الفصل الثامن

 

الصهيونية الألمانية

 

الرأسمالية تتناقض مع وسائلها

 

كانت جملة المجتمعات الإنسانية المحكومة بالنظام الرأسمالي الإحتكاري تمر في أوائل هذا القرن بأزمة عامة مستعصية بينت بأجلى الصور عجز هذا النظام عن ضبطها وتوفير تماسكها بعلاقاته المختلفة. لذلك رأيناها تسقط في أتون الحرب العالمية الأولى عام 1914 حيث قامت ثورة أكتوبر التي خرج بنتيجتها نحو سدس اليابسة من الأرض من النظام الرأسمالي  وانطلقت الجملة في مرحلة الانتقال الى الطور الأعلى، في مرحلة تنحسر فيها الرأسمالية الإستعمارية بينما تتقدم الأسباب والمقومات المادية والروحية للطور الاشتراكي العالمي، طور تعارف وتكامل وتعاون الناس أفرادا وجماعات وأمما دون أس استعلاء من أي شكل كان لفرد أو لجماعة أو لأمة على الآخرين.وقد رأينا بوضوح منذ تلك الحرب الضروس حتى يومنا هذا أن تقدم الوسائل بيد مختلف الجماعات الإنسانيةوخاصة منها جماعات المستعمرين ما كان ليزيد الا من تخلف هؤلاء والا من عجز نظامهم عن ضبط ما تبقى بأيديهم من عالم الجملة الإنسانية.فالأزمات تتلاحق في نظامهم العالمي، والحروب لا تنقطع في عالمهم، والفضائح تترى في مجتمعاتهم فتتناول أعلى المستويات عندهم الخ.. نعم ان الرأسماليين الإحتكاريين يتخلفون باستمرار وبتسارع بمقدار تسارع تقدم الوسائل التي بأيديهم. فهذه الوسائل تتطلب مثلا اتساع الأسواق باستمرار أمام كل منتج بها بينما نجد أن هذه الأسواق تضيق نسبيا بخروج ملايين الناس في مختلف أنحاء الأرض منها لفقرهم وعجزهم عن الشراء بالأضافة الى ازدحام ما بقي من ساحاتها يالمتنافسين على مختلف الحجوم. وبالإضافة الى إساءة استعمال مختلف قوى الانتاج بتوجيه عملها في ساحات غير منتجة واستهلاك طاقاتهافي التنافس بدل التعاون والتكامل بين مختلف المنتجين على النطاقين المحلي والعالمي. هنالك حجوم هائلة من قوى الانتاج تعطل او تهدر لعجز نظام التنافس الوحشي والركض الجنوني وراء الأرباح ومختلف المنافع الأنانية الضيقة والسعي الحثيث الى الاستعلاء والهيمنة عن استيعابها والاستفادة الايجابية منها. هنالك نظام الاستعمار المسبب للتخلف المادي والروحي لمليارات البشر فتقتل لذلك امكانات انسانية هائلة كان بالامكان أن تساهم في رفع سوية الناس في الجملة الانسانية. ويطول بنا هذا الحديث فيما لو حاولنا استقصاء الاشكال العديدة لاهدار القيم وتعطيلها في انتاج كل ماهو ضار بالمجتمع البشري كانتاج أدوات الحروب والدمار مثلا أو كل مالانفع فيه وغيره. وبالاختصار نجد أن نظام الاحتكار الرأسمالي بوسائله المادية المتقدمة باستمرار التي تتطلب استقصاء الامكانات الانسانية وتوسيعها وترقيتها على النطاق العالمي وليس تضييقها، نجد أن هذا النظام العبودي يعمل، كما يدل عليه اسمه، على حصر واحتكار القوة والهيكنة المادية في دوائر ضيقةمن العالم هي دوائر أصحابه الإحتكاريين في مجتمعاتهم أثناء سعي هؤلاء بكل مافي استطاعتهم الى تطوير وسائلهم وترقيتها كي يستطيعوا الصمود في ساحات التنافس الضاري فيما بين بعضهم بعضا. الساحات التي يقيمونها بأنفسهم عند ركضهم المحموم وراء الأرباح والهيمنة. انهم في دائرة جهنمية لا خلاص لهم منها الا بإنهاء نظامهم: يطورون الوسائل ليزدادوا بها قوة في ساحات التنافس في الوقت الذي تبرز فيه أكثر فأكثر ضرورة استخدام هذه الوسائل من التعاون والتكامل بدل التنافس لتعطى قوى الإنتاج القائمة عليها كامل مها الايجابي بدل إغراقها المجتمعات في الفوضى.

وبعد أن عجز النظام الرأسمالي الإحتكاري عن ضبط الجملة الإنسانية بعلاقاته فانحسر عن روسيا القيصرية ومستعمراتها التي تحولت بثورة أكتوبر الى اتحاد سوفياتي يسعى الى بناء الإشتراكبة استمر انطلاق الرأسمالية في تصعيد الإحتكارية في عالمها. فتنافس الرأسماليين وركضهم المحموم وراء الأرباح أدى بهم الى أن يقيموا الكائنات الإحتكارية العملاقة للعمل من خلالها ومما وفره التقدم المادي من وسائل ناجعة على إبعاد المنافسين عن طريق الوصول الى الهيمنة، وعلى الإحتفاظ بهذا الوضع الذي يؤمن أقصى ما يمكن من غنائم في ساحات التنافس الضاري. ثم ان المتنافسين الرأسماليين الإحتكاريين اتجهوا في صراعهم نحو السيطرة على جهاز الدولة واستخدامه في السوق محليا وعالميا، ولاستحداث ساحات جديدة لاغتراف المغانم والأرباح. فبعد أن كان جهاز الدولة الرأسمالي مجرد جهاز دفاع وقمع لصيانة النظام الرأسمالي هنا وهناك في العالم أصبح بعد الحرب العالمية الأولى يتطور نحو جهاز تقوم عليه ما يسمى بالرأسمالية الإحتكارية للدولة.ثم تتصاعد الإحتكارية لتقوم في النتيجة الشركات المتعددة الجنسية التي نشاهدها حاليا. ولا يعني هذا بطبيعة الحال أن رأسمالية الدولة قد تم تجاوزها بظهور هذا النوع من الشركات وإنما يعني أن تلك الرأسمالية الإحتكارية للدولة قد تطورت وتعقدت بتطور النظام الرأسمالي الإحتكاري العالمي وتعقده، وبسير هذا النظام على كل حال نحو نهايته المحتومة.

الرأسمالية الإحتكارية فيما بين الحربين العالميتين

 

ان تنافس الرأسماليين للحصول على عقود يتم بموجبها سد حاجات الدولة من السلع والمشاريع ذات النفع العام قديم. فرأينا مثلا فيما سبق من هذه الدراسة أن الأسطول الألماني الحربي تضخم في أوائل القرن العشرين لمساعدة الإحتكار الشهير كروب للخروج حينذاك من أزمته بتوجيه قسم هام من إنتاجه من الحديد والفولاذ والمحركات لبناء السفن الحربية الجديدة الأمر الذي أزعج في تلك الأيام سيدة البحار بريطانيا وساهم في إزكاء نار العداء بين هاتين الدولتين. ثم ان المتعهدين يقومون دوما بتلبية طلبات الدولة المختلفة فيكون للإحتكاريين أكبر المنافع الحاصلة في هذا القطاع الذي تسخر فيه تشريعات الدولة المالية والجمركية لمصالحهم الأنانية. ولكن الدولة لم تصبح احتكارا عاما يغلب يغلف النشاط الاقتصادي لبلدها الرأسمالي ويسيطر عليه طغمة من الاحتكاريين قد تضم شركاء اجانب الا في عهد الرأسمالية الاحتكارية للدولة التي ظهرت بداياتها في أعقاب الحرب العالمية الأولى. وكانت النازية التي رفعت شعار الاشتراكية الوطنية المعبرة عن "التشارك" القسري للاحتكاريين وكبار الرأسماليين بزعامة طغمة تتألف عن أشدهم سطوة وأقواهم نفوذا النموذج العاري لرأسمالية الدولة. فبنتيجة الأزمتين الاقتصاديتين الكبيرتين، أزمة 1920-1921 وأزمة 1929-1933، مضافا اليهما ماسببته الحرب العالمية الأولى والهزيمة فيها من خراب وفوضى في اقتصاد ومعنويات المجتمع الألماني، رأى كبار احتكاريي المانيا، وفي مقدمتهم زعيمهم كروب، استخدام جهاز الدولة لاشاعة الانضباط والطاعة لقوانين نظامهم وسيطرتهم. فعملوا لذلك على مساعدة النازية للاستيلاء على الحكم حيث اختلطت تماما سلطتي الطغمتين: الاحتكارية والديكتاتورية. وقام الاحتكاريون الكبار بتصفية الشركات الصغيرة والمتوسطة أو الحاقها باحتكاراتهم. وأخذوا بأيديهم امور الأسعار وتوزيع طلبات الدولة على مختلف الاحتكارات، ووجهوا باختصار كل نشاط اقتصادي في الاتجاه الخادم لمصالحهم، بالاضافة الى استعمال جهاز الدولة في قمع كل معارضة داخلية ثم توجيه الدولة برمتها في محاولة لاقامة السيطرة العالمية للاحتكارات الألمانية.

كانت الجملة الانسانية قد بدأت كما قلنا مرحلة انتقال الى الطور الأعلى في أعقاب الحرب العالمية الأولى، فالنتهى بذلك طور الهيمنة المطلقة عالميا للنظام الرأسمالي الاحتكاري. ثم تلاحقت أزمات هذا النظام الاقتصادية والاجتماعية في فترة مابين الحربين العالميتين. فنجد مثلا في الاحصائيات الرسمية للدول الرأسمالية الصورة التالية:

- تم افلاس اكثر من مليوني مزرعة في الولايات المتحدة الاميركية في أعوام 1929-1937. وهبطت المداخيل الزراعية هناك الى الثلث تقريبا من عام 1929-1932. وانخفضت مبيعات المكنات والأدوات الزراعية الى الثمن في ذات الفترة السابقة. اما استعمال الاسمدة الكيماوية فقد تدنى الى النصف. وقد قامت في تلك الحقبة حكومة الولايات المتحدة الأميركية باتخاذ الاجراءات لخفض الانتاج الزراعي فأتلفت في عام 1933 نحو 10.4 مليون فدان من القطن المزروع بفلاحته وطمره في التراب، ونحو 6.4 مليون خنزير. وقد احرق القمح هناك في مواقد القطارات. كما هدم هناك اثنان وتسعون فرنا عاليا. واتلف ماحمولته 6.5 مليون طن من السفن الخ... وكان تقدير التخلف الزمني في الولايات المتحدة الأميركية بنتيجة أزمة 1929-1933 نحو 28 عاما في استخراج الفحم  و36 عاما في انتاج الفونت و31 عاما في انتاج الفولاذ و35 عاما في التصدير و31 عاما في الإستيراد.

- أحرق في البرازيل في مواقد القطارات 22 مليون كيس بن. وأتلف في الدانمرك 117 ألف رأس من الماشية.

- جرت أمور مشابهة في كل من فرانسا وانجلترة وألمانيا.

وعمت الإضطرابات الإجتماعية بلاد الرأسمالية الإحتكارية في أوربا وأميركا. واندلعت الثورات الوطنية في المستعمرات والبلاد التابعة : لم يتوقف كفاح وثورات الشعب الفلسطيني طوال سنوات ما بين الحربين، وكذلك كفاح الشعب المصري وكفاح وثورات الشعبين السوري والعراقي والعصيان المدني في الهند الخ.. وقامت اليابان بشن الغزوة تلو الغزوة على الصين لاستعمارها وإغلاق أسواقها في وجه التجارة الأوربية والأميركية طوال تلك السنوات التي سبقت الحرب العالمية الثانية. وتصاعدت المزاحمة بين الإحتكارات العملاقة لمختلف الدول الإستعمارية حتى بلغت أقصى ما يمكن تصوره بضراوتها، وغدا النظام الرأسمالي الإحتكاري العالمي على كف عفريت. وظهر بجلاء في النتيجة أن هذا النظام بالشكل الذي كان عليه، وخاصة منه امبراطورياته الإستعمارية التي تقوم كل واحدة منها على احتلال أوطان الغير بالجيوش الأجنبية وادعاء ملكية أرضها من قبل الغريب المحتل كادعاء الإنجليز مثلا ملكية الهند وغيرها من المستعمرات، أو ادعاء فرانسا بامتداد أرضها لتشمل الجزائر بالإضافة الى ادعائها ملكية الأراضي التي كانت تستعمرها في أنحاء أخرى من العالم، نقول ظهر بجلاء أن النظام الرأسمالي الإحتكاري بامتداداته الإستعمارية كان يعارض تماما مجريات الواقع في الجملة الإنسانية فكان غير قابل للحياة والإستمرار في هذه الظروف برزت النازية كاتجاه يزيح عن الرأسمالية الإحتكارية كل الأقنعة التي يحاول سادة نظامها أن يخفوا تحتها تعطشهم للإستعلاء والسيطرة المطلقة بكل شكل مناسب . فالنازيون يرون في الجوهر أن الإحتكارات بما لديها من وسائل وقوى مادية يجب أن تكون لها الهيمنة فيمتد سلطانها ليشمل الدولة أولا التي تنقلب كما قلنا الى احتكار شامل يغلف كل نشاط اقتصادي في مجتمعات بلدها وتوجهها الطغمة القوية بين أصحابها الإحتكاريين. ودولة كألمانيا تحكمها النازية يمكن أن توجه بحسب رأي أولئك النازيين نحو تحقيق السيطرة على أوربا بالقوة العسكرية ثم توحيد احتكارات هذه القارة تحت قيادة تلك الطغمة الألمانية، ومن ثم تحقيق السيطرة على أوربا بالقوة العسكرية ثم توحيد احتكارات هذه القارة تحت قيادة تلك الطغمة الألمانية، ومن ثم تحقيق السيطرة على العالم بعد تحطيم الدولة الإشتراكية السوفياتية وإعادة هيمنة النظام الرأسمالي على أراضيها. كان هذا هو ما طرحته النازية وحاولته لإنقاذ الرأسمالية الإحتكارية من الغرق والزوال في خضم انقساماتها وصراعاتها المحلية والعالمية. وكان في أساس العقيدة الذي قامت عليه هذه المحاولة للسيطرة على العالم دعواهم بتفوق العرق الجرماني على ما سواه من أعراق البشر. وتشبه هذه الدعوى ما يطرحه اليهود كذبا وافتراء على على الله والناس من أنهم "شعب الله المختار". مع العلم أن هذا الشعار جاء لتمجيد الجهاد والمجاهدين في سبيل الخلاص من العبودية والعبوديين على اختلاف أشكالهم. وقد توارثه أتباع رسل التوحيد الذين عملوا وضحوا في  سبيل تحرير فلسطين كما يعمل اليوم ويضحي الثوار لتحرير هذه الأرض المقدسة لتصبح برزخا للسلام تعبر عليه قوافل التعاون والتكامل وتبادل المنافع بين أمم مشرق الأرض ومغربها بدلا من أن تكون مغارة لصوص كما كانت تحت حكم اليهود أيام السيد المسيح أو قاعدة عدوان للمستعمرين العبوديين الأميركان كما هو حالها اليوم. وقد سرق قادة اليهود الوثنيون الشعار المذكور ليستفيدوا منه في عزل قومهم عن العالم وبالتالي تكتيل هذا القوم لخدمة أغراضهم الأنانية طوال تاريخهمالذي قضوه في خدمة العبوديات المتسلسلة وفي التآمر للإضرار بالإنسان.

كان التضارب المميت في الواقع ينتشر في كل عنصر من العناصر الأساسية التي يقوم عليها بناء النظام الإحتكاري العالمي. فالوسائل المتقدمة المتوفرة للإنسان في هذا النظام تتطلب كما قلنا التعاون والتكامل على أوسع نطاق بين البشر، محليا وعالميا، وهذا أمر لا يتحقق الا عن رضى وبعد عن كل قسر واستعلاء، لا يتحقق الا بتحرير الناس جميعا من كل شكل من أشكال العبودية وخاصة منها الاستعمار واضطهاد الأقوى للأضعف. ونجد من جهة ثانية أن الشركة الإحتكارية تقوم في بنيتها على المساهمة التي يشترك فيها المساهمون كبارهم وصغارهم ويفترض بحسب نظامها الظاهري أن تكون فيها لهؤلاء المساهمين جميعا حقوق واحدة فيكونوا شركاء حقا بينما تجري الأمور على عكس هذا تماما فيقول الأستاذ جان مرشال أستاذ الإقتصاد السياسي في جامعة باريس في محاضرة له يدور البحث فيها حول الشركات ما يلي: ".. ان مفهوم الديموقراطية محرف شيئا ما عن معناه التقليدي في إدارة الشركة المساهمة. ففي المجلس العام للمساهمين لا يوضع هؤلاء على قدم المساواة بين بعضهم بعضا. فلكل واحد منهم عدد من الأصوات يساوي عدد ما يحمله من أسهم. فالتصويت يخضع لملكية رأس المال. وكما كتبه زميلنا ج. لاسير: ان السيادة التي ترتبط بالملكية هب مفهوم إقطاعي وليس ديموقراطيا. فجملة إقطاعية مغرقة في التجزؤ ولا تحتوي الا على غبار من الأسياد الصغار تبقى دوما شيئا يختلف عن اليموقراطية. لأن طبيعة الحقوق وأسسها تهم أكثر من عدد المشتركين فيها، والديموقراطية الحقيقية هي التي تربط حق السيادة بشخص الإنسان. ان ما يعطي اعتراض لاسير هذا معناه الكامل ويحمله الى الواقع الملموس أن الكبار هم الذين يسنون قوانين المجلس العام لحملة الأسهم وذلك دون أي عائق... هل يطلع المساهمون العاديون على حقيقة نشاط الشركة؟ يجب علينا أن    لانتوهم هذا الأمر فتقرير مجلس الإدارة يوضع بشكل ماهر لايسمح بالكشف عن أي أمر واضح. فهو غني بالتفاصيل المبهمة الا أن ما يهم المساهم يظهر بشكل سيئ.   فالمحاسبة توضع على أسس يقصد بها عدم الوضوح. فاذا ماصدف وقام أحد المساهمين الحاقضرين جلسة المجلس العامواستجوب المدير أو انتقده فان هذا يحتمي وراء التفاصيل الفنية التي تظهر جهل المستجوب أو المنتقد. أو أنه يكتفي بعدم الإجابة بحجة حفظ السر تجاه الشركات الأخرى المزاحمة . أو أنه يتظاهر بالغضب من إثارة الشك حول نزاهته..".هذا قول الأستاذ جان مارشال الذي لا يمكن اتهامه بالاشتراكية ولكنه باحث شريف يحترم نفسه. ونجد من جهة ثالثة أن الامبراطوريات الإستعمارية الرأسمالية القديمة كانت تشكل إقطاعات للدول المستعمرة فتتحصن كل دولة منها بقواها العسكرية وراء حدود امبراطورياتها ضد الإمبرياليين الآخرين، وضد الثورات والإنتفاضات التي لا تنقطع لشعوب الإمبراطورية، الأمر الذي يماثل تماما أحوال الإقطاعي القديم عندما كان يمد سلطته على ما حوله من أراض ويقيم عليها إدارته بعد أن يكرسها ملكية له بمختلف أشكال الإغتصاب. وهنالك مثال واضح على هذا الأمر نجده في النزاع المكشوف بين الإنجليز وحلفائهم الفرنسيين الأحرار إبان الحرب العالمية الثانية، عندما كان الأخيرون تحت قيادة الجنرال ديغول يصدون أطماع الإنجليز في مستعمراتهم. فنرى الفرنسيين مثلا في الكلمة التي أذاعها قائدهم المذكور على أمته في 19 حزيران عام 1940 من الإذاعة البريطانية لا يميزون بين أرض وطنهم الأصلي فرانسا وبين الأراضي العربية المغتصبة: ".. على كل فرنسي ما زال ممسكا بسلاحه أن يواصل الحرب..".ونجد أيضا في مذكرات الجنرال ديغول العبارة التالية التي يسمي بها أوطان الشعوب التي استعمرتها بلاده ممتلكات لدولته ويبين بها أيضا أطماع البريطانيين فيها وكأن أصحابها الأصليين غير موجودين: ".. حاولت بريطانيا مرارا عديدة إنزال قواتها في ممتلكاتنا في مختلف أنحاء الأرض،دون إذن منا، مما يدل صراحة على نياتها الاستعمارية (ما شاء الله!.. وكأنه هو بذاته ليس مستعمرا لممتلكاته تلك كالإنجليز؟..: من عندنا)..". فاذا اضفنا الى مامر معنا من علل مستعصية في البنية العامة للنظام العالمي الرأسمالي الاحتكاري تزاحم الرأسماليين الضاري فيما بين بعضهم بعضا ومساعيهم المحمومة للنيل من بعضهم بعضا وأضفنا الى كل هذا ردود فعل سواد البشر على قهرهم بالثورات المتلاحقة والاضطرابات ومختلف اشكال الاحتجاج وعدم الرضى عن السوء المزمن للأحوال تبينت لنا الصورة المزرية التي وصل اليها نظامهم المحلي والعالمي في فترة مابين الحربين العالميتين عندما قامت النازية في المانيا. ولكن هذه النازية ماكانت في الواقع تطرح لمداواة هذا النظام وتثبيته سوى ماأشرنا اليه أعلاه من طرح لاقنعته التي يحاول أن يخفي تحتها علله وسوءاته مع مفاقمة هذه السوءات وتلك العلل باقامة ٌإقطاع عالمي لقلة القلة من البشر يضم مالايحصى من الاقطاعات المتضاربة فيما بين بعضها بعضا والمشتبكة في عراك مميت مع كل الانسانية.

ان النازية كما تقول بريتانيكا "هي اللون الألماني للفاشية التي تضع "الوطن الدولة" او العرق، تضع سلطته وتناميه في مركز الحياة والتاريخ. وهي تزدري الفرد وحقوقه، كما تزدري الانسانية تجاه مصالح الوطن. وسياستها في الحكم مطلقة استبدادية فلها حزب واحد تتكتب بٌإمرة قائده كل مظاهر الحياة الوطنية. والفاشية اطلقت في البدء على حركة قامت في ايطاليا بقيادة بنيتو موسوليني في آذار عام 1919، ثم غدت بعد ذلك عنوانا لحركات مشابهة في أقطار اخرى. وكلمة فاشية مشتقة من الأصل اللاتيني "فاشس" الذي يعني حزمة القضبان مع بلطة كان يتخذها قضاة الروم رمزا للسلطة. وقد قام الحكم الفاشي في عدد من الدول الاوربية كإسبانيا والمجر ورومانيا وبولونيا وبلغاريا واليونان واليابان، وهذا بالاضافة الى ايطاليا والمانيا. وتشكل حزب فاشي قوي في فرانسا بزعامة الكولونيل دولاروك وكان يدعمه شارل مورا، الكاتب والأكاديمي الفرنسي مدير جريدة العمل (اكسيون فرانسيز) الباريزية وتلميذ الفيلسوف الفرنسي جورج صوريل الذي كان يمجد العنف ويرى ان له الدور الأول البناء في التاريخ كما كان مذهبه، "العمل المباشر"، يعارض كليا كل وفاق قائم على التراضي ويرى في مثل هذا السلوك علامة لتفسخ البورجوازية. كما ظهرت الفاشية في كل من أميركا وانجلترة. ونحن لانعدو الواقع عندما نقول ان تنازل ادوار الثامن ملك انجلترة عن العرش عام 1936 ماكان بعيدا عن الملابسات السياسية التي تشكل فيها الحركة الفاشية البريطانية مع تيار التقارب مع المانيا النازية عنصرا هاما. كل هذا بات وشيكا. وقد حدث هذا التغير بالفعل، ولكن ليس الى الفاشية وانما الى قيام معسكر اشتراكي واسع تجاه امبراطورية رأسمالية احتكارية عالمية متعددة الرؤوس بزعامة الولايات المتحدة الاميركية في أعقاب الحرب العالمية الثانية.

الصهيونية الجرمانية

 

قلنا دوما ان الصهيونية قامت كعقيدة وثنية عدوانية تدفع صاحبها الى السعي لحيازة مفاتيح الطريق الأسطوري الذي وصل باستمرار مشرق الأرض بمغربها فمرت عليه ثروات العالم التجارية حيئة وذهابا ثم غدا حاليا أيضا شريان الإحتياطي العالمي للمادة المحركة لكل وسائل الحضارة المعاصرة، غدا شريان النفط. ونجد في النتيجة أن الصهيونية لاتعني شيئا آخر سوى هيمنة الصهيوني على المنطقة العربية الأسيوية بما في ذلك مصر والسودان ، والصهيوني ماهو الا مستعمر أو أجير للمستعمر فهو ليس فقط يهوديا بل هو بأكثريته من الأوربيين وخدمهم من كل جنس. فقد كان ذوو الأطماع المستعمرون الأوربيون المسيحيون دوما صهاينة عندما أتوا مثلا أيام الحرب الصليبية الى فلسطين وسورية للنهب تحت غطاء إنقاذ قبر المسيح على جبل صهيون. وهم كذلك صهاينة في كل أيام الرأسمالية عندما سعوا دوما الى الهيمنة على المنطقة العربية حول ذلك الطريق الأسطوري الآنف الذكر، وقد انتهوا في النتيجة الى استلاب فلسطين والى تسليمها لليهود خدمهم بعد طرد أصحابها العرب وذلك لاستخدام هؤلاء اليهود حرسا لمصالحهم العدوانية في منطقتنا العربية. ولننظر بهذا المعنى الى الصهيونية الألمانية ونشوئها وتطورها فنقول: قبل أن تتوحد ألمانيا وتدخل في طور التنافس مع المستعمرين القدماء لاقتسام العالم لم تبرز في أي من الإمارات الألمانية أي ظاهرة تستلفت النظر وتدل على اهتمام مبالغ فيه بقبر المسيح أو بمصير اليهود اللهم الا ذلك الإهتمام العادي الذي لا يتعدى نطاق العقيدة الدينية العادية. وهذا أمر منتظر وبديهي بناء على القاعدة السابقة وهي أن تصعيد العاطفة الدينية أو تصعيد الإهتمام بمصير اليهود الى الدرجة التي يلغى فيها وجود شعب فلسطين فيقتل هذا الشعب ويشرد من أرضه لا يكون الا لتغطية الأطماع الإستعمارية ، وما كانت تلك الإمارات الإلمانية المتفرقة في وضع يسمح بتولد مثل هذه الأطماع في أوساطها فتبرز فيها الصهيونية كأيديولوجية تغطية. ولكن عندما تمت وحدة الإمارات المذكورة وقامت الإمبراطورية الألمانية، التي دخلت حلبة الصراع الإستعماري كدولة رأسمالية إحتكارية عظمى، قامت في أوساط قادتها ، كلازمة لهذا الأمر، العقيدة الصهيونية تماما كما تولدت الصهيونية الفرنسية عند قيام الصراع المميت بين فرانسا وانجلترة على طريق الهند، وكما تولدت الصهيونية البريطانية قبل هذا مع نشوء وتطور الإمبراطورية الإستعمارية البريطانية في آسيا وشرقي أفريقيا وجنوبها، وقد مر معنا تفصيل هذه الأمور فيما سبق من دراستنا. واذا كان قدماء المستعمرين قد هدموا دار الإسلام بالتدريج خلال عدد من القرون بقضم قطعة منها في هذه المناسبة والإستيلاء على قطر من أقطارها في مناسبة أخرى، فان الطامعين الألمان خططوا لابتلاع هذه الدار خلال عقد أو عقدين من الزمان بالهيمنة على الدولة العثمانية، دولة الخلافة الإسلامية . يقول بونداريفسكي في بحثه القيم "الغرب ضد العالم الإسلامي" حول هذا الموضوع ما يلي: ".. عمدت هيئة الأركان العامة الألمانية الى ترسيخ نفوذها بجميع الوسائل في القوات المسلحة التركية كما أن الإحتكارات الألمانية استحصلت في عام 1888، بدعم قوي من الحكومة الألمانية، على امتياز ببناء سكة حديد بغداد الشهيرة في قلب الشرق الأدنى. ولتعجيل الحصول على هذا الإمتياز البالغ الإهمية قام غليوم الثاني في خريف عام 1898 بسفرة ثانية الى الأمبراطورية العثمانية وسط دعاية واسعة طنانة فزار القسطنطينية وسورية وفلسطين. وكان قد تقرر في برلين استغلال الأديان الثلاثة : الإسلام والمسيحية واليهودية ، التي لها أماكنها المقدسة في القطر الأخير الى أقصى حد ممكن ليكون لألمانيا موطئ قدم على مقربة مباشرة من قناة السويس. وفي أواخر القرن التاسع عشر ازداد كثيرا عدد الإرساليات الكاثوليكية الألمانية وشتى المراكز الدينية والثقافية الألمانية في سورية وفلسطين حيث قام في هذين القطرين"اتحاد الأرض المقدسة الألماني "وجمعيات الهيكليين والبندكتيين والكرمليين الرهبانية الألمانية بنشاط واسع... وقامت الدبلوماسية الألمانية قبل نصف سنة من زيارة غليوم الآنفة الذكر لتركيا بمساع محمومة لدفع البابا ليون الثالث عشر الى منح الحكومة الألمانية حق حماية كاثوليك فلسطين فنجحت تلك المساعي على الرغم من المعارضة الشديدة (للصهاينة) الآخرين الكاثوليك الفرنسيين. واشتد أيضا في ذات الوقت نشاط المنظمات البروتستانتية الألمانية في فلسطين وكان على رأسها "عصبة الإنجيل" و "الرسالة الشرقية الألمانية" وبلغ عدد هاتين المنظمتين في فلسطين نحوا من خمسمائة شخص. وفي 29 تشرين الأول 1898 وصل غليوم الثاني الى القدس برفقة حاشية ضخمة وفي لباس مسرحي فخم صارخ (لباس الإستعراض للحرس الإمبراطوري وفوقه برنس حريري مزركش بخيوط الذهب مع كل الأوسمة). وبدأ تكريس الكنائس والمدارس والمستشفيات التي كانت تخفق على بناياتها أعلام ألمانية كبيرة جدا. وكانت هذه الزيارة مع ما ألقيت فيها من خطابات وكلمات تسترعي بشدة انتباه الرأي العام العالمي..". وقد تصنع الإمبراطور غليوم الورع المسيحي والإنجذاب الشديد الى أرض صهيون ليخفي عن الضحايا والمنافسين أغراضه الإستعمارية الدنيوية فكتب الى القيصر الروسي نقولا الثاني مثلا الكلمة التالية: "..تملكتني دهشة خارقة من الكذب والتخيلات التي تقدمها الصحافة الأوربية لقرائها حول سفري الى القدس. وممايثبط كثيرا هو انعدام الإيمان المسيحي في الطبقات الأوربية العليا الى الحد الذي يجعل هذه الطبقات تفسر حجي الى البلد الذي عاش فيه وتألم مخلصنا يسوع بدوافع سياسية. أفلا يجوز لي ما يجوز للآلاف من أكثر فلاحيك بدائية؟..". وقد فعل هذا الإمبراطور صاحب كل هذا الورع المسيحي كل ما بوسعه للوصول الى التحكم بالمنطقة التي تضم البلد الذي عاش وتألم فيه المخلص وتضم أيضا محرك الحضارة المعاصرة النفط مع الطريق الأسطوري الى ثروات الأمم وكنوزها. فتفاوض مع اليهود، مع هرتزل مثلا الذي تواجد معه في القسطنطينية وفلسطين فبحثا في أثناء ذلك مسألة هجرة اليهود الى القطر الأخير بالتنسيق مع ألمانيا وحمايتها. وفي مطلع العشر الأخير من القرن الماضي جرت محاولة ألمانية لتوطين اليهود في سيناء وفي الحجاز في منطقة الوجه، وكان هذا الأمر في أثر الزيارة الأولى لتركيا.وجربت الصهيونية الألمانية أن تتقنع بحماية الإسلام للوصول الى غرضها في الإستحواذعلى مفاتيح الكنوز الشرق أوسطية. فقال مثلا القيصر غليوم الآنف الذكر في كلمة له ألقاها على قبر صلاح الدين في دمشق: "بوسع صاحب الجلالة خليفة المسلمين في العالم كله أن يكون والمسلمين على ثقة من أنهم سيجدون في جميع الأزمنة في شخص الأمبراطورالألماني صديقا وحاميا لهم ..". ثم ان الكلمة التالية التي أسرها غليوم في أذن القيصر نقولا الثاني (والتي وجدت في أرشيف وثائق العهد القيصري للخارجية الروسية) تبرهن بشكل حاسم على حقيقة ما قلناه ونقوله في هذا البحث من أن الصهيونية مسيحية أوربية كانت أم يهودية ما هي الا غطاء للأطماع الإستعمارية الهادفة الى السيطرة على منطقة ذلك الطريق الأسطوري، منطقة النفط حاليا ومنطقو السويس وطريق الهند أمسا، ومنطقة طريق حيرام- سليمان- بلقيس تاريخيا: "تذكر أننا اتفقنا أنت وأنا في بيترهوف على أن لاننسى أبدا أن المحمديين سيكونون ورقة كبيرة جدا في لعبتنا اذا وجدنا أنت وأنا فجأة في حالة حرب ضد الدولة المعروفة التي تدس أنفها في كل مكان (يقصد انجلترة). انك بوصفك تحكم ملايين المسلمين خير قاض في هذه المسألة".

وقد وصلت النازية ما انقطع بسبب الهزيمة في الحرب العالمية الأولى من تيار الصهيونية الألمانية. فهي كما قلنا أعلاه، عندما أدلت بدلوها في خضم الصراعات المريرةبين الإمبراطوريات الرأسمالية الإحتكارية الإستعمارية، سارت في محاولة لتقويض هذه الامبراطوريات وإقامة إمبراطوريتها لتسود العالم وحدها بنظام رأسمالي إحتكاري يحكم الجملة الإنسانية حكما عسكريا مباشرا يوقف الوظيفة الطبيعية لمعظم إنسان هذه الجملة في مختلف مجالات الحياة ويعطل دوره في البناء والتقدم، أكثر مما كان يوقف ويعطل قدماء المستعمرين بإقطاعاتهم الإستعمارية، وبالتالي يصعد الأمراض والأزمات بدلا من شفائها وتخفيفها. فكان من أول أهداف النازيين لتحقيق أغراضهم الإستعمارية هو ذلك الهدف الأزلي لجميع الطامعين طوال عصور التاريخ: الهيمنة على منطقة الشرق الأوسط. ففي الأرشيفات النازية التي استولى عليها الحلفاء في أعقاب الحرب العالمية الثانية وثيقة سرية في الخارجية الألمانية مؤرخة في الثاني من كانون الثاني عام 1938 تبين أن الإحتكارات الألمانية الكبرى طالبت بالعمل على بسط سيادة ألمانيا على مناطق دار الإسلام بدءا من المنطقة العربية. وهنالك وثيقة أخرى تبين أن غورنغ قال في حديث جرى له في السابع من آب عام 1939 مع بعض مندوبي الحكومة البريطانية ان "منطقة الشرقين الأوسط والأدنى هي منطقة المدى الحيوي لألمانيا". وفي مذكرة وضعها البروفسور أوسكار نيدرماير، وهو خبير كان يعمل في أركان القيادة العليا للقوات المسلحة الألمانية وكانت موجهة الى هتلر في خريف 1939 تحت عنوان "السياسة وتسيير العمليات الحربية في الشرق الأدنى"، يوصي هذا الخبير بوضع المنطقة الواقعة بين البحر الأبيض المتوسط والخليج العربي تحت الإحتلال الألماني وذلك بأن تشق الجيوش الألمانية طريقها اليها عبر القوقاز. وفي الثاني والعشرين من آب عام 1939، أي عشية اندلاع الحرب العالمية الثانية، قال هتلر في كلمة له أمام قاعدة القوات المسلحة: "يجب أن نعمل هلى حكم العرب، ونحن نرى في هذه الشعوب في أفضل الأحوال أنصاف قرود مدهونة باللك فيلزم السوط حيالها". وقد استثمر النازيون متاعب المستعمرين القدامى في المنطقة العربية فكانوا يتظاهرون بتشجيع الحركات الوطنية العربية ويحاولون توجيهها في اتجاهات تخدم مخططاتهم. ولكنهم من جهة ثانية كانوا يقيمون العلاقات الوطيدة بالحركة الصهيونية اليهودية ويمدونها بالمساعدات لتوطيد كيانها في فلسطين. ففي باكورة الحكم النازي عام 1933، عقد مصرفالدولة الألماني، الريخسبنك، اتفاقية سرية مع الوكالة اليهودية أطلق عليها الإسم العبري "خآفارا" ومعناه "الشركة التجارية". وقد نال اليهود بموجب هذه الإتفاقية نسبة مئوية على كل بضاعة ألمانية تصدر الى فلسطين في بادئ الإمر ثم عمت هذه العمولة على البضائع الألمانية المصدرة الى المنطقة العربية الأسيوية والى مصر. وقد مدد هتلر بالذات هذه الإتفاقية قبل نفاذها وأضاف اليها بندا سريا جدا تتمكن بموجبه الوكالة اليهودية من الحصول على أسلحة ألمانية لتسليح الهاغانا والفصائل اليهودية الأخرى.واستلمت الوكالة المذكورة بالفعل من ألمانيا أسلحة أتت من مستودعات استولى عليها النازيون في منطقة السوديت عندما اجتاحت جيوشهم تشيكوسلوفاكيا عام 1938. وقد وقع كثبر من هذه الأسلحة بأيدينا في جيش الإنثاذ عندما كنا نقاتل الصهاينة عام 1948. ثم ان حصة الوكالة اليهودية من العمولات الحاصلة بنتيجة اتفاقية "خآفارا" الآنفة الذكر كانت 139 مليون مارك خلال سنوات 1933- 1939 انتزعت بها هذه الوكالة مساحات كبيرة من الأراضي العربية وسلمتها للصهاينة اليهود. ويورد بونداريفسكي في بحثه المار ذكره أعلاه "الغرب ضد العالم الإسلامي" الأمور التالية: "في الكتاب الذي أثار ضجة عالمية كبرى "أيخمان في القدس" تثبت مؤلفته الأستاذة حنة براندت أن الوثائق التي قدمتها النيابة العامة الإسرائيلية للمحكمة كانت مزيفة. وقد برهنت الأستاذة براندت بما لا يقبل الجدل أن السلطات الإسرائيلية ترصدت أيخمان لاقتناصه خوفا من أن يقع في "أيد غريبة"، وسعت جهدها لكي تجري محاكمته في القدس على وجه الدقة للتلاعب بالوقائع وإجباره على لزوم الصمت حول المفاوضات والاتصالات الواسعة التي جرت عشية وإبان الحرب العالمية الثانية بين المنظمات الصهيونية وبين السلطات النازية ثم انتهت الى صفقات مخزية كان ضحيتها العرب واليهود في ألمانيا... في سياق المفاوضات التي دامت يومين مع ممثلي النازية هاغن وأيخمان في مقهى غروبي في القاهرة عرض ممثل الهاغانا المطلق الصلاحية بولكس أهداف القيادة الصهيونية وأسباب اهتمامها بإقامة تعاون دائب ومنتظم مع النازيين.. وقال أن الأوساط اليهودية القومية تعرب عن بالغ سرورها بالسياسة الجذرية التي تنتهجها ألمانيا حيال اليهود في أوربا لأن هذه السياسة تؤدي الى ازدياد الهجرة اليهودية الى فلسطين. وقد أصر بولكس هذا على ضرورة تسريع طرد اليهود من ألمانيا وأعرب عن الإستعداد لتزويد المخابرات النازية بالمعلومات السرية". ومن المعلوم أن أيخمان قد أسكت الى الأبد بإعدامه في أعقاب تلك المحاكمة. وكانت هنالك أيضا اتصالات بين السلطات النازية وحركة أرغون زفاي ليومي، أو المنظمة العسكرية القومية، فتقدم مثلا شتيرن زعيم أحد فروع هذه المنظمة عام 1940 بعرض الى السلطات النازية نشره بنصه الألماني ديفيد يسرائيلي في بحث صدر عن جامعة بارالان في رامات غان عام 1974 تحت عنوان: المشكلة الفلسطينية في السياسة الألمانية في أعوام 1889- 1945. يقول العرض المذكور:

1. ان الأرغون على أتم المعرفة بحسن نية حكومة الرايخ الألماني وسلطاته تجاه النشاط الصهيوني داخل ألمانيا وخطط التهجير الصهيونية وهي ترتئي ما يلي: هناك مصالح مشتركة تنشأ بين إقامة نظام جديد في أوربا حسب التصور الألماني وبين الطموحات الصهيونية؛

2. ان التعاون بين ألمانيا الجديدة وبين الصهيونية أمر ممكن؛

3. ان إقامة دولة يهودية مطلقة السلطة ومرتبطة بألمانيا بمعاهدة تدعم مركز السلطة الألماني في المنطقة العربية وتكون في مصلحته.

وعلى هذا الأساس فان الأرغون تتقدم لتأخذ دورها بفعالية في الحرب الى جانب ألمانيا. وان هذا العرض يغطي كافة أشكال التعاون العسكرية والسياسية وميادين المخابرات في فلسطين وما حولها الخ..

ونجد في النتيجة أن النازية التي حاولت أن تسبق الإحتكارية الأميركية في توحيد الإمبراطوريات الرأسمالية بامبراطورية عالمية واحدة تتزعمها الاحتكارية الألمانية فكرت أيضا بإقامة قاعدة لها في فلسطين يحميها الصهاينة اليهود ، تماما كما فعل الأميركان عندما أقاموا قاعدتهم اسرائيل في ذات الوقت الذي وحدوا فيه المستعمرين القدامى في الإمبراطورية العالمية المتعددة الرؤوس بزعامتهم.