قوة "الانتشار السريع"

في حقول نفط الخليج

 

الفريق عفيف البزري

 

الستراتيجية الأميركية "الشرق أوسطية"

 

  إن المفاهيم المشار إليها أعلاه للعقيدة الأميركية "الشرق أوسطية" هي التي توجه استراتيجية الولايات المتحدة الأميركية في هذه المنطقة. وهذا على اعتبار أن الأخيرة[1] تتولد من الأولى فتبني على تلك المفاهيم المواضيع التفصيلية المتعلقة بطبيعة أعمال التدخل الأميركي على اختلافها:السياسية والاقتصادية والعسكرية، في شئون الخليج والأقطار المجاورة*. وتقوم بإعداد الوسائل المادية للتدخّل، وتعمل على تهيئة الجو النفسي والسياسي لتبريره وقبوله من قبل الحلفاء والأصدقاء. والسكوت عنه والحياد من قبل غير الأصدقاء. وتلتزم الستراتيجية بالقوانين العامة والخاصة للصراع، وأهم مواضيع الصراع في منطقتنا هب التالية:

 

أولا: المصالح الاقتصادية وتأتي في مقدمتها المصالح النفطية.

ثانيا: الوضع الستراتيجي للنظام الإمبريالي العالمي. على اعتبار أن المنطقة التي تحاذي الاتحاد السوفييت من جهة، وتطل على العالم الثالث (عالم الثروات والقيم) وتتحكم بسبله من جهة أخرى، هي أهم منطقة ستراتيجية في النظام الآنف الذكر.

ثالثا: الحفاظ على إسرائيل.

رابعا: صيانة الرجعية وكل مؤسسات التخلف والخنوع للمستعمرين في المنطقة.

 

 وإن أشد قوانين الصراع العامة خطورة بالنسبة إلى منطقتنا هو: أن ستراتيجية الحرب لا تناقض الستراتيجية السياسية أو الاقتصادية، فالحرب هي استمرار للسياسة ولكن بوسائل أخرى، حسب تعبير كلاوزفتزر. فسنستخلص من هذا القانون ما يلي:

 

أ- إن إسرائيل، امتداد النظام الإمبريالي العالمي الحديث الذي بنته وتزعمته وما تزال تتزعمه أميركا، عدو يغتصب أرضنا ويشن علينا حربا عدوانية دائمة ترمي إلى إبادة جزء من أمتنا هو الشعب الفلسطيني، كهدف أساسي تتلوه أهداف أخرى معروفة في ارض وطننا. فتكون مواقف أميركا إذن من امتداد نظامها هذا، عندما تمده بكل أسباب القوة المادية والمعنوية، وتسانده في المحافل الدولية بدون قيد أو شرط*.[2] نقول تكون تلك المواقف منسجمة تماما مع طبيعة علاقتها به: لا يمكن للسياسة الأميركية أن تكون بجانبنا، كما بشّر ويبشّر به بعضنا، في الوقت الذي تضربينا فيه بذراعها الإسرائيلي.

 

ب- عندما تكون أميركا عدوة في جزء من وطننا العربي فإنها لا تكون صديقة وحليفة في أي جزء آخر من هذا الوطن، لا يمكنها مثلا أن تكون صادقة عندما تدعي بأنها تعمل على "إنقاذ" الخليج من "الشيوعية الدولية" في الوقت الذي تنهب فيه ثروات هذا الخليج: نفطه ونقوده، بامتداد نظامها الرأسمالي الاحتكاري المثبت في منطقتنا بذراعها الإسرائيلي أولا، ثم بحشودها العدوانية القائمة في المحيط الهندي مؤخرا.. والواقع: أن مجموع تشكيلتها العدوانية القائمة على إسرائيل وعلى حشودها الآنفة الذكر وعلى مختلف أعوانها وذيولها في منطقتنا ما هي إلا لغرض إدامة ذلك النهب الذي تمارسه. وقد قلنا أن طموحات جماهيرنا في التقدم (الذي لن يتم إلا بالقطع مع شبكتها الرأسمالية الاحتكارية العالمية) هي ما تسميه "بالشيوعية الدولية" وما تحاول قتله تحت هذا الاسم.

 

  إن الصراع يبدو في منطقتنا معقدا وفيه يتلون العداء والعدوان الأميركيين بألوان مختلفة تبعا للمكان والزمان. ففي فلسطين وما حولها يتجلى العداء الأميركي بالعدوان الإسرائيلي المستمر على الشعب الفلسطيني وعلى شعوب الأقطار العربية المجاورة، في الوقت الذي تتظاهر فيه أميركا بالحياد وتدفع أتباعها (الذين يصرون على إدامة ارتباطنا بشبكتها الاستعمارية العالمية) إلى العمل على "الفصل بينها وبين امتدادها العدواني الإسرائيلي، وبالتالي السكوت على ما تقوم به من نهب في الخليج. وهذا ما يسمح أيضا للرجعية هناك بأن تتظاهر بالعداء لإسرائيل دون التخلي عن الارتباط بأميركا. أما في منطقة الخليج فهي (بعد سقوط الشاه) تستعد للتدخل المباشر، إلا أنها بدلا من ان تضع على وجهها قناعا كالقناع الإسرائيلي، فإنها تفرض على الحركة الوطنية قناعا كاذبا فتتهمها "بالشيوعية الدولية"، لتأني بهذه الحجة بوجه سافر لمحاولة القضاء عليها".

 

  ونقول للقائمين على شئون النفط مرة أخرى: إن الأميركان الذين قتلوا شعوبا برمتها، وشرّدوا بإسرائيل الشعب الفلسطيني (بأغنيائه وفقرائه، بأصحاب العمل والعمال، بملاّكيه وفلاّحيه، لن يسمحوا لهم بالبقاء أبدا في ديارهم إذا قدّر لهم يوما (لا سمح الله) تحقيق هدفهم الكبير باحتلال حقول النفط بقواتهم العسكرية سيحوّلون عندئذ هذه الحقول إلى "مشيخات" كل حقل "مشيخة" وسيستبدلون عربها بالأغراب من الأميركان والكوريين والتايوانيين وغيرهم من خليط الأمم، لتبقى لهم وحدهم دون منازع أوشريك. أما حفظ هذه الثروات والقيم لنا ، فلن يكون إلا بالجماهير العربية الكثيفة في أعماق الوطن العربي، وليس حول الخليج فقط.

 

خواص العدوان الأميركي

 

  إن الخاصة الأساسية للعدوان الأميركي هي التي نجدها في كل أرض يتناولها الاستعمار العالمي بنظامه الرأسمالي الاحتكاري فيغطيها بشبكته. ويولي عليها أعوانه، ويعمل بشتى الوسائل على حرف وتعطيل تقدمها نحو أهدافها الوطنية، ويمارس فيها نهب ثرواتها وقيمها وفي منطقتنا يتميز العدوان الأميركي بدعواه الهمجية بأن له مصلحة في نفطنا فوق مصلحتنا، وأن علينا أن نضمن وصول هذا النفط إلى مستودعاته، وإلا فهو على استعداد لأخذه منا "قوة واقتدارا".. إن العدوانيين على مرّ تاريخ الأمم المتمدنة كانوا يبررون عدوانهم، ولو كذبا، ببعض الذرائع "المثالية" فكنا نرى مثلا المستعمرين القدماء الفرنسيين يغطون همجية عدوانهم بذريعة "تمديننا".. وكان النازيون يدعون أن العالم سيكون بحالة أفضل لو قاموا هم "كعرق متفوّق" بترتيب أموره.. أما "البزنس مان اليانكي" فقد عاد بالإنسان وبعلاقاته الدولية إلى ما قبل أربعة آلاف من السنين عندما كان مثلا ملك أكد منشتوسو يعلن ببساطة، تماما كما يعلن اليانكي "حقه" في نفطنا، أنه يغزو بلاد عيلام ليستولي على مناجم الفضة فيها، وليحصل منها على حجر الديوريت لتصنع منه تماثيل تخلّد ذكره في الأعقاب"*[3]... نقول إذن أن العدوان الأميركي الأساسي لا يدلّ إلا على تخلّف مدبريه وقادته وعدم انسجام مخططاتهم مع المعطيات المادية لعصرنا. فبلاد النفط من جهتها لا تفكر أبدا بقطع إمداداتها النفطية على محتاجيها، وما تطمح إليه جماهير هذه البلاد هو الحصول على حقوقها من النفط وفي أراضيها المغتصبة. ومن ناحية أخرى نجد أن السوية التقنية الحالية في العالم تفرض التعاون بين الأمم، وليس الاغتصاب والقرصنة، لا سيما في حقول النفط "السريعة الاشتعال" ونجد في النتيجة أن النظام الرأسمالي الاحتكاري العالمي يسير بقيادة الاحتكاريين في طريق لا تؤدي إلا إلى هلاكه. فالصناعة المتقدمة في العالم (على عكس القائمين عليها الاحتكاريين) ليست بحاجة إلى إسرائيل وإلى حشود العدوان في المحيط الهندي كي يصلها نفط الخليج، بل إن ما يدبره احتكاريو أميركا من خطط العدوان لن يؤدي إلا إلى إلحاق الضرر البليغ في الصناعة العالمية بإشعال حقول النفط وتخريبها. و "مهما كانت الظروف، يعتقد بعض الخبراء، أن بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية سيكون من شأن إرسال غواصاتها وسائر قواتها إلى المنطقة أن يحقق الكابوس الخطير الذي تحاول ستراتيجية الانتشار السريع تجنبه وهو: الخفض الحاد في موارد النفط إلى الغرب. والشيء الوحيد الذي يبدو مؤكدا هو أنه إذا نشبت الحرب في منطقة الخليج، فإن الأهداف الأولى المعرضة للدمار، سواء على أيدي قوات داخلية أو أجنبية، هي المرافق الحيوية والتسهيلات المتعلقة بالنفط.. كما قال مستشار شئون النفط الأميركي والتر ليفي في مقاله في مجلة الشئون الخارجية"*[4].

 

  والخاصة الهامة الأخرى للعدوان الأميركي علينا هي وقوعه في منطقة لا تتشابك فيها طرق المواصلات الحيوية العالمية فقط، وإنما تتشابك فيها أيضا مصالح عالمية:إمبريالية وغير إمبريالية. فما من دولة في العالم إلا وتتأثر بما يحدث عندنا، أكان العدوان المذكور على شكل حرب إسرائيلية تشن ضدنا، أم على شكل تدخّل مباشر واسع النطاق للقوات الأميركية، وهذا يعود إلى ما نشير إليه يوما وهو: تفرّد وطننا العربي باحتياطه النفطي الهائل وبموقعه الجغرافي الحسّاس.

 

  لقد كان التأثر العالمي بالعدوان الاستعماري على فييتنام مثلا لا يقوم على الآثار المادية العالمية لهذا العدوان مثلما كان يقوم على انعكاسه المعنوي في المجتمع الإنساني، الذي استفظع واستنكر تلك الهجمات الوحشية من قوى عظمى كانت آخرها قوة أميركا، على شعب صغير باسل قليل الوسائل، والذي مجّد في ذات الوقت وحيّا بطولة هذا الشعب وانتصاره على تلك القوى العملاقة الواحدة تلو الأخرى. أما الآثار العالمية للمخططات العدوانية التي تدبّرها أميركا ذدنا، وآثار  عدوان هذه الدولة القائم باستمرار بشتى الأشكال في منطقتنا، فهي آثار مادية تتناول كل المجتمعات الإنسانية، بسبب أن النفط يشكل حاجة ملحّة لكل مجتمع إنساني، بل لكل فرد من بني الإنسان.ولأن توقفالمواصلات العالمية المارة ببلادنا بسبب الزعازع التي تحدثها تلك الدولة القرصان عندنا من وقت إلى آخر تؤثر بتجارة وصناعة كل الأمم تقريبا. ويُضاف إلى هذا بطبيعة الحال وقوف الإنسانية المنصفة (وخاصة منها المقهورة مثلنا) إلى جنبنا، كما يُضاف أيضا انزعاج وخوف شركاء أميركا الإمبرياليين الآخرين من فرط شراهة وأنانية هذه الدولة المغامرة.

 

  ونضيف أيضا خاصة هامة أخرى للعدوان الأميركي علينا وهو أن هذه العدوان يأتي في سياق صراع حضاري قديم يتجدد باستمرار بتجدد الظروف والأطوار التي تمر بها جملة المجتمعات الإنسانية. فالأميركان الصهاينة ورثوا عن أجدادهم البدائيين (الذين كانوا يعانون شظف العيش في مجاهل الصقيع الأوروبي وفيما وراء القفقاس وقزوين) شهواتهم الجامحة الجيّاشة في ثروات ودفء العالم الحضاري الذي كان عالم الإسلام. وقد تتالت حملاتهم الصليبية علينا أو حملاتهم الصهيونية لا فرق*[5].إلى أن أتت الإمبرياليات الرأسمالية الاحتكارية القديمة واقتسمت فيما بينها وطننا العربي في القرن الماضي وفي أوائل هذه القرن. ثم أتت الإمبريالية الموحّدة المتعددة الأطراف بزعامة الولايات المتحدة الأميركية. لتفتتح حلقة جديدة في هذا الصراع الطويل، وهي الحلقة التي نعيشها حاليا والتي يأمل فيها المستعمرون، كما أملوا دوما في كل غزواتهم الماضية وارتدّوا خائبين، إنهاء وجودنا كأمّة، في الوقت الذي تتقدم فيه جملة المجتمعات الإنسانية بقدم ثابتة نحو إنهاء هذا النظام الشائن، بنظام الرأسمالية الاحتكارية العالمية لصالح الطور الأعلى. طور النظام الاشتراكي العالمي. وهذا يعني أننا نساهم حاليا مساهمة فعّالة حاسمة في دفع عجلة الخلاص والتقدم الإنساني عندما نرد الموجات المتتابعة لعدوان هؤلاء البرابرة، وعندما نسعى في ذات الوقت بهذه الأفعال إلى تحقيق مطامحنا الوطنية.

 

الجهاز العسكري العالمي الأميركي

 

  إن القوّة العسكرية الأميركية ليست مجرد عدد من الجيوش يفرزها مجتمعها، كما كان الأمر في ماضي الزمان حتى قيام الإمبريالية الموحّدة المتعددة الأطراف في نهاية الحرب العالمية الثانية، وإنما هي جهاز حي معقّد ينتشر في كل العالم الرأسمالي الاحتكاري، متقدمة ومتخلفة. وهو يقوم على هيكل يتألّف من نحو ألفي قاعدة تنتشر في أكثر من ثلاثين بلدا موزّعة توزيعا ستراتيجيا في مختلف مناطق الأرض. وحسب مواصفات البنتاغون: هنالك 340 قاعدة منها مصنّفة قواعد أساسية أو رئيسية بالنسبة إلى ما حولها من قواعد. ويرابط نحو ربع القوات المسلّحة الأميركية، أي قرابة نصف مليون جندي، في تلك القواعد، مع نحو 1500 طائرة حربية، و250 سفينة قتال ومساندة. وعدد من وحدات مشاة البحرية، بالإضافة إلى ما فيها من مختلف المستودعات وورش الصيانة والمخابئ*[6]. الخ وتتنوع مهام القواعد الأميركية فمنها للجيوش البرية، وأخرى للأساطيل البحرية، وثالثة للأساطيل الجوية، وبعضها للاتصالات المباشرة أو عبر الأقمار الصناعية، والبعض الآخر للتصنّت لأو للتشويش على مخابرات الغير أو للمراقبة على أنواعها والإنذار الخ..

وأكبر قاعدة بين هذه القواعد هي بطبيعة الحال أرض الولايات المتحدة الأميركية، وتليها أراضي الدول الاستعمارية الشريكة، ثم المستعمرات الاستيطانية كإسرائيل وجنوب أفريقيا وغيرها.

 

 وترتبط القوى العسكرية الأميركية على اختلافها، مع ملحقاتها بتلك القواعد، في إقامتها الثابتة أو في تحركاتها في العالم، فتتلقى خدماتها: أي ا، الجهاز العسكري العالمي الأميركي يتمكن على العموم من توفير ما تحتاجه كل قوة فيه من إمداد بالسلاح والذخيرة والمؤن والوسائل الأخرى من القواعد التي تصادفها على طريقها أثناء تحركها لأداء مهمة ما، مع ما تحتاجه من مختلف المساعدات والمعلومات المتعلقة بهذه المهمة. فالإمداد (اللوجستيك) لا يأتي فقط من مؤخرات الجيوش (كما كان عليه الأمر على العموم في الماضي) بل إن هذه الأخيرة تتحرك في "ساحة" إمدادات وتسهيلات ومعلومات تنطلق من مختلف القواعد المحيطة بطريق وبمنطقة عمليات الوحدة العسكرية المستفيدة. وهذا ما ينسجم مع أشكال الصراع الحديث الذي يدور على سطح منطقة أو دولة أو مجموعة دول الخ.. بالإضافة إلي قيامه على حبهات قتال. والولايات المتحدة الأميركية ليست وحدها التي تمتلك مثل هذه الجهاز العسكري العالمي، وهنالك ما يضاهيه أيضا بالضرورة في المعسكر الاشتراكي. مع فارق حاسم هو: أن جهاز الولايات المتحدة يقوم كله على أرض نظام تجرف أسسه تيارات التاريخ، على أرض تهتز بالزلازل.

 

  إن المجموعة التي تضم البنتاغون بما فيه من ارتكازات ومصالح، وما يرتبط به من مكاتب أبحاث متنوعة، ودوائر تجسس واتصال واستطلاع عادي أو بواسطة الأقمار الصناعية، ومختلف قيادات المسارح والجيوش والأساطيل في العالم مع وسائلها، ومكاتب الملحقيات العسكرية في سفارات دول العالم وغير هذا من الأنظمة الموجهة واللاقط، تشكل "الجملة العصبية" للجهاز العسكري الأميركي الذي نحن بصدده. ويعمل البنتاغون، دماغ الجملة المذكورة، تحت إشراف مكتب الأمن القومي ذي التركيب والامتدادات المعقدة في الولايات المتحدة الأميركية وفي العالم والمرتبط مباشرة برئيس الولايات المتحدة الأميركية، كما تعمل دائرة مخابراته العسكرية بالتنسيق مع دائرة المخابرات المركزية (سي.أي.إي) وله صلة وثيقة مع الاحتكارات ورجال الأعمال بطبيعة الحال، فهو "زبونهم الأول" *[7]. لا في أميركا فقط وإنما في العالم أجمع بسبب المبالغ الهائلة التي تخصص له لينفقها على التسلح.

 

  ويسيطر الجهاز العسكري الأميركي بمختلف الأحلاف والمعاهدات والعلاقات التي تقيمها وتعقدها دولته "الولايات المتحدة الأميركية" على أجهزة عسكرية وجيوش ومواقع الدول الأخرى في العالم الرأسمالي، ويجعلها امتدادا له في أصقاع هذه الدول*.[8]

 

أ- يوفر له حلف الأطلسي غطاء عسكريا يمتد على أوروبا الرأسمالية وعلى تركيا شرقا، وعل كندا: وجزيرتيغروئنلندا وايسلندا غربا. وبذلك فإن هذا الجهاز العسكري يمتد على دول وأراض تشكل قوسا يدور حول النصف الشمالي للمحيط الأطلسي بأكمله. ويُضاف إلى هذا، بطبيعة الحال، السواحل المطلة على البحر الأبيض المتوسط لأوروبا وتركيا وإسرائيل (ومصر مؤخّرا بكل أسف).

 

ب- يمتد بالمعاهدات المعقودة مع اليابان، وبالعلاقات التي تفرضها دولته على كل من كوريا الجنوبية، وتايوان، والفلبين، وسنغفورة، وتايلند، إلى شرقي آسيا وجنوب شرقها. فإذا نظرنا إلى الموقع الجغرافي للولايات المتحدة الأميركية ولحلفائها وأتباعها في المحيط الهادي، نجد أن جهازها العسكري يشمل قوسا هائلا يدور حول المحيط المذكور، ذاهبا من السواحل الغربية لهذه الدولة، فسواحل كندا، فألاسكا، ثم شرقي آسيا حتى أستراليا ونيوزلندا.

 

ج- بعلاقات أميركا بأستراليا وجنوب أفريقيا وإسرائيل ومصر والصومال وكينيا وبدول الخليج العربي وبالمستعمرين القدماء الافرنسيين والإنجليز، يتوفر للجهاز العسكري المذكور وجودا راسخا في المحيط الهندي.

 

د- تحصل أميركا على قواعد، "وتسهيلات" مختلفة في العديد من الدول الإفريقية، كما أن وجودها في أميركا اللاتينية لا يحتاج إلى الشرح.

 

  هذه هي ملامح الجهاز العسكري العالمي الأميركي وخطوطه العامة، فهو إذن بهذا الاتساع والضخامة لن يتغير نوعيا إلا بوقوع تطور حاسم في أسلحته ووسائله يدعو إلى انقلاب في علاقاته الداخلية وفي ستراتيجيته وتكتيكاته، وليس بظهور "قوة انتشار سريع" فيه مثلا.

 

وهو ما قصده الجنرال الأميركي فيكتور كرولاك بقوله الذي استشهدنا به أعلاه، ونعيد منه هنا العبارة التالية:" إننا عندما نتحدث عن قوات التدخل السريع فإننا في الواقع لا نتحدث عن قوات فعلية على الإطلاق.. فالولايات المتحدة الأميركية لا تحتاج إلى إنشاء قوات للتدخل السريع من جديد، إذ أن مثل هذه القوات موجود أصلا منذ زمن بعيد.." وهذا القول ينطبق على الواقع، فمثل الجهاز العسكري الذي رأينا ملامحه أعلاه له، على العموم، إمكان الرد ( ولو بشيء من البطء والتردد) على كل أمر طارئ بالقوة المناسبة. وسنرى فيما يلي مثال ذلك في الشكل الذي ستقوم به "قوة الانتشار السريع".

 

قوة الانتشار السريع

 

  إنها تجريدة "مستعارة" من صلب جيوش برية وأساطيل بحرية وجوية ومصالح قائمة في الجهاز العسكري العالمي الأميركي لاداء مهمة محددة. في المكان والزمان، ثم تعود إلى "منابعها" فور انتهاء هذه المهمة. تقول دير شبيغل الألمانية في مقالها الذي أشرنا إليه سابقا عن هذه القوة ما يلي:".. ومن مركز قيادته الواقع في أحد العنابر الموجودة في قاعدة ماك ديل الجوية في ولاية فلوريدا، يستطيع الجنرال كيللي قائد قوات التدخّل السريع في أي وقت كان إصدار أوامره إلى حوالي مائتي ألف رجل من القوات المسلحة الأميركية على اختلاف فروعها- وهذا العدد يعادل عشر عدد القوات الأميركية الإجمالي- وسحبهم من وحداتهم المتواجدين فيها لتنفيذ أوامره.. ومركز قيادته الواقع بالقرب من مدينة تاميا. مرتبط مباشرة بقيادته القوى الاحتياطية العائدة للقوات المسلحة الأميركية. وكلاهما مرتبط بمجمع يحتوي على شبكة معقّدة من أجهزة الكومبيوتر التي "تنظم العمل العسكري في أكبر بقعة في العالم بين مدينتي هايدلبرغ وهونولولو"..

 

   إن أول ما نلاحظه هنا هو أن هذه القوة لا يمكن إلا أن تكون موجهة ضد جماهير العالم الثالث الثائرة ضد نظام القهر العالمي الأميركي. ذلك لأن تعدادها الذي يساوي عشر القوات الأميركية البرية بأكملها، يتجاوز بداهة بكثير عشر قوات الاحتياط التي تفرزها، والتي تعسكر على أرض الولايات المتحدة الأميركية، الأمر الذي يعطّل جاهزية هذه القوات الأخيرة تعطيلا كاملا. وتصبح غير ذات فائدة. وبالتالي لا يمكن أن تكون قوة الانتشار موجهة ضد المعسكر الاشتراكي، لأن مواجهة قوى هذا المعسكر تتطلب أول ما تتطلب الاحتفاظ بالاحتياطي الأميركي جاهزا. ثم إنه من غير المحتمل أن تشتعل الثورات في كل العالم الثالث في آن واحد ضد النظام الإمبريالي الحديث (وهو أمر فيه الخلاص السريع من قهر هذه النظام وحبذا لو وقع). لذلك لا يكون في حساب الأميركان اشتباك ضد ثورة في اكثر من عدد محدود جدا من الأمكنة في العالم الثالث (في مكان أومكانين مثلا) فتكون القوة المذكورة بالتالي باعتقادهم كافية ولا يطول انشغالها لتعود عناصرها إلى أمكنتها في قطعات الاحتياط الذي يسترد عندئذ جاهزيته (وكم خاب فأل المستعمرين أمام تصميم الثوار!.. ألم تشغل الثورة الفييتنامية أميركا برمتها، فضلا عن اشغالها مئات ألوف الجنود الأميركيين، على مدى سنين طويلة؟..)

 

  وهنالك مختلف أشكال الدعم "لقوة الانتشار السريع"، وأنواع الوسائل المهيأة لتكون بخدمتها عندما تؤدي مهمتها، وشتى التسهيلات التي تتلقاها في طريقها إلى ساحات التدخل نذكر منها ما يلي، وهي تخص التدخل في منطقة الخليج:

 

أ‌-      القواعد العسكرية

  يسير بدون انقطاع خط القواعد العسكرية الأميركية الذي يمكن أن تتحرك عليه "قوة الانتشار السريع" من أميركا إلى الخليج في أحد الاتجاهين المتكافلين جغرافيا: اتجاه أميركا-الخليج، عبر الأطلسي. فالمتوسط، فالبحر الأحمر، فالمحيط الهندي، فالخليج، واتجاه أميركا-الخليج-عبر المحيط الهادي، فالهندي، فالخليج. ولكن الخط الأول يبدو من ناحية التسهيلات هو المفضّل لكثافة القوات العسكرية والقواعد والمستودعات (المجاورة لمنطقة الهدف) التي يمر بها.ففي الاتجاه تتوزع القواعد على مسرحين:

الأول- مسرح البحر الأبيض المتوسط:

وتنتشر فيه القواعد الأميركية على الشكل التالي:

- قواعد إسبانيا في سارغوسة، وتوريخون ديس أوردوس قرب مدريد. وفورنتيرا قرب إشبيلية، وروتا الشهيرة التي هي مجمّع ضخم يتضمّن الأرصفة لاستقبال السفن الحربية من كل الحجوم، والمطارات الكبيرة والمستودعات الواسعة التي منها مستودعات الأسلحة الصاروخية النووية. وورشات التصليح والصيانة من كل الدرجات، وأماكن الاستراحة لأعداد ضخمة من الجنود. وهنالك قواعد عديدة أخرى.

  إن كل القواعد الأميركية في هذا البلد مترابطة فيما بينها ومع عدد من الموانئ بشبكة من الأنابيب الضخمة، وخطوط الإنذار الراداري والاتصال والتوجيه.

    ولبريطانيا قاعدة جبل طارق، كما أن لحلف الناتو قواعد في جزر الخالدات التابعة للبرتغال وهي التي مرّ فيها الجسر الجوي الأميركي إلى إسرائيل في حرب تشرين 1973.

  قواعد إيطاليا في: فاينزة للطيران، ونابولي للأسطول السادس، ولامدلينا في سردينيا للأسطول السادس أيضا، وسيغونيللا في صقلية لمختلف المهام الجوية كالتموين بالوقود وبطائرات الصهريج وللرصد والاستطلاع في الأجواء المتاخمة وللتشويش الراديو أليكتروني ضد الطائرات والسفن على اختلافها. وهنالك أيضا قاعدة التجارب للصواريخ وللقنابل النووية (تحت الأرض) في سانتو دي كويرا في جنوب شرقي سردينيا الخ.. وفي إيطاليا قواعد خاصة بحلف الناتو كما يوجد فيها تجمعات جوية ضخمة، ومستودعات للذخائر والوقود وورشات التصليح. وتقيم فيها هيئة أركان الأسطول الأميركي السادس (في شمال ميناء نابولي). وهي وإسبانيا تشكلان جسري الناتو إلى الشمال الإفريقي الذي يُعتبر جزءا متمما لجنوب هذا الحلف، ما دام العرب ممزقين.

- قواعد اليونان وقبرص في: جوار أثينا للطيران الحربي على أنواعه، والبيرة للأسطول السادس، وكريت للتدريب على الصواريخ والدبابات، وفاماغوستا، في قبرص للطيران. وهنالك قواعد أخرى في هذين البلدين.

- قواعد تركيا: أقام الأميركان في تركيا أكثر من خمس وعشرين قاعدة أهمّها في: اسكندرون للبحرية، وأضنة للطيران، وأنجرلك في سهل العمق للطيران، وإزمير للبحرية، وإزميت للبحرية أيضا، وطربزون وقه مورسل على البحر الأسود للتصنت والتشويش.

  ويرابط في تركيا نحو سبعة آلاف جندي وضابط أميركي، وعدد من أسراب الطيران التكتيكي، وتنتشر عليه شبكة واسعة لعملاء وكالة المخابرات المركزية الأميركية.

الثاني- مسرح المحيط الهندي:

 وتعمل الولايات المتحدة حاليا بدأب كبير لتكثيف وجودها فيه. وبالإمكان تصنيف قواعد هذا المسرح بحسب طرق النفط العالمية الآتية من الخليج في أربع مجموعات:مجموعة قواعد الخليج الذي يشكل بطبيعة الحال هدف كل هذه الإعدادات التي نشاهدها اليوم. نذكر منها ما يلي، مع العلم أنها من مخلفات المستعمرين القدماء الإنكليز: قاعدة جوية في الكويت، وقاعدة بحرية في المنامة (البحرين) وأخرى في الدوحة (قطر) وقواعد جوية وبحرية في الشارقة (رأس الخيمة) ومسقط (عمان).

 

- وقاعدة جوية في الظهران أقامها الأميركان عندما حصلوا على امتيازات النفط في السعودية.

- وفي الخليج مئات الألوف من الأغراب الأميركان وسواهم ممن تخضع بلادهم لهؤلاء المستعمرين. ولا ينقصهم سوى الأسلحة ليصبحوا جيش احتلال للمنطقة النفطية.

- مجموعة قواعد البحر الأحمر وفيها منطقة إيلات والنقب وسيناء التي ستضم مجمّعا ضخما من القواعد البرية. والبحرية والجوية لا يضاهيه بميزاته الستراتيجية أي مكان آخر في العالم.ففي هذه المنطقة حاليا قاعدة بحرية في إيلات وقاعدتان جويتان ضخمتان في سيناء. وقد رصدت الحكومة الأميركية في أواخر شباط 1981. مبلغ ثلاثة مليارات دولار، لإقامة قاعدتين جويتين في النقب تحت اسم "تعويض إسرائيل عن قاعدتي سيناء الآنفتي الذكر اللتين ستسلمان إلى مصر بموجب اتفاقية كمب ديفيد" ثم إن مصر "تمنح" حاليا أميركا تسهيلات على أراضيها ومن جملتها استخدام ميناء الغردقة الهام، كما تسعى إلى دفع أميركا لتقيم قاعدة لها في منطقة خرائب البرنس التي يمتد منها في البحر رأس بنعاس فيحصر خليجا عميقا يوفر شروطا جيدة لقاعدة بحرية.

  ويمكن أن نلحق بهذه المجموعة قاعدة جيوبوتي الفرنسية، وقاعدة بربرة الصومالية، وقاعدة مومباسا في كينيا.

- مجموعة قواعد شرق وجنوب أفريقيا وهي من مخلفات المستعمرين القدماء وفيها: القواعد في أرخبيلات المحيط: مالديف وسيشل والمدمرة البحرية، وقاعدة دييغو سواريس البحرية في مدغشقر وقاعدة تموين الغواصات في الرينيون وهما فرنسيتان، وقواعد جنوب أفريقيا التي منها: القاعدتان البحريتان في دربان وسايمنستون.

- مجموعة جنوب وجنوب شرق آسيا، وفيها قاعدة دييغو غارسيا الشهيرة التي تصاعدت تكاليف إقامتها منذ عام 1971 حتى الآن إلى أكثر من عشرة مليارات دولار وهي بحرية وجوية وبرية وتحتوي على المخابئ الذرية والمستودعات على أنواعها وورشات التصليح وغيره. وهي مهيأة لتكون المقر العام لقيادة مسرح عمليات المحيط الهندي، القيادة التي شكلت وعينت في مطلع 1981. وفي هذه المجموعة قاعدة جزر كوكس البحرية وقاعدة سنغفورة للبحرية والطيران. والشاطئ الغربي لأستراليا وعليه قاعدة كوكبورن البحرية وقاعدة نورث للمراقبة الألكترونية.

 

ب‌-   الأساطيل البحرية الحربية

  قال مسئول في وزارة الدفاع الأميركية:" إن الولايات المتحدة الأميركية ستعمل على تخفيض عدد سفنها الحربية المرابطة في البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهادي بهدف الإبقاء على وجود بحري ضخم في المحيط الهندي (بما في ذلك بحر العرب وخليج عُمان والخليج العربي)من الآن وحتى موعد غير محدد في المستقبل"*.[9] ويقول تقرير وفد الكونغرس الأميركي الذي أشرنا إليه أعلاه أن القوة البحرية الأميركية في المحيط الهندي تتألف من 25 سفينة حربية تنقسم إلى مجموعتين مقاتلتين تتزعم كل منهما حاملة طائرات. وفي الوقت الذي زار فيه الوفد المذكور القوة المذكورة وجدها تتألف من حاملة الطائرات نيمتز (التي تُدار بالطاقة النووية) وحاملة الطائرات كورال سي (التي تُدار بالطاقة العادية، مع 5 بوارج، و5 طائرات، و4 مدمّرات، وعدّة غواصات، و5 سفن معاونة، وسفينة قيادة. ويقول التقرير المذكور أن القوة الرئيسية لهذه الحملة البحرية تتمثل في مقدرتها الجوية التكتيكية. فهناك على الحاملتين حوالي 160 طائرة، منها أكثر من 100 طائرة قتال. وتحمل نيمتز الطائرات المتقدمة ف-14 التي تطلق صواريخ جو/جو فينيكس البعيدة المدى، بينما تحمل كورال سي طائرات الفانتوم ف-4 كما أن كليهما تحملان الطائرات الهجومية أ-6  و أ-7  وللقوة البحرية إمكانات لتزويد الطائرات بالوقود أثناء الطيران، الأمر الذي يزيد من المدى القتالي للطائرات ويتيح لها تغطية منطقة الخليج بأسرها*.[10]

 

ج- الأساطيل البحرية للنقل

 للولايات المتحدة 64 سفينة برمائية معدة للعمل عند الطلب في منطقة الشرق الأوسط. ويتضمن مبدأ كارتر للتدخل في الخليج تزويد الأسطول البحري الأميركي بأربع عشرة سفينة سريعة لنقل المؤن والأسلحة والمتفجّرات*.[11]

 

د- الأساطيل الجوية للقتال

  من بين 77 سربا من الطائرات القاذفة والمقاتلة التابعة لسلاح الجو الأميركي المرابط على أرض الولايات المتحدة الأميركية، تتمكن هيئة الأركان هناك من تخصيص عدد من الأسراب يتراوح بين 16و21 سربا بينها ثمانية أسراب من طراز ف-15 للعمل في الخليج عند اللزوم. وقد قامت في العام الماضي الطائرات المقاتلة، والطائرات التي تحمل أجهزة رادارات للإنذار المبكر بمناورات في مصر والسعودية*[12]. لكسب الخبرة في المنطقة.

 

ه- الأساطيل الجوية للنقل

  لدى الولايات المتحدة الأميركية نحو 70 طائرة سي-5أ عابرة للقارات، ونحو 234 طائرة سي-141 ستار ليفتر عابرة للقارات أيضا، ونحو 500 طائرة نقل تكتيكي سي-130 للمسافات المتوسطة بين إسرائيل والخليج مثلا. وكل هذه الطائرات تنقل جنودا بكامل أسلحتهم، أو حمولات من الأسلحة والذخائر ومختلف الإمدادات الأخرى. وهنالك مشاريع لزيادة عدد هذه الطائرات ولتعديل الموجودة منها لرفع قابليتها في الحمل وزيادة مدى طيرانها.

 

و- بعض مواصفات النقل البحري والجوي الأميركي*[13]

إن السفن البر مائية المذكورة آنفا دخلت الخدمة بين عامي 1961 و1980 فمنها ما يستخدم الهليوكبتر فقط للتفريغ بنقل الأثقال من السفينة إلى البر. ومنها ما تحتوي الواحدة على حوض يقوم في مؤخرتها ليُملأ بالماء الذي تطفو عليه الزوارق البرمائية التي يمكنها عندئذ أن تخرج إلى البحر من أبواب تفتح لها لتذهب إلى البر وتفرغ حمولتها وتعود إلى حوضها في السفينة لتأخذ حمولة أخرى وهكذا. وعلى هذه السفن أيضا مهابط لطائرات الهليوكوبتر التي تشترك مع الزوارق البرمائية في عملية التفريغ والشحن. وهنالك أيضا سفن حديثة تحمل (بالإضافة إلى الأحواض ومهابط الحوامات) رافعات وأرصفة عائمة مفككة يمكن تركيبها أمام ساحل الاقتحام لتنزل عليها بالرافعات المذكورة الدبابات والمركبات والمعدات الهندسية وغيره مما تحمله السفينة. وذلك عندما يتعذر استخدام الزوارق والحوامات في عملية التفريغ. ثم إن الأربع والستين- سفينة التي تؤلف أسطول النقل المذكور تتسع لحمل فرقتين ونصف من مشاة البحرية بتعداد إجمالي يساوي نحو خمسين ألف جندي دفعة واحدة، وذلك عدا تعزيزاتها المعتادة بالدبابات والمدفعية ذاتية الحركة من عيارات 155 مم و175 مم و203 مم.

 

  أما بالنسبة إلى قدرة النقل الجوي الستراتيجي المتوفرة حاليا لدى سلاح الجو الأميركي فإنها تنحصر في 304 طائرات من طرازي سي-5 أ وسي-141. والحمولة القصوى لهذه الطائرات هي ستة عشر ألف طن من المعدات والذخائر والمؤن، أو ستون ألف جندي في الرحلة الواحدة ومداها يتراوح بحسب حمولتها بين ستة وعشرة آلاف كيلومتر.

 

ز- القواعد الجوية المسبقة الصنع*[14]

  تشتمل القاعدة على عشرات المستودعات مبنية بهياكل من الألمنيوم تضم كافة معدّات الصيانة والاتصالات وإدارة القاعدة وغيره. وعلى ثلاث حظائر للطائرات عرض الواحدة منها 58 قدما وطولها 80 قدما، يمكنها أن تستوعب طائرتين ف-4 فانتوم وتحملها طائرة واحدة من طراز سي-130 هيركوليز. فضلا عن 34 ملجأ للأفراد يتسع الواحد منها نحو عشرين رجلا. وأربع مطابخ يستطيع الواحد منها تجهيز 250 وجبة في الساعة، ومهبط معدني مفكك وأضواء لتشغيله ليلا على امتداد تسعة آلاف قدم، وبرج توجيه وحمامات ودورات مياه تخدم نحو 125 رجلا. وكل هذه المنشآت مفككة بطبيعة الحال وتُركب في أمكنة الاقتحام خلال يوم أو يومين من قبل فرق هندسة مختصّة.

 

عمليات الانتشار السريع في الخليج

 

  لا يرد في حساب المستعمرين جعل حقول النفط في هذه العمليات ميادين حربية واسعة النطاق تخربها وتأتي على منشآتها بأجمعها بحيث يتوقف استخراج النفط فيها سنوات عديدة. فهذه الحقول هي "البقرة الحلوب" بنظر المستعمرين، فيجب وضع اليد عليها إذن وهي سليمة على العموم. وقد تلحق بها أضرار توقفها عن العمل بعض الوقت. وهذا أمر غير خطير بنظرهم ما دام بالإمكان إصلاح الصرر وإعادة ضخ النفط "بمعرفتهم" سريعا لهذه الأسباب ستكون العمليات بموجب مخططات المستعمرين في الإطار التالي:

 

أولا- عزل كل حقل يٌراد الاستيلاء عليه بمحاصرته برا وجوا ومنع كل قوة عسكرية معادية من الاقتراب منه.

ثانيا- مع عملية العزل المذكورة، مهاجمة النقاط الحساسة في الحقل ومحاولة وضع اليد عليها بقوات معدة لهذا الغرض ومدرّبة تدريبا عاليا على نماذج مماثلة لها، وذلك لضمان سرعة التنفيذ القصوى.

ثالثا: إتمام عملية الاستيلاء على الحقل.

 

  ومن الواضح أن تحقيق المفاجأة التامة أمر متعذر جدا في هذه الأيام. إلا أننا كنا أشرنا فيما مضى من البحث إلى أن أصحاب النفط الأصليين مهما كانت صفتهم لن يقوموا بتدمير حقوله إلا في حال عجزهم عن الدفاع عن هذه الحقول مع تيقنهم من أن العدو يهاجمها أو يوشك أن يهاجمها. أو أن المدافعين يختارون فيما يختارونه من مناطق دفاعية حقول النفط بالذات، وبذلك يشنون حربا دفاعية في كل حقل منها وهم يستخدمون فيه نفطه بأساليب مناسبة لإقامة جحيم يحرقون بناره المعتدين. وفي كل الأحوال ستكون حينئذ فترة زمنية تفصل بدء الأزمة عن لحظة القيام بالعدوان قد تمتد أسابيع أو أشهرا، تماما كما حدث عند اندلاع الثورة الإيرانية ثم قيام الأميركان بمحاولتهم الفاشلة للعدوان على هذا البلد. وهي فترة ضرورية لقيام المستعمرين بالاستعدادات العسكرية اللازمة، لا سيما عندما يكون بدء الأزمة مفاجئا لهم. وهي ضرورية أيضا في كل الظروف ليقوموا "باصطناع" الحجج و"تركيب" المناخ النفسي في بلدهم وبين حلفائهم وأصدقائهم، ليكون العدوان مبررا و "نتيجة لعدوان مزعوم للضحية عليهم" وفي أثناء ذلك يقومون كالعادة بتغطية استعداداتهم العسكرية بشتى الوسائل السياسية: إحالة المسألة إلى الأمم المتحدة مثلا، وتقديم شكوى إلى محكمة العدل الدولية، وتمثيل الوساطات الكاذبة، (بينهم وبين الضحيّة) وكل ما يؤدي إلى خداع هذه الأخيرة وتنويمها. ثم إن العدو المستعمر يسفر عن وجهه ويبدأ بالعدوان عند استكمال استعداداته العسكرية.

 

  وقد كشفت صحيفة معاريف الإسرائيلية عن وجود وثيقة أميركية خاصة وضعها خبراء الكونغرس جول احتمال التدخل الأميركي في الخليج*.[15] وحسب ما ذكرته الصحيفة المذكورة، جرى بحث تفصيلات هامة في تلك الوثيقة، بعد الأخذ بعين الاعتبار كل الاحتمالات ومن ضمنها وضع إسرائيل ومصر كقاعدتين عسكريتين إداريتين أميركيتين تنطلق منهما القوات المظلية الأميركية باتجاه الخليج.. وجاء في الوثيقة أن العملية الناجحة يجب أن تحقق الأهداف التالية كلها وإذا أخطأت إحداها فإنها جميعها ستفشل:

 

أولا: الاستيلاء على حقول النفط بكافة معداتها.

ثانيا: تأمين مرور النفط في السبل المؤدية إلى العالم الغربي.

 

  إن حقول النفط العربية على الخليج ليست موحدة سياسيا لذلك فإنه من المستبعد أن تتناولها جميعها أزمة واحدة في آن واحد. إلا أنه عندما يحدث تدخل عدواني من قبل المستعمرين على دولة عربية خليجية يسبب أزمة تقع فيها، فإن هذا العدوان سيعم على الأغلب كل دول النفط العربية بحجة الدفاع الكاذبة عنها. وليس من المستبعد (في هذا الوضع) أن يفتعل المستعمرون أزمة في دولة نفطية عربية ثانوية، ليقوموا بوضع يدهم على أغنى الدول العربية النفطية (مع الدول الأخرى الخليجية) بتلك الحجة. وهذه عملية مريحة لهم للأسباب التالية:

 

أولا: إن المستعمرين هم الذين سيفتعلون الأزمة. فيكون إذن لديهم ما يشاءون من وقت للإعداد للعدوان وحشد كل ما يلزم من قوات لاحتلال الخليج برمته.

ثانيا: إن تدمير حقول نفط تلك الدولة التي يختارها المستعمرون لافتعال الأزمة فيها ثانوية بالفرض، فلا ضير (عليهم) من وقوع الدمار فيها أثناء احتلالها بالقوة.

ثالثا: إن الدول الأخرى غير المعنية بالأزمة ستفاجأ بعدوان الأميركان الذين سيتمكنون من احتلال حقول نفطها سليمة في حالة خضوعها للعدوان وعدم مقاومتها له.

 

  إن استعمال الآليات (الدبابات وعربات المشاة والسيارات) للهجوم على حقل نفط يشكل صعوبة كبيرة على المهاجم، لاحتمال وقوعها فريسة سهلة للحرائق التي قد تشب في الحقل وتحاصرها أثناء القتال، أو التي يشعلها المدافعون ليوقعوها بها. يضاف إلى هذا تحقيق المفاجأة بالقوات التي تقوم على استخدامها: إن تنفيذ الهجوم بعملية بحرية فقط يحتاج إلى أسطول كبير من السفن البرمائية يرافقه أسطول حربي بالإضافة إلى حماية جوية كثيفة طيلة عملية التقرب من الهدف (من مياه القواعد الأمامية للعدوان في عُمان مثلا حتى مياه الدمام) فهذه الحركة التي تستغرق ما يقرب من يومين من الزمن. مضافا إليها النشاط الكبير للتسخين في منطقة الانطلاق، ولشحن السفن بالآليات ومختلف الحمولات الضرورية، وحركة الإعداد الكبيرة من الجنود. كل هذا وغيره يستحيل إخفاؤه وستتأكّد الضحية من العدوان بزمن كاف لإعداد تدمير حقول النفط في وجه المهاجم (بزمن يزيد على الأسبوعين لضحية تؤمن بالأميركان وتصر على عدم القطع معهم) أما نقل الآليات المذكورة جوا للبدء بالهجوم بها على حقول النفط فأمر غير وارد، ما لم يحقق المهاجم بغيرها من الوسائل قدما ثابتة في الحقول المذكورة، كالاستيلاء على بعض المطارات في منطقتها. لهذه الأسباب وغيرها نجد أن المهاجم سيعتمد على تشكيلات المغاوير المحمولة بالحوامات وعلى المظليين: على المغاوير مدعمين بنيران الحوامات الهجومية للاستيلاء على حقول النفط، وعلى المظليين مدعمين بالطيران الهجومي للاستيلاء على المطارات.

وتكون الخطوط العريضة المحتملة لصورة العدوان كالآتي:

أولا: يقوم المستعمر بتغطية استعداداته للعدوان بالتحركات السياسية المشار إليها أعلاه: إحالة القضية إلى مجلس الأمن، ومحكمة العدل الخ..

ثانيا: تنتقل بمختلف الوسائل البحرية والجوية قوات التدخل من الولايات المتحدة إلى قواعد الانطلاق حول الخليج: إسرائيل ومصر السادات وعُمان قابوس.

ثالثا: يكمل شحن القواعد حول الخليج وعلى طريقه بكل ما يلزم التدخل من أسلحة وذخائر ووسائل ومؤن.

رابعا: توضع طائرات وسفن الاتصال، والرصد، والتشويش الأليكتروني في مواقعها الملائمة حول الخليج.

خامسا: تحشّد السفن الحربية والبرمائية في بحر العرب وخليج عُمان، وفي قواعد الإمداد القريبة من الخليج. وهذه الحركة تتوزع على منطقة واسعة في المحيط الهندي. كما أن السفن البرمائية لن تكون كثيرة العدد كحالة جعل التدخل بأجمعه من البحر، مما يقلل من حجم النشاط ويوزعه على عدد من الأمكنة، وبالتالي يقلل من الانتباه إليه.

سادسا: عند إتمام الاستعدادات الآنفة الذكر في مناطق التقرب، وقيام الظروف الدولية والمحلية (التي منها تراخي الضحية) الملائمة للبدء بالعدوان (وذلك بحسب تقدير القيادة العليا الأميركية المتمثلة بالرئيس الأميركي ومجلس الأمن القومي والبنتاغون ومختلف الأجهزة القيادية للتجسس والتخريب) نقول عند قيام هذه الظروف تنطلق أول موجة من طائرات سي-130 محملة بالمعدات اللازمة والفنيين وكتائب الحماية، إلى الصحراء المحيطة بحقول النفط (السعودية مثلا) لإقامة عدد من المهابط على غرار تلك التي مرت معنا أعلاه بعملية "العلم الأحمر" وفي اقل من يومين يمكن أن تتدفق على المهابط المذكورة مختلف قوات التدخل محمولة بأسطول طائرات سي-130 وتكون هذه القوات متمركزة في إسرائيل ومصر وعُمان.

سابعا: تدخل السفن الحربية تتبعها السفن البرمائية (المتواجدة في المياه العمانية والمهيأة للمشاركة في أول موجة للعدوان) مياه الخليج مع انطلاق أول موجة من طائرة سي-130 الآنفة الذكر لإقامة المهابط فتصل أمام السواحل النفطية خلال يومين، وتفرض عليها الحصار.

ثامنا: إن وصول الأسطول البحري إلى مياه حقول النفط يتفق مع أول هجوم للمغاوير والمظليين على الحقول المذكورة ومطاراتها (في السعودية والإمارات) وفي ذات الوقت يتم إنزال برمائي على الساحل لقوات برية تقوم بالاستيلاء على المواقع اللازمة لإتمام محاصرة الحقول وعزلها، وللاتصال بالمظليين المهاجمين للمطارات، كما يقوم طيران الأسطول البحري بتغطية سماء العملية وبدعم أولئك المظليين.

تاسعا: تتوالى موجات التدخل (في أثناء جريان عمليات الاستيلاء على الحقول) على المهابط الصحراوية الآنفة الذكر، لإتمام محاصرة منطقة الحقول وقطعها عن بقية الجزيرة العربية، ولدعم الهجمات على الحقول وتوسيعها، ولتحويل المهابط المذكورة آنفا إلى مجمّع يشكل قاعدة قوية معززة بكل أنواع القوات المحاربة.

عاشرا: يستفيد المعتدون من الأجانب المتواجدين حاليا كخبراء وفنيين وعمال في بلاد النفط كطابور خامس للتخريب والاستطلاع ومساعدة المعتدين، وبالإمكان تجنيدهم عند الضرورة، كما أنهم مفيدون في إعادة تشغيل حقول النفط.

 

  إن عملية إقامة المهابط يمكن أن تجري في تلك الصحراء بعيدا عن الأنظار، وبالتالي يمكنها أن تحقق المفاجأة المطلوبة من العدو. وليكون تحرك الأسطول البحري إلى مياه الخليج لمحاصرة سواحل النفط غير ملفت للنظر حتى لحظة التدخّل، يستمر هذا الأسطول (خلال الفترة الزمنية التي أشرنا إليها أعلاه والتي تفصل بدء الأزمة عن بدء عمليات العدوان) برحلاته ومناوراته الاعتيادية التي كان يقوم بها في مياه الخليج قبل تلك الفترة المذكورة، فيظن المراقب أن التحرك الأخير الذي يرافق العملية "السرية" في الصحراء لإقامة المهابط المذكورة آنفا هو من جملة تلك التحركات السابقة التي لم تنته بالهجوم على حقول النفط.

 

انتهى



  [1]الاستراتيجية العسكرية بإشراف المارشال سوكولوفسكي ص69ع.   

[2]  صرح هيغ وزير خارجية ريجن مؤخرا (معلقا على توصية مؤتمر وزراء خارجية دول عدم لانحياز المنعقد في دلهي بطرد إسرائيل من الأمم المتحدة) بأن وضع هذه التوصية موضع التنفيذ يعرض كيان هذه المنظمة الدولية للخطر، مهددا بهذا بتخريبها.

[3]  قصة الحضارة. ديورانت ج2 ص27 ع.

[4]  الرأي العام من مقال بعنوان:قوة الردع. عدد11/7/1980.

 

[5]  شتّان ما بين من يحمل الصليب ليفدي بنفسه الحق، وبين من يحمله ليزهق به الحق. والصهيونية حملته دوما، كما حملته للسيد المسيح، لتُزهق به الحق.

[6]  بيلاشينكو، قواعد الإمبريالية أداة العدوان ص18-19.

[7]  هدفه أيضا الصلات "الاجتماعية" بين جنرالات البنتاغون وبين رجال الأعمال، وينتج عن هذه الصلات مختلف "الفوائد المادية" للأولين، بالإضافة إلى أكل "طيب" منهم له عمل مجز في مشاريع الاحتكاريين أو في المجالات السياسية، أو التربوية أو غيرها عند تقاعده من الخدمة، ومن أولئك الجنرالات "الطيبين" الجنرال هيغ وزير الخارجية في عهد ريجن..

[8]  عقب اجتماع تاتشر بريغن في أواخر شباط 1981 صرّحت الأولى بأن على بريطانيا أن تساهم مساهمة كبيرة في "قوة الانتشار السريع" وأكدت هذا التصريح في مجلس العموم عندما ردت على الحملة العنيفة التي قامت عليها بسببه، وبينت أن هذه القوة لا تخص الخليج فقط بل العالم بأسره.. إن هذه الذئبة  العجوز المفلسة تحنّ على الأيام الخوالي، فتستعير أسنان ريغن.. الاصطناعية.

[9]  الوطن. 18/4/1980.

[10]  الشرق الأوسط. 7/8/1980.

[11]  الأنباء. عن دير شبيغل 24/7/1980.

[12]  اللواء. 22/8/1980

[13]  الكفاح العربي 11/8/1980 من مقال بقلم السيد محمود عزمي.

[14]  الكفاح العربي 11/8/1980

[15]  القبس 9/12/1980