إسرائيل والمياه العربية

عفيف البزري

1984

 

تحويل نهر الأردن إلى النقب

 

  إن منطقة النقب لا تقل خصوبتها عن خصوبة وادي النيل عند توفر الري الكافي لها.  فهي أرض بكر يكثر فيها الندى وتهطل عليها زخّات المطر سنويا، وتوجد فيها المياه الجوفية.  وقد دلّت التجارب على أن القطن والحبوب ونباتات المناطق الحارة بصورة عامة تعطي نتائج مدهشة في أراضي هذه المنطقة عند توفر الري الكافي. فإذا تمكن الصهاينة من إتمام مشاريعهم الحالية لري هذه المنطقة، فإن مضاعفة إسرائيل وإيصال عدد سكانها إلى الخمسة أو الستة ملايين مرتزق يهودي يصبح أمرا واقعا، وهذا ما يسعى إليه الاستعمار الأميركي بصورة دائمة.

 

  إن مشروع الري الإسرائيلي القائم على مياه وادي الأردن، والموجه إلى النقب، عن طريق السهل الساحلي يقوم على اعتبار أن بحيرة طبريا خزانا ضخما للمياه، وغورا عميقا لتوليد الكهرباء، وحوضا هائلا لتربية الأسماك.  وهو يقع ضمن المخطط التالي الذي يصر الصهاينة على تنفيذه بحذافيره، خطوة خطوة، منذ أن وضعوا أنفسهم بخدمة الاستعمار الرأسمالي الاحتكاري حتى يومنا هذا:

 

أولا: إنشاء جملة ري في سهل الحولة، بعد تجفيف بحيرتها، تعتمد على مياه الحاصباني وبانياس، و دان ودفنة، بانتظار وصول مياه الليطاني من بحيرة القرعون عندما تسنح الفرصة (كما سنحت في أعقاب حرب 1967 التي انتهت إلى سيطرتهم على مصادر مياه الأردن في سوريا).  وتتكون هذه الجملة من قناة التحويل الرئيسية لنهر الأردن (التي قطعت المياه عن بحيرة الحولة المجففة) ومن عدد من الأقنية الأخرى التي تتفرع من قناة التحويل ومن قناتين أخريين: الأولى تساير سفوح المرتفعات الغربية لسهل الحولة، والأخرى تساير مرتفعاته الغربية. وتلتقي الأقنية الثلاث المذكورة قرب المخرج القديم لنهر الأردن من بحيرة الحولة.

 

ثانيا: حفرت على بعد كيلومترين إلى الجنوب من جسر بنات يعقوب قناة تحويل تساير تقريبا خط الارتفاع 70 متر عن سطح البحر، وتسير فيها المياه بالراحة نحو المرتفع المطل فوق قرية الطابغة على بحيرة طبريا. وكان الإسرائيليون، في الأيام التي كنا نمنعهم من إتمام مشروعهم لحفر قناة التحويل المار ذكرها أعلاه، قد أقاموا منشآت كهربائية تعمل بالنفط عند الطابغة لضخ مياه بحيرة طبريا إلى خزان قرب عيلبون.  وبعد وصول مياه نهر الأردن إلى ذلك المرتفع المطل على الطابغة أصبح بالإمكان إقامة جملة كهربائية بدلا من تلك التي كانت تعمل بالنفط، وذلك بالاستفادة من سقوط جزء من المياه المذكورة عبر تلك المنشآت التي كانت تصعد بها مياه البحيرة بالمضخات إلى خزان عيلبون*[1]. أما القسم الآخر من مياه الأردن فإنه يتجه بالراحة نحو ذلك الخزان.

 

ثالثا: تستخدم القوة الكهرمائية الآنفة الذكر لتقوية شبكة المنطقة ولضخ مياه خزان عيلبون إلى سهل البطوف، حيث تنقلها الأنابيب عبر السهل الساحلي إلى النقب.

 

  إن مشروع نهر الأردن النقب صمم بحيث يشكل العمود الفقري لجميع مشاريع الري الإسرائيلية، لتتصل به كل مشاريع الري الأخرى تقريبا: مشروع الجليل الغربي، ومشروع بيسان ومشروع البركون (نهر الأعوج) فيمد هذه المشاريع بالماء الصالح للزراعة والصناعة والاستهلاك الشخصي عند الحاجة، ويأخذ منها الفائض إلى النقب عندما يكون فيها فائض. وقد نشرت الهيرالد تريبيون في كانون أول عام 1962 تحقيقا لمراسلها في تل أبيب حول تحويل مياه نهر الأردن إلى النقب.  فقال المراسل أن هذا المشروع سييسر لإسرائيل إرواء 75 ألف هكتار جديد من أراضي النقب، أي زيادة الأراضي المروية الإسرائيلية بمقدار 50%  ومتوسط حاجة الهكتار الواحد هناك في الموسم هو عشرة آلاف متر مكعب فيكون مجموع ما يجب توفيره لهذا الغرض بمشروع تحويل نهر الأردن هو 750 مليون متر مكعب سنويا.

 

رابعا: قلنا أن إسرائيل لا تريد فقط  "دعم" مياه نهر الأردن ببعض مياه الليطاني، وإنما تهدف إلى الاستيلاء على مياه هذا النهر بكليتها، مع إلغاء كل المشاريع اللبنانية عليه، تماما كما فعلته في سوريا عندما اغتصبت الأرض والماء.  وأفضل خزان للماء للمشروع الإسرائيلي هو بحيرة القرعون.  فبالإمكان أخذ قناة من هذه البحيرة إلى منطقة "يجمر البقاع" ثم تساير هذه القناة جبل "بير الضهر" دون أن تفقد من ارتفاعها عن سطح البحر إلا بالمقدار الذي يسمح بجريان الماء بالراحة. وعند منطقة "قلية" تتفرع إلى فرعين: فرع يكمل التفافه حول جبل "بير الضهر" لينتهي إلى نقطة يصب منها في الحاصباني الذي يأخذ مياهه إلى الأردن فيزيد في غزارتها.  وهذا أمر يسمح بزيادة حصة طبريا من المياه المنصبة عليها من المنشآت القائمة فوق الطابغة لتوليد الطاقة الكهربائية.  فإذا أضفنا إلى هذا سيول الشتاء التي تصب في هذه البحيرة نجد أنها بهذا تحافظ على منسوبها الأصلي الذي كانت عليه قبل تحويل نهر الأردن، وعلى عذوبة مياهها.  أما الفرع الآخر فيمكن أن يتجه، وهو يحافظ على ارتفاعه عن سطح البحر ما أمكن ( مع ترك انحدار بسيط عام يسمح بجريان الماء بالراحة)، نحو مناطق كفركلة، وميس الجبل، والمالكية، وميرون حيث يلتف حول كتلة مرتفعات الجرمق الفلسطينية ليصل في النهاية إلى منطقة مجد الكروم، فسهل عكا.  ثم ينحدر من هذا السهل إلى الجنوب ليلتقي بخط مياه نهر الأردن الذاهب إلى النقب.  وهنالك إمكان آخر هو الوصول إلى سهل البطوف.  ولكن هذا الطريق غير مفيد كالسابق الذي يمر في قلب الجليل الشمالي ويتصل بسهولة بمشروع ري الجليل الغربي.  ونرى بالإمكان توفير كل الأعمال الآنفة الذكر بسوق مياه الليطاني المحمولة كلها إلى وادي الحاصباني، دون توزيعها على الفرعين السابقين ثم إن الصهاينة يوفرون كل الدراسات اللازمة لأعمالهم الآنفة الذكر "بنهب" الدراسات اللبنانية لري الجنوب*.[2]  وتعديلها قليلا لحرمان هذا الجنوب من مياهه وأخذها إلى الأراضي المحتلة وبناء مستعمراتهم فيها.  وقد لحظت الدراسات المذكورة منسوبا للري يصل إلى ارتفاع 850 مترا عن سطح البحر.  فنجد إذن أن وصول مياه الليطاني إلى النقب عن طريق أراضي الجليل الأعلى ليس فقط ممكنا، وإنما أيضا يتيح لإسرائيل توليد كميات كبيرة من الطاقة الكهربائية على طول مسار المياه.

 

خامسا: رأينا أن الأردن كان وما يزال محط أطماع الصهاينة.  وقد عودنا هؤلاء الأعداء دوما على تنفيذ غاياتهم حسب مراحل تتناسب مع ظروفهم القائمة.  فبدؤوا  مثلا بوطن قومي يسمح لهم ظاهريا فقط بالهجرة إلى فلسطين.  ثم انتقلوا إلى اخذ قسم من فلسطين.  ثم كلها مع الجولان.  ثم الجنوب اللبناني.  والآن يشددون على أن الأردن هو وطن الفلسطينيين، ويقولون: إذا كان الفلسطينيون يريدون العودة إلى وطنهم، فما عليهم بحسب زعمهم إلا أن يعودوا إلى الأردن... وفي ذات الوقت يتمسكون بالضفة الغربية ويكثفون المستعمرات فيها، ويعملون على خنق الحياة العربية هناك بمختلف مظاهرها، لإجبار أهلها العرب على مغادرتها، وهم يأملون في تهجيرهم عنوة في يوم من الأيام إلى القطر الأردني.  فالحاضر ليس إلا مرحلة إعداد لما هو مقبل، تماما كما وقع للضفة الغربية التي شكلت فيما مضى "حصة" مؤقته لشعبنا الفلسطيني، ثم أتى الوقت الذي أصبحت فيه بنظر العدو الصهيوني جزءا "من ميراثهم" الوهمي.  فالحجة التي يطرحها الصهاينة اليوم بان الأردن هو وطن الفلسطينيين "إفراغ الضفة الغربية من العرب فيه", تصبح في المستقبل لوضع اليد على هذا القطر عندما تحين الفرصة الملائمة.  أليست فلسطين كلها من ميراث هؤلاء الخزر المرتزقة بحسب وعود المستعمرين الرأسماليين الاحتكاريين؟  وعندئذ يشرد شعبنا مرة أخرى ( من الأردن هذه المرة) إلى ما بين النهرين، كما اقترح لودرميلك عندما وضع مشروعه الذي استعرضناه فيما سبق من البحث.  أما مشاريع المياه المنفاة أو المدروسة، التي هي اليوم "مفيدة" في تثبيت المشردين القدماء والجدد في الأردن.  فإنها ستكون بنية الصهاينة غنائم لهم، كما سيصبح مشروع الليطاني غنيمة لهم عند تثبيت وجودهم في الجنوب اللبناني.

 

  ويخطر في البال السؤال التالي: ما دامت سياسة الصهاينة وأهدافهم هي إحلال مرتزقتهم مكان العرب في الأراضي التي تقع بأيديهم، فلماذا إذن يصرون على تحويل مياه هذه الأراضي إلى النقب (تحويل المياه اللازمة مثلا لإرواء الجنوب اللبناني، أو لإرواء الضفة الغربية في فلسطين أو ما شابه إلى النقب)؟  والجواب هو أن هنالك مياها كافية لكل البلاد الشامية بما فيها النقب بتنظيم الري.  ولكن الصهاينة في مشاريعهم يؤدون مهاما بعيدة كل البعد عن كل أمر إنساني.  فهم قبل كل شيء مغتصبون لأوطان غيرهم، ويعملون كمرتزقة في قاعدة للنظام الرأسمالي الاحتكاري العالمي.  وسيناء مع النقب وجنوب القطر الأردني (من محافظة معان حتى العقبة) تشكل حاليا موقعا استراتيجيا من الدرجة الأولى في المخططات العالمية للإمبريالية الأميركية.  وستشكل في المستقبل (إلا إذا تخلصت مصر من محنتها الحالية وطردت حكامها الخونة) مجمعا لقواعد مختلف الأسلحة البرية والبحرية والجوية التي لا مثيل لها في العالم.  ومزايا هذا المجمع هي أنه:

1. قريب من الاتحاد السوفييتي، فهو لا يبعد عن المناطق الصناعية الروسية في القوقاز، والأورال، وقزوين، بأكثر مما تبعده أوروبا الغربية عنها، بل هو أقرب منها إلى تلك الأهداف في أغلب الحالات.

2. لا توجد في هذه الأراضي كثافة سكانية، كما في أوروبا، الأمر الذي يخلق لقواعدهم في العادة هناك مشاكل سياسية. أما المرتزقة اليهود في النقب فإنهم هنا من أجل مثل هذه الأغراض التي تخدم الإمبريالية الأميركية.

3. غني بالمواقع الحصينة، لا سيما في المنطقة الجبلية الأردنية.

4. تقوم عليه حاليا مطارات عالية التجهيز، وموانئ حديثة، فهو مهيأ منذ الساعة للاستخدام العسكري.

5. يقع على طرق المواصلات العالمية: البرية والبحرية والجوية، بين الغرب الرأسمالي، وبين كل من آسيا وأفريقيا.

6. يقع على مقربة من احتياطي النفط العالمي في الخليج.

7. يتضمن هو بذاته حقولا نفطية في سيناء والبحر الأحمر كافية لحاجاته.

 

  فهذا المجمّع العسكري الهائل، الذي تقيمه أميركا حاليا هنا، هو الامتداد القوي لهذه الدولة العدوانية في منطقتنا. وهو موجه ضد أمن ومصالح كل الشعوب القاطنة في المشرق العربي، والقارة الهندية، وشرق أفريقيا، والاتحاد السوفييتي. وبتمام قيامه يصبح الظهير القوي لإسرائيل الذي يمدها بكل ما يلزمها من أسلحة وعتاد ومحروقات (من الخليج العربي طبعا) دون الحاجة للجسور الأميركية التي تأتي من الولايات المتحدة إلى إسرائيل عبر القواعد المنتشرة على هذا الطريق.

 

  ومثل هذه القاعدة الهائلة بحاجة ماسة إلى الكميات المشار إليها أعلاه من المياه. وليس هذا فحسب، فقرار نظام السادات بتحويل بعض مياه النيل إلى سيناء هو قرار أميركي في الأصل ويهدف إلى هذه الأغراض: إن حشود الآليات، والجيوش، بالإضافة إلى السكان الذين يقومون بمختلف الخدمات في تلك القواعد العسكرية، مع ما تهدف إليه الصهيونية من تكثيف هجرة مرتزقتها إلى النقب، الذي ستزدهر فيه أعمال الارتزاق*،[3] كل هذا يضاعف من حدة معركة المياه التي خضناها ونخوضها ضد العدو حتى اليوم، ويضاعف من شراسة هذا العدو الذي ما هو في الواقع إلا قناع للعدو الأصلي الولايات المتحدة الأميركية.



[1]  يزيد الارتفاع الذي تسقط فيه المياه لتحريك عنفات المولدات الكهرمائية على 260 مترا، مما يسمح بالحصول على ثلاثة أرباع الكيلوواط ساعي من كل متر مكعب يسقط من هذا الارتفاع. وهذه طاقة كبيرة.

[2]  عُهد بالتنفيذ لدراسات تنمية وادي الليطاني إلى شركتين أميركيتين، الأولى بارسونز من لوس أنجلوس، والأخرى هارزا من شيكاغو. فليس هنالك إذن أية صعوبة أمام الصهاينة للحصول على كل تلك الدراسات لا سيما منها مخططات تحويل الليطاني.

[3]  لإعداد هذه المنطقة أرضا للعدوان تنهال ملايين الدولارات الأميركية منذ اليوم لتنفق في المشاريع الواسعة الضخمة لهذا الإعداد. ثم إن وجود تجمعات عسكرية كبيرة هناك يولد سوقا استهلاكية والصهاينة مشهورون تاريخيا بالسبق إلى مثل هذه الأماكن.