قوة "الانتشار السريع"

في حقول نفط الخليج

 

الفريق عفيف البزري

 

  لا حاجة بنا في بيان أن القيمة الكبيرة للخليج العربي في النظام الإمبريالي العالمي، فقد أصبح من المعرفة الشائعة كون البلاد المطلة على الخليج المذكور:

 

- تمتلك أكبر احتياطي نفطي عالمي.

- وتنتج معظم احتياجات الصناعة العالمية من الطاقة والمواد الأولية النفطية.

- وتمتلك أكبر حجم من السيولة النقدية العالمية. ومعظم هذا الحجم يستقر في مصارف زعيمة الإمبريالية العالمية الحديثة الولايات المتحدة الأميركية.

 

  فالأخبار اليومية لا تخلو من الإشارة إلى هذه الأمور. كما أن تصريحات كبار المسؤولين في النظام الاستعماري العالمي حول الهيمنة الحاسمة لهذه المنطقة أصبحت صريحة لا تخفي شيئا، فهي تعبّر عن خوف المستعمرين بعد انقضاء مرحلة اطمئنانهم وركونهم إلى ضعف وقلة خبرة ضحاياهم فتأخذ أشكال التهديد وصور التكشير عن الأنياب أمام التقدم الكبير في وعي الجماهير أصحاب هذه الثروات المنهوبة.

 

  لقد وقع ما لا بد من وقوعه. فاتضح لأبسط الناس في جماهيرنا أن تلك الهجمة الاستعمارية الضارية التي استهدفت بلادنا بدون انقطاع ولا توقف منذ نهاية الحرب العالمية الأخيرة لم تكن إلا من أجل السيطرة على منابع النفط وعلى السبل الموصلة إليها. ولم يتأخر ذلك اليوم الذي ستتقدم فيه جماهيرنا لملاقاة العدو الأصلي بعد أن بلغ فيها الوعي تلك الدرجة من الوضوح. وهذا ما يخشاه المستعمرون ويحاولون إجهاضه والحؤول بالقوة دون وقوعه، بعد أن سقطت كل تلك الأقنعة الكاذبة عن وجوه كل من حشدوه من خونة قومنا والمنافقين منها والجهلة. فأصبح الفلسطيني مثلا يدرك تماما أنه لم يغتصب منه وطنه ويعتدى على إنسانيته ويشرد في أنحاء الدنيا إلا بسبب وقوع أرض ذلك الوطن على طريق الثروات التي لم تجد بعد من يعصمها من الأشقياء الطامعين، وليس بسبب جشع يهودي خزري مرتزق تواق إلى إقامة بيارة برتقال في الأرض "الموعودة" ولا بأي سبب بعيد آخر كالهروب من الظلم (المبالغ فيه على كل حال) الذي أنزله النازيون باليهود إلى أرض يُذبح أهلها ويشردون لتتسع لأولئك "الهاربين من الظلم" فوعد بلفور الصادر بتصاعد روائح نفط المنطقة الذي "سبح" عليه تشرشل إلى النصر (حسب تعبيره في مذكراته) هذا الوعد "هبط " على اليهود المرتزقة قبل مجيء هتلر بزمن طويل. أما بيارات البرتقال وما شابهها فهي ما سلب بحراب المستعمرين ليقدم أجرا إلى أولئك اليهود المرتزقة لحراسة السبل إلى الثروات النفطية وغيرها من أن تطغى عليها ثورة توحد أمتنا وتعصم ثرواتها من المستعمرين. كذلك تدرك جماهير أمتنا في كل مكان أن ما يهدر من دماء شبابها ورجالها بالعدوان الصهيوني المستمر علينا وما يلاقيه أحرارها على أيدي زبانية المستعمرين من تقتيل وتعذيب ما هو في آخر الحساب إلا من أجل إبقاء وطننا الكبير جزءا من النظام الإمبريالي العالمي الذي تتزعمه الولايات المتحدة الأميركية، وهو جزء لا يقوم ذلك الكل إلا به بسبب ثرواتها النفطية قبل كل شيء ( الثروات التي لم توضع بعد بكل أسف لإعداد أسباب القوة لجماهير أمتنا المعذبة مع ذلك بسببها).

 

  لقد صرح العدو الأميركي في الأيام الأخيرة من العام المنصرم أن قوة التدخل العدواني في الخليج ( تلك التي سماها "قوة الانتشار السريع") قد تم إعدادها وأنها جاهزة للعمل في أي وقت يطلب منها ذلك. ولكن ما هي الحال عندما نحن هدف تلك القوة العدوانية؟ لقد انعقد مؤتمر رؤساء الدول الإسلامية مؤخرا في الطائف واتخذ عددا من القرارات. ومما لا ريب فيه أن جمع كلمة المسلمين وتوحيدهم لمقاومة إسرائيل والصهيونية أمر جيد يعود بالفائدة عليهم جميعا من الناحيتين المادية والروحية، ونحن نأمل أن تتوحد راية الأمة الإسلامية في المعركة الكبرى التي تخوضها الإنسانية ضد المستعمرين قاهري الشعوب، لتصبح من أعز الرايات وأشدها منعة. إلا أنه كانت هناك نغمة قوية تتردد في هذا المؤتمر ومآلها:"ضرورة العمل على جعل الولايات المتحدة الأميركية "تتفهم" حقوقنا وتكف عن الانحياز إلى الطرف الإسرائيلي!". وهذه نغمة مستغربة لأننا نعتقد أنه لا يمكن أن يوجد بين أولئك المؤتمرين من لا يدرك جيدا أن المستعمرين اليانكي ليسوا من البساطة ليكونوا بحاجة إلى من يرشدهم إلى ما يفصل حقوقهم عن حقوق غيرهم من الأمم. فهم مثلا "يفهمون" جيدا كل حقوقنا ويرون بكل وضوح حدودها عندما يتجاوزون هذه الحدود لانتهاكها، وإنهم لا ينحازون إلى إسرائيل وإنما هو السبب الأول والأخير في قيامها على أرض وطننا فهي في مقدمة طلائعهم لتحقيق أغراضهم الاستعمارية. إنهم العدو الأصلي الذي يجب إسقاطه في المنطقة وفي العالم عند العمل على إسقاط قاعدته إسرائيل، وإنهم لا يشكلون طرفا ثالثا بيننا وبين هذه القاعدة التي هم أصحابها. ثم إن مثل هذا الظن بطبيعة النظام الأميركي كلفنا على الدوام الغالي من إنساننا وأرضنا وثرواتنا. وكان على المؤتمر المذكور أن يعبر بشكل جيد عن رأي جماهير المسلمين بالمستعمرين الأميركان، فيقوم مثلا بدراسة وافية لموضوع العدوان الأميركي على اختلاف أوجهه البارزة في العالم الإسلامي، ولا سيما منها وجهه المتستر بالقناع الإسرائيلي مع مكمله الآخر الذي هو "قوة الانتشار السريع" الآنفة الذكر، ثم صياغة استراتيجية العمل على مواجهة هذين الوجهين (على الأقل). من العدوان الأميركي المذكور بكل الوسائل الاقتصادية والسياسية وحتى العسكرية إذا لزم الأمر. ونحن متأكدون من أنه لو حصل هذا الأمر لتراجع الإمبرياليون الأميركيون بكل تأكيد عن الدخول في مجابهة جدية مع كل العالم الإسلامي. ولكن أنى لنا أن نأمل بوقوع مثل هذا الأمر وبين المؤتمرين مثلا رؤساء ساهموا في تهيئة ما يلزم من قواعد وظروف لتسهيل الأعمال العدوانية "لقوة الانتشار السريع" المذكورة. وبينهم أيضا من في مسؤولي دولهم من ينادي العدو الأميركي بزيادة تدخله في منطقة الخليج!..*[1]  وليس هنالك من "زيادة لمستزيد" من التدخل الأميركي غير احتلال بلاده وحقول نفطه ونفط جيرانه!؟..

 

  إن على القائمين على شؤون النفط العربي أن يدركوا أخيرا أن شيمة الاستعمار: الغدر والغيلة، وهو لم يقدم على إقامة كل تلك التشكيلة العدوانية الضخمة في المحيط الهندي إلا لكونه لا يضمر لأنظمتهم أي احترام ولا يوليها أية ثقة. وهم لن يغيّروا من نياته المبيتة شيئا مهما رددوا القول برفض تدخّل القوى العظمى في شئون منطقتهم، ونياته واضحة كل الوضوح وهي تتلخّص بفرض المزيد من سيطرته على شئون نفطنا بحيث لا يترك للقائمين على شئونه أية حريّة تصرف حتى في نطاق نظامه الاحتكاري العالمي الحالي. أما ادعاؤه بأن تلك التشكيلة العدوانية الآنفة الذكر قامت لمواجهة السوفييت في هذا المسرح بعد دخول قواتهم إلى أفغانستان فهو ادعاء كاذب.لأن هذا البلد الصغير لا يشكل حاجزا أمام قوة عسكرية كتلك التي يتمتّع بها الاتحاد السوفييتي. فله من الناحية الاستراتيجية وجود فيه أدخلته جيوشه أم لم تدخله: إن الولايات المتحدة الأميركية جعلت من أفغانستان ومن شرقي إيران منطقة سد نووي ليأسها من إمكان السبق إلى احتلالها في حالة حرب مع الاتحاد السوفييتي*[2]. ثم إنه كان للاتحاد السوفييتي كغيره من الدول العظمى، وجود في المحيط الهندي، وكان له يوما وما يزال في هذه المنطقة بلاد صديقة أقرب بكثير إلى الخليج من أفغانستان. ومع ذلك ما كانت أميركا تفكّر حينذاك يحشد مثل تلك القوى الهائلة التي تحشدها اليوم. والسبب يكمن في : أن نظامها في الخليج أُصيب بعطب كبير بالثورة الإيرانية. فعندما كان نظام الشاه قائما كان لها من إيران قاعدة "مثالية" تطل بها من جهة على الخليج ومن جهة أخرى على الاتحاد السوفييتي. وفيها قوى كافية للقمع والتدخّل والتجسس والتخريب. إلا أنه عندما انهار ذلك النظام كان لا بدّ للاستعمار الأميركي من بديل له فلم يجد أفضل من أن تأتي قواته بذاتها لإقامة تشكيلة التدخّل العدواني، لما لهذا المسرح من أهميّة حاسمة في حياة النظام الاحتكاري العالمي. أما مسألة احتلال حقول النفط فإنها كانت قائمة دوما منذ أن برزت القوة النفطية لمنطقة الخليج، وعلى الأخص في أزمة النفط العالمية التي قامت في الحرب العربية الإسرائيلية عام 1973. وكان قد وقع بالفعل تدخّل لصالح المستعمرين في المنطقة المذكورة، وهو عدوان من داخلها بواسطة قوات الشاه التي نزلت في عنان لقمع الثورة الوطنية هناك. كما نزلت في الجزر العربية الثلاث: الطمب الكبرى والصغرى وجزيرة أبو موسى. ولننظر إلى ما قاله السوفييتي ألكسندر كراسنوف رئيس تحرير شئون الشرقين الأدنى والأوسط وأفريقيا في وكالة نوفوستي وكان من الأفضل لهذا الخبير بشئون منطقتنا أن يركز (لأغراض دعائية) على الخطر الذي يتعرّض له وطنه من تلك القوة العدوانية الأميركية المتنامية في المحيط الهندي، وأن يهمل الهدف الآخر لهذه القوة وهو نفط الخليج أو أن يقلل من أهميته، إلا أنه كإنسان تقدمي شريف اختار الالتزام بالواقع فقال*[3]:" إن ما يجري في منطقة الخليج من حشد للقوات المسلّحة الأميركية لم يسبق له مثيل في أي وقت من أوقات السلام. فهناك اليوم أكثر من 60 سفينة حربية أرسلتها الولايات المتحدة وحلفاؤها. إن مثل هذا الحشد الكبير للقوة الحربية ينطوي في ذاته على مخاطر جدية لاشتداد الوضع تعقيدا في هذه المنطقة التي هي من دون ذلك قابلة للانفجار. ولكن هذا ليس سوى مرحلة واحدة في رأينا من مراحل تحقيق أخطر المخططات الاستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط. وهدف هذه المخططات معروف جيدا وهو تحقيق سيطرة الولايات  المتحدة الأميركية على منابع النفط في المنطقة بكل الوسائل. وهذا المبدأ الذي صيغ في أواخر الأربعينات لا يزال منطلق كل نشاطات الإدارة الأميركية في منطقة الخليج. ويهدف ضمان ما يسمى "المصالح الحيوية الأميركية" وفي شكل أدقّ ضمان الامتيازات للاحتكارات النفطية الأميركية لاستغلال الثروات النفطية العربية. وشكّلت في الولايات المتحدة الأميركية "قوات الانتشار السريع" في الوقت الذي يجري فيه عمل مكثّف في تحسين وتجهيز قواعد عسكرية في مصر وعمان والصومال. ولا نشك في أن مثل هذه الأعمال موجهه بادئ ذي بدء ضد بلدان الخليج. وتجدر الإشارة إلى أن ممثلي الإدارة الأميركية لا يخفون ذلك. ولنأخذ كلمة أحد أعضاء لجنة مجلس الشيوخ لشؤون القوات المسلّحة الذي أعلن صراحة بقوله:" نظرا لتبعية الولايات المتحدة الأميركية للنفط الأجنبي للنفط الأجنبي قد نجد أنفسنا في وضع نضطر فيه إلى استخدام القوات المسلحة بهدف ضمان وصول هذا النفط" " وزكما ترى أن هذا القول واضح كفاية..!"نعم، الكلام واضح، فالنفط المراد أخذه بالقوة أجنبي لا تملكه الولايات المتحدة الأميركية حسب هذا الكلام. فنكون إذن (بالحشد الكبير القائم حاليا حول الخليج للقوى) أمام مشهد من مسلسل طويل لعمليات سطو تتم بمختلف الأشكال المألوفة لدى الأشقياء التي من جملتها التهديد بالسلاح. إن الرأسمالية التي يتظاهر قادتها وأصحابها نفاقا بالدفاع عن حق الملكية الخاصة هي أبعد الأنظمة عن احترام هذا الحق: في مجتمعها وفي المجتمع الإنساني. إنها النظام الأمثل لشرائع الغاب التي لا تعترف إلا "بملكية" القوي لحق الضعيف، اغتصابا أو احتيالا أو غيره من أساليب القهر والغدر.

 

 



[1]  انظر تصريحات مانع سعيد العتيبة وزير النفط في دولة الإمارات، المنشورة في الصفحة 12 من جريجة السفير في 6/2/1981.

[2]  نرى هنا مبلغ نفاق الإمبرياليين الأميركيين حين يظهرون في هذه الأيام الغيرة على استقلال أفغانستان في الوقت الذي يخططون للإبادة الوحشية لشعب هذا البلد الذي لا ناقة له ولا جمل في الحرب النووية التي يمكن أن يشعلوها.

[3]  النهار العربي والدولي. 12كانون الثاني 1981 ص 30