قوة "الانتشار السريع"

في حقول نفط الخليج

 

الفريق عفيف البزري

 

العقيدة الأميركية "الشرق أوسطيّة"

 

  تشكل البرغماتية الغطاء الإيديولوجي للزعامة الرأسمالية الاحتكارية الحديثة المتمثّلة بالاحتكار الأميركي. وجوهر فلسفة الانتهاز هذه يتلخص في:" إن مقياس الحقيقة[1]* هو قيمتها العملية فقد. فائتها أو ضررها" وهذا الجوهر كما هو واضح يشكل أساسا للقاعدة المكيافلية الشهيرة:"الغاية تبرر الواسطة" بأحطّ ما يمكن أن يعطيها إنسان "البزنس مان" من معان وأشدها وحشية. وعلى هذا الأساس نجد أن الاحتكاري (الاحتكاري الأميركي على الأخص) لا يرى في إنسان مجتمعه إلا كائنا يحمل قيما من نوع ما: قوة عمل، أو مالا نقديا أو عينيا، كثمر شجر الغابات أو لحوم الصيد، يمتلكها الأقوى وسائلا والأبرع حيلة والأكثر حظا. أما الإنسان حامل تلك القيم فالنفع ليس فيه وإنما في قيمه، وبالتالي لا يشكل أية حقيقة تعترض الوصول إلى أخذ هذه القيم بأية وسيلة كانت، ولو بإزالته من عالم الوجود، أو استهلاكه إلى آخر قطرة من دمه. ولا لزوم لذكر ملايين المحرومين في المجتمع: العاطلين عن العمل وغيرهم من المساكين الذين ألقت بهم حظوظهم في مهاوي الفقر والحاجة، فإنهم "غير موجودين".. لا حقيقة لهم ما داموا مجردين من القيم المادية.. والأمر أشد مرارة عندما ننظر إلى العالم (خارج حدود الولايات المتحدة الأميركية) بمنظار الرأسماليين الاحتكاريين اليانكي. فهذا العالم هو مجرد "مصالح وفوائد" من المواد الأولية المختلفة وشتى الثروات والقيم والمواقع الاستراتيجية، في البلاد المقهورة، وأوساط "ضارة" تقاوم نهبهم وعدوانهم (كالقوى الوطنية الثورية في العالم الثالث وقوى المعسكر الاشتراكي) فيجب تدميرها لإزاحة ضررها عن الطريق إلى "الفوائد". وأخيرا جهات مزاحمة فيجب إخضاعها وضبطها دون تدميرها لأنها على كل حال شريكة في بناء النظام الرأسمالي العالمي. وهي الدول الاستعمارية الأخرى، وفي هذا الإطار يقوم جوهر العقيدة الأميركية، وهو واحد بطبيعة الحال في كل أنحاء العالم ويستند إلى الأمرين التاليين:

 

- التفوق المادي لهذه الدولة في النظام الرأسمالي الاحتكاري العالمي.

- إصرار الاحتكاريين الأميركان على التوهّم في كفاية التفوق الآنف الذكر لمحاولة فرض سيطرة مطلقة على العالم الرأسمالي (على الأقل) بشطريه المتقدم والمتخلّف. وبالتالي إيقاف مسيرة التاريخ نحو إنهاء مرحلة انتقال جملة المجتمعات الإنسانية إلى الطور الأعلى باندثار الرأسمالية الاحتكارية. وهذا على الرغم من فشلهم وهزائمهم في عدد من المواقع الحاسمة في العالم الثالث.

 

  ولكن العقيدة العدوانية للولايات المتحدة الأميركية تأخذ في كل منطقة من العالم الشكل المناسب لظروفها فيها. فنجدها في المشرق العربي تقوم على الأسس التالية:

 

أ‌-  ترى الولايات المتحدة الأميركية أن نفط المشرق العربي هو "مُلك الصناعة الرأسمالية الاحتكارية. وليس ملك صاحبه الشعب العربي.وأن الأساس الأول لإمبرياليتها العالمية: أن تكون هي المكلّفة بقيادة كل تدبير يُتخذ لتوفير استمرار تدفقه إلى مستودعاتها ومستودعات شركائها الإمبرياليين الآخرين. فما من رئيس أميركي أتى إلى البيت الأبيض منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى اليوم إلا وقال بصريح العبارة: إن لدولته مصلحة حيوية في نفط الخليج العربي. وآخرهم كان الرئيس كارتر. قال هارولد ساندرز مساعد وزير الخارجية أمام لجنة مجلس النواب الفرعية*[2] :" ركزت التطورات التي حدثت في الأشهر الأخيرة الاهتمام على مناطق الخليج وجنوب غرب أسيا (أي الجزيرة العربية: من عندنا) والمحيط الهندي بقوة جديدة." ويوفّر بحثنا اليوم فرصة أخرى من هذه الفرض التي تشرّفت بمشاركة هذه اللجنة فيها لاستعراض وتطوير إطار العمل الذي تجري من ضمنه ملاحقة تحقيق المصالح الأميركية في هذه المنطقة الشديدة الأهمية. لقد حدد الرئيس كارتر بنفسه في خطابه عن حال الاتحاد ثلاثة تطورات أساسية ساعدت في تكوين شكل التحديات التي تواجهنا داخل هذه المنطقة:

 

أولا- النمو المضطرد والظهور المتزايد للقوة العسكرية السوفييتية خارج الاتحاد السوفييتي.

ثانيا- الاعتماد الساحق للديمقراطيات الغربية (اقرا من فضلك للإمبرياليين: من عندنا) على إمدادات نفطية من الشرق الأوسط*[3].

ثالثا- وجود تغيير اجتماعي وديني واقتصادي في العديد من دول العالم النامي. وثورة إيران مثال عليه.

 

  إن الاهتمام الوطني الموجه الأول نحو هذه المنطقة يستلزم تكرارا لنقطتين جوهريتين تم إبداؤهما بصورة متكررة في مباحثاتنا حول الشرق الأوسط وجنوب غربي آسيا خلال السنتين المنصرمتين وهما:

 

أولاً: تجتمع من المصالح الأميركية المهمة في هذا الجزء من العالم أكثر ما تجتمع منها في أيّ منطقة أخرى من العالم النامي اليوم.

ثانياً: في واحدة من أسرع مناطق العالم تغييرا، فإن ما يهم صانعي السياسة الأميركية ليس كيفية العمل مع حكومات المنطقة من أجل توجيهه في وجهات بنّاءة.

" إن هدفنا اليوم التفكير بسياسة تلائم الولايات المتحدة.. سيكون علينا أن نسخّر مجموعة واسعة من الموارد بالتعاون مع أصدقائنا وحلفائنا في جهد قوي يومي إلى حماية مصالحنا."

  ويقول الجنرال كيللي قائد "قوات الانتشار السريع".[4] وهو يعبّر عن النيات المبيتة لأسياده الاحتكاريين:" للحفاظ على مصالح أجيالنا المقبلة، يتوجّب على القوات المسلحة الأميركية الوصول والسيطرة على المناطق النفطية في الشرق الأوسط، وعلى سواحل الخليج العربي."

  وقال نيكسون في تصريح له في تموز1970 : " إن البترول العربي يوفّر أكثر من80% من احتياجات أوروبا، وأكثر من 90% من احتياجات اليابان." ويقول هارولد براون وزير الدفاع الأميركي الأسبق: " حماية تدفق النفط من الشرق الأوسط هي بوضوح جزء من مصلحتنا الحيوية وهي تبرر أي فعل مناسب، بما في ذلك استخدام القوة..."

 

ب- إن خليط الرجعيين والانتهازيين والمخادعين والعملاء وكل الفئات الأخرى ذات المصلحة بدوام الارتباط بشبكة الرأسمالية الاحتكارية العالمية في المشرق العربي يشكل الحرس الأمامي لحماية الشبكة المذكورة من أن تنهار بفعل ثورات يتمخّض عنها وطننا العربي، ولصيانتها من التآكل بسبب تناقضاتها الداخلية ونتيجة للهجمات المستمرّة والمتنوعة عليها من قبل القوى الوطنية. والاستعمار الحديث يقوم كما نعلم على الارتباطات التي توفرها هذه الشبكة لاقتصاد البلاد الضحية باقتصاد المستعمرين الذي يستشف مختلف الثروات والقيم بواسطتها من تلك البلاد. كما يضمن بها القواعد والمواقع الاستراتيجية الموجّهة ضد كل ما يهدد مصالحه العدوانية. يقول هارولد سوندرز وزير الخارجية الأميركية في بيانه المار ذكره أعلاه: "إن تاريخ العلاقات بين الولايات المتحدة والعربية السعودية وجيرانها في الخليج يضمن نقل التكنولوجيا الأميركية إلى هذه البلدان (عجيبة هذه التكنولوجيا الأميركية المتقدمة التي تعجز عن إنتاج إبرة في تلك البلاد التي "يستطيع" مع ذلك بعض أهلها استعمال آخر ما تنتجه معامل أميركا من سيارات فارهة..: من عندنا) ونحن مستمرون من خلال القنوات الحكومية والقطاع الخاص، في لعب دور مهم في توفير المعرفة التقنية الأميركية لهذه البلدان من اجل مساعدتها على التطور بشكل منتظم. لقد أصبحت نشاطاتنا التجارية في هذه المنطقة مفيدة لاقتصادنا وتطورت لتصبح روابط قوية لمصلحة اقتصادية مشتركة تقوّي علاقاتنا العامة بدول هذه المنطقة الحيوية استراتيجيا. وعلينا أن نستمر كحكومة وكأمّة في اتباع هذا المفهوم الأساسي لعلاقتنا بالمنطقة.." فهل هنالك أبلغ من هذا الكلام في وصف شبكة الرأسمالية الاحتكارية؟.. هذه الشبكة التي يقع تحتها ذلك الصيد الهائل من الثروات والقيم العائدة إلى أولئك المقهورين من العالم الثالث، الذين تبحث شئونهم الخاصة بدون إذن منهم في مجلس نواب "عاصمة الإمبريالية" كما كانت تبحث شئون الإمبراطورية في مجلس شيوخ روما."

 

ج- رأينا أعلاه في تصريح نيكسون أن الإمبرياليين الآخرين في أوروبا واليابان يستوردون من المشرق العربي معظم الطاقة المحرّكة لمعاملهم ووسائل مواصلاتهم وما يلزم من نفط كمادة أولية للأغراض الصناعية الأخرى الكثيرة التنوّع. فاهتمامهم الاستعماري بالمنطقة كاهتمام أميركا إن لم نقل أكبر عندما يُقاس الاهتمام بمقدار الحاجة مجرّدة عن الإمكانات المادية العدوانية. إلا أننا نراهم في المعركة النفطية الحالية يسيرون في ركاب أميركا للأسباب التالية:

 

أولا: إن أميركا أقدر المستعمرين ماديا وهي زعيمتهم في النظام الرأسمالي الاحتكاري العالمي.

ثانيا- خوفهم من أن تنفرد أميركا بالسيطرة المطلقة على الخليج. وتحرمهم بالتالي مما بقي لهم من مجالات (ضيّقة على كل حال) للتحرّك في أسواق النفط العالمية. فالأمر الذي يشدد من تبعيتهم لهذا "الشريك الجشع".

ثالثا: رغبتهم في ملازمة أميركا في عملية الخليج. كي يحولوا دون انفرادها بعملية تؤدي إلى قطع النقط عنهم، بسبب ما يمكن أن يلحق بحقوله من دمار. أو بإغلاق طريق وروده إليهم. فالمهام الموكلة أو القوة البحرية الأميركية في المحيط الهندي حسبما جاء في تقرير وفد الكونغرس الأميركي عن تلك القوة هي: *[5].

 

- التحكّم في مياه الخليج العربي وإبقاؤه مفتوحا عند الضرورة (وقد تقتضي الضرورة الاحتكارية إغلاقه..: من عندنا)

- الاحتفاظ بالتفوّق البحري والجوي في المنطقة.

- تلغيم مضائق هرمز وفرض حصار على موانئ معيّنة في المنطقة (إن مضائق هرمز هي الباب الوحيد للخليج على المحيط، وتلغيمها يغلقها بطبيعة الحال)

 

  وعلى الرغم من مساهمة دولتين أوروبيتين كبيرتين. إنجلترا وفرنسا، في الحشد البحري الكبير في بحر العرب، أمام مضائق هرمز، نجد أن الأوروبيين يخشون التدخّل المسلّح في الخليج ويعملون على معارضته وعرقلته، بينما تجد أميركا أن عليها أن تمضي قدما في تشكيل "قوة الانتشار السريع" ففي مقال دير شبيغل المشار إليه أعلاه نقرأ: "فقد أعرب الأوروبيون عن عدم تفهّمهم الكامل لفكرة قوات التدخّل السريع بأكملها. وقد علم ذلك وزير الدفاع الأميركي هارولد براون في الأسبوع قبل المنصرم، وحتى قبل زيارة الرئيس الفرنسي جيسكار ديستان إلى ألمانيا الاتحادية في الآونة الأخيرة، وذلك عندما ذهب إلى باريس ليعرض مشاريعه على الفرنسيين. وقد لمس براون خلال ذلك عدم تجاوب وتفهّم للمشاريع الأميركية.." ويذكر الناس جيّدا تلك الأزمة التي حدثت بين أميركا وبين كل من فرنسا وألمانيا الاتحادية، وزيارة رئيس وزراء الدولة الأخيرة هلموت شميدت لأميركا وتصريحاته المعادية للمشاريع الأميركية المذكورة.

رابعا: يخشى الأوروبيين واليابانيون أن يؤدي التدخّل الأميركي العسكري في الخليج إلى الاصطدام بالاتحاد السوفييتي وبالتالي توريطهم بحرب صاروخية- نووية عالمية تكون بلادهم طعما لها.

  أما الولايات المتحدة الأميركية فتقف مطالبة حلفاءها بتسهيل استعدادها للتدخّل العدواني في الخليج. وكان كارتر مثلا قد طلب إلى الأوروبيين "حمل جزء اكبر من أعباء الناتو ليتحرر منه بعض القوات الأميركية التي يمكن توجيهها نحو الخليج العربي عندئذ*[6]."

 

د- إن الاستعمار الاستيطاني الذي وفّر للمستعمرين القدماء (بحماية قواتهم) مهجرا للارتزاق على أنواعه لأبناء بلدهم. وأيّد عاملة مختصّة لغرض استشفاف قيم وثروات المستعمرة. وقوى غريبة هدّامة لبنية المجتمع الوطني فيها، تحوّل في الاستعمار الحديث بدولته التي قامت بأولئك المستوطنين الغرباء إلى امتداد لقوة النظام الإمبريالي العالمي الموحّد بزعامة الولايات المتحدة الأميركية، ليس في المستعمرة فقط، وإنما في المنطقة كلها. حيث يقوم على حراسة مصالح النظام المذكور هناك. وهذا التحول يوازي تحوّل المستعمرات القديمة وأشباه المستعمرات إلى دول تشكّل "العالم الثالث" موضوع استغلال وقهر المستعمرين الرأسماليين الاحتكاريين. والدولتان العنصريتان إسرائيل وجنوب أفريقيا. هما مثال امتداد قوة النظام الإمبريالي إلى منطقتي نفط الخليج وذهب وماس ونحاس وأورانيوم جنوب أفريقيا وروديسيا والكونغو.

 

أعد الاستعمار إسرائيل لتكون مع نظام الشاه جناحي قوة صدّام أمامية ضد كل حركة تحرر قد تقوم في منطقة الخليج وفي المناطق المطلّة على طريق النفط والمجاورة لأقطار الخليج، وذلك قبل سقوط نظام الشاه وبعد انسحاب بريطانيا من شرقي قناة السويس في عام 1971. فنظام الشاه المذكور كان يقوم بحراسة حقول النفط الخليجية من أن يطرأ أي تغير يهدد علاقاتها بالاحتكارات النفطية العالمية، وبالتدخّل لقمع كل ثورة تحرر: وقد تدخل بالفعل كما ذكرنا أعلاه لمساعدة الحكومة الرجعية العمانية، كما احتل الجزر العربية الثلاث: الطمب الكبرى والصغرى وجزيرة أبو موسى، وهي جزر تتحكم بمضائق هرمز. أما إسرائيل فكانت لضرب حركات التحرر في أكثر أقطار المشرق العربي كثافة بالسكان. وتقدما اجتماعيا، وقوة عسكرية: مصر وسورية ولبنان والأردن، ولتشكل سدا يفصل هذه الأقطار عن أقطار مناطق النفط ويلهيها بعدوانه المستمر يوميا عليها عن الالتفات بجدّية إلى غير أمورها القطرية الضيّقة، وذلك منذ قيام هذه الدولة العدوانية الغاصبة. فإذا أُضيف هذا الأمر إلى نشاطات المستعمرين التخريبي، وإلى تجاوب الرجعية والانتهاز والجهل مع هذا النشاط في كل المشرق العربي، ثم نظرنا إلى النمو السرطاني للمصالح الفردية الضيقة في كل قطر من أقطار هذا المشرق، وجدنا بسهولة الأسباب التي قامت عليها كل تلك الحواجز الفاصلة بين مختلف جماهير الأقطار المذكورة التي يصعب عليها في هذه الأوضاع توحيد مسيرتها للخلاص والتحرر الكامل. ثم إن إسرائيل أُقيمت في فلسطين لفصل مغرب الوطن العربي عن مشرقه كما هو معلوم، وللمساعدة على العمل للحيلولة ضد كل وحدة، جزئيّة أو شاملة، لهذا الوطن.

 

  ولم تتغير المهام المذكورة لإسرائيل في النظام الرأسمالي الاحتكاري العالمي بعد انهيار نظام الشاه. وإن كان قادتها يطمحون إلى أن توكل إليهم الإمبريالية القيام بدور في منطقة الخليج العربي ليصبح لهم هناك موطئ قدم يسهل لهم المزيد من المشاركة في نهب الثروات الطائلة هناك وقد عبّر بعض قادتهم عن أن بإمكان قواتهم الوصول بسهولة إلى الكويت، بل إلى أبعد منها. إلى مناطق الخليج الأخرى. إلا أن ما تعرضه إسرائيل حاليا كتدبير عملي :" شراكة أمنية جديدة تضمّ إسرائيل ومصر والولايات المتحدة الأميركية تبرز على شكل فرقة عمل واسعة هدفها منع انتشار الخمينية والشيوعية (اقرأ من فضلك:هدفها إخماد الحركات الوطنية: من عندنا) والدور الأميركي يكون تقديم المساعدة العسكرية والاقتصادية والتنسيق السياسي. أما مصر فتقوم بفرض "الهدوء" بالقوة على المناطق العربية، بينما تقوم لإسرائيل بمخابراتها وجهازها العسكري بحماية النظام المصري.." إلا أن النظام الرأسمالي الاحتكاري العالمي. على الرغم من اشتراك أميركا بمباحثات جدّية مع الطرفين الآخرين (المصري والإسرائيلي) حول "فرقة العمل الواسعة" الآنفة الذكر، يرى أن إسرائيل لم تنضج بعد للقيام بدور مباشر في الخليج للأسباب التالية:

 

- على الرغم من عدم ثقته بالرجعية والانتهازية العربية وأنظمتها، واعتقاده بأن إسرائيل هي الامتداد الثابت له في المنطقة فلا خطر من انقلابها في يوم من الأيام لتقطع معه بفعل "ثورة شعبية فيها" إلا أنّه يرى أنه ما يزال بحاجة إلى أولئك العرب الذين يصرون على إدامة الارتباط بشبكته العالمية فيحرص لذلك على عدم فضحهم بالسماح لإسرائيل بالتدخّل مباشرة بشئون الخليج.

- إن على إسرائيل أن لا تبدد قواها في مساحات واسعة من المشرق العربي. وأن يقتصر واجبها بالتالي على مواجهة الأقطار العربية القريبة المشار إليها أعلاه.

- وجوب مجيء أميركا بالذات لسد الثغرة التي أحدثها سقوط نظام الشاه في منطقة الخليج.

 

ه- إن المستعمرتين الاستيطانيتين الأخريين: جنوب أفريقيا وأستراليا. تشكلان امتدادين هامين لنظام القهر الإمبريالي على مدى مسرح المحيط الهندي الغربي والشرقي. وقد طلبت الولايات المتحدة الأميركية من أستراليا في تشرين الأول من العام الماضي*[7]:"أن تشترك في المجهود العسكري المتمحور في منطقة الخليج".

و- إن جماهيرنا، وفي طليعتها الشعب الفلسطيني الذي اغتصبت أرض وطنه، إلى جانب جماهير الشعب الإيراني، تقع في خط المقاومة الأول لمشاريع النهب والعدوان الأميركي في منطقتنا، التي تحاذي أيضا الاتحاد السوفييتي العدو الآخر للمشاريع المذكورة.

 

ز- إن الجهاز العسكري العالمي الذي تسيطر عليه الاحتكارية الأميركية والذي يتألف من قواتها وقوات حلفائها وأتباعها في العالم. مع ما يتوفر لهذا الجهاز من وسائل وقواعد، ومع كل ما ورائه من صناعة واقتصاد. هذا الجهاز قائم وهو لا ينقطع عن التطور في ميدان السباق مع الجهاز الآخر القائم في المعسكر الاشتراكي. فالقول إذن أن "قوة الانتشار السريع" التي قامت مؤخرا موجهة إلى الاتحاد السوفييتي هو من باب التمويه الذي لا ينطلي حتى غلة البسطاء. فالإمبريالية بداهة لن تذهب لملاقاة المعسكر المذكور ببضعة فرق فقط ، ولا بد من كل جهازها العسكري وكل ملحقاته لفعل ذلك. وحتى قولنا أنها قامت مؤخرا لا يعني أنها لم تكن موجودة من قبل. وإنما يعني فقط أنها تحددت ماديا وعينت لها قيادات خاصة بها ومهام محددة. فالجهاز العسكري الأميركي كما أسلفنا كان موجودا دائما، وكان باستطاعته في كل وقت تجريد قوة لتنفيذ مهمة طارئة (ولو بشيء من التأخير). يقول الجنرال فيكتور كرولاك القائد الأسبق لمشاة البحرية في المحيط الهادي*[8]:" إننا عندما نتحدث عن قوات التدخل السريع فإننا في الواقع لا نتحدث عن قوات فعلية على الإطلاق، بل حالة عقلية ونفسية ينبغي توافرها لدى القيادتين العسكرية والسياسية. فالولايات المتحدة الأميركية لا تحتاج إلى إنشاء قوات للتدخل السريع من جديد، إذ أن مثل هذه القوات موجودة أصلا منذ زمن بعيد. بل إن ما نحتاجه هو توافر العزم والقدرة على اتخاذ القرار، وإعادة ترتيب الأولويات الاستراتيجية على أسس جديدة.."

 

  يقوم الاستعمار الحديث على شبكته الاحتكارية التي نشرها على كل العالم الرأسمالي بشقيه المتقدّم والمتخلف، والتي تتكفّل بحراستها قوى الرجعية والانتهاز والخداع والجهل في العالم الثالث، بدلا من جيوش الاحتلال التي كان الاستعمار القديم يرسلها إلى مستعمراته. وكانت طيلة الفترة الماضية مخابراته مع أدوات الضغط المختلفة: السياسية والاقتصادية والعسكرية ( أي وسائل نظامه الإمبريالي) المنتشرة في العالم تساعد تلك القوى المحليّة الخانعة على صيانة الشبكة المذكورة ورأب كل صدع فيها: بالتآمر، والتهديد، والتدخّل المباشر أحيانا (كما حدث في الفييتنام وكوريا مثلا) وكان على العموم لدى الإمبرياليين الأميركان في كل أزمة واجهوها في شبكتهم العالمية وقت كاف لعلاج الضرر الحاصل أو للتكيّف معه. إن الزلزال الذي حصل في منطقة النفط الخليجية بسقوط الشاه فاجأهم وبهر أنفاسهم وهدد (وما تزال أشباهه تهدد) بسقوط إمبراطورية النفط العالمية. وبالتالي زعزعة النظام الاحتكاري العالمي من أسسه واقترابه من نهايته المحتومة. لذلك عجّل الاحتكاريون الأميركان بإنشاء تلك القوة للتدخل بسرعة في الخليج للحؤول دون وصول الأمور عند اللزوم الحد الذي بلغته إيران. وهذا لا يعني أن هؤلاء الإمبرياليين لم يفكّروا بمثل هذا الأمر قبل سقوط الشاه. فمنذ قيام الأوبك بدأت الأصوات ترتفع هنا وهناك في بلاد المستعمرين "ناصحة" بوضع اليد على منطقة الخليج. وقد اشتد ارتفاع هذه الأصوات "بتجربة" قطع النفط عن أوروبا عام 1973. ثم تحولت إلى صيحات بطلب اغتصاب حقول النفط بعمل عسكري. ولكن نظام الشاه كان ينظر المستعمرين، وخاصّة منهم الأميركان ضمانا جيدا لبقاء تلك الحقول مرتبطة بمجاري شبكة الاحتكارات العالمية. فتأخر لذلك تشكيل القوة المذكورة إلى ما بعد انهيار ذلك النظام:" لقد كانت فكرة قوة الانتشار السريع تراود الحكومة الأميركية منذ شهر آب 1977. عندما أمر توجيه كارتر الرئاسي رقم 18 بتشكيل قوة متحركة يمكن أن تستجيب لحرب خاطفة دون تحويل القوات الأميركية من الساحات التقليدية في أوروبا وآسيا. لكن المر الهام لم ينفذ إلى أن هزّت ثورة إيران مركز الزاوية للنفوذ الأميركي قي منطقة النفط.."*[9].

  وقد مرّ تشكيل "قوة الانتشار السريع" وشكل استعمالها، وتجهيزها بالوسائل، بالعديد من المناقشات والتجارب إلى أن استقر الرأي على قرار نهائي بشأن هذه الأمور وأعلن عن الانتهاء من بنائها في أواخر العام الماضي. فالوصول مثلا إلى الخليج انطلاقا من الولايات المتحدة الأميركية يتطلب المدد الزمنية التالية، وذلك حسب حجم القوة المراد نقلها، والوسائل المتاحة للعملية*:

 

- إن القدرة الأميركية الحالية لا تتعدى تركيز كتيبة واحدة أو كتيبتين على الأكثر خلال مدة 5-6 أيام. ويقول الجنرال كيلي قائد "قوة الانتشار السريع" إن الولايات المتحدة لن تمتلك قدرات النقل الجوي والبحري الكافية لتمكين القوة المذكورة من تنفيذ مهامها على الشكل المطلوب قبل عام 1985.

- يحتاج البنتاغون إلى ثلاثة أسابيع لوضع فرقة ممكنة (تعدادها 13 ألف رجل وفيها 300 مدرّعة) في منطقة الخليج، على أن تكرّس كل طائرة عسكرية وطائرة نقل مدنية متوفّرة لدى القيادة الأميركية لهذه العملية.

- لوضع قوة التدخّل برمتّها في الخليج يحتاج البنتاغون إلى ستة أشهر.

- إن إرسال الإمدادات من المقاتلات يشكّل "كابوسا" سوقيا. فقد احتاج مثلا سلاح الطيران إلى خمس ناقلات من طراز سي 141 و 28 من طراز سي 15 لنقل أكثر من أربعة ملايين باوند و450 شخصا لتدعيم سرب المقاتلات المكون من اثنتي عشرة طائرة ف-4 للاشتراك في المناورات التي جرت في مصر في نهاية العام الماضي.

- يحتاج الرئيس الجديد ريغن إلى إنفاق ما يزيد على سبعة مليارات دولار لبناء أسطول جوي جديد من طائرات النفط (130سي اكس). وذلك لنقل القوات إلى المنطقة المستهدفة. ويحتاج كذلك إلى خمسة مليارات دولار لبناء عشر سفن لنقل الأعتدة الحربية الثقيلة إلى منطقة العمليات*[10].

 

  ولا تستطيع الولايات المتحدة الأميركية سحب قواتها من حلف الأطلسي لاستعمالها في منطقة الخليج. فتلك القوات تشكل ركنا أساسيا في هذا الحلف. وللحفاظ على قدراته لا بد من بقائها فيه أو بقاء بعضها على الأقل. على أن يحل أوروبيون مكان ما يُسحب منها ليوجه إلى الخليج. وقد مرّ معنا أعلاه كيف أن أميركا طالبت حلفاءها بزيادة مساهمتهم في الحلف ليحرروا بعض قواتها فيه للغرض المذكور*[11]. ثم إنه من غير المعقول إعطاء مهمتين: واحدة في أوروبا والأخرى في المحيط الهندي، لقوة عسكرية واحدة. لذلك أصبح من الضروري أن تعتمد الولايات المتحدة على احتياطها الموجود حاليا على أرضها للقيام بتدخل في الخليج. وهنا تبرز الصعوبات المارّة أمثلتها أعلاه التي لا يمكن القبول بها والوقوع تحت وطأتها في الحالات الطارئة. ونجد بالتالي (من خلال ما يبلغ علمنا من أخبار ووقائع) أن العقيدة الأميركية توقفت أخيرا عند رأي الجنرال جون كولينز، الذي يقوم حاليا بإدارة قسم الدراسات العسكرية في الكونغرس الأميركي. ويتلخص الرأي المذكور بما يلي*[12]:

 

-         تكون أرض الولايات المتحدة الأميركية قاعدة انطلاق "قوة الانتشار السريع" ضمن الشروط التالية:

 

أولا: شحن القواعد القريبة من الخليج بكل ما يلزم القوة المذكورة من أسلحة وذخائر وآليات ومختلف المعدات الأخرى والمؤن. وقد أقلعت أول سفينة تحمل نحو 21 ألف طن من الإمدادات والذخيرة مع ناقلتي نفط ضخمتين تحملان النفط والمياه الصالحة للشرب وثلاث شاحنات تحمل المدرعات والمدفعية والجرافات ومعدات حربية ثقيلة أخرى من  الولايات المتحدة إلى جزيرة دييغو غارسيا. في منتصف السنة الماضية. ويقول ضابط البحرية هارولد جلاسجو:" إنني لم أر شيئا من ذلك القبيل في حياتي.. لقد صعدت السفينة ورأيت تراكتور برمائي كانت رائحته تشبه رائحة الكاديلاك"*[13].

ثانيا: تشكيل قوة بحرية خاصة بالمحيط الهندي.

ثالثا: توفير سفن النقل اللازمة لحمل مختلف الإمدادات من القواعد المذكورة آنفا إلى مسرح العمليات.

رابعا: عند الإحساس باقتراب الأزمة نقل الوحدات العسكرية المناسبة من قوة التدخل بالسفن والطائرات من أميركا إلى قواعد في دولة أو دول صديقة: كإسرائيل ومصر وعمان والصومال، للمرابطة فيها بانتظار التدخّل.

خامسا: عند وقوع الأزمة، قيام بعض الطلائع المتواجدة في الدولة أو الدول القريبة المار ذكرها باحتلال مساحة أو عدد من المساحات الأرضية الخالية القريبة من ساحة العمليات، لتحولها إلى مهابط موقتة تصلح لهبوط الطائرات المحملة بالجنود ومختلف الأسلحة والعتاد والوسائل الأخرى. وتستند العقيدة الأميركية الخليجية في هذا الأمر على أن الأراضي الخالية الصالحة لهبوط أنواع مناسبة من الطائرات منتشرة بكثرة في صحارى الجزيرة العربية وإيران.

سادسا: تدفق قوات التدخل على المهابط المهيأة الآنفة الذكر وبدء عمليات التدخل.

  وقد جرت اختبارات عديدة لفكرة التدخل، فتناولت مختلف أطوار العملية ومختلف وسائلها، نذكر منها:

 

مناورة "العلم الأحمر" *[14]:

  وقد بدأت بالاستيلاء على قطاع صحراوي مهجور في صحراء نيفادا يبعد حوالي مائة ميل شمال غرب لاس فيغاس. وقد انطلق فريق خاص من كوماندوس القوات البحرية على متن طائرة نقل من طراز (سي130هيركوليز). ونزل في القطاع المذكور وأحاط به. ثم تتالت الطائرات من ذلك الطراز محملة بالمواد والوسائل اللازمة لإعداد مهبط موقت. وقد انتهت العملية خلال أربع وعشرين ساعة، حيث أصبح المهبط المذكور قابلا لاستقبال الطائرات الحربية. ثم استمرت المناورة بتدفّق قوات التدخل وبمهاجمة أهداف افتراضية كرتل للدبابات المعادية، ومطار معاد الخ..

 

المناورات المشتركة في مصر:

  كان هدفها دراسة الظروف الواقعية لعملية تدخل محتملة من كل النواحي: اللوجستية والتقنية والتكتيكية. فتم نقل كتيبة بتعداد 1400 جندي: منهم 800 مقاتل و600 من عناصر المساندة والإدارة والتنسيق، خلال ستة أيام استخدمت فيها ربع القوة الإجمالية الأميركية من طائرات (سي141) وهو 69 طائرة. و11طائرة (سي 15) من أصل 74 طائرة يملكها البنتاغون. ولم يتم تزويد القوة المذكورة بأية أسلحة مدرعة أو مدفعية ثقيلة. واقتصر دعمها الجوي على 26 طائرة هليوكوبتر متوسطة من طراز (1-7 كورسير). تم فرزها جميعها من قوات الحرس الجوي الوطني*[15]. وكما هو واضح هدفت هذه المناورات إلى اختبار الإمكانات المصرية للمساعدة على تنفيذ القسم الرابع الآنف الذكر من مشروع الجنرال جون كولنز، مع قياس المدة اللازمة لوصول القوات الأميركية إلى مصر.

 

مناورات مشاة البحرية في عمان:  

  وقد أعلن عن انتهائها في 19 شباط 1981 واختبرت فيها عمليات الإنزال البرمائي. ففي 17/7/1980. عبرت قناة السويس خمس سفن حربية أميركية، بينها سفينة الاقتحام البرمائي "غواد القنال" وفيها مدمرتان وسفينتان أخريان. وكانت هذه السفن تحمل 1800 جندي من مشاة البحرية مع عشرين طائرة هليكوبتر (لتفريغ السفن على شاطئ مهجور بدون أرصفة ومعدّات تفريغ). ودبابات م-60، ومدافع هاوتزر عيار 105مم الخ..**[16].

 

عملية إنقاذ الرهائن:

  بدأت باحتلال مطار مهجور في الصحراء الإيرانية. ثم تعثّرت وفشلت فشلا مخزيا كما هو معلوم.



[1]  لإزالة كل غموض في سياق هذا الكلام نستعيد هنا تعريف الحقيقة، فنقول: إنها تطابق أو اتفاق ما نقوله أو ما نحس به مع ما هو واقع.

[2]  نشرة السفارة الأميركية في دمشق بتاريخ 13/4/1980

[3]  إن تسمية الشرق الأوسط تجمع المصالح الاستعمارية في هذه المنطقة كما تجمع المشرق العربي مع إيران وتركيا.

[4]  عن دبر شبيغل الألمانية. نقلتها القبس في عدد 18/7/1980

[5]  الشرق الأوسط 7/8/1980.

[6]  من سلسلة مقالات اشترك فيها كل من ستيفن ستراسر، كيم ويلسون، فريد كولمان، دافيد مارتن، وليم شميدت، مارتن كازندوف. الرأي العام اعتبارا من 16/7/1980.

 

[7]  أميركا والخليج العربي. اللواء 4/10/1980.

[8]  النشرة الاستراتيجية. الأنباء 27/12/1980.

[9]  البناء العسكري الكبير في الخليج. المار قببلا.ىن

[10]  اللواء22/8/1980.

[11]  يرى الأوروبيون ضرورة وجود قوات أميركية برّية في جيوش حلف الأطلسي، كي يطمئنّوا إلى أن أميركا لن تخذلهم وتتركهم وحدهم تجاه الاتحاد السوفييتي في حالة اندلاع الحرب.

[12]  بين الجنرال جون كولينز رأيه في بحث كتبه حول استخدام القوات الأميركية المسلحة لتأمين التزود بالنفط. وهذا البحث من محفوظات مكتبة الكونغرس، شعبة الشئون الخارجية والدفاع القومي.

[13]  البناء العسكري الكبير في الخليج.

[14]  السفير 19/7/1980.

[15]  النشرة الاستراتيجية. عدد الأنباء28/12/1980.

 

[16]  الكفاح العربي28/7/1980.مناورة أميركية بقلم السيد محمود عزمي.