إسرائيل والمياه العربية

عفيف البزري

1984

 

التسابق إلى منابع المياه

 

  قلنا أن المقاومة العربية لمشروع جونستون، بكل أشكاله وتعديلاته، كانت تشتد كل يوم، مع اشتداد وضوح الهوية الأميركية كهوية عدو غادر أين منه أولئك المستعمرون القدماء الذين بدوا إلى جانبه، في قهرهم للإنسان وجبروتهم الماضي، كأقزام يثيرون السخرية (كما تثيره مثلا حاليا بريطانيا "العظمى سابقا" تجاه جنرالات الأرجنتين) وكان العالم العربي يغلي بالثورات ضد المستعمرين (من أقصى مغربه إلى أقصى مشرقه) ضد جميع مشاريعهم التي تأتي مشاريع المياه الأميركية لخدمة إسرائيل في مقدمتها.  وكانت المقاومة أشد ما تكون عليه في سوريا وبين الجماهير الفلسطينية.  وما انفك الأميركان عن التدخل في شؤون سوريا الداخلية، وعن حبك المؤامرات ضدها لقطع الطريق على كل حكم يسمح للجماهير فيها "بالتنفس" بشكل طبيعي.  وعندما قام حكم الجبهة الوطنية قاموا باغتيال الشهيد عدنان المالكي.  ولكن رد الجماهير السورية كان حاسما لم يترك لأميركا (أو لغيرها من رؤوس النظام الاستعماري العالمي) أي مرتكز داخلي تتكئ عليه لإنجاح واحدة من السلسلة التي ما انقطعت لمؤامرتها.  ومن الواضح تماما أن تلك الظروف "أنست" أميركا تماما مشروع جونستون وأمثاله من مشاريع، في الوقت الذي انصب كل اهتمامها في المنطقة على السعي إلى تحطيم وتشتيت مقاومة الجماهير في سوريا التي كانت تُنعت عالميا باسم "جزيرة الخضراء للحرية" ثم إن سقوط المشروع في القطر العربي السوري، الذي كان يشكل الطرف الأساسي فيه، يسقطه نهائيا.  ذلك لأن المدافع السورية كانت تمنع مرور قناة التحويل من الأراضي المجرّدة، كما كانت تمنع تحويل النهر جنوب جسر بنات يعقوب نحو خزان البطوف، التحويل الذي ذكرناه آنفا والذي يقطع المياه عن أراضي البطيحة السورية.  وهنالك نهر بانياس أحد الفروع الأساسية لنهر الأردن ينبع في سوريا. أما نبعي دان ودفنة، قرب الحدود السورية، فتغذيهما عروق تأتي من منطقة مسعدة في الجولان*.[1] فيمكن إذن تحقيقهما بحفر جملة من الآبار الارتوازية في هذه المنطقة باتساع كاف على السطح وفي الأعماق.  وهذا مشروع مكلف بلا ريب، ولكنه لا يُقاس بما يوقعه العدو الأميركي وإسرائيل بنا مباشرة، من خسائر في شبابنا وأرضنا وثرواتنا التي يأتي النفط في رأسها.  وبالإمكان أيضا فعل ذات الشيء لرفع نبع بانياس إلى ارتفاع أراضي مسعدة.  وجمع كل المياه الحاصلة من مجمل هذه العملية بنظام واحد للري على هضبة الجولان (يتضمن السدود لتخزين مياه السيول الغزيرة في الشتاء) تروي مياهه الأراضي العربية من هذه الهضبة حتى منابع الزرقاء في الأردن، مرورا بحوران.  فما يمكن جمعه يمثل هذا النظام، حسب ما مر معنا أعلاه من إحصاءات، يزيد بسهولة على خمسمائة مليون متر مكعب سنويا.

 

  ولا بد لنا من أن نلاحظ أن قيام بحيرة مسعدة على تلك القمة الواقعة في سفح جبل الشيخ، وعلى الخط المائي لينابيع بانياس ودان ودفنة، يعطينا دلالة على أن مستودعات المياه الجوفية التي تغذي تلك الينابيع طوال العام لا بد من أن تكون على ارتفاع أعلى من القمة المذكورة.  وبالتالي فإن مياه الآبار الارتوازية المشار إليها آنفا يمكن إصعادها بتدابير هندسية ملائمة إلى السطح (كمياه بحيرة مسعدة) دون الحاجة إلى مضخات مكلفة.

 

  ونقول إذن أن الموقف السوري أسقط نهائيا مشروع جونستون. فقام ظرف جديد تتلخص خطوطه بما يلي:

ـ استمرت سورية بمنع إسرائيل (بالقوة عندما كان الأمر يستدعي ذلك) من إنجاز عملية التحويل لنهر الأردن إلى النقب.  ولكنها بسبب ظروف عربية، ولعدم توفير رؤوس الأموال اللازمة عندها، لم تتمكن من إنجاز تحويل مجرى نهر الأردن من منابعه، بالشكل المبين أعلاه (أو بأي شكل هندسي آخر).  ونحن نعتقد جازمين أن الظرف كان مناسبا لتلك العملية حينذاك، وعلى الأخص بعد هزيمة العدوان الثلاثي على مصر.

ـ قرر المجلس النيابي اللبناني الاستفادة من مياه الحاصباني في ري أراضيه، وكانت "الدراسة" للاستفادة من الليطاني في ري البقاع والجنوب جارية، ولكن من قبل شركات أميركية.  وقد سبق أن أعطينا فكرة كافية حول هذا الموضوع فيما يلف من البحث.

ـ كان الأردن يسعى إلى إقامة مشاريعه لري الأغوار والضفة الغربية من اليرموك والزرقاء، وسنعود إلى هذا الأمر فيما يلي من البحث.

ـ استمرت إسرائيل في إنجاز مشاريع الري الداخلية: مشروع التحويل إلى النقب بالعمل في المناطق البعيدة عن مرمى المدافع السورية، ومشروع الجليل الغربي، ومشروع اليركون ـ النقب. وهكذا دام الحال إلى أن سنحت له الفرصة للانقضاض على مصادر مياه نهر الأردن في سوريا من جهة، وللوصول إلى الليطاني بعد ذلك من جهة أخرى.

 

  ولنحاول فيما يلي رسم الخطوط العامة للنشاط المائي في الأردن أولا، ثم للأحداث التي سبقت انقضاض إسرائيل على مصادر المياه في سورية، حيث نتبين جيدا ما قلناه أعلاه من أن ينابيع الماء حول فلسطين تحدد لنا الستراتيجية الصهيونية في التوسع في وطننا العربي.



[1]  كنا قد قمنا بتجارب بإلقاء كميات من المواد الملونة في بحيرة مسعدة فتغير لون الماء في نبع دان الذي هو أكثر ينابيع الأردن غزارة بعد اليرموك.