إسرائيل والمياه العربية

عفيف البزري

1984

 

الإهليلج الخصيب

 

   يتألّف القسم الآسيوي من الوطن العربي:

أولا: من هضبة واسعة تشتمل على البلاد الشامية وما بين النهرين، فتحدّهما من الشمال جبل طوروس، ومن الغرب البحر الأبيض المتوسّط وقناة السويس، ومن الجنوب البحر الأحمر والجزيرة العربية، ومن الشرق الهضبة الإيرانية. ويأخذ سطح الهضبة الشامية ـ العراقية على العموم ميلا يسير من الشمال غرب إلى الجنوب شرق. وفي غربي هذه الهضبة يمتد انهدام كبير يتجه باتجاه شمال جنوب ويؤلف وديان العاصي والليطاني والأردن ووادي عربة الذي يتّصل بانهدام خليج العقبة. وينخفض هذا الانهدام عند بحيرة لوط إلى أكثر من أربعمائة متر عن سطح البحر، وهو أشد انخفاض في العالم. كما يمتد انهدام آخر في شرقي الهضبة، يوازي الأوّل، ويشكّل وادي الرافدين، وهو ينتهي عند شط العرب حيث يتصل بانهدام الخليج العربي. ويلاحظ أن مكامن النفط تتوضّع على طول الانهدام الأخير: من جزيرة ابن عمرو، إلى الموصل ـ كركوك، فالبصرة، ثم منطقة الخليج العربي. كما أنه غير بعيد عن جنوب الانهدام الآخر، في سيناء، وخليج السويس، والبحر الأحمر، ومنطقة الغردقة في مصر. نجد أيضا مكامن غزيرة للنفط. مما يقوي احتمال قيام الهضبة الشامية العراقية، مع شبه الجزيرة العربية، على محيط من النفط.

 

ثانيا: الجزيرة العربية.

 

  إن هاتين المنطقتين تتكاملان وتشكلان كتلة جغرافية واحدة. فالهلال الخصيب الذي يحيط بالأولى، ويقوم حول وديان: الأردن، والليطاني، والعاصي، ثم وادي الفرات والدجلة، يتّصل بهلال آخر معكوس يحيط بالجزيرة العربية، فيسير في أراضي الحجاز واليمن في الغرب، ثم يستدير في جنوب الجزيرة إلى أن يصل إلى عُمان، ويصعد شمالا في بلاد الخليج. ومناطق هذا الهلال هي الآهلة بالكثافة السكانية، وإذا كان فرعاه في الشمال قليلي الأمطار، فإن أقسامه الجنوبية، في حضرموت واليمن (اليمن وعُمان) تقع في إقليم الأمطار الموسمية الغزيرة. ويشكل هذان الهلالان، الهلال الخصيب وهلال الجزيرة العربية، في الواقع، إهليلجا خصيبا تقع فيه كثافة السكان، وهو يحيط بالصحارى العربية: الربع الخالي، والنفوذ الكبرى، والشامية، والجماد (أرض المراعي لا تنقصها إلا المياه لتكون صالحة للزراعة، وفيها الرصافة وتدمر والقريتين والقلمون).

 

  وقد توضّعت المدنيات الإنسانية الأولى (إلى جانب مدنيات الهند والصين) على هذا الإهليلج الخصيب، وفي وادي النيل، خلال آلاف السنين، بمختلف أوجه نشاطاتها المادية والروحية، فكان دوما (ولا يزال) بموقعه يشكل مفترقا للطرق العالمية ومنطقة للثروات. أما الإمبراطوريات القديمة لمنطقة البحر الأبيض المتوسط، فكانت تقوم فيه وفي وادي النيل، أو أنها كانت تنجذب إلى هاتين المنطقتين. وعندما كانت واحدة منها تنشأ خارجه في البدء، فإنها كانت سرعان ما تنجذب إليه وإلى وادي النيل، لوقوع مركز ثقل الثراء والتقدم المادي عليهما: تركت مثلا الإمبراطورية اليونانية موطنها الأصلي بلاد اليونان المتطرفة، لتقوم في سورية والعراق ومصر. أما الإمبراطورية الرومية، الأكثر تطرفا في موقعها عند نشأتها، فإنها لم تعش في إيطاليا كإمبراطورية أكثر من خمسة قرون، ثم انجذبت نحو الشرق (نحو مركز الثقل) إلى القسطنطينية حيث استمرت بيزنطة اثني عشر قرنا.

 

  وكانت الحركة العامة للأقوام، في هذه المنطقة، أو المنجذبة إليها، تدور على الإهليلج الآنف الذكر. كما كانت وديانه وسهوله الخصبة طرقا للقوافل، وجيوش الغزو الكثيفة. وقد وقعت عليه معظم المعارك التاريخية الحاسمة. كما خرجت منه دعوات التوحيد، وكان المنطلق لإقامة دار الإسلام، العقد الوسيط بين مشرق الأرض ومغربها، وموطن الحضارة التي لا تميز بين الناس، موطن الحضارة الحقة.

 

  وفلسطين هي بوابة الإهليلج الآنف الذكر، بالإضافة إلى أن موقعها يفوق موقع أي قطر من أقطاره. وما كان من الصدف أن بلغ الفينيقيون في صيدا وصور ما بلغوه في صناعتهم وتجارتهم، ومن الغنى، فقد كانوا في الواقع يستندون إلى فلسطين، "أرض اللبن والعسل"، بما كان ينصبّ فيها من الثروات التي جملتها القوافل من مشرق الأرض ومغربها، برّها وبحرها، على طرقات وثغور الإهليلج الخصيب. وهي أيضا بوابة وادي النيل على آسيا. أما اليوم فهي البوابة على أرض الاحتياطي العالمي للنفط محرّك حضارة العصر. وقد أرسل إليها المستعمرون مرتزقتهم الصهاينة ليغتصبوها من أهلها ويقيموا فيها إسرائيل، كامتداد للنظام الرأسمالي الاحتكاري العالمي، ثم غدت ذراعا للدولة العبودية العالمية، الولايات المتحدة الأميركية، ممتدة إلى منطقة النفط، في الإهليلج الستراتيجي الخطير المذكور. وهذه القاعدة الدولة يجب أن "تنتفخ" لتوازن (العرب) الذين تتنامى قواهم بمرور الأيام وتوالي تجاربهم (وإن كانت مُرّة).  ويجب أن تجعل من تصاعد حاجاتها إلى المعونات، بتصاعد عدد المرتزقة فيها، أمرا محتملا يطيقه المستعمرون ولا يؤدي إلى ضيقهم بها.  فأول ما هي بحاجة إليه من الأراضي التي تستمر بسلبها من أصحابها العرب، بل قبل هذه الأراضي، هو الماء.  إنه ضرورة ملحّة لحاجتهم الخاصة ولاقتصادهم الذي يخططون له كي يكون اقتصادا صناعيا متقدما. فالصناعة كالزراعة لا تقوم إلاّ بالماء، وخاصة منها الصناعة البلاستيكية الحديثة التي أصبحت تأخذ حجما يبلغ ثلثي حجم الصناعة الحديثة.  لذلك وجدنا الصهاينة، منذ وقت مبكر من قيام حركتهم يخططون لحرمان العرب من مياههم، بالإضافة إلى العمل على التوسّع في أراضيهم.  فكل ينبوع ماء عربي يدلنا بدون خطأ على الاتجاه المقبل للعدوان الإسرائيلي.  فضمّ الجولان، وسلسلة المستعمرات والمواقع التي يقيمونها في الأغوار على الأردن، وبدئهم بضخ مياه الليطاني إلى الأرض المحتلّة، كل هذا من مخططهم العام الذي لن يقف حتى يخرجوا من فلسطين، أو يحرمونا من مياهنا، وبالتالي من وجودنا كأمّة.