنا الى هذا الأمر في الحلقة السابقة ونحب أن نكرر هنا مرة أخرى أن "القبر المقدس"، على جبل صهيون عنوان الصهيونية البابوية، شعار يغطي هدف بعث الإمبراطورية الرومية من قبرها بإمرة البابوية. فالجيوش الصليبية جاست تقريبا معظم الأقطار التي شكلت تلك الإمبراطورية: من بيزنطة الى سورية فمصر وتونس. ولكن الحروب الصليبية التي استمرت من أواخر القرن الحادي عشر الى أواخر القرن الثالث عشر لم تنل من سيطرة المسلمين على المواقع التجارية الحاسمة سوى أن طريق البحر الأبيض المتوسط- المحيط الهندي، الذي كان يمر بفلسطين تحول من جهة الى مصر ومن جهة أخرى الى شرقي الأردن والعراق أما المملكة الصليبية فقد بقيت على الدوام محصورة من كل جهاتها بالعالم الإسلامي فذوت وانتهت الى الإنهيار.

في هذا الطور كان الصهاينة الصليبيون يحاربون بطبيعة الحال المسلمين ويقتلون اليهود أنى صادفوهم. فعند احتلالهم القدس مثلا قتلوا جميع اليهود فيها انتقاما لصلب المسيح ولنهب ثروات أغنيائهم ولإستئصال كل مزاحمة ممكنة لتجارهم في استغلال موقع الأرض المقدسة. وفي هذا الطور أيضا تم من قبل الروس القضاء على امتداداتنفوذ الخزر المتهودين في منطقة الدون وشمال البحر الأسود فسقطت مثلا عام 965 عاصمتهم الثانية على الدونساركل بيد أمير كييف. ثم قامت الإمبراطورية المغولية التي امتدت من بحر الصين حتى أوربا الوسطى منذ النصف الأول من القرن الثالث عشر. وقد ألخق القسم الغربي من هذه الامبراطورية وهو مملكة المغول الذهبية ما بقي من بلاد الخزر بدولته واتخذ من عاصمتهم أتل على الفولغا عاصمة له تحت اسم "ساراي باتو". وقد توطد انتشار اليهود الخزر في ظل الإمبراطورية المغولية في شرق أوربا: أوكرانيا وبولندة والمجر وشرق ألمانيا. فالمغول أقارب الخزر عرقيا ولغويا كانوا بحاجة الى خبرة وخدمات هؤلاء المتهودين في تلك المناطق التي بدأت تنتعش اقتصاديا في تلك الأيام والتي ارتبطت بالخزر عصورا طويلة بحكم المساكنة والجوار.

الطور الثاني:

 في هذا الطور قام الاتحاد التجاري الهندي. فقيام الإمبراطورية المغولية الآنفة الذكر التي امتدت من أواسط أوربا غربا الى بحر الصين شرقا نشط طريقا تجاريا عبر هذه الامبراطورية يوازي الطريقين التقليديين: طريق التوابل وطريق الحرير، فيذهب هذا الطريق الجديد من أواسط أوربا الى شمال البحر الأسود فبحر الخزر فالصين. لذلك نما اقتصاد أواسط أوربا وقام هناك الاتحاد الهندي المذكور الذي بدأ بالإتحاد التجاري لمدينتي هامبورغ ولوبك عام 1241، أي مباشرة بعد قيام امبراطورية المغول، وبلغ أوجه في القرن الخامس عشر عندما غدا يضم أربعة وستين مدينة تجارية تمتد من نانت على المحيط الأطلسي الى نوفغورد قرب سواحل بحر البلطيق. وفي أثناء تقدم هذا الاتحاد وازدهاره كانت هجرة اليهود تتزايد الى منطقته:أتى اليهود السفرديم (نسبة الى سفراد أرض اسبانيا بالعبرية) الى مدنه من جنوب أوربا والشمال الأفريقي، كما أتى اليهود الأشكنازيم (نسبة الى أشكناز منطقة الخزر الوارد ذكرها في التوراة تحت هذا الاسم) من أوربا. ولعل كثافة الأشكنازيم كانت أكبر من كثافة السفرديم في تلك المناطق فأدى الأمر الى أن يطلق اليهود اسم أشكناز على ألمانيا.

وبعد فشل الحملات الصليبية قامت حكومات إسلامية قوية في مصر وسورية والأناضول، قامت دول المماليك والأتراك السلاجقة ثم العثمانيين، وذلك الى جانب احتواء المغول بالإسلام؛ وانهارت مخططات البابوية وآمالها في هؤلاء الغزاة كي يزيلوا لها دار الإسلام من جهة ويوقفوا انتشار الأرثوذكسية في شرق أوربا من جهة ثانية. وقد "فترت العواطف" الصهيونية نتيجة لهذا الواقع الجديد لدى بابوات روما الذين اقتصرت صهيونيتهم وصهيونية أتباعهم الأوربيين على حرب المسلمين في إسبانيا ومطاردة اليهود ونب أموالهم. ثم عمت معرفة كروية الأرض في أقوام جنوب أوربا لا سيما منها ايطاليا، وتراجعت الخرافةالتي كانت تنشرها كنيسة روما ومفادها أن الجحيم ومملكة الشيطان يقعان فيما وراء أفق المحيط الأطلسيالذي تطل عليه شواطئ أورباالغربية. وقام بحار ايطالي ، هو كريستوف كولومب الشهير، بإقناع ايزابلا ملكة قشتالة بفتح طريق الى الهندلا يمر بديار المسلمين، وذلك بالسير خربا عبر المحيط الأطلسي والدوران حول الكرة الأرضية. فكان أن وقع كولومب على أميركا بدلا من الوصول الى الهند كما هو معروف، واستمرت مع ذلك محاولات الوصول الى الهند بالدورات حول أفريقيا الى أن تم هذا الأمر على يد فاسكو دي غاما عام 1497.

وقد نسي رهبان البابوية الذين ذهبوا على رأس حملات استكشاف طريق الهندقبرالسيد المسيحوانشغلوا بالثروات التي نهبوها من الأقطار الواقعة على طريق الهند وبذبح المسلمين والعرب الذين مروا بهم على هذا الطريق.

الطور الثالث:

بعد تقدم الأوربيين في نظامهم الرأسمالي وتوسع إمبراطورياتهم في العالم عاد اليهم هاجسهم القديم وهو اختصار الطريق الطويل الى الهند وثروات آسيا وأفريقيا المار برأس الرجاء الصالح بالطريق المختصر المباشر: طريق حيرام- سليمان- بلقيس ويتطلب هذا الأمر تقويض ما بقي من دول دار اللإسلام واستعباد أهلها، وعلى الأخص تقويض الدولة العثمانية. وقد قام على هذا الأمر ما سمي طويلا "بالمسألة الشرقية". وهذه المسألة التي استعصى حلها نشأت من تصادم أطماع الأوربيين وعدم اتفاقهم في تعيين حصصهم في تلك الديار الإسلامية. فالرأسماليون الأوربين بعد أن أزاحوا سلطان الكنيسة عن كواهلهم بقيت التوراة تجري في عروقهم وتسيطر على عقولهم بعدد من الأشكال المختلفة التي منها الكاثوليكية والبروتستنتية والأرثوذكسية: كاثوليكية الفرنسيينالذين رغبوا طويلا في "تمدين المسلمين" ومزاحمة الإنجليز الذين سبقوا غيرهم ونشروا إستعمارهم في مختلف أنحاء العالم حتى أن الشمس كانت لاتغيب عن ملكهم والذين سعوا بكل ما أوتوا من قوة لإبعاد مزاحميهم الطامعين في قضم هذا الملك، وأرثوذكسيةروسيا القيصرية التي كانت تبذل الجهود للوصول الى البحار الدافئة بتقويض الدولة العثمانية واحتلال بلادها، الأمر الذي كان يهدد طريق الإنجليز الى الهند كما يهدد المطامع الفرنسية في هذا الطريق. وكان هناك أيضا الألمان والطليان وغيرهم من "المسيحيين الطيبين" الذين كانوا يسعون الى نيل نصيبهم من النهب الرأسمالي للعالم. وفي النتيجة ما كان هنالك كما أشرنا وحدة في الهدف ما بين كل هؤلاء الطامعين كما كان الإمر عندما سار أجدادهم بقيادة البابوية الى الحروب الصليبية بحجة إنقاذ قبر المسيح. لقد كان كل مستعمر من أولئك المستعمرين يعمل جاهدا لإطالة حياة الدولة العثمانية الى اليوم الذي يستطيع هو وحده افتراسها والسيطرة على وكان كل واحد منهم يبحث عن متكئ فيها ينفعه في مزاحمة الآخرين: كان كل مستعمر مثلا يبسط حمايته على أقلية من أقلياتها. وفي هذا الخضم من التنافس والتناحر نبتتصهيونية جديدة تختلف في شكلها عن سابقاتها وان اتفقت معها في الذي لا يتبدل وهو السيطرة على طريق الثروات، نقول في هذا الخضم نبتت الصهيونية الرأسمالية.

لقد تعرفنا في الحلقات السابقة من دراستنا هذه على "أشواق" قادة اليهود والوثنيين الى دولتهم في "أرض الميعاد" ورأينا كيف تحولت هذه الأشواق الى سلعة يعرضونها على مختلف العبوديين الأقوياء عبر التاريخ عل هؤلاء الأقوياء يعيدون إنشاء دولتهم تلك مقابل خضوعها لهم. وفي الحقيقة ما كان هم أولئك الوثنيين اليهود العودة الى "أرض الميعاد" المزعومة بمقدار هدفهم في تجميع جالياتهم تحت هذا الشعار حولهم وفي الدخول في خدمة القوي الذي يستجدون مساعدته.وتعرفنا على الصهيونية البابوية التي قلنا أنها طاردت اليهود وقتلتهم. أما الصهيونية الرأسمالية فقد بحثت عن اليهود كي تنعش فيهم الصهيونية وتجندهم لتمزيق الإسلام ثم الوطن العربي . فنقرأ مثلا في بحث "الصهيونية غير اليهودية" لريجينا الشريف ما يلي:

- كتبت بربارة تيخمان في "الكتاب المقدس والسيف"، لندن 1956: "لقد كانت البوادر الأولى التي دفعت إنجلترة البيوريتانية للإهتمام بإحياء إسرائيل دينية في أصلها وقد تولدت عن سيطرة العهد القديم على عقل وايمان الحزب الذي كان في السلطة في أواسط القرن السابع عشر. ولكن الدين وحده لم يكن كافيا فهناك المنفعة السياسية. فلقد كان الحافز لاهتمام كرومويل باقتراح مناسح هو نفسه الذي جعل لويد جورج يهتم باقتراح حاييم وايزمن بعد عشرة أجيال وهو إعتقاد كلا الرجلين بأن اليهود صالحون لتقديم العون. ومنذ عهد كرومويل أصبح أي اهتمام بريطاني بفلسطين يعتمد على دافعين متلازمين: دافع الربح التجاري أو الإستعماري أو العسكري والدافع الديني الموروث من الكتاب المقدس (والأصح أن المستعمرين يستغلون الدافع الديني لتبرير سلب فلسطين وإعطائها للغرباء المتهودين الخزر لإقامة قاعدة عدوانية على طريق الهند وفي منطقة البترول محرك مصانع الرأسماليين: من عندنا).

- في عام 1790 كتب ريتشارد بير أسقف ساندبروك الى رئيس الوزراء وليم بت ما يلي: ستكون هذه الجزيرة في طليعة الدول التي ستنقل اليهود الى وطنهم. ومن المفيد جدا لحكومتنا أن تقدم مساعدتها لتحقيق هذا الهدف المنشود انطلاقا من دوافع السياسة الحكيمة. وعندما يجتمع إخواننا العبريون معا ويقيمون من جديد في وطنهم فسيكونون بحاجة الى كثير من السلع المصنعة ومستلزمات الحياة وبخاصة الأصواف والكتان وسيبقون لسنوات طويلة في حاجة الى شراء هذه الحاجات من الأمم الأخرى...

- قدم جيمس بشينو أحد زملاء ريتشارد بير الآنف الذكر عام 1800 اقتراحا الى الحكومة البريطانية لاستخدام نفوذها لدى الباب العالي لإعطاء فلسطين لليهود حفظا لتجارة دولته إنجلترة ومنعا للفرنسيين من السيطرة على طريق الهند.

- أذاع بونابرت عام 1799 بصفته القائد العام لجيوش الجمهورية الفرنسية في مصر نداء الى اليهود يحثهم فيه على الإلتحاق بحملته ليقوم بتسليمهم فلسطين التي كان ينوي الإستيلاء عليها وفصلها عن الدولة العثمانية.

- في نيسان 1798 نشرت الصحيفة الفرنسية "الفصول الفلسفية والأدبية والسياسية" كلمة قالت فيها: ان اليهود سيتدفقون جماعات لا من أجل جعل الصناعة مزدهرة فحسب وإنما أيضا لتحمل نفقات الثورة الفرنسية في سورية ومصر... ان الدولة التي ننوي إقامتها ستشمل مصر السفلى بالإضافة الى منطقة يحدها خط يمتد من عكا الى البحر الميت. وهذا الموقع الذي يعد أكثر المواقع فائدة في العالم سيجعلنا عن طريق السيطرة على البحر الأحمر سادة تجارة الهند والجزيرة العربية وجنوب وشرق أفريقيا...

الطور الرابع:

وهو الطور الذي جندت فيه الرأسمالية الإحتكارية الصهيونية اليهودية لإقامة القاعدة التي حلمت بها طويلا مختلف صهيونيات أوربا المسيحية على طريق الثروات تحت إسم الوطن القومي اليهودي أولا ثم دولة إسرائيل ثانيا. ان البابوية وحدت الأوربيين تحت علمها وقادتهم لشن الحروب الصليبية طمعا في احتلال الطريق الأسطوري للثروات والتجارة العالمية ففشلت. ثم أتت الرأسمالية الإحتكارية ووحدت الإرادة الإستعمارية ووجهتها لإقامة قاعدة لها على ذلك الطريق: وحدت الإرادة الإستعمارية في حدود نظامها العالمي الذي بنته وألحقت به كل ما يحيط تلك القاعدة،وهي اسرائيل، من أقطار. ونحن اليوم في معمعان الكفاح للخلاص من هذا النظام العالمي وإزالة قاعدته المذكورة. ومما لاريب فيه أن مسيرة التاريخ هي التي ستنتصر وليس تشبث المستعمرين لايقافها، وسينتهي الطور الرأسمالي الإحتكاري وتنتهي قواعده معه عما قريب بنضال الإنسان وثورته على العبودية والإستعلاء.