الفصل السادس

 

المسألة الشرقية

 

الصهيونية الأوربية

 

أشرنا في الحلقات السابقة الى قيام الطور الإسلامي العالمي، طور الحرفة الحرة والتجارة العالمية النشطة، بقيام دار الإسلام، العقد الوسيط بين مشرق العالم القديم ومغربه. وقلنا أن مشيئة القدر حتمت على الإنسانية المرور بجحيم الرأسمالية بعد الطور الإسلامي وقبل انطلاقها الى الأطوار العليا لجملة مجتمعاتها، الأطوار التي تنتفي فيها العبودية بكل أشكالها كما ينتفي كل إستعلاء أيضا. ولقد قام صراع مرير بين الإسلام والرأسمالية التي برزت بداياتها فيما يسمونه "اليقظة" الأوربية في القرن الخامس عشر. وكانت مناطق التماس بين عالم الرأسمالية الصاعد ماديا وبين دار الإسلام تقوم في الدولة العثمانية في البداية قبل ظهور روسيا القيصرية كقوة يحسب حسابها. ويرجع تأسيس الدولة العثمانية الى السنة الأولى من القرن الرابع عشر عندما هزم السلطان عثمان الأول ابن أرطغرل البيزنطيين في معركة حاسمة بين بروسة وأزنيق على مقربة من القسطنطينية. وقد بلغت هذه السلطنة أوج قوتها في عهد سليمان القانوني الذي دام من عام 1520 الى عام 1566 طرق في أثنائه أبواب فينا. وسيطرت هذه الدولة في ذروة اتساعها على المجر وقسم من كل من النمسا وبولونيا وتشيكوسلوفاكيا وعلى البلقان ومعظم أوكرانيا والقوقاز والأناضول والبلاد العربية في أفريقية وآسيا، ثم كل جزر الحوضة الشرقية للبحر الأبيض المتوسط. فقامت بهذا للإسلام حينذاك قوة عظمى لم تجرؤ الرأسمالية الناشئة في غرب أوربا وجنوبها على تحديها. فكان هؤلاء الأوربيون يوجهون جهودهم نحو البحث عن طريق للهند لا يمر بديار المسلمين، وانشغلوا طويلا في استعمار أميركا واستعمار بلاد في آسيا وأفريقيا بعيدا عن تلك الدولة العثمانيةالعملاقة وبعيدا عن فلسطين أحد أقطارها. وقد بقيت هذه الدولة مهابة الجانب على العموم حتى مطلع القرن الثامن عشر حيث أخذت بالانحسار عن أوكراينا وشمال البحر الأسودبنتيجو الهزائم المتوالية لجيوشها أمام الروس في عهدي كاترين الأولى والثانية امبراطوريتي روسيا. ثم توالى اضمحلال العثمانين وانحسار ملكهم طوال العهود التي دامت فيها "المسألة الشرقية" التي انتهت بانتهاء هذه الدولة الإسلامية في أعقاب الحرب العالمية الأولى.

أخذت الصهيونية الرأسمالية التي خمدت طوال أيام سطوة الدولة العثمانية وجبروت الإسلام بالإنتعاش والتصاعد مع استفحال تخلف المسلمين وانتشار الوثنية في مجتمعاتهم فرأينا مثلا نظام كرومويل في انجلترة يبحث عن طريقة للإستفادة من يهود أوربا باتخاذ فلسطين قاعدة على طريق الهند ووضعهم حراسا لهذه القاعدة تحت ستار إحياء أرض صهيون. كما رأينا بونابرت يصدر نداء لليهود ليلتحقوا بحملته الذاهبة الى مصر وفلسطين. وكانت هذه الحملة أول خطوة عملية للصهيونية الرأسمالية لغزو فلسطين بعد الحروب الصليبية.  واستمرت هذه الصهيونية الفرنسية بعد فشل حملتها تلك في محاولاتها للتوضع على طريق الهند. فحالفت محمد علي باشا الذي استفحل أمره في أعوام 1832- 1840 فأقام دولة بسطت سيادتها على مصر والسودان وسوريا وقسما من الأناضول، وانتصر على جيوش الدولة العثمانية وكاد أن يقضي عليها ويقيم دولته على أنقاضها لولا تدخل الإنجليز والروس ومساندتهم للسلطان العثماني في ايقاف توسعه ثم حصره في مصر فقط. ولكن الفرنسيين استمروا في تعزيز مواقعهم في مصر، فيالوقت الذي شدد الإنجليز علاقاتهم مع الباب العالي وبسطوا عمليا حمايتهم على السلطنة العثمانية ضد الفرنسيين والروس. وفي أوائل النصف الثاني من القرن التاسع عشر تم حفر قناة السويس بإشراف فرديناند دي لسبس الفرنسي المدعوم من حكومته. وكانت الحكومة الفرنسية قد بدأت بغزو العالم العربي منذ عام 1832 بالنزول في القكر الجزائري الذي استمرت مقاومته بقيادة عبد القادر الجزائري حتى عام 1847 (ثم لم تهدأ ثوراته حتى ظفر باستقلاله). وفي عام1860، في عهد امبراطورية بونابرت الثالث، أصدر ارنست لاهاران سكرتير هذا الامبراطور كتابا بعنوان "المسألة الشرقية الجديدة" لخصت موضوعه ريجينا الشريف في كتابها القيم الذي صدر عن المجلس الوطني الكويتي للثقافة والفنون بعنوان "الصهيونية غير اليهودية" بالنقاط التالية: إعادة بناء القومية اليهودية، والتذكير بمناقشات الإنجليز حول توطين اليهود في فلسطين، والإشارة الى الفوائد الإقتصادية من احتلال المشرق العربي وتوطين اليهود في فلسطين. وكانت فرنسا، منذ حملتها المصرية ثم تحالفها مع الخديوية المصرية، تأتي في مقدمة الدول الصهيونية. لذلك كتب موشي هس رائد الصهيونية اليهودية وصديق ارنست لاهاران الآنف الذكر بحثافي عام 1862 بعنوان "روما والقدس" ردد فيه ادعاءات صديقه هذا فقال كما ورد في بحث ريجينا الشريف الآنف الذكر: "ألا تزالون تشكون في أن فرنسا ستساعد اليهود على إقامة مستعمرات تمتد من السويس الى القدس ومن نهر الأردن حتى البحر؟ ان فرنسا ستوسع مهمة التحرير لتشمل الأمة اليهودية ويبدو أن الفرنسيين واليهود قد خلق كل منهما للاخر في كل شيء (كما يبدو حاليا أن الأميركان واليهود قد خلق كل منهما للاخر في كل عدوان على الإنسان وفساد في الأرض:من عندنا)".

وكان الانجليز ينظرون الى هذا النشاط الفرنسي في منطقة الشرق الأدنى ببالغ الإهتمام وعظيم القلق. فتدخلوا كما قلنا إنقاذ السلطنة العثمانية من جيش ايراهيم باشا الذي كان يدق أبواب العاصمة استنبول. وقد دعوا الى مؤتمر عقد في لندن عام 1840، حيث جرد محمد على باشا من كل أملاكه في سورية والأناضول وأبقيت له نيابة السلطنة الوراثية في مصر. ثم قامت إنجلترة بطرد ابراهيم باشا من سورية في شتاء 1840-1841، كتب اللورد بالمرستون، الوزير المدمن للخارجية البريطانية الذي كانت سياسته حسب الموسوعة بريتانيكا تتلخص بأمرين: إبعاد فرنسا عن وادي النيل وروسيا عن البوسفور، والذي تصفه الموسوعة لاروس بأنه الخصم العنيد طوال أربعين عاما للسياسة الفرنسية فيما يخص المسألة الشرقية، نقول كتب هذا اللورد كتابا الى سفير بريطانيا لدى الباب العالي يقول فيه بحسب ما جاء في بحث الصهيونية غير اليهودية، الآنف الذكر: "يسود بين اليهود الشرقيين في أوربا (أي بين متهودي الخزر في روسيا: من عندنا) شعور جياش بأن الوقت الذي سيعود فيه شعبهم الى فلسطين بات وشيكا وبالتالي فان شوقهم للذهاب الى هناك عارم. وأصبح تفكيرهم موجها أكثر من قبل نحو وسائل تحقيق ذلك. ومن المعروف أن يهود أوربا يملكونثروات ضخمة وأن أي بلد تختاره مجموعة منهم لسكناها سيجني فوائد جمة من الثروات التي سيجلبونها معهم. ومن المفيد للسلطان أن يشجع اليهود على العودة الى فلسطين واستيطانها لأن الثروات التي سيجلبونها معهم ستضاعف موارد مملكته. واذا ما عاد اليهود بموافقة وحماية ودعوة السلطان فإنهم سيحولون دون أي خطط شريرة قد يفكر بها محمد علي أو خلفاؤه في المستقبل ". وكانت انجلترة قد افتتحت في عام 1834 قنصلية لها في القدس لتراقب الأمور هناك عن كثب في ظروف بدايات احتلال ابراهيم باشا لسورية. وقد عين لهذه القنصلية وليم يانغ الإنجيلي صديق لورد الأميرالية الكاثوليكي الصهيوني اللورد شانتسبري الذي طلب منه وضع اليهود في فلسطين تحت الحماية البريطانية. ثم ان التنافس البريطاني الفرنسي على طريق الهند بلغ ذروته عندما قامت فرنسا بدعم مشروع حفر قناة السويس في الوقت الذي كانت قد بدأت فيه بغزو شبه جزيرة الهند الصينية المحاورة للهند والغنية بثرواتها الطبيعية والهامة بموقعها الستراتيجي كبوابة الشرق الأقصى. تقول الموسوعة بريتانيكا: "ان الحكومة البريطانية بذلت كل ما باستطاعتها لمنع حفر القناة من قبل الفرنسيين وذلك تحسبا من النفوذ الفرنسي في مصر وخوفا على سلامة مراسلاتها مع امبراطوريتها الهندية. فبالإضافة الى إظهار امتعاضها في القاهرة من المضي قدما في تنفيذ المشروع عملت على استخدام نفوذها الكبير حينذاك في القسطنطينية للحؤول دون تصديق حكومة السلطانللعقد المبرم بين دي لسبس والخديوي نائب السلطان. وفي النتيجة بقي العقد المذكور دون تصديق حتى التاسع عشر من آذار 1866 (أي بعد أن ساهمت رؤوس الأموال البريطانية في شركة القناة: من عندنا). ولكن أعمال الحفر كانت مستمرة". ونجد أن تحريض ارنست لاهارن للإمبراطور نابليون الثالث عام 1860 المذكولر أعلاه لاحتلال المشرق العربي واقتراحه إعادة بناء القومية اليهودية في فلسطين، هذا الاقتراح وذلك التحريض، كانا اذن في ذروة اشتداد الصراع البريطاني الفرنسي للسيطرة على طريق الهند أثناء عمليات حفر قناة السويس. ويمكن القول أن الفرنسيين باشروا بالفعل بتنفيذ توصيات لاهارن المذكور بنزول قواتهم في لبنان بحجة إخماد الفتنة الطائفية الشهيرة التي اندلعت هناك عام 1860 (عام توصيات لاهارن) والتي ما كان قنصلهم في بيروت بعيدا عن إثارتها. وقد بدا في نهاية الأمر، أن الإمبراطور نابليون الثالث الذي كان يلهث وراء أمجاد عمهنابليون الأول ، أزعج كثيرا غرماءه المستعمرين البريطانيين، فغض لذلك هؤلاء النظر، بل شجعوا، ملك بروسيا غليوم الأول قريب ملكتهم فكتوريا، كي يتوسع في وسط أوربا وغربها لينتهي الى سحق جيوش نابليون المذكور في حرب عام 1870 والى أسره واحتلال باريس وإعلان قيام الإمبراطورية الألمانية وتتويجه عليها إمبراطورا في قاعة المرايا في فرساي. وبهذا، بقيام هذه الدولة الألمانية الفتية عادت بريطانيا الى إحياء لعبة التوازن بين دول البر الأوربي لإلهاء هذه الدول بعضها ببعضها الآخر وإبعادها عن إمبراطوريتها الأستعمارية. وقد انتهت هذه اللعبة كما هو معلوم الى الحربين العالميتين الأولى والثانية ، والى انهيار الإستعمار القديم لصالح إستعمار جديد بزعامة الولايات المتحدة الأميركية لم ير التاريخ مثيلا له في قهر الإنسان واستعباده.

ان الانجليز في صراعهم مع الفرنسيين على طريق الهند، الذي هو الجزء الأساسي من الصراع العام بين أولئك الضواري المستعمرين الأوربيين لنيل أكبر حصة من تركة "الرجل المريض" الذي هو الدولة العثمانية، قاموا بتغلغل اقتصادي عميق في مصر قبل القيام باجتياحها عسكريا عام 1882. فخلال ربع قرن، خلال أعوام 1850-1875، تراكمت القروض البريطانية لمصر فبلغت نحو مائة مليون جنيه سترليني، أي ما لا يقل بالثقل عما يبهظ كاهل الجماهير المصرية من مليارات القروض الخارجية حاليا. والمصارف التي مولت تلك القروض كانت تحت إشراف آل روتشلد الصهاينة اليهود. وقد استغل ديزرائيلي هذا الوضع، بعد هزيمة فرنسا في الحرب السبعينية المذكورة أعلاه، ففرض على الخديوي اسماعيل بيع أسهم مصر في شركة القناة لقاء المبلغ التافه البالغ أربعة ملايين جنيه سترليني، المبلغ الذي استردته بريطانيا مضاعفا عندما فرضت على مصر غرامة مقدارها تسعة ملايين جنيه بعد قيامها باجتياحها عام 1882. وقد تمت صفقة بيع الأسهم المذكورة بشكل سري بين ثلاثة أشخاص: ديزرائيلي رئيس وزراء بريطانيا وخديوي مصر إسماعيل والممول البارون روتشلد. فكتبت جريدة التايمز في عددها الصادر في 29- 11- 1875، أي بعد انتقال "رزمة الأسهم" المصرية في شركة القناة الى ملكية الصهاينة آل روتشلد، الكلمة التالية معلنة بها هذا النصر الكبير الذي وطد الوجود الاستعماري البريطاني في منطقة الشرق الأوسط: "نحن الان أكبر المساهمين في شركة القناة، لنا الصوت الفاصل هناك في كل الشؤون السياسية والمالية والعلمية؛ وبيدنا من الآن فصاعدا زمام إدارة هذا المشروع وعلينا تقع مسؤوليته أمام العالم..".وكانت صحوة المسلمين في تلك الأثناء آخذة بالاتساع في مختلف أقطارهم التي مزقها المستعمرون ونهبوا ثرواتها وسببوا لأهلها التخلف والشقاء. فقام في الثلث الأخير من القرن الماضي مثلا الأستاذ جمال الدين الأفغاني بحركته الفكرية الشهيرة الواسعة في السلطنة العثمانية يدعو الى وحدة المسلمين ومقاومة المستعمرين المنهمكين حينذاك في بناء نظامهم الإحتكاري العالمي بعد انتهائهم من اقتسام العالم. وقام الى جانب الإمام الأفغاني في القطر المصري مفكرون ودعاة كبار من أمثال الأستاذ محمد عبده والأستاذ عبد الرحمن الكواكبي  والعقيد أمد عرابي. فقاد هؤلاء المقاومة المصرية ضد المستعمرين ولا سيما منهم الانجليز. ونشطت في تلك الأثناء الحركة التقدمية الفكرية في جماهير الطلبة وفي مقدمتهم طلبة جامعة الأزهر، وانتشرت التنظيمات والحركات الوطنية في سواد الشعب فظهر الحزب الوطني المصري، وتأسست دور الصحافة والنشر... وتأزمت الأحوال وانتهت الى عزل الخديوي اسماعيل واستبداله بتوفيق المغرق بالرجهية وخدمة المستعمرين. ولكن المقاومة الوطنية المصرية أجبرت هذا الخديوي على تعيين حكومة يشغل فيها العقيد أحمد عرابي منصب وزير الدفاع. ثم تطورت الأمور بعد ذلك ووقعت الكارثة الممهدة للكوارث اللاحقة بقيام الإنجليز باحتلال مصر بمساعدة الرجعية المصرية التي كان يقودها الخديوي توفيق. هنا يجدر بنا أن نلاحظ أن الصهاينة من آل روتشيلد الفرنسيين، الذين كانوا أثناء تصاعد الحركة الصهيونية اليهودية في أواخر القرن الماضي قد وظفوا مبلغ سبعين مليون فرنكي ذهب في عملية الإستيطان في فلسطين، نقول أن الروتشلد الفرنسيين دعموا ابناء عمومتهم الصهاينة الروتشلد الانجليز في الهجوم البربري على مصر وشاركوهم في محاولة تقديم رشوى للبطل الوطني أحمد عرابي تتمثل بمعاش تقاعدي يبلغ عشرة آلاف جنيه استرليني سنويا ففضل هذا البطل المنفى الذي بقي فيه تسعة عشر عاما على التسليم لأولئك القذرين الصهاينة والمستعمرين. ثم ان الصهاينة الروتشلد الانجليز والفرنسيين تحالفوا مرة أخرى عام 1956 لاسترداد قناة السويس المؤممة. فأرسلوا كلبتهم اسرائيل المستفيدة من توظيفاتهم في فلسطين لتبدأ الهجوم على مصر. فكان ماكان مما هو معروف.

التقاء الصهيونيتين

 

ان الصهيونية الأوربية التي تطورت من الصهيونية البابوية، التي وضع أساسها كما مر معنا في سياق هذا البحث البابا غريغوار السابع ونفذها البابا أوربان الثاني بإشعال الحروب الصليبية تحت شعار "انقاذ قبر المسيح"، الى الصهيونية الرأسمالية الاحتكارية الأمريكية واسرائيل، هذا التحالف الذي قلنا في أكثر من مناسبة وفي أكثر من بحث أنه في الواقع صيغة لامتداد الستراتيجية الأميركية العالمية الحالية الى منطقة المشرق العربي لتحديد دور الدولة القاعدة اسرائيل في اطار التشكيلة الاستعمارية الأميركية في مسرح المحيط الهندي - البحر المتوسط، نقول ان الصهيونية الأوربية المتطورة بهذا الشكل كانت على الدوام تناقض وتعاكس الدعوى اليهودية بأرض الميعاد واعادة بناء الهيكل فتطارد اليهود وتمعن في اضطهادهم الى درجة تقتيلهم حتى قام الطور الرأسمالي الذي رأيناه يبحث عنهم للاستفادة منهم في اكتساب وحراسة موقع على الطريق الأسطوري: البحر المتوسط - المحيط الهندي. يقول الضابط السويدي كمب الذي أصبح من رجال الدين البروتستنت(1622-1689) في بحث بعنوان "أخبار اسرائيل السادة" مثلا: "ايها المسيحيون الوثنيون، انكم تسمحون لمعلمين مزيفين (يقصد بابوات روما)، وبخاصة روما أم الفسق، بأن يقنعوكم بأن الله حرم اليهود من الميراث وطردهم  وانكم واسرائيل المسيحية صاحبة الحق في امتلاك أرض كنعان الى الأبد". اوردت هذه العبارة ريجينا الشريف في بحثها الآنف الذكر. ولكن اليهود طوال تاريخهم ماكانوا مهيئين لافي أحوالهم ولافي ظروفهم للاندماج في نظام عالمي بالشكل الذي اندمجوا فيه بالنظام الرأسمالي الاحتكاري العالمي: لقد خدموا مختلف أشكال العبوديات عبر التاريخ ولكنهم في العبودية الرأسمالية الاحتكارية العالمية اكتسبوا نظاما خاصا بهم يشكل فرعا في ذلك النظام العالمي العام للرأسمالية الاحتكارية وظاهرة من ظواهره كما سنرى فيما سيأتي من هذا البحث.

وان القيادات اليهودية في مختلف المهاجر في العالم كانت كما أشرنا في مناسبة سابقة، ترفع شعار العودة الى "الأرض الموعودة" بمفهومها الوثني لتصون وترسخ الايمان بفكرة "الشعب المختار" لدى اليهود وبالتالي ليكون لها من جالياتهم في تلك المهاجراتباع وكيانات تعزز مراكزهم الاجتماعية والاقتصادية. وهنا يجدر بنا التذكير بالمعنى الأصلي الذي كنا أوردناه في مناسبة سابقة لعبارتي "الأرض الموعودة" و "الشعب المختار"، المعنى الذي قلب الى وثنية نفعية في خدمة من ليس مختارا وغير مستحق لتلك الأرض. لقد قلنا مرة ان الأرض الموعودة كانت أرض الحرية لأولئك المجاهدين من قوم موسى الذين كانوا يضحون بأرواحهم لجعلها قاعدة ينطلقون منها لتحرير بقية اخوتهم من بني الانسان من النظام العبودي. ثم اتى الوثنيون اليهود أعداء الثورة الموسوية ليقلبوا هذا المعنى الى نقيضه فيجعلوا من قاعدة التوحيد والجهاد من أجل تحرير الانسان هذه اقطاعا لعبودية جديدة. ثم اتت المسيحية لتنطلق منها للتبشير باخوة البشر وتحريرهم من العبودية... وتحولت ذكرى هذه الأرض في مهاجر اليهود الى ايمانية وثنية جامدة يستغلها الكهنة وشركاؤهم وخدمهم للمتاجرة بها في مختلف الأوساط العبودية التي قامت عبر التاريخ. ولم يكن للعودة الفعلية الى أرض الميعاد المزعومة بالنسبة لأولئك الاستغلاليين أهمية تعادل قيمة الكيان الذي يتزعمونه في المهجر. والدليل على هذا نجده في أمثلة لاتحصى من تاريخ اليهود في مختلف المهاجر الذين طالما اتيحت لهم فرص العودة الى فلسطين ولكنهم احجموا عن الاستفادة منها. بل كثيرا ماخرج منهم من كان في فلسطين الى المهاجر. ويهود اميركا حاليا افضل مثال على هذا الأمر.

ويمكن القول مع ذلك أن كيانا يهوديا يحققه مستعمر من المستعمرين في فلسطين يلقى بكل تأكيد الترحيب من قادة اليهود وكهنتهم عندما لايضر هذا الكيان بمصالحهم في مختلف المهاجر، وهم بطبيعة الحال يفعلون كل مابوسعهم للسعي الى كل كيان يهودي في فلسطين وغير فلسطين يرفع من نفوذهم ويوسع في فوائدهم في مختلف أنحاء العالم كما فعلوا عندما وضعوا انفسهم في خدمة المستعمرين الرأسماليين مثلا، وخاصة منهم الانجليز والأميركان، لاغتصاب فلسطين واقامة دولتهم القاعد العدوانية. ونجد ايضا من جهة اخرى ان اللاساميين الاوربيين الذين يكرهون تدفق اليهود الى بلادهم ومزاحمتهم لهم في سبل العيش يشجعون فكرة تحويل ذلك التدفق الى فلسطين. فقد كانت مثلا هجرة اليهود من شرق اوربا الى انجلترة من قوة الدعوة في هذا البلد لسلب فلسطين من اهلها وتحويل الهجرة اليهودية اليها. ففي عام 1902 تشكلت "اللجنة الملكية لهجرة الغرباء الى بريطانيا" وكان هرتزل أحد الذين مثلوا أمامها حيث قال: "لاشيء يحل المشكلة التي دعيت اللجنة لبحثها وتقديم الرأي بشأنها سوى تحويل تيار الهجرة الذي سيستمر بقوة متزايدة من اوربا الشرقية. ان يهود اوربا الشرقية لايستطيعون البقاء حيث هم. أين سيذهبون؟ اذا كنتم ترون أن بقاءهم هنا غير مرغوب فيه فلابد من ايجاد مكان آخر يهاجرون اليه دون ان تثير هجرتهم هذه المشاكل التي تواجههم هنا في انجلترة. لن تبرز هذه المشكلة اذا وجد وطن لهم يتم الاعتراف به قانونيا، وطنا يهوديا". وفي المؤتمر الصهيوني السابع وصف اللورد بلفور، رئيس الوزراء البريطاني حينذاك وصاحب الوعد المشؤوم، باللاسامية بسبب تصريحاته أمام البرلمان أثناء المناقشات التي جرت هناك عام 1905 حول قانون الغرباء الذي يشدد من شروط الدخول الى بريطانيا والاقامة فيها. ويقول ماينرتزهاجن، وهو مسيحي لاسامي شغل فيما مضى وظيفة كبير الضباط السياسيين في أركان الجنرال اللنبي: "أنا أكره اليهود وأتمنى أن تنفصل الصهيونية عن اليهودية ولكنها لاتستطيع ذلك وعلي أن أقبلها على حالها كواقع.. ان فلسطين يهودية قوية أمر حيوي لأمن الكومنولث البريطاني.. وسيبقى العربي يجتر افكاراراكدة ولايرى ابعد من مبادئ محمد الضيقة.. ان وجهة نظري الخاصة أن للألماني الحق في أن يعامل اليهودي كأجنبي وينكر عليه المواطنة الألمانية فيطرده من ألمانيا..". وقد التقى هذا اللاسامي، على أساس هذه الفكرة الأخيرة مع وايزمن الذي كلفه أن يساعد على عقد صفقة مع النازيين لدفع اليهود الألمان الى الهجرة الى فلسطين. فكان بناء على هذا التكليف يلتقي بهتلر وربنتروب في أعوام ماقبل الحرب من 1934-1939.

ان الرأسمالية الاحتكارية التي توطدت أركانها منذ الثلث الأخير من القرن التاسع عشر خربت المشاريع الرأسمالية الضغيرة وقضت على كثير من الحرف أو عدلتها لتنسجم مع انتاجها وامتد أثرها الى الأرياف حيث اضمحلت الزراعات الغذائية لصالح الزراعات المفيدة كمواد أولية للصناعة. فاستحكمت الأزمات واشتد تواترها وعمت البطالة بازدحام سوق العمل باليد العاملة الرخيصة النسائية والريفيةواستخدام الأطفال على نطاق واسع في المصانع. وفي هذه الأجواء كانت نقمة سواد الناس توجه الى اليهود الذين يعملون بأكثريتهم في الحرف التي أصابها الكساد واشتد فيها التزاحم. وكان اليهود المتدفقون من روسيا يزيدون من ازدحام سوق العمل في غرب أوربا كما شاهدنا أعلاه مثال هذا الأمر في إنجلترة فتشتد لذلك النقمة ضدهم وتتصاعد مشاعر اللاسامية (تماما كما تتصاعد حاليا مشاعر التمييز العنصري ضد عرب شمال أفريقيا المهاجرين الى فرنسا وضد الأتراك المهاجرين الى ألمانيا وضد الباكستانيين المهاجرين الى انجلترة الخ..). ونرى الرأسماليين الاحتكاريين اليهود، الى جانب هذا الحال، يشاركون وملاءهم الرأسماليين الاحتكاريين المسيحيين في إدارة النظام الاحتكاري العالمي واقتسام أرباحه ولكن، بطبيعة الحال، كان الخوف ينتابهم من أن تشتد مشاعر اللاسامية فتصل نارها اليهم وتتناول أوضاعهم الإجتماعية وتصيبها بالأذى. ونجد شواهد قوية على هذا الأمر منها مثلا قضية الضابط اليهودي في الجيش الفرنسي الكبتن دريفوس، وهو من عائلة غنية: كان أبوه صاحب معمل نسيج وزوجته ابنة تاجر ماس في باريز. فهذا الضابط الذي كان يعمل في وزارة الدفاع الفرنسية اتهم وجرم بالتجسس لحساب ألمانياعام 1894. وكانت قضية شهيرة حشد فيها الاحتكاريون اليهود كل ما لديهم من قوى في فرنسا لأنقاذ هذا الضابط ثم لإعادة محاكمته بعد تجريمه والحكم عليه، كما حشد بالمقابل أنصار اللاسامية وأنصار الكنيسة الكاثوليكية كل قواهم لمنع إعادة المحاكمة وتثبيت الحكم. وتصف الموسوعة بريتانيكا أصداء هذه القضية بما يلي: "ان قضية دريفوس كانت من أبرز أحداث الجمهورية الفرنسية الثالثة بل أحداث فرنسا الحديثة. فمن جيشانها انطلقت تدابير عنيفة ضد الإكليروس كان منها الفصل بين الكنيسة والدولة عام 1905 والانقسام العميق بين الوطنيين اليمينيين وبين أعداء "العسكرة" اليساريين الذي خيم على الحياة الفرنسية حتى سنة 1914 وما بعدها أيضا. وقد تحشد في كل طرف من طرفي النزاع أبرز رجال الأدب. وكان أن دمر عنف الجدل اللجوج تماسك الحياة الفرنسية طوال أكثر من جيل..".وكانت الفضيحة الكبرى لقناة بنما في الثمانينات من القرن الماضي ، قبل قضية دريفوس بقليل، التي سببها محتالون احتكاريون يهود، والتي أخرجت أعمال حفر هذه القناة بالتالي من أيدي الفرنسين الى أيدي الأميركان، من العوامل الفعالة لإزكاء نار العداوة لليهود في فرنسا وأوربا. الا أن الصورة الآنفة الذكر التي تعطينا إياها بريتانيكا تبين لنا جيدا مدى نفوذ الاحتكاريين اليهود حينذاك في فرنسا وفي عواصم الاحتكارية بحيث تمكنوا من التغلب على خصومهم وفرض محاكمة دريفوس. وهذا الى جانب ما تبينه هذه الصورة من شدة قلق أولئك القادة اليهود وخوفهم من تيار اللاسامية الذي كان يتصاعد ليبلغ الذروة بين الحربين العالميتين عندما قامت النازية في ألمانيا وانفجرت في فرنسا عام 1934 فضيحة اليهودي الإحتكاري ستافسكي التي قارنها الناس بفضيحة بناما والتي هزت أصداؤها الشديدة النظام الرأسمالي الإحتكاري العالمي من أساساته.

ان امتزاج رؤوس الأموال المصرفية برؤوس الأموال الصناعية هي الظاهرة الأساسية للإحتكار. فالمصارف في هذه المرحلة من الرأسمالية، بالإضافة الى إقراضها الأموال للمشاريع الرأسمالية، تساهم في هذه المشاريع وتشرف عليها وتوجه نشاطها كما أن المساهمين الكبار في المشاريع الإنتاجية هم ذاتهم المساهمون الكبار في المصارف التي غدت في نظام الاحتكار شركات مساهمة تدخل في تركيب احتكار من الإحتكارات الرأسمالية. لذلك غدا اليهود والمرابون العريقون من أمثال الروتشلد والساسون والمونتفيوري والهيرش بمصارفهم الكبيرة من أصحاب النفوذ الواسع في عالم الاحتكار المتقدم ماديا في أوربا وأميركا. فكانوا وما يزالون في طليعة المساهمين في مشاريع الإنتاج الأساسية.

وكانت الثورة الصناعية بمختلف اكتشافاتها، لا سيما منها في مجال المحركات حيث ظهرت في العقد الأخير من القرن الماضي محركات الإشتعال الداخلي والديزل، قد جعلت من النفط في مقدمة المواد الأولية المطلوبة بالحاح في عالم الصناعة الرأسمالية الإحتكارية. وكان اليهود من آل روتشلد من كبار مؤسسي الاحتكار العالمي النفطي الذي تصدرته الأحتكارية البريطانية قبل مجيء الأميركان لتصدره في الخمسينات من هذا القرن. وكان هذا الاحتكار يستخرج نفط القوقاز أيام روسيا القيصرية والنفط الروماني. وظهر منذ أواخر القرن الماضي وأوائل هذا القرن النفط الايراني مع بشائر نفط المشرق العربي بدءا من العراق في منطقة كركوك. فأخذت لذلك المسألة الشرقية بعدا جديدا هو البعد النفطي. وأصبح المشرق العربي أرض النفط محرك وسائل إنتاج الإحتكاريين ووسائل نقل بضائعهم ونقل المواد الأولية التي ينهبونها من مستعمراتهم ونقل قواتهم العسكرية العدوانية بحيث قال تشرتشل في وصفه في مذكراته: أنه "عام عليه الى النصر في الحرب العالمية الثانية". يضاف الى هذا كون المشرق العربي ذلك الجسر الأسطوري الى ثروات آسيا وأفريقيا الذي طالما تكلمنا عنه في دراستنا هذه.

ان نشاط الصهيونية اليهودية، مؤتمراتها التي حددت اتجاهاتها العامة ووعت أسس الخدمات للمستعمرين الإحتكاريين في عدوانهم على أمتنا العربية، هذا النشاط بلغ ذروته في تلك الظروف الأوربية التي نشير اليها هنا ونعود الى اختصارها بالأمور الثلاثة التالية: تصاعد اللاسامية، وتدفق هجرة الخزر المتهودين على أواسط وغرب أوربا، وتوطد مراكز المتمولين أصحاب المصارف اليهود في عالم الرأسمالية الإحتكارية. كما نجد من ناحية ثانية أن الصهاينة المسيحيين الأوربيين كانوا يقتربون أكثر فأكثر من توحيد حل المسألة الشرقية (المسألة المفتعلة بعدوانيتهم واستعمارهم) وحل مسألة اللاسامية القائمة في مجتمعاتهم في مسألة واحدة: اقتسام الدولة العثمانية وإعطاء فلسطين لليهود. يقول مثلا ليونارد شتاين في بحثه بعنوان "العهد الفكتوري" ما يلي: "قدم أنصار الهجرة الصهيونية من المسيحيين واليهود مشروعين يتحدث أولهما عن فائدة زرع سكان كاليهود في منطقة حيوية كفلسطين الواقعة على طريق الهند التي يمكن أن تصبح محمية بريطانية اذا ما انتزعت من يد الرجل المريض (الدولة العثمانية). وقدم بعض الضباط فكرة شق قناة من البحر الأبيض المتوسط الى خليج العقبة. وكان الاستيلاء على فلسطين غير منفصل عن التغلغل في الشرق الأوسط على يد جمعية تشبه شركة الهند الشرقية (التي استعمرت الهند فيما مضى وضمتها الى ممتلكات التاج البريطاني: من عندنا) مع إضافة هجرة اليهود الى فلسطين كمستعمرين بموجب امتياز خاص في تلك الجمعية". وبقيت عقدة واحدة مستعصية وهي معرفة الجهة التي ستقوم بعملية التقسيم الآنفة الذكر ثم توزيع مختلف أشلاء تلك الدولة المسلمة على الضباع الصهاينة المسيحيين واليهود. فبعد قيام الامبراطورية الألمانية الفتية، وكانت ايطاليا قبل ذلك قد توحدت، أخذت هاتان الدولتان تطالبان بحصتيهما من المستعمرات. بل إن أطماعهما امتدت الى أراضي الدول الأوربية: كانت ألمانيا مثلا تطمع في استعمار أوكرانيا بلد الحبوب والقوقاز بلد البترول في روسيا القيصرية كما كانت تطمع في التوسع في البلقان، حيث بترول رومانيا، وفي الأناضول والمشرق العربي وايران حيث تفوح بشدة روائح البترولفي المطقتين الأخيرتين. أما أطماع ايطاليا فلم تكن دون إعادة احتلال أراضي الامبراطورية الرومية في مشرق العالم العربي ومغربه بالاضافة الى منطقة السافوا التي تشكل جنوب فرنسا. وأما بقية الدول الرأسمالية الاحتكارية فانها اتجهت في سياساتها الى إبقاء ما هو قائم في العالم بعد أن تم اقتسامه فيما بينها في كل عهود الأستعمار السالفة. وقد استطاعت ألمانيا من توطيد نفوذها في السلطنة العثمانية المنهكة بأثقال التخلف المادي بجميع أوجهه. وعلى العموم كان العالم يتجه بسرعة نحو الحرب العالمية الأولى ثم الثانية "لتصفية الحسابات" فيما بين المستعمرين الرأسماليين الاحتكاريين.

قلنا أن نشاط الصهيونية اليهودية قد بلغ أقصاه في تلك الظروف الأوربية. وكان الاحتكاريون اليهود، كان قادة اليهود في أوربا، لا يتجهون بطبيعتهم نحو قوىاليسار للانضمام اليها في مكافحة عدوانية الرأسمالية الإحتكارية الموجهة لقهر واستعباد مستضعفي هذه القارة بالإضافة الى ما كان الرأسماليون الاحتكاريون يقهرون ويستعبدون أمم وأقوام بقية العالم بمختلف الأشكال، بل اتجهوا نحو تعزيز مواقعهم في عالم الإحتكار والإستعمار، الى تعزيز مواقعهم بين شركائهم الرأسماليين الإحتكاريين الذين رأينا فيما  سبق من هذا البحث أن تيار الصهيونية كان قويا فيما بينهم. فكانت النتيجة الطبيعية اذن أن تلتقي الصهيونيتين: الصهيونية الاحتكارية المسيحية والصهيونية الاحتكارية اليهودية، لسحق الإنسان في العالم بالعبودية الرأسمالية بدل الإستشهاد في سبيل خلاصه كما فعل أنبياء بني إسرائيل وفعل عيسى ابن مريم عليهم السلام أجمعين. وقد تذبذب لقاء هاتين الصهيونيتين بين شكلين يتصارعان حتى الموت على قيادة النظام الرأسمالي الإحتكاري العالمي: الشكل الجرماني والشكل الأنجلو سكسوني. واستقر أخيرا على الشكل الأخير الذي انتصر في الصراع وتسنمت الأنجلو سكسونية الأميركية قيادته. يقول اللورد ميلتشت الذي تصفه بريتانيكا بأنه نبيل وسياسي وصناعي كبير انجليزي وأحد مؤسسي الإحتكار البريطاني الشهير "الصناعات الكيماوية الإمبراطورية" والنائب والوزير أكثر من مرة وخريج أعلى المعاهد البريطانية ، يقول هذا اللورد البارون في بحث أصدره تحت عنوان الجار عام 1917، في أعقاب وعد بلفور، ما يلي: " ان رجال الإستعمار البريطاني يرون أن اليهود بناء على وضعهم السيئ في مختلف البلاد وما لديهم من رؤوس أموال كبيرة هم خير من يخدم آلة الإستعمار البريطاني. وإني أتطلع بلهفة الى ذلك اليوم الذي تصبح فيه فلسطين وشرقي الأردن وحدة ضمن الإمبراطورية البريطانية وتشغل مركزا مهما في جسم هذه الإمبراطورية ويدافع عن هذه الوحدة عدة ملايين من اليهود الذين تربطهم بنا رابطة الوطن والإخلاص والمدنية".ومن المعلوم أن الإخلاص بلغة المستعمرين يعني دوما إخلاص الخدم، وان المدنية تعني اغتصاب أوطان الغير ونهب ثرواتهم. وقد انتهت الأمور كما نرى بوضوح حاليا الى أن "تفسير حلم" هذا اللورد الإحتكاري ميلتشت بجعل اليهود خدما لإنجلترة في قاعدة لها على طريق النفط والهند هو تحول قومه مع اليهود الى خدم لاحتكاريي الولايات المتحدة الأميركية في تلك القاعدة بالذات مضافا اليها أوربا عتبة العالم القديم بالنسبة للأميركان وعلى الأخص منها بلده المليئة بالقواعد الأميركية الذرية الصاروخية.