الفصل التاسع

 

الأطماع الإستعمارية في الوطن العربي

 

سقوط الإستعمار القديم

 

رأينا فيما سبق من هذه الدراسة كيف أن أزمات النظام الرأسمالي الإحتكاري العالمي مع الصراع المرير فيما بين المستعمرين في ميادين نهب الإنسان المستضعف على الكرة الأرضية أدت بهذا النظام الى حرب عالمية ثانية بادت في أعقابها الإمبراطوريات الإستعمارية القديمة، ورأينا أيضا انحدار النظام المذكور الى مستنقع الفاشية حيث جرت محاولة استبدال تلك الامبراطوريات الإستعمارية بامبراطورية عالمية واحدة تقودها الديكتاتورية النازية. لقد كانت تلك المحاولة ظاهرة استحالة استمرار الإستعمار القديم، ظاهرة أزمته الممستة وقرب زواله، فاندلعت نيران الحرب العالمية الثانية لذلك في الثالث من ايلول عام 1939.

كان الرأسماليون الإحتكاريون في تلك الأثناء، كما هم دوما، يتناحرون ويتربص بعضهم ببعضهم الآخر، وكانوا جميعا يتربصون بالدولة الإشتراكية الإولى عسى أن تكون تلك الحرب مناسبة للقضاء عليها وإعادة هيمنة نظامهم على الجملة الإنسانية بأكملها بشكل مطلق. حاولت مثلا انجلترة الإستفادة من سقوط حليفتها فرانسا للإستيلاء على امبراطوريتها وضمها الى ممتلكاتها. وقد أشار الى هذا الأمر الجنرال ديغول في مذكراته في أكثر من موضع. وبقيت انجلترة وفرانسا طوال الأشهر التسعة الأولى من الحرب ساكنتين تشاهدان الجيوش النازية تعزز مواقعها في البر الأوربي بعد اكتساح بولونيا وتأملان في معجزة تحول هذه الجيوش لاكتساح الإتحاد السوفياتي لتتخلصا بهذا من العدوين اللدودين معا: الاشتراكية والنازية. فكانت الجماهير لذلك تطلق على الحرب هناك في تلك الفترة اسم "الحرب العجيبة". ولكن الجيوش الهتلرية لم تتأخر طويلا في التوجه نحو الغرب لتقوم في البدء بسحق القوات الإنجليزية والفرنسية على البر الأوربي خلال أربعين يوما، من العاشر من أيار حتى الخامس والعشرين من حزيران عام 1940، وذلك قبل توجيه الضربة الى الإتحاد السوفياتي، الضربة التي تمناها طويلا الحلفاء الغربيون. وكان غرض النازية بهذه المناورة الستراتيجية، النازية التي قلنا أنها كانت تهدف الى إقامة الإمبراطورية الرأسمالية الإحتكارية العالمية الواحدة تحت زعامتها، ضمان خضوع قدماء المستعمرين وفي مقدمتهم الانجليز والفرنسيون، قبل التوجه الى الاتحاد السوفياتي لاخضاعه. وكان هبوط رودلف هس، المعاون الاول لهتلر، بالمظلة في ايكوسيا عام1941، احدة محاولات المانيا النازية التي كانت حينذاك تخضع البر الاوربي الغربي لسلطانها، نقول ان ذلك الهبوط كان لاقناع انجلترة للتعاون مع النازية في اقامة النظام الرأسمالي الاحتكاري العالمي الجديد، ولكن كشريكة ثانوية بطبيعة الحال. ولم تقبل انجلترة التي كانت في جزرها تحتمي بالبحر وتنتظر ساعة الفرج بهجوم الجيوش الألمانية على الاتحاد السوفياتي، الجيوش التي لم تتأخر في التحشد على طول حدود تلك الدولة الاشتراكية ثم تجاوز هذه الحدود في هجوم عام عليها في الثاني والعشرين من حزيران عام 1941. وبعد بضعة اشهر، في السابع من كانون الأول عام 1941، هاجمت اليابان، الدولة الفاشية الاخرى التي كانت منهمكة في تلك الأيام بابتلاع القارة الصينية، نقول هاجمت اليابان الاسطول الاميركي في بيرل هاربر في هاواي ودمرته. فعمت الحرب كل العالم.

وكما كانت زعيمة قدماء المستعمرين، بريطانيا، تنتظر بفارغ الصبر اشتباك عدويها اللدودين، الإتحاد السوفياتي أو ألمانيا، وتفانيهما بحرب ضروس لا تبقي ولا تذر، عساها تبقى وحدها سيدة للعالم بعد أن تحطمت فرانسا بالهجوم الألماني المار ذكره، كانت أيضا الولايات المتحدة الأميركية تنتظر الظروف التي تلقي في قبضتها كل المستعمرين القدماء لتصيغ منهم عالما تتصدره احتكاراتها. فباكرا منذ الرابع عشر من آب 1941، تحت ظروف الحرب عندما كانت بريطانيا تقف وحدها تجاه ألمانيا، صدر عن الرئيس الأميركي روزفلت ورئيس وزراء بريطانيا تشرتشل بيان الأطلسي الشهير. وكان هذا البيان قد صيغ من قبل هذين المستعمرين المتنطعين وحدهما لتقرير مصير الإنسانية بعد تلك الحرب الضروس بعبارات ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب للناس. لقد كان في ظروف إصداره وشكله يشكل نقطة الإنطلاق لتحقيق الأطماع الإميركية في بناء الإمبراطورية العالمية التي تتزعمها أميركا. ومن البديهي أيضا أن لا يكون روزفلت قد أطلع شريكه المتآمر الآخر تشرتشل على نياته في ابتلاع المستعمرين القدماء وجعلهم لبنات في البناء الإمبراطوري الجديد الذي تعده دولته للعالم في تلك الظروف. تقول الموسوعة بريتانيكا بصدد بيان الأطلسي المذكور ما يلي: "ان ميثاق الأطلسي أطلق على بيان مشترك صدر في 14 آب 1941 في أعقاب لقاءات على بارجة تمخر في المحيط الأطلسي بين فرانكلين روزفلت رئيس الولايات المتحدة الأميركية وونستون تشرتشل رئيس وزراء بريطانيا. وكان البيان بعباراته يحذو حذو النقاط الأربع عشرة للرئيس وودرو ويلسون ويتشكل من ثمانية بنود هي مبادئ يأمل الزعيمان أن تكون أساسا لعالم أفضل بعد الحرب العالمية الثانية. فهو ينطلق بإعلان إحتفالي بأن الدولتين لن تعمل كل واحدة منهما على التوسع (وكأن أملاك بريطانيا الإستعمارية التي ما كانت حينذاك تغيب عنها الشمس بحاجة الى التوسع: من عندنا). ويحدد البندان التاليان حق الشعوب جميعا بتقرير المصير وبحكم نفسها بنفسها (القصد من الشعوب هنا هو الشعوب الأوربية التي كان هتلر يحتل أراضيها ويقرر مصيرها ويعين حكامها: من عندنا).  والقائدان الأميركي والبريطاني يعلنان بأنهما يرغبان بأن لا يطرأ تغيير في أراضي الأوطان دون موافقة ورغبات أهلها (وهذا طبعا لا ينطبق على الوطن الفلسطيني الذي كان أهله يذبحون حينذاك ليسلم الى الخزر المتهودين: من عندنا). وهما يحترمان حقوق الشعوب في اختيار شكل الحكم الذي يرغب أهلها العيش في ظله (من الطبيعي أن لا يدون روزفلت في هذا البيان نيات أميركا حينذاك الهادفة الى بناء المخابرات المركزية ال سي. آي. أي التي تقوم حاليا عن الشعوب في اختيار شكل النظام الذي يجب أن يتحكم في رقابهم: من عندنا). والبندان الرابع والخامس يتضمنان إعلانا بحق التساوي في الوصول الى الأسواق والمواد الأولية في العالم مع طلب التعاون الإقتصادي الوثيق بين جميع الأمم بهدف تأمين سويات عمل محترمة للجميع مع تواؤم اقتصادي وضمان إجتماعي. وتنص البنود الثلاثة الأخيرة على تمنيات في أن يعم السلام العالم وأن تعيش الشعوب ضمن حدودها بأمان..".

وبنتيجة التجارب المريرة للإنسانية التي حصلت بعد صدور هذا الإعلان حتى الآن تبين بجلاء أن غاية أميركا منه متضمنة في بنديه الرابع والخامس الخاصين بحق الوصول الى الأسواق والمواد الأولية مع ما يسمى بالتعاون الوثيق بين الأمم في مجالات الإقتصاد، الأمور التي تشكل الأحجار الأساسية لبناء الشبكة الإستعمارية التي غطت بها أميركا العالم الرأسمالي بشطريه المتقدم والمتخلف في أعقاب الحرب العالمية الثانية. فقادة هذه الدولة لا يتركون مناسبة دون أن يعلنوا هنا وهناك في العالم أن هذه المادة الأولية أو السوق أو الموقع هو ضمن مصالح الولايات المتحدة الأميركية.

نعود لتكرار قولنا أعلاه بأن محاولة النازية في بناء دكتاتورية عالمية رأسمالية إحتكارية كانت دلالة مؤكدة على اضمحلال الإمبراطوريات الإستعمارية القديمة وعلى انهيارها الوشيك. ولكن حركة التقدم والحرية في العالم لم تستفد بكل أسف من تلك الظروف المؤاتية لتعمل على اقتلاع ذلك النظام العالمي الفاسد من جذوره واستبداله بالنظام الأعلى، أي لتعمل على دفع الجملة الإنسانية الى طورها الأعلى بإنهاء الطور الرأسمالي العالمي ودفنه. وكان هذا على كل حال لأسباب موضوعية يأتي في مقدمتها حينذاك عدم وضوح الرؤيا لدى قوى التقدم وقوى المقاومة الوطنية وتشتت العقائد وقلة الوسائل. وقد هزمت محاولة النازية لبسط سيطرتها على العالم بهزيمة ألمانيا النازية وسحق مختلف قواها التي تأتي قوتها العسكرية في مقدمتها. ولكن الولايات المتحدة الأميركية وجدت في تلك الأيام الطريق مفتوحا أمامها لتطيل عمر الرأسمالية بمرحلة جديدة هي مرحلة السيد الأميركي. ولننظر فيما يلي الى ظروف بدء هذه المرحلة والأسس التي قامت عليها.

 

ظروف قيام النظام الأميركي العالمي

 

أودت الحرب العالمية الثانية بحياة عشرات الملايين: وقع في أوربا فقط أكثر من 32 مليون قتيل. وهددت مدن بأكملها، وأكلت نيران القنابل المعامل والمزارع في البر الأوربي، وخاصة في ألمانيا وفي المناطق التي احتلتها جيوشها. واضطرت انجلترة الى أن تنقل عددا من معاملها ومشاريعها في الإنتاج والبحوث الى الولايات المتحدة الأميركية هربا من الغارات الجوية الألمانية على المرافق الحيوية في جزرها. وكانت حركات التحرر في المستعمرات الأوربية، في الوطن العربي والهند وأفريقيا تعصف بنظام الإستعمار القائم على احتلال بلاد الغير بالجيوش الأجنبية وتهدده بالإنقراض. أما الدولة الرأسمالية الإحتكارية الكبرى، الولايات المتحدة الأميركية، فان أراضيها ومعاملها وإنسانها، كل هذا كان بعيدا عن ميادين القتال وبنجوة من الدمار الشامل. وخلاصة القول كان بالإمكان رؤية نهاية النظام الرأسمالي الإحتكاري العالمي في أعقاب الحرب العالمية الثانية وبمناسبتها لولا الظرفين التاليين:

الأول: كانت الولايات المتحدة الأميركية احتياطيا قويا لنظام الرأسمالية الإحتكارية العالمي، وكان هذا الإحتياطي يخطط لتجديد الشبكة العالمية للنظام المذكور وإعطائها الشكل الملائم للعصر.

الثاني: عدم وعي القوى الوطنية في المستعمرات وأشباه المستعمرات، وتقصيرها عن طلب الخلاص من شبكة الرأسمالية الإحتكارية، بالقطع معها كليا لتحرر بلادها وتطلقها في طريق التقدم. وقد عجزت كل العقائد لمختلف قوى النضال من أجل الحرية حينذاك عن استيعاب المرحلة التاريخية لتتوحد في الجهاد ضد ذلك النظام الذي كان وما يزال يقهرها جميعا، فلم تتمكن من رؤية سبيل الخلاص بل اتبعت كل سبيل يبقيها في الشبكة الآنفة الذكر.

لقد كان الظن أن الإستقلال السياسي يكفي لتوفير الظروف الملائمة لردم الهوة بين المتخلفين والمتقدمين من البشر، ولحاق أولئك بهؤلاء. فالقوى الوطنية في تلك الأيام ما كانت على العموم ترى بشكل صحيح النظام الرأسمالي الإحتكاري ولا ترى عالميته والآلية التي كانت تعمل بها شبكته بحيث يستحيل صعود اقتصاد المستضعفين الى سوية اقتصاد قاهريهم ما داموا أسرى هذه الشبكة. والا من أين تأتي الأرباح الأسطورية لتلك الشركات الإحتكارية العالمية ان لم تكن على حساب حرمان مئات الملايين من البشر، وبالتالي على حساب تخلفهم وشقائهم وان "تمتعوا " بالإستقلال السياسي.. بل انه كان هنالك من فاضل بين المستعمرين القدماء، فرأى بعضهم مثلا أن الإنجليز أفضل من الفرنسيين بينما رأى آخرون العكس. وقام فريق ثالث بتفضيل الألمان على الفرنسيين والإنجليز!.. يضاف الى هذا ما كان يخالط القوى الوطنية من انتهازيين وعملاء مأجورين وأصحاب مصالح ترتبط منافعهم بالإقتصاد العالمي للمستعمرين، ترتبط بتلك الشبكة العالمية للرأسمالية الإحتكارية. وكان أخطر تيار يسري في البلاد الطامحة الى الخلاص من التخلف تيار "حسني الظن" بأميركا، على اعتبار أن هذه الدولة لم يكن لها مالآخرين طوال تاريخها امبراطورية مستعمرات من الطراز القديم، وان كانت قد عملت على إبادة جنس إنساني برمته، على إبادة الهنود، وقتلت وعذبت الزنوج وقهرتهم وما تزال تقوم بمثل هذه الأمور وبأفظع منها. ومثل التفكير الآنف الذكر يغفل عالمية النظام الرأسمالي الإحتكاري الذي كان يشمل بطبيعة الحال أميركا، قبل غيرها كأكبر دولة رأسمالية احتكارية. فاحتكارات هذه الدولة كانت حينذاك تصدر رؤوس الأموال، وتشارك احتكارات أوربا في استثماراتها في المستعمرات، وبالتالي ما كان نصيبها من النهب الإستعماري يقل عن نصيب الآخرين.وكان هذا لا يكلف دولتها أعباء وتكاليف المستعمرات التي كانت كلها تقع على عاتق شعوب المستعمرين الأوربيين (على خزانة الدولة الممولة عندهم من قبل الشعب). ثم ان الولايات المتحدة الأميركية ، عن طريق تصدير رؤوس الأموال وبالإستعانة بحكومات محلية عميلة كانت تمارس النهب الاستعماري منذ زمن بعيد في دول أميركا اللاتينية المستقلة سياسيا. فكان لكل هذا ينضج فيها وبتجاربها الشكل الجديد للإستعمار الي قام في المرحلة الثالثة للنظام الرأسمالي الإحتكاري العالمي، المرحلة التي بدأت في أعقاب الحرب العالمية الثانية والتي ستكون نهايتها القريبة نهاية للإستعمار والمستعمرين.

ان الإستعمار القديم القائم على الإحتلال المباشر للمستعمرات، وعلى بناء مشاريع استثمار المواد الأولية والثروات الأخرى لتلك المستعمرات من قبل الشركات الرأسمالية الإحتكارية، يتخلف بشكله عن تركيب الإحتكار الرأسمالي. فهو يشبه بتوسعه واغتصابه لأراضي وثروات الغير الإقطاع عندما يتوسع فيه الإقطاعي في أراضي الجيران وحقولهم. بينما الإحتكاري في الشركة الإحتكارية الذي يملك مئات الأسهم فيها ويتصرف بمقدراتها وبمعظم أرباحها يتظاهر بصفة الشريك لمالك السهم أو السهمين من أسهمها الذي ليس له فيها من الأمر شيء . وقد أتت أميركا في أعقاب الحرب العالمية الثانية لتعطي الإستعمار شكلا جديدا يتفق تماما مع الشكل الذي تقوم فيه الشركات الإحتكارية. فالمستعمرات تنال استقلالها السياسي وتدخل "شريكة" في مجموعة الدول (في الأمم المتحدة)، ولكنها تبقى مرتبطة بالنظام الرأسمالي الإحتكاري العالمي ارتباط المساهم "الصغير" بينما يقوم الإحتكاريون ، وعلى رأسهم الأميركان، بإدارة شؤون العالم الرأسمالي من خلال هيئات دولية مناسبة تكون لهم فيها كلمة الفصل من خلال مجالس إدارة ، مثل الأمم المتحدة وتفرعاتها المختلفة، ومجالس الأحلاف وقياداتها وما شابه. وفي هذا الشكل الجديد للإستعمار يكون ارتباط المستعمرات القديمة التي تنال استقلالها بأمريكا وبقية المستعمرين قائما على النظام الرأسمالي الإحتكاري العالمي: في ظل هذا النظام نجد احتكار التقدم التقني والتنظيمي في أميركا وأوربا يتجسد بالتراكم الهائل للقيم،وبالمقابل نجد هناك احتكار انتاج حاجات البلاد المتخلفة الأساسية من المواد المصنعة مع الهيمنة على الأسواق فب العالم، بينما لا تجد المواد الأولية في هذه البلاد الأخيرة (المواد التي تشكل إنتاجها الأساسي) أسواقا متسعة الا في بلاد الإحتكاريين الذين يفرضون لها عندئذ أسعارا منخفضة، بينما يرفعون أسعار إنتاجهم المصدر الى أصحابها. ويتحقق بهذا فضول قيم مضاعفة (قيم زائدة مضاعفة) تذهب الى خزائن الإحتكاريين: أرباح تحصل من رخص المواد الأولية (وكل المواد الأخرى الواردة الى السوق من البلاد المتخلفة)، وأرباح من ارتفاع الأسعار أسعار الموادالمصنعة في معامل الإحتكاريين، وهذا بالإضافة الى الأرباح المكونة من القيم الزائدة الحاصلة من تراكم العمل فقط في السلع المنتجة. فاذا أضفنا الى هذه الأمور الأخرى التي يقع تحت طائلتها المتخلفون كالديون التي يتف بفوائدها الإحتكاريون ثمرات اقتصاد بلادهم المقهورة، وشراء كل ما ليس فيه فائدة من إنتاج البلاد المتقدمة كشراء السلاح مثلا المرتفع الثمن الذي يبهظ كاهل أولئك الفقراء، وغير هذا من الأمور، نجد أنفسنا في عالم يعمل أهله بلقمة العيش الهزيلة التي لم تنقذ الملايين منهم من الموت جوعا ومن الأمراض والجهل لتتكدس المليارات في خزائن الاحتكاريين. ودوام مثل هذا الوضع الحالي يتطلب بقاء الهوة بين عالميالمتخلفين والمتقدمين والعمل على توسيع هذه الهوة وتعميقها في كل مناسبة، وذلك بمختلف الوسائل المستندة على الترتيبات الأساسية التالية:

1. العمل على إقامة ومساندة قوى في بلاد العالم الثالث، تشكل في كل بلد من هذه البلاد امتدادا سياسيا واقتصاديا وعسكريا لما يقابلها من مؤسسات النظام الرأسمالي الإحتكاري العالمي، وتقوم مقام أجهزة احتلال وإدارة المستعمرات القديمة. أي باختصار تقوم بلاد العالم الثالث باحتلال تفسها بنفسها لحساب المستعمرين.

2. بناء جهاز قمع عالمي يقوم على مختلف القوى العسكرية للبلاد الرأسمالية الإحتكارية المتقدمة، مع نشر القواعد العسكرية أينما يلزم من العالم الرأسمالي، متقدمه ومتخلفه، وحيثما يتطلب الأمر، وبناء جهاز عالمي للمخابرات والتآمر والتخريب كجهاز المخابرات المركزية ال سي. آي. أي مثلا.

3. توحيد الإمبراطوريات الإستعمارية القديمة بنظام عالمي استعماري واحد متعدد الأطراف (الرؤوس) بزعامة الولايات المتحدة الأميركية.

4. محاصرة المعسكر الإشتراكي (لمنع عدواه من أن تنتشر في العالم الثالث) والعمل على تعميق الإنقسامات فيما بين أطرافه، وتشجيع مختلف أشكال التفسخ والإنحلال فيه بالإستعانة بشكل أساسي بالعناصر الصهيونية، وانتهاز كل فرصة لإعادة ما يمكن الإعادة منه الى الإرتباط بالنظام الرأسمالي الإحتكاري ولو تحت ستار الإشتراكية الزائفة.

5. العمل على تزييف تعارض بين الإشتراكية والوطنية بالدعاية والسفسطة وإثارة النعرات الرجعية الوثنية في العالم وبإجهاض كل ما هو شريف وتقدمي يقوم في أوساط الجماهير المسحوقة في العالم، وعلى الأخص طمس معنى التحرر من الظلم والبغي العبودي الرأسمالي بالأشتراكية وتصوير هذه مجرد تبعية لدولة عظمى هي الإتحاد السوفياتي.

 

تأسيس الإمبراطورية الأميركية

 

كان النظام الرأسمالي العالمي يهتز من أسسه بشدة في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وكان يواجه أخطارا ماحقة:

- كانت الحركات الوطنية تعصف به في كل أرجاء العالم الواقع تحت شبكته.

- خرج الإتحاد السوفياتي من الحرب وهو يملك أعظم قوة برية عرفها التاريخ، وقد أحاط به عدد من الدول الإشتراكية الأخرى التي شكل معها معسكرا واسعا قويا ينافس النظام الرأسمالي الإحتكاري العالمي منافسة شديدة.

- كانت ثورة الصين ، ذلك البلد الذي يشكل قارة تعداد سكانها يعادل ربع سكان العالم، تسير بخطى ثابتة نحو الإنتصار الحاسم على قوى الرجعية هناك، ونحو تحرير هذا البلد من الشبكة الرأسمالية الإحتكارية العالمية.

- خرجت الدول الإستعمارية كلها، كما سبق وقلنا، عدا أميركا، من الحرب محطمة: باقتصادها، ومجتمعاتها، وجيوشها. وقد انتشر العداء لأنظمتها انتشارا واسعا بين سواد الناس في شعوبها. وكانت خطة الولايات المتحدة الأميركية لإقامة امبراطوريتها العالمية تتضمن الخطوط العامة التالية:

أولا: في أوربا واليابان

نفذت أميركا هنا برامج مساعدات كبيرة، أو بالأحرى برامج إعمار واسعة، تجعل من إقتصاد تلك البلاد، بمعامله وشركاته وأسواقه تابعا لها تقتسم منافعه احتكاراتها. وكان من أهم وأشهر تلك المساعدات برنامج مارشال لأوربا. أما في الشرق الأقصى فان أميركا كانت قد احتلت اليابان عند استسلامها في أعقاب قذفها بالقنابل الذرية، وعينت لها الجنرال الشهير ماك آرثر مفوضا مطلق الصلاحية، فغدت هذه البلاد مستعمرة أميركية طوال عقدين من الزمان ثم تحولت الى رأس بين رؤوس النظام الاستعماري العالمي الموجد. ومما تجدر ملاحظته هنا هو: ان الذي قبل بالمساعدات الأميركية كان عليه أن يخضع لشروط معينة تفرضها أميركا عليه. وقد نشأ عن هذا الأمر تبعية قيدت أوربا الرأسمالية الى سلطان هذه الدولة. فكانت مثلا تنتشر لجان المراقبة الأميركية في كل مكان حساس: في الدوائر الرسمية لتلك البلاد، وفي إدارات شركاتها، بحجة مراقبة الكيفية التي كانت تنفذ بها مختلف برامج البناء وإزالة آثار الحرب وفقا لشروط أميركا حول إنفاق مساعداتها، وفي أثناء ذلك تجري مراقبة كل الأمور الأخرى المتعلقة بتوطيد وبناء السلطان الأميركي الجديد هناك. ويجب أن لا نتوهم أن المساعدات الأميركية كانت تكفي وحدها لأعادة بناء ما خربته الحرب وما سببته من تأخر في صناعة أوربا واليابان، فهي ما كانت تؤلف الا الجزء اليسير من تكاليف البناء المذكور. وكان القسم الأكبر من تلك التكاليف يقع على عاتق الشعوب هناك. ومن جهة ثانية كانت تلك المساعدات تأتي من الخزانة الأميركية ومن بعض المصارف الممولة من قبل المساهمين الأميركيين، أي في النتيجة كان معظم عبء المساعدات المذكورة يقع على عاتق الجماهير الأميركية. أما فوائد وثمار تلك العمليات فكانت تعود على الاحتكاريين الأميركيين فدرت عليهم الأرباح الطائلة، وبوأتهم المراكز القيادية بلا منازع في الإقتصاد الرأسمالي العالمي، وأتاحت لهم الفرص للإطلاع وامتلاك كنوز من الأسرار الصناعية التي لا تقدر بثمن. وكانت الأوساط الرجعية الأوربية واليابانية تجد في الأميركان وفي التبعية لهم ملجأ لها وحاميا لأنظمتها من أن تطيح بها جماهير بلادها التي كانت تكن لها الكره الشديد بسبب ما جرته عليها من ويلات وكوارث الخرب التي أثارتها (كما أثارت غيرها من الحروب العدوانية الأخرى طوال تاريخها الدامي). فعملت لذلك بكل ما تستطيعه على تسهيل مهمة اللجان الأميركية الآنفة الذكر، وعلى فتح كل مجالات العمل أمام مبعوثي المخابرات الأميركية ليقوم كل هؤلاء مع عملائهم المحليين بكل ما يلزم لتوطيد أنظمتها، فكانت النتيجة الطبيعية أن توطدت السيطرة الأميركية في بلادها.

ان الظروف الصعبة التي مر بها احتكاريو أوربا واليابان، مع ظرف قيام القوة العسكرية الكبيرة للإتحاد السوفياتي والمعسكر الإشتراكي، في أعقاب الحرب العالمية الثانية ، أتاحت للولايات المتحدة الأميركية فرصة دفع البلاد الرأسمالية المتقدمة الى الإنضواء الى الأحلاف العسكرية، وخاصة منها حلف شمال الأطلسي. وقد توسع هذا الحلف بالتالي فتناول بالإضافة الى النواحي العسكرية كل النواحي السياسية والإقتصادية والإجتماعية، فوحد الإمبراطوريات الإستعمارية القديمة في إمبراطورية عالمية واحدة متعددة الرؤوس بزعامة أميركا. وأمست قيادته السياسية في نهاية الأمر ، القيادة المؤلفة من رؤساء دوله، مجلس إدارة النظام الرأسمالي الإحتكاري العالمي، نظام الإستعمار الحديث، تلك الشركة الهائلة التي تغطي كل دول العالم الرأسمالي، المتقدمة منه والمتخلفة التي تشكل العالم الثالث.

وما كانت أسلحة تلك الأحلاف وسياساتها العدوانية معدة فقط لمواجهة المعسكر الإشتراكي، وإنما في الدرجة الأولى لقمع كل ثورة تهدد نظامها العالمي. قدول حلف الأطلسي حابت في كوريا الشمالية في مطلع الخمسينات، واستخدمت فرانسا أسلحته في حربها في الفيتنام وضد ثورة الجزائر. ونشرت دراسات مستفيضة حول إمكان تدخل هذا الحلف لقمع كل انتفاضةشعبية تهدد نظام احدى دوله وذلك تحت اسم: "الحروب على السطح لقمع الحركات الهدامة". وتتعاون دوله في ملاحقة تنظيمات الجماعات المجاهدة التي يسمونها: جمعيات الحركات الهدامة" أو "الحركات الإرهابية" أو "التطرف الإسلامي" وغيره.

ثانيا: في المستعمرات القديمة

ان الامبراطورية الواحدة المتعددة الأطراف التي تضم بلاد العالم الرأسمالي بشقيه المتقدم والمتخلف، وتربط فيما بينها بعلاقات الرأسمالية الإحتكارية العالمية، هذه الإمبراطورية لا يمكن أن تقوم بزعامة دولة واحدة، هي الولايات المتحدة الأميركية، ما دام هناك أثر من نفوذ منفرد لإمبراطورية رأسمالية إحتكارية قديمة، ما دام هناك أثر للإستعمار القديم الذي يتقسم فيه النفوذ بين المستعمرين. لذلك كان على الولايات المتحدة الأميركية أن تعمل، في أعقاب الحرب العالمية الثانية، بعد تصدع الإمبراطوريات الإستعمارية القديمة، على المساعدة في إكمال انهيار تلك الإمبراطوريات، وعلى "تكنيس" أنقاضها.وقد دامت هذه العملية طوال عقد ونصف من الزمان تقريبا.

ما كان باستطاعة الأميركان ، لتحقيق غايتهم تلكفي صهر الامبراطوريات القديمةبامبراطورية عالمية بزعامتهم، أن يتبعوا طريق العنف، فيقوموا مثلا مباشرة وعلنا، كما فعل هتلر، بقسر المستعمرين القدماء ليتخلوا عن أساليبهم البالية. فمثل هذا الطريق كان لا بد من أن يؤدي الى أحد الأمور التالية المناقضة للأهداف الأميركية الإستعمارية:

- العودة الى الأشكال القديمة للإستعمارفي حالة تغلب أميركا على منافسيها المستعمرين القدماء وعلى الحركات الوطنية في العالم، وخضوع هؤلاء جميعا لسلطتها بقوة الإحتلال المباشر.

- أو الى قيام استعمار جديد لا تكون أميركا زعيمة له، في حالة فشل هذه الأخيرة وانهزامها أمام المستعمرين القدماء وكل العالم الذي تهاجمه، مع عجز حركات التحرر في العالم عن الإستفادة من ذلك الظرف الملائم للقضاء على النظام الإستعماري العالمي برمته.

- أو انهيار النظام الرأسمالي الإحتكاري برمته أمام الحركة العامة للتحرر والثورات الكبرى المشتعلة هنا وهناك على الأرض، في ظرف تقاتل المستعمرين فيما بينهم، وبمواجهة المعسكر الإشتراكي القوي.

لقد كانت أميركا في الواقع بين أمرين متعارضين: فمن جهة كانت بحاجة الى المستعمرين القدماء لضمهم الى نظامها الجديد (الى شركتها العالمية)، ليقفوا معها في وجه المعسكر الإشتراكي، وضد حركات التحرر العاصفة التي كانت تهب في كل أنحاء الأرض. ومن جهة أخرى كانت مخططاتها، كما أشرنا اليه سابقا، تمنعها من أن تقف "بإخلاص" الى جانب أولئك المستعمرين لتساعدهم على البقاء في مستعمراتهم، وان كانت أحيانا تتظاهر بأنها تفعل هذا الأمر، بل وان قامت أيضا في بعض الحالات بإمدادهم بالمال والسلاح لمساعدتهم على قمع ثورة من الثورات، كما فعلت مثلا عندما ساعدت الفرنسيين بمالها وأسلحتها ضد ثورتي الفيتنام والجزائر. ولكن هذا كان يتم بقصد فتح الطريق أمام تدخلها لتوجيه الأحداث في الإتجاهات الملائمة لمخططاتها. فهي كما أشرنا اليه أعلاه أرادت أن تبلغ المستعمرات مرحلة الإستقلال السياسي مع بقائها في النظام الرأسمالي الإحتكاري العالمي. كما أرادت الى جانب هذا أن تقوض كل نفوذ مستقل لمستعمر من المستعمرين القدماء في مستعمراته (على الأخص عندما تكون هذه المستعمرات غنية بالمواد الأولية الثمينة كالبترول وما شابه، وتكون ذات موقع ستراتيجي هام كالوطن العربي في الحالتين). لأن هذا سيبقي الإمبراطوريات القديمة ببقاء ارتباطاتها الإقتصادية بمستعمراتها التي نالت إستقلالها السياسي: كانت أميركا تريد استبدال كل نفوذ إستعماري فردي، بالنفوذ الجماعي لكل المستعمرين، ولكن تحت إشرافها، بنفوذ النظام الرأسمالي الإحتكاري العالمي الموحد بزعامتها. أي أن يأتي نفوذها في كل مكان من عالم هذا النظام (بشقيه المتقدم والمتخلف) قبل أي نفوذ آخر: ان الأوربيين الغربيين مثلا واليابانيين يتزودون حاليا بالبترول العربي تحت الإشراف الأميركي، وتنال الإحتكارات الأميركية حصتها كاملة من عمليات التزود هذه. واليوم نجد الأسطول الأميركي يتزعم القوى البحرية الإستعمارية الأخرى في الخليج العربي (أثناء الحرب العراقية الايرانية) نجد اذن، للأسباب التي عرضناها أعلاه، أن  الولايات المتحدة الأميركية اتبعت سياسة مزدوجة لتنفيذ مخططها الإستعماري ببناء امبراطوريتها العالمية:

- التظاهر بالحياد في الصراع الذي قام بين حركات التحرر في العالم وبين المستعمرين القدماء، مع التسلل الى الحركات المذكورة بمختلف الأشكال والوسائل. وغايتها من هذا التسلل كانت دوما إجهاض تلك الحركات بعد أن تستفيد منها في القضاء على الشكل القديم للإستعمار وتدمير كل نفوذ مستقل لدوله في مستعمراتها ومحمياتها القديمة، ثم استبداله بالشكل الجديد له: إملاء الفراغ، الشعار الذي أعلنته أميركا في أعقاب حرب السويس عام 1956. وان خير مثال على هذا الأمر كان: تسلل أميركا بالسادات وأعوانه الى الحركة الوطنية المصرية التي كافحت الإستعمار القديم والرجعيات المرتبطة به، ثم انتهت الى نظام ذلك الخائن.

- عندما كانت ترى أن حركة التحرر جدية وتهدف الى القطع مع شبكة الرأسمالية الإحتكارية العالمية (أو الإضرار بهذه الشبكة إضرارا بليغا) فإنها كانت تحالف المستعمرين القدماء، مع كل ما خلفوه من أذناب وأعوان، وتحالف كل الانتهازيين والدجالين، وتستعمل كل الخونة المستترين والظاهرين، للقضاء على تلك الحركة. ومثال هذا نجده في تعاون أميركا وانجلترة لإسقاط حركة مصدق في ايران، ثم حلول الأولى مكان الثانية هناك.