الإسلام

 

 

في جملة المجتمعات الإنسانية

 

 

الفريق عفيف البزري

 


المقدمة

 

حدث تغير كبير في العالم، في مشرقه ومغربه، في العشية المطلة على العقد الأخيرمن هذا القرن، فأخذ شكل زلزال في بنية النظام العالمي سقطت بنتيجته واجهات هنا وهناك في شرق هذا النظام وظهرت تصدعات عميقة في غربه. وليس هناك ما يسترعي الانتباه في أزمات الفرع الرأسمالي من النظام العالمي الحالي، ذلك لأن هذا الفرع يقوم أساسيا على التناقض والتعارض والأزمات. ولكن انتباه الناس اتجه بكليته الى ما يجري في الشرق الذي بدت فيه الأحداث مناقضة تمامالما كانت فيه الحياة تجري على وتيرة واحدة خالية من كل مفاجأة. لقد شد انتباه العالم مثلا الى ما وقع بين جمهوريتي أزربيجان وأرمينيا من مناوشات على حدودهما، والى ذهاب الجيش السوفياتي الى أزربيجان واحتلاله عاصمتها باكو وغيره من الأحداث المشابهة هناك، ولم ير الناس أي غرابة أو شذوذ عن المألوف في ذهاب الجيش الأميركي ليحتل عاصمة بناما والقائه القبض هناك على رئيس جمهوريتها وسوقه مكبلا بالأصفاد الى الولايات المتحدة الأميركية. فالناس قد اعتادوا على سماع أنباء الاقتتال والمناوشات على حدود دول العالم الثالث وتدخلات المخابرات الأميركية في الشؤون الداخلية لدول العالم وقلبها نظم الحكم هنا وهناك وغيره وغيره.

ان استغراب الناس لما يحدث في المعسكر الاشتراكي، الاستغراب الذي يخالطه خيبة الأمل عند الكثيرين والشماتة عند البعض نشأ اذن عن الخروج عن المألوف. ولكن التساؤل يقوم حاليا حول ما كان مألوفا فيما مضى وحول ما هو غير مألوف الآن. هناك على العموم موقفان متعارضان مما يحدث في العالم الاشتراكي: موقف المستعمرين جميعا وأتباعهم وأنصارهم في العالم أجمع الذي يتلخص في تأييد كل  اتجاه نحو الانخراط في النظام الرأسمالي الاحتكاري والانصياع المطلق لقوانينه وعلاقاته من قبل المعسكر الاشتراكي، وفي النظام الرأسمالي متسع لاحتواء كل تشكيلة اجتماعية في العالم ترضى بالنهب الاستعماري لجماهيرها وتغضي عن ظلم وعدوان المستعمرين. ان الرأسمالية مثلا سبق لها أن احتوت البيروقراطية الاشتراكية الاشتراكية اليوغسلافية التي مهدت لها تسرب احتكاراتها في اقتصاد بلدها، كما سبق لها أيضا أن شجعت حركات انتهازية ديكتاتورية في العالم الثالث تمارس تحولات طبقية في بلدها لمجرد نقل السلطة من فئة الى فئة أخرى وتحويل العلاقات الاقتصادية من شكل الى شكل آخر دون العمل على الخلاص من التبعية الاقتصادية الدونية للمستعمرين، ان لم نقل أن هذه التبعية تتفاقم في التحولات المذكورة. اننا قلنا منذ زمن بعيد أن الاستعمار الجديد الذي تزعمته أميركا يهتم بمن يمسك بالسلطة في بلاد المتخلفين أكثر بكثير من اهتمامه بالطبقة الاجتماعية التي ينتمي اليها الحكام هناك فيكون هؤلاء الحكام جيدين أو سيئين بالنسبة اليه بمقدار ملاءمة مواقفهم أو عدم ملاءمتها لنظامه. وهناك موقف الاشتراكيين الأرثوذوكس الوثنيين الجامدين ومن يتبعهم عن جهل أو انتهاز، الموقف القائم على الخوف من فقد السلطة ومجيئ الفئات الأخرى المؤيدة للتغيير للحلول مكانهم، وعلى الخوف من انهيار البيروقراطية المعارضة للنظام الرأسمالي العالمي التي تساندهم في قيادة بلادهم. ولكن الواقع على أرض الحقائق المادية هو الذي يحسم الأمور في هذا الاتجاه أو ذاك، فهل النظام الرأسمالي العالمي ما يزال قويا للتحكم في مصائر الجملة الانسانية، أم أن هذه الجملة نضجت لنفي هذا النظام والانتقال الى الطور الأعلى؟

وصدف أن التقيت في قمة الأحداث التي أطاحت بتشاوتشسكو الروماني بشاب ألماني شرقي يعمل في سفارة بلده في دمشق فكان الحديث بطبيعة الحال يدور حول إعادة البناء (البيريسترويكا) وحول الحوادث الدامية التي كانت جارية في رومانيا. فكانت الكلمة الثابتة لهذا الشاب الألماني الشرقي، الذي هو بكل تأكيد من الاشتراكيين كي يكون في السلك الدبلوماسي لبلده، هي: "نريد الديموقراطية"، وكان يرفض كل حديث عن الاشتراكية وقوانين الجدلية، التي صاغها في الأساس هجل أحد فلاسفة أمته الألمانية، فلا يريد الاستماع الى أي كلمة أو شيء يمت بصلة الى الاشتراكية والاشتراكيين وكأنه مشبع الى حد البشم بكل ما يمت الى هذه المعاني بصلة فغدت تبعث فيه الغثيان كلما ورد ذكرها فيرد لذلك بشكل آلي: "الديموقراطية..". ثم انه تركنا بسرعة وهو يحتج بمشاغله. ومما لا ريب فيه أن لهذا الشاب أسبابه ليجمد عقله وحواسه عند كلمة "الديموقراطية" ويأتي في رأس هذه الأسباب ما تركه جمود العلاقات البيروقراطية الوثنية الحزبية في نفسه من آثار لم تبلغ بعد، وهو في مقتبل العمر، درجة التبلور والتحجر فأتت التقلبات الشديدة المفاجئة تعصف بها قبل أن تستقر الأعصاب ويقوم الفكر بعملية المراجعة.

نعود اذن ونقول ما الذي يجري في المعسكر الاشتراكي؟ مما لا ريب فيه أن ثورة أكتوبر التي قامت على أساس من كفاح المقهورين بالنظام الرأسمالي، من كفاح العمال والفلاحين وأوساط الناس وشرفائهم، باختصار على أساس من كفاح سواد الانسانية المقهورة بالنظام الرأسمالي الوحشي، أنجزت مهمتها التاريخية بالاستنارة بالعقيدة الماركسية اللينينية. ودليلنا على هذا الأمر هو أن المسيرة التي نشأت عنها طوال أكثر من سبعة عقود في مواجهة النظام الرأسمالي العالمي، والتي التف حولها رسميا أكثر من ثلث الانسانية ولدت فئة في مجتمعها تصل الى قمة السلطة فيها وتقوم بنقدها من بداياتها الى يومنا هذا وتقترح تجديد بنائها لتتلاءم مع المعطيات المادية للعصر. وبما أن ما جرى في ذلك المعسكر حتى الآن بكل ما أسسه وتركه من آثار مادية ليس من العبث، فهو له بدء بثورة أكتوبر ونهاية بتجديد البناء، فانه يشكل اذن مرحلة انسانية تامة. وهذا يعني أن هذه الثورة قد أنجزت مهمتها التاريخية باتمام هذه المرحلة التي هي مرحلة انتقال الجملة الانسانية من النظام الرأسمالي العالمي الى الطور الأعلى الذي هو طور الاشتراكية العالمية الذي نحن على عتبته حاليا وينتظر الثورة العالمية الجديدة التي تحقق قيامه. فليس اذن من موجب لسرور الرجعيين والانتهازيين في العالم، وخاصة في بلادنا، مما يجري في المعسكر الاشتراكي على اعتبار أنه علامة فشل "النظم الاشتراكية" والعودة لانخراط دول هذه النظم "الخارجة" في النظام العالمي للرأسمالية. فما يجري حاليا في المعسكر الاشتراكي من هذا النظام طوال ثلاثة أرباع القرن الذي نحن فيه، انما ازالة لعقبات تعترض مسيرة الجملة الانسانية نحو طورها الأعلى، وهذه العقبات تقوم على البيروقراطية الجامدة التي تحجرت في قيادة تلك البلاد الى الحد الذي أصبحت فيه غير صالحة للسير ببلادها نحو المزيد من التقدم.ومما لاريب فيه ولا ينكره الا كل جاحد وحاقد وجاهل أن المرحلة المار ذكرها أعلاه وقلنا أنها بدأت بثورة أكتوبر وانتهت بالبيريسترويكا نقلت مجتمعات أكثر من ثلث الانسانية من المستوى الذي كان فيه انسانها يتردى في الفقر والجهل والمرض الى السوية التي غدت فيها هذه المجتمعات تشكل بضخامتها وقوتها منافسا مكافئا لمجتمعات الرأسماليين وغدا فيه أحدها، وهو المجتمع السوفياتي، ندا لمجتمع الولايات المتحدة الأميركية  بقوته المادية. ثم انه تمت في هذه المرحلة تجربة انسانية رائدة عندما أقيمت فيها نماذج معقدة لمؤسسات الطور الاشتراكي المقبل، وعندما أنجزت فيها أكوام البحوث العلمية حول تطور الانسانية التقدمي، وغيره مما يشكل كله مدرسة أغنت الانسانية بدروسها التي سترسم لها خط مسيرتها نحو طورها الأعلى المقبل. ثم ان تقدم المعسكر الرأسمالي المادي هو ملك الانسانية جمعاء وفي مقدمتهاالانسانية الثائرة وليس ملكا للرأسماليين وسوف يأتي اليوم الذي سيوظف فيه هذا التقدم في زيادة مقدرة الانسان في بناء قيمه المفيدة للجميع بعد تحريره من تسلط هؤلاء الرأسماليين. الاأنه مع ذلك لابد من ملاحظة أن الجملة الانسانية تمر حاليا بفترة حرجة قد تؤدي فيها مساعي الرجعية العالمية الى ايقاع أكبر الأذى بها، وذلك دون أي فائدة لهذه لأن ما سيأتي سيكون جديدا كل الجدة. وان الوسيلة الأولى لتجاوز هذه الفترة الحرجة بسلام والوصول الى تحقيق الثورة الموصلة الى الطور الأعلى هي النظرة الصحيحة الى واقع هذا العالم. رأينا بشيء من التفصيل في القسم الأول من هذه الدراسة الذي قدمناه تحت عنوان "أمة الحضارات والجهاد" في الكتاب الأول من سلسلة القسام أن المجتمعات الانسانية تلتقي لتشكل مجتمع المجتمعات الذي سميناه "جملة المجتمعات الانسانية". وبينا أن عذه الجملة تمر بالأطوار الانسانية المعروفة بحيث يكون كل طور من هذه الأطوار لكل مجتمعات الجملة وليس لمجتمع واحد فقط. فطور الرأسمالية مثلا لايخص فقط بلاد المستعمرين الأوربيين المتقدمين ماديا وانما هو طور الجملة الانسانية بكل مجتمعاتها متقدمها ومتخلفها وذلك عبر العلاقة الاستعمارية التي تربط هذه المجتمعات بعضها الى بعضها الآخر. والعلاقات الاستعمارية ليست علاقات سياسية وعسكرية فحسب بل هي قبل كل شيء علاقة اقتصادية عالمية ينهب بها المجتمع الأقوى المجتمعات الأضعف. وكذلك الطور الاشتراكي لابد من أن يكون أيضا طور الجملة الانسانية بكليتها وليس طورا لأمة واحدة فحسب أو معسكر أمم معينة فقط. والمعسكر الاشتراكي ما هو في الواقع الا معسكر أمم خارجة (ثائرة) على النظام الرأسمالي الاحتكاري العالمي وقد حققت بثورتها هذه قيام مرحلة انتقال الجملة الانسانية من الطور الرأسمالي الى الطور الاشتراكي الذي لايأتي الا بعد أن يصبح النظام الاشتراكي مطلق السيادة عالميا بعد أن ينفي النظام الرأسمالي كليا فلا تبقى له أية سيادة عالمية. أما اقتصاد الأمم التي تسمي نفسها أمما اشتراكية في مرحلة الانتقال المذكورة فانه يكون بطبيعة الحال اقتصاد الخارج على النظام الرأسمالي العالمي والصامد أمام اقتصاده كي لاينخرط ويذوب فيه ويتعطل الخروج وتفشل الثورة. أي أن اقتصاد دول المعسكر الاشتراكي لابد من أن يكون نموذجا أوليا غير تام الأبعاد لاقتصاد الطور المقبل الاشتراكي العالمي الذي سيبرز بكل أبعاده عندما لاتهدر القيم فيما يضر البشر وفيما لانفع فيه كما يحصل في النظم العبودية كالنظام الرأسمالي مثلا الذي تهدر فيه القيم في صنع أسلحة ابادة البشر أو في تبديدها في مباذل الرأسماليين وزلمهم وفي مختلف مؤسساتهم غير النافعة وفي تعطيل قوى العمل في الركض وراء الأرباح وفي الفوضى والأزمات وغيره وغيره. ثم اننا قلنا أن التقدم التقني العاصف الذي هو حاليا تحت تصرف الرأسماليين سيعود الى صاحبه الأصلي الذي هو انسان جملة المجتمعات ليخدم تقدم الجملة المادي والروحي وليس لاثارة الحروب والتخريب والنكاية بالانسان. وفي النتيجة نجد أن الانسان عندما تتوفر هذه الشروط كلها سيكون بامكانه بسهولة تحويل تلك النماذج الأولية للاشتراكية الى الاشتراكية التامة التكون والأبعاد.

وقد تكلمنا في هذه الدراسة عن ظرف الجمود والوثنية الذي يقوم في المراحل والأطوار الانسانية في أعقاب الثورات وعلى منجزاتها المادية والفكرية وذلك من قبل فئات منتفعة بالقيادة ومتشبثة بها فتعارض كل تجديد يضر بسلطتها وان كان فيه النفع والتقدم نحو الأفضل وتشجع كل تجديد يعزز مواقعها وسلطتها وتضفي عليه النعوت الجميلة كنعت "التطوير الخلاق" و "القفزة الى الأمام" وغيره وان كان فيه الضرر والتراجع في البناء.ومما لاريب فيه أن ثورة أكتوبر مثل غيرها من الثورات الانسانية الكبرى ابتليت ببيروقراطيين وثنيين وبانتهازيين نفعيين اتخذوا من احترام الناس لها وايمانهم بأهدافها وسيلة لتجميد عقيدتها وسلاحا لاحباط كل تجديد يضر بسلطانهم. وفي مثل هذه الظروف تقوم كهانة مناسبة لعبادة الفرد واجترار النصوص وترك متابعة تغير الحياة المستمر، فتقوم المغالط والمتاهات. لقد قيل مثلا في عهد بريجينيف أن الاتحاد السوفياتي أنجز بناء الاشتراكية وبلغ شكلها الأعلى الذي هو الشيوعية. وقامت نظرية "اختلاف الطرق في بلوغ الاشتراكية بحسب ظروف المجتمع". وهذا يعني أن الطور الانساني هو طور مجتمع واحد وليس طور جملة المجتمعات الانسانية بكليتها. فيكون مثلا نتيجة لهذه النظرية مجتمع اشتراكي في الجملةالانسانية والى جانبه في هذه الجملة مجتمع يموت يموت أفراده من الجوع كل يوم بالآلاف ومجتمع ثالث يتجاوز بقدرته التقنية المجتمع الاشتراكي المذكور، مع أن الماركسية تعرف المجتمع الاشتراكي فتقول أنه هو ذلك المجتمع الذي يتجاوز ماديا وروحيا المجتمع الرأسمالي، الأمر الذي لايقوم بحسب قوانين الجدلية الا بعد نفي نظام هذا المجتمع الأخير الرجعي ما دام يتفاعل في جملة انسانية واحدة مع نظام المجتمع الآخر الاشتراكي الأكثر تقدما بالفرض.كذلك من الصعب تصور قيام نظام المجتمع الآخر الذي يموت فيه الناس كل يوم بالآلاف من الجوع وهو يتفاعل مع ذلك النظام الاشتراكي المتفوق في جملة انسانية واحدة.

ان الأفكار التي تؤول الى بناء الاشتراكية في دولة واحدة أو معسكر دول محدود الى جانب معسكر رأسمالي احتكاري قوي تأتي من عدم الانتباه الى وجود جملة المجتمعات الانسانية المترابطة بعلاقات نظام واحد يسود فيها ويعين لها طورا انسانيا مناسبا: نظام رأسمالي مثلا في الطور الرأسمالي للجملة، في عدد محدود من المجتمعات الانسانية مع بقاء بقية الجملة في الطور الأدنى، في الطور الرأسمالي في مثالنا الحالي، يؤدي الى انقسام الجملة الانسانية الى جملتين لاعلاقة لكل منهما بالأخرى: جملة رأسمالية وأخرى اشتراكية لاتتأثر بها ولا تؤثر فيها. وهذا أمر مستحيل، فالجملة الانسانية تعيش على كوكب واحد في عصر بلغت فيه وسائل الانسان المعروفة التي تذلل كل عقبة. فالمجتمعات تبقى اذن حاليا في جملة انسانية واحدة لها طور واحد تنتقل منه الى الأعلى خلال مرحلة انتقال مناسبة للتقدم تىنساني: ان المعسكر الاشتراكي في هذه المرحلة مثلا يتأثر بالرأسمالية سلبيا مما يضطره الى تبديد معظم قيمه في إقامة أنظمته الدفاعية تجاهها، كما أن وجوده يتخذ حجة لقادة المعسكر الآخر الرأسماليين ليبددواالقيم في إقامة المشاريع العسكرية العدوانية وفي التآمر على حرية الانسان في العالم والعمل على نشر الفساد وغيره. ومع كل هذا وجدت البيروقراطية الوثنية التي ورثت ثةرة أكتوبر وتسنمت قيادة الثورة الاشتراكية العالمية سبيلا الى الوقوع في وهم إمكان بناء الاشتراكية في نظام رأسمالي احتكاري سائد عالميا. وانتشرت عدوى هذا الوهم في حركات التقدم في الجماهير المسحوقة في مختلف أنحاء العالم الذي يسود فيه حكم الرأسمالية. كما صدقه الرأسماليون المستعمرون واتخذوا منه تلك الحجة لتبديد القيم في نفخ وتضخيم عسكريتهم العدوانية. وبدت عملية إعادة البناء (البيريسترويكا) في النتيجة لبعض الناس كما لو كانت ضد الاشتراكية ومحاولة يقصد بها العودة الى بناء النظام الرأسمالي الاحتكاري في المعسكر الشرقي، في الوقت الذي هي فيه ضد البيروقراطية الوثنية وافتتاحا لمرحلة جديدة بعد أن أدت المرحلة السابقة مهمتها التاريخية المشار اليها أعلاه. لقد كان هناك وثنية تجمد نموذجا أوليا للاشتراكية وليست اشتراكية بالمعنى العلمي للاشتراكية التي هي أرفع ماديا بما لايقاس ولا يتصوره خيالنا الحالي على عتبة طورها الآتي من نموذجها الأولي الآنف الذكر ومن نقيضه الرأسمالي.

 وكانت الجرائم التي ارتكبتها العبودية الرأسمالية بحق الانسان في مل العالم وكل عهودها، ومنه انسان عالمها الأصلي، قد تفاقمت وساقت الشعوب الأوربية الى حروب دموية وثورات ومذابح طوال قرون نشأتها الى أن بلغت مرحلة التنافس الحر من منتصف القرن الثامن عشر الى منتصف القرن التاسع عشر. فاشتدت مقاومتها فكريا وماديا بكتابات تلك الفترة وثوراتها المختلفة في أوربا وفي العالم. وكان التركيز على الأخص على المآسي التي سببتها فوضى ذلك التنافس الحر. فبرزت كتابات الاشتراكيين الطوباويين، كما برزت اجتهادات الاقتصاديين الروادفي انجلترة أكثر البلاد الرأسمالية حينذاك تقدما واستعبادا للانسان فيها وفي مستعمراتها. ونشأ في النتيجة عن المسيرة العالمية العامة قيام التيارين المتعارضين التاليين، وذلك بهدف الخلاص من فوضى اقتصاد عالمي يقوم على تنافس العديد من المنتجين الصغار واستبدال هذا الاقتصاد بآخر يتجمع فيه الانتاج في مشاريع ضخمة: تيار الاشتراكية العلمية أو الماركسية وتيار الاحتكار الرأسمالي. وبدأ قيام الشركات الاحتكارية في الولايات المتحدة الأميركية في الوقت الذي ظهرت فيه الحركات والأحزاب الشيوعية في أوربا حيث قامت أول تجربة اشتراكية بقيام كمونة باريز في أعقاب الحرب السبعينية، الكمونة التي لم يطل عمرها سوى عدد من الأسابيع (من 18 آذار عام 1871 الى 28 مايس من ذات العام). ولكن الاحتكارية الرأسمالية لم تشف الرأسمالية من فوضاها وأزماتها بل ضخمتها ووسعتها وقادت نظام الرأسمالية الى أزمته الكبرى باشعال الحرب العالمية الأولى التي انقض فيها الضواري يدمرون بعضهم بعضا بعد أن كانوا قد انتهوا من اقتسام العالم وايقاعه في عبوديتهم. ولم تدم سيادة النظام الاحتكاري الرأسمالي العالمي المطلقة سوى ثلاثة أو أربعة عقود، من أواخر الثلث الأخير للقرن التاسع عشر حتى الحرب العالمية الأولى. وقامت أثناء هذه الجرب ثورة أكتوبر التي بدأت بها مرحلة الانتقال العالمي الى الطور الأعلى والتي حرمت النظام الرأسمالي من تلك السيادة العالمية المطلقة( قام في مواجهة الاحتكارية الرأسمالية احتكارية اشتراكية تكون فيها مشاريع الانتاج ملكية عامة وتعاونيات ملكيات صغيرة. هنا علينا أن نلفت الانتباه الى هذه النقطة كي لا نقع في الضباب عندما ننظر الى ما يدور حولنا من أمور في مرحلة الانتقال الحالية. فالثورة لنفي عبودية الرأسمالية الاحتكارية لا يمكنها الارتكاز على الاقتصاد المتخلف لصغار المنتجين، على اقتصاد تسود فيه الفردية وفوضاها، فكان من الحتمي قيام تلك الاحتكارية الاشتراكية في مواجهة الاحتكارية الرأسمالية مع السعي الى استخدام أنجع الوسائل وأكثرها تقدما في الانتاج، الوسائل التي يعجز الفرد عن امتلاكها. ثم ان البنية الفوقية للمجتمعتتبع بداهة أسسه الاقتصادية وتقوم عليها فتبرز في النتيجة قوى اجتماعية مناسبة لتلك الأسس الاقتصادية. فنرى قيام القوى الاحتكارية الاجتماعية تقوم الى جانب الشركات الاحتكارية في المجتمعات المحكومة بالنظام الرأسمالي الاحتكاري. وكما أن هذه الشركات تتبع سلوكا احتكاريا في نشاطها الاقتصادي فتطرح في السوق سلعها الاحتكارية فان الأحزاب تتبع أيضا في قطاعات نفوذها سياسة "احتكارية" تسد المنافذ على كل دخيل منافس وتطرح في "السوق" السياسي ممثليها "الاحتكاريين". والتجربة امعاصرة تدل بشكل قاطع على أن تعدد الأحزاب في البلاد الرأسمالية الاحتكارية يتناقض بمقدار نضوج الاحتكارية فيها فلا نجد مثلا في كل من هذه البلاد سوى عدد ضئيل من الأحزاب وأقواها يكون أشد التصاقابأكبر الاحتكارات المالية. ففي أميركا وانجلترة وألمانيا الاتحادية لايوجد سوى حزبين في كل منها يتداولون الحكم: المحافظون والديموقراطيون أو ما يشبهما.  أما في الدولة الاشتراكية فان عقيدتها الثورية القائمة على الخروج على النظام الرأسمالي العالمي هي التي ولدت مختلف مؤسساتها الاقتصادية والسياسية، تبعا للضرورات الثورية، وليس اقتصادها هو الذي ولد مؤسساتها الفوقية كما يحدث في النظام الرأسمالي. ونكرر ونقول أنه في هاتين الحالتين الاحتكاريتين، حالة الرأسمالية وحالة الاشتراكية، ليس هناك من إمكان لتسويق سلعة أو كتابة أو تعيين لمنصب هام، للنيابة أو الوزارة أو الرئاسة العليا، الا من قبل جهة احتكارية.

واستمرت أزمة الرأسمالية الاحتكارية في التفاقم ما بين الحربين العالميتين الى أن وصلت الى تلك التي فجرت الحرب العالمية الثانية. وكان بالامكان أن يهب عالم المقهورين المستعمرين ليتحرر كليا، لا من قدماء المستعمرين الاقطاعيين فحسب وإنما أيضا من كل استعمار ومن كل علاقة اقتصادية (مجحفة) بالرأسماليين لاسيما منهم الأميركان، وبالتالي ولوج عتبة الطور الأعلى من قبل الجملة الانسانية. ولكن احتياطي الرأسمالية في الولايات المتحدة الأميركية هرع لانقاذ النظام الرأسمالي العالمي باقامة الاحتكارية الجديدة والاستعمار الجديد. وأمام هذا الواقع تحولت الدولة الاشتراكية الواحدة الى معسكر اشتراكي يضم أكثر من ثلث الانسانية. هنا نلاحظ أنه عند اندثار الاستعمار القديم تكرر ما يشبه ما حدث عند اندثار التنافس الحر، ولكن بشكل أعلى: تضخم التياران العالميان المتعارضان فتطور الاحتكار الرأسمالي القديم الى الاحتكار المتعدد الجنسية في الاستعمار الجديد كما اتسعت الاشتراكية من الدولة الواحدة الى المعسكر الاشتراكي. وكما رافق قيام الاحتكارية الرأسمالية اتمام اقتسام العالم بين المستعمرين في أعقاب مرحلة التنافس الحر، فان قيام الاحتكارية الرأسمالية المتعددة الجنسية كان لاستثمار الامكانات التقنية والمالية واليد العاملة المتخصصة الرخيصة في كل مكان من العالم، وليس في المناطق المتقدمة ماديا فحسب كأوربا والولايات المتحدة الأميركية. وقامت التجمعات الاقتصادية السياسية العسكرية العالمية العملاقة، كالسوق الأوربية المشتركة وحلف شمالي الأطلسي، والكوميكون الاشتراكي وحلف وارسو، والمنطقة التجارية الأميركية وحلف الدول الأميركية، ومنطقة الين الياباني وحلف جنوب شرق آسيا. وعلى رأس هذه التجمعات العملاقة نجد العملاقين: الاتحاد السوفياتي على رأس المعسكر الاشتراكي عدا الصين، والولايات المتحدة الأميركية على رأس المعسكر الرأسمالي. وهناك عملاق ثالث يلحظ جيدا في الانعطافات التاريخية على شكل سيل يجرف كل حد وسد وهو جماهير المقهورين. وقد تكومت جبال من الأسلحة في المعسكرين المتعارضين الآنفي الذكر، كما انتشرت الأسلحة المتطورة بكثرة في الأمم المكافحة من أجل الحرية، في العالم الثالث. وأصبحت الحرب بين المعسكرين المتعارضين، المعسكر الرأسمالي والمعسكر الاشتراكي، انتحارا أكيدا لكليهما وللحياة على الكرة الأرضية بسبب الأسلحة الصاروخية النووية وأسلحة اإبادة الجماعية الأخرى التي يمتلكانها. كما غدت الحملات العسكرية العدوانية باهظة التكاليف على المعتدي الرأسمالي وخدمه المرتزقة، كالصهاينة مثلا، لتمرس المستضعفين بأساليب المقاومة الطويلة الأمد.

وبرز نتيجة للتقدم التقني تشكيلتان عالميتان متداخلتان تقسمان العالم الى شمال وجنوب الى جانب قسمته الأخرى الى شرق وغرب: الشمال المتقدم تنيا وتتكوم فيه، لاسيما في جهته الرأسمالية الاحتكارية، جبال الأغية من لحوم وحبوب وزبد وآلاف مخازن المعدات والسلع المختلفة والمصارف التي تمسك بآلاف مليارات القيم. ويمتد هذا الشمال في أوربا والولايات المتحدة الأميركية واليابان، بالاضافة الى جماهير المعسكر الاشتراكي التي تتحمل الأعباء الباهظة للتسلح من أجل الدفاع عن خروجها على النظام الرأسمالي الاحتكاري. هنا نتساءل ونبحث عن الديموقراطية التي ينشدها صاحبنا الشاب الألماني الشرقي المار ذكره أعلاه في خضم هذه القوى المحلية والعالمية العملاقة حيث يتفاقم الاحتكار الى الدرجة التي يحتكر عندها أصحابه. ثم انه لا يمكن تفتيتهذه القوى العملاقة والعودة الى الوراء عددا من القرون لنقيم عالم المتنافسين الحرفيين وصغارالمنتجين الرأسماليين لتحقيق تلك الديموقراطية المنشودة التي لايشوبها القسر الاحتكاري.

ان عملية تجديد البناء في المهسكر الاشتراكي وما تبعه من انهيارات في ديكتاتورية البيروقراطية الوثنية هناك دفعت بالتناقض بين الشرق والغرب الى المستويات الخلفية بحيث أصبح بالامكان القول أن المجتمعات الانسانية محكومة الآن بنظام عالمي واحد يساره نظام دول المعسكر الاشتراكي ويمينه نظام الرأسمالية الاحتكارية ويخضع لهذا النظام دول العالم كبيرها وصغيرها. وقد نتج عن هذا الأمر أن أصبح الانقسام الآخر بين شمال وجنوب للجملة الانسانية هو البارز حاليا فيحتل الأهمية الأولى في حياة هذه الجملة، في الحياة العالمية. لم يعد الصراع العالمي بين غرب رأسمالي وشرق اشتراكي: بين غرب مستعمر يدافع كاذبا عن حق الملكية في الوقت الذي هو فيه أول من ينتهك هذا الحق عندما يقوم نظامه على عبودية استملاك قوى العمل ونهب ثروات الغير واغتصاب قيم الناس بآلية الاحتكار، ويدافع كاذبا عن الديموقراطية التي لاأساس لها مطلقا في عالمه الذي تبلغ فيه "الحرية" حد السماح للأقلية البيضاء بسحق الأكثرية "الساحقة" السوداء في جنوب أفريقيا، وحد إبادة من لم يبد من هنود حمر القارة الأميركية في البرازيل، وطرد الشعب العربي الفلسطيني من وطنه ليحل فيه الخزر المتهودون، وممارسة التمييز العنصري في الولايات المتحدة الأميركية وفي أوربا الرأسمالية الخ.. وبين شرق يستمر بالعمل جاخدا ليتجنب ويجنب العالم حربا صاروخية نووية لاتبقي ولا تزر أثرا من الحياة على الكرة الأرضية. لقد عاد الصراع الى جوهره الأصلي الذي طالما أتينا على ذكره في هذه الدراسة: الصراع بين من يطمعون في احتكار ملكية جبال القيم ومحيطات الثروات التي أنتجتها واحتوتها حضارة البشر المعاصرة وبين المحرومين الذين يعود اليهم قبل غيرهم انتاج تلك القيم واستخراج هذه الثروات، الصراع بين المقهورين ماديا ومعنويا الذين هم سواد البشر وأكثريته الساحقة وبين الأقلية الضئيلة الممسكة بنظام القهر المحلي والعالمي. وفي هذا الصراع العالمي الهائل تنزل في الميدان قوى عملاقة: مليارات المحرومين والشرفاء من الناس الذين يتطلعون الى تحقيق الطور الانساني الأعلى بطرد تلك الأقلية التي تمسك بالوسائل الجبارة للحضارة المعاصرة. وفي مثل هذا الصراع الذي تغلب  فيه الحروب الثورية لامجال لاستعمال أسلحة الإبادة الشاملة. ونجد في النتيجة أن ما سيجري سيكون مشابها لما فعله العرب عندما أقاموا دار الاسلام وأزالوا عبودية الرق ووحدوا جملة المجتمعات الانسانية واستردوا لهذه الجملة ما اغتصبه أولئك الوثنيون العبوديون من وسائل وثروات وذلك برضى وترحيب سواد البشر حينذاك. وهنا نرى بوضوح الدور الهام الأساسي لأمتنا العربية في الصراع العالمي المعاصر. فالقلب الذي ينبض ويوفر دم الحياة للامبراطورية الاستعمارية المتعددة الرؤوس الموحدة بزعامة الولايات المتحدة الأميركية يقع في المنطقة العربية، وضرب هذا القلب وازالته بازالة قاعدة الحراسة الاستعمارية اسرائيل يشكل الانجاز الحاسم لانتقال الانسانية الى الطور الأعلى.

قلنا أن منجزات الانسانية المادية والروحية ليست ملكا للنظام العبودي الرأسمالي ولا لأصحاب هذا النظام وأتباعهم فيجب أن يعود نفعها الى أصحابها بني البشر كاملا بدلا من حصره بقلة الأقلية الرأسماليين ليزول القهر من جملة المجتمعات الانسانية ولتتمتع الأمم بحريتها الكاملة. وتقع هذه المهمة بشكل عام على عاتق المحرومين أينما كانوا في مختلف أقطار الدنيا. وهنا علينا أن نوضح أن الثورة في الجوهر هي من أجل الانسان بشكل مطلق وهدفها رفع الظلم عن كاهل البشر وتوفير تكافؤ الفرص لكل الناس ثم إقامة التعاون والتكامل والتكافل فيما بينهم. ولا تنشأ الطبقة المالكة بالوراثة الا بعد تملك الوسائل الحاسمة للانتاج والسيطرة عليها من قبل وثنية من الوثنيات الرأسمالية أو الاشتراكية، لأن الضرر يقع عليهما حصرا في النتيجة. ونرى في نهاية الأمر أن الثورة تتجه بدعوتها الى كل الناس الشرفاء وفي مقدمتهم الكادحين من كل الأصناف وذلكبنفي كل وثنية وتعصب لأي فئة من الفئات الاجتماعية. وميزان الاخلاص لمسيرة التقدم هو الايمان بقانون تكافؤ الفرص أمام الناس جميعا وتطبيقه العملي في إطار التعاون والتكامل والتكافل هنا تبرز مسألة قيادة البناء بعد إنجاز الثورة المحررة، مسألة الحزب الثوري. انه الأمة بكاملها بعد انتصار الثورة وذلك تطبيقا لقانون تكافؤ الفرص. فالثوار وقياداتهم الذين انتزعوا للأمة حريتها من قاهريها ينتزعون أيضا لها النظام الذي ستعيش حرة فيه بطريقة مناسبة لتؤدي الى عمليات وراثة وثنية تقيم طقوسا وكهانة تجمد الدنيا وتعيد بناء ما هدمته الثورة من قهر، ولا الى ميوعة مدمرة بفوضويتها. أما تعدد الأحزاب فهو يعني حينئذ تعدد الآراء والأفكار بقصد البناء في إطار الأمة المؤمنة كلها بمبدإ التكافؤ في حدود التعاون والتكامل  والتكافل دون الانحدار الى مستنقعات الاقتتال على المغانم كما في أنظمة العبودية.

ولكن كيف تتم الثورة الانسانية لدفع جملة المجتمعات الانسانية الى طورها الأعلى؟ عدو هذه الثورة يتجسد بالولايات المتحدة الأميركية كرأس وبقية المستعمرين الآخرين كجسد قيجب إزالة النظام العالمي لهذا الرأس مع قاعدته الأساسية اسرائيل وقواعده الأخرى المنتشرة في العالم. وتكون معالم الطريق الى الطور الأعلى المذكور بحسب ما مر معنا أعلاه هي الآتية:

1.      أن لايؤدي تحديد البناء في المعسكر الاشتراكي الى أي توسع للرأسمالية فيه، لاسيما منه الاتحاد السوفياتي.

2.      تحرير دول العالم الثالث من التبعية الاقتصادية للمستعمرين وذلك بقيام جماهيرها بالتخلص من كل نظام في هذه الدول يعمل على خيانة بلده بالاصرار على الارتباط الدوني بهؤلاء المستعمرين.

3.      اسقاط أنظمة التمييز العنصري قواعد الاستعمار في العالم بدءا من صهاينة فلسطين وعرقيي جنوب أفريقيا بكل وسيلة ممكنة.

4.      قيام الجماهير الأوربية والأميركية واليابانية بدعم ثورة العالم الثالث بعملها على منع حكوماتها الرجعية من أن تباشر العدوان على هذا العالم وتحاول منع دوله بالفوة من تحقيق تحرره من هيمنتها الرأسمالية الاحتكارية.

5.      قيام الجماهير الأوربية والأميركية واليابانية باسقاط أنظمتها الرأسمالية الاحتكارية.

6.      اسقاط الأنظمة الرأسمالية الاحتكارية من قبل الجماهير المحكومة بها في كل مكان من العالم، فهذه الأنظمة ليست أشد امتناعا على الجماهير المصممة من البيروقراطية الوثنية في المعسكر الشرقي.

وبعد، اننا نستمر في هذا الكتاب من سلسلة القسام في محاولتنا تبديد ما أمكن من الغبار المثار حول حقائق التاريخ المتعلق بأمتنا العربية، الغبار الذي أثارته وتثيره المدارس الاستعمارية وأتباعها من أهلنا. وكنا قد حاولنا في القسم الأول من هذه الدراسة رسم الخط العام الذي سلكته الأمة العربية في تقدمها الحضاري الانساني خلال طور الرق. فالتزمنا، تحت عنوان "أمة الحضارات والجهاد"، بالتأكيد على أمرين نعتبرهما أساسيين في تطور المجتمعات الانسانية. وهذا مذهب انساني يعارض على خط مستقيم أوهام العرقيين الذين يتاجرون بنقاء العرق وينتهون في النتيجة الى أضيق العقائد وأشدها سخفا وجورا وهمجية كالتمييز العنصري والفاشية ومشتقاتها في جنوب أفريقيا وعند الصهاينة. والأمر الثاني هو كشفنا عن وحدة الثورات الانسانية في أسبابها وتسلسلها لنقل الجملة الانسانية من حالة الى حالة ومن طور الى طور أثناء نشوئها وارتقائها الى الأشكال العليا للتجمعات الانسانية. لذلك رأينا أنه لا يجوز للثورة الواحدة أن لا تميز السلبقة للانسان من الوثنيات التى تبنى عليها من قبل ورثتها الذين يجمدونها ويحرفونها لمصالحهم وأطماعهم الأنانية بحيث تفقد جوهرها فلا يبقى منها الا شعائرها التي لاتوقف هذه الأطماع ولا تضر بتلك المصالح: الدين الحق مثلا ليس أفيونا للشعوب وإنما التزاما بمحاربة الظلم في كل زمان ومكان وثورة لا تتوقف ضد كل وثنية جامدة جائرة. ومن الطبيعي أن يتخذ أولئك الوثنيون الذين جمدوا الثورات الانسانية الماضية موقف المعارض للثورات اللاحقة التي لاتندلع أساسيا الا ضد وثنياتهم وضد سندها العبودي الذي يقف وراءها. ولقد قلنا أن رسالات التوحيد هي الشكل الأمثل للثورات وقد تميزت بها أمتنا العربية طوال مسيرتها في التكون من روافدها الأصلية. وان هذا التميز ألقى على عاتق هذه الأمة فرض الجهاد في سبيل رفع أثقال العبودية الوثنية عن كاهل الانسان في كل عصر وأوان.ووصلنا من هذه النتيجة الى أن القعود حاليا عن العمل بكل وسيلة مستطاعة لازالة العبودية الرأسمالية الوثنية والسكوت عنها هو كفر وخيانة لمبادئ أمتنا ولوظيفتها الأساسية في الجملة الانسانية وذلك بسبب موقعها على طريق الثروات العالمية. كما بينا أن اليهودية هي بلاء وثني أصاب أمتنا بارتداد جماعة ورثت ثورة الجماهير المصرية ضد عبودية الرق الفرعونية بقيادة موسى عليه السلام. فعرينا دعواهم بوراثة الأرض الموعودة وبينا كيف انتهى سلوكهم الجائر هذا الى أن يسلموا قيادتهم الى الخزر المتهودين لخدمة الرأسمالية الاحتكارية الأميركية في القاعدة العدوانية التي أنشأتها لهم هذه العبودية الرأسمالية في فلسطين على حساب تشريد وشقاء أهلنا في هذا القطر.

ونستمر في الكتاب الحالي من سلسلة القسام في عرض الخط العام لتكون أمتنا وقيامها بازالة عبودية الرق ببناء دار الاسلام ونقل جملة المجتمعات الانسانية ، بعد توحيدها في العالم بقيادة الحضارة الاسلامية، الى طور الحرفة الحرة والتجارة العالمية النشطة الذي تمت فيه انجازات حضارية حاسمة أتينا على ذكر بعضها هنا، الى العصور التي تحققت فيها حرية الانسانوحرية الانتاج بالشرع الاسلامي الذي قام على أساس تكافؤ الفرص يتكافؤ الناس بحقوقهم مع تعاونهم وتكاملهم وتكافلهم. كما أتينا على الصراع التاريخي بين دار الاسلام وبين الاتداد العبودي العالمي الرأسمالي، وبينا بشكل عام كيف كانت هجمات الرأسمالية علينا تأخذ أشكالا وتتذرع بحجج تؤول كلها الى أمر واحد هو العمل على تهديم الدار المذكورة لصالح العبودية الجديدة. وانتهى الأمر أخيرا، عندما غرق المسلمون في الوثنيات الجديدة، الى انهيارها على أيدي المستعمرين والى ما نحن عليه الآن.

ان قراءة التاريخ بشكل صحيح تهدف بطبيعة الحال أمرا أساسيا هو التعرف على هويات مختلف الأطراف التي صنعته ووقعت في ذات الوقت تحت حكمه، ثم الوصول بالتالي الى معرفة مختلف أشكال الظلم والتخلف التي كان الانسان ضحيتها ودراسة مختلف ممارسات الانسان وسعيه للخلاص من الظلم والظالمين لينطلق في آفاق التحرر والتقدم. وقد بذلنا جهدنا للالتزام بمذهب من يقول بأن الانسان تقدم دوما في دروب الارتقاء المادي والروحي وهو يكافح ويزيل من طريقه مختلف عقبات العبودية والجمود الوثني. وفي مثل هذا الالتزام نميز جيدا بين من يحاول عبثا من المقهورين بعبودية قائمة أن يتخلص من هذه العبودية وظلمها بأن يسعى ليشارك الظالمين أصحابها في ظلمهم لبني الانسان، وبين من يجاهد في سبيل تقويض هذا النظام ليتخلص ويخلص الناس منه. فالأول لايفعل في الواقع أكثر من تعزيز نظام العبودية الذي يريد الخلاص منه، ومثال هذا الأمر كثير في التاريخ الانساني الحاضر والماضي ولن يتغير هذا الأمر في المستقبل . ان أمتنا مثلا تعاني حاليا مما هو معروف من النظام الرأسمالي الاحتكاري العالمي. وهو نظام سيئ بطبيعة الحال بالنسبة لها ولبقية الأمم وان استفاد منه القلة القليلة من البشر. فأي تخطيط أو تنبؤ أو استشراف لمستقبل أمتنا في إطار هذا النظام العبودي، في غاية تنبيه مسؤولي أمتنا للافادة من "فرصه المتاحة"، لن يؤدي بداهة الا الى البقاء فيه وتحت حكمه، وبالتالي بقاء ظلمه ليتحكم برقابنا. فالمسألة المطروحة اذن هي: ما هو السبيل الى نفي هذا النظام وإنقاذ انسننا مع بقية انسان الجملة الانسانية منه؟ والجواب الصحيح يأتينا من ذلك الآخر الذي يجاهد في سبيل تقويض نظام العبودية الرأسمالية الاحتكارية ونفيه للارتقاء بالانسانية الى الطور الأعلى.

 

                             عفيف البزري