إسرائيل والمياه العربية

عفيف البزري

1984

 

مشاريع الري الأردنية

 

  أشرنا أعلاه أكثر من مرة إلى ارتباط مسألة الري في القطر الأردني بمسألة النازحين إلى هذا القطر من فلسطين.  كما أشرنا إلى مزاعم إسرائيل بامتداد فلسطين لتشمل أراضي الأردن، وقلنا أنها بهذه الحجة تحاول دوما تثبيت الفلسطينيين هناك لسد طريق عودتهم إلى  ديارهم التي سلبوها منهم.  وقد مارس الصهاينة هذه السياسة منذ أنقام كيانهم في إثر نكبة عام 1948.  وكان الأميركان، بمختلف أساليبهم الماكرة، يعملون على فتح السبل أمامهم لمساعدتهم على إنجاح مخططاتهم هذه.  فالعضو الأميركي مثلا في "لجنة التوفيق الدولية" لفلسطين، التي أسستها الأمم المتحدة (في الواقع) بأمر من الولايات المتحدة الأميركية لتصفية كل مطمح للعرب بالعودة إلى ديارهم السليبة، تحت ستار تنفيذ مقرراتها التي من جملتها "عودة اللاجئين إلى ديارهم" المذكورة، نقول أن العضو الأميركي مارك أترايدج تظاهر أمام هذه اللجنة، في جلساتها الأولى التي كانت تعقدها في لوزان "بالغيرة الشديدة" و "الشفقة" على اللاجئين. و"سبق الأردن" بالتذكير بالأهمية الحاسمة للمياه في موضوع إسكان الفلسطينيين المهجرين.  وأخذ ينصح الوفد الأردني بإدخال قضايا الري والمياه بين مطالبه، وعدم التفريط بحقوق بلده الأردني بالمياه*[1] ( ما شاء الله... إن أميركا تبلغ القمة في التهريج والمكر عندما تتقنّع بقناع الدفاع عن حقوق الإنسان الذي تذبحه كما يذبح جزّار اليهود البقر بعد أن يبرئها من العيوب.)

 

  واقترح في تلك الأيام "والبول"، مدير مصلحة المساحة في عمّان، تأسيس هيئة على غرار "هيئة وادي التنيسي" (التسمية التي ترددت في مشروع لودرميلك، "والمشروع الأزلي" لنهر الليطاني وغيرها من مشاريع الري في منطقتنا، وكأن هذه الهيئة الأميركية التي تعثرت أعمالها عقودا طويلة من السنين*[2] فاقت بها تعثر أعمال ري الليطاني "بتناطح" الاحتكارات والرشاوى، هي المثل الذي يجب أن يُحتذى به...) وقدّم والبول المذكور مشروعا للتنمية الزراعية على غرار مشروع سابق "لشركة التنمية العربية" التي كان يرأسها موسى العلمي، من ناحية تنظيم ري القرى والمزارع، وإقامة الصناعات الخفيفة، ولكنه يقتصر فقط على إنشاء قناة واحدة للاستفادة منها في شرقي النهر دون غربيه، خلافا لما ورد في مشروع "شركة التنمية العربية" المذكورة.

 

  وفي خريف عام 1949 انهمكت "اللجنة الاقتصادية" في الأمم المتحدة، و "لجنة التوفيق" لفلسطين في دراسات تنموية تقوم على الري باستخدام وادي الأردن، وكان ذلك بغرض الإسراع في "تثبيت" اللاجئين الفلسطينيين أينما وُجدوا حول فلسطين، وخاصة في الأردن.  فأتت مثلا لجنة فنية فيها مهندسان من "هيئة وادي التنيسي" برئاسة غوردون كلاب، ووضعت تقريرا (تقرير كلاب الشهير) يتناول مسائل التنمية في منطقة الأقطار الأربعة: سورية وفلسطين والأردن ولبنان، وهذه الأقطار عدا إسرائيل هي الأقطار التي كانت وما تزال موطن من هجر من أهلنا من فلسطين.  ويتناول هذا التقرير على الأخص مسألة التنمية الزراعية في القطر الأردني الذي تلقى أكبر كثافة من المهجّرين.  فاقترح مشروعا لري الأراضي في شرقي النهر وغربه.  ويعتمد الري في الشرق على نهر اليرموك. أما ري الضفة الغربية فيعتمد على خزّان ماء ينشأ في بيسان المحتلة من قبل إسرائيل، وتغذيه قناة تأتي من طبريا.  وهذا ما ينطبق على مشروع هايز الصهيوني الذي سبق أن ذكرناه، وعلى الأخص فيما يتعلق منه بخزان بيسان وقناة الري من طبريا القائمين حاليا في "مشروع ري بيسان" الإسرائيلي المشار فيما سبق من البحث.  وقدمت التقارير والدراسات، التي منها تقرير "كلاب" الآنف الذكر، إلى الأمم المتحدة. فأقرت الجمعية العامة، بتاريخ 8 كانون الأول 1949 الحل الأميركي لكل المسائل المطروحة في التقارير المقدمة، وهو تأسيس "وكالة غوث اللاجئين، الأونروا" وكان هذا بدلا من إرغام إسرائيل على إعادة الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني.

 

  وقامت عدة مشاريع ودراسات قبل وأثناء عرض مشروع جونستون الشامل لفلسطين وما حولها من أقطار عربية ترتبط بوادي الأردن، مثل مشروع "مردوخ مكدونالد" ومشروع "بونجر" وغيره. ولكن تلك المشاريع والدراسات انهارت جميعها، لأنها في الواقع ما كانت إلا مسكنات لا تتضمن ما احتواه مشروع جونستون من تشارك بين العرب وإسرائيل على تنمية وادي الأردن (بمعنى الوادي الذي فصلناه أعلاه) بحيث تكون في هذه الشركة لإسرائيل التي تقف أميركا وراءها.  إلا أن انهيار ذلك المشروع الاستعماري أمام مقاومة الجماهير السورية والفلسطينية أعاد مسألة المياه إلى نقطة البدء.

 

  في السابع من آذار 1958 بعث مراسل النيويورك تايمز فوستر هايلي رسالة من العدسية يقول فيها*[3]: "لما كان من غير الممكن طبخ كل قطعة الحلوى مرة واحدة فلا بأس من أن يترك جزء منها مؤقتا إلى الأردن". فالمشروع الأردني القائم على الاتفاق المالي المعقود بين الولايات المتحدة والأردن في صيف عام 1957، تمم فيما يتعلق بمشروع الري باتفاق وقع في عمّان في 31 أيار 1958 بين النقطة الرابعة الأميركية وبين مصلحة التنمية الأردنية.  وبموجب هذا الاتفاق تقوم سلطة "قناة الغور" الشرقية المكلفة بصفة وزارة بكل الأعمال المتعلقة بالقناة المذكورة*.[4]

وقد صدر قانون خاص للسلطة الآنفة الذكر في 8/8/1962. ويتكون هذا القانون من 21 مادة موزعة كما يلي:

1-     التعاريف والمبادئ.

2-     ارتباط سلطة القناة برئيس الوزراء، وهيكل هذه السلطة، وصلاحياتها، ومهامها.

3-     تعيين الوحدات الزراعية، وشكل ملكيتها، وكيفية الاستفادة منها، وشكل ارتباطها بسلطة القناة.

4-     القواعد العامة لمختلف الإنشاءات والنفقات.

5-     العلاقات المالية والإدارية بين سلطة القناة والدولة.

6-  إلغاء القانون السابق للقناة مع إيقاف مفعول كل قانون آخر يتعارض مع هذا القانون، وذلك في مجال تطبيقه.

 

  وبدأت الأعمال في 4 آب 1958، بناء على دراسة قام بها مهندسون من "الفاو" فتأخذ القناة بموجب هذه الدراسات، مياهها مباشرة من اليرموك على بُعد أربعة كيلومترات من العدسية إلى جهة النبع، وذلك دون الحاجة إلى إقامة سد على النهر، للارتفاع النسبي لمجراه عند مأخذ القناة.  وتقع نهاية القناة على بعد بضعة كيلومترات إلى الشمال من البحر الميت.  وقد لوحظ في المشروع إنشاء سيفون عند نقطة تقع إلى الشمال من وادي الزرقاء لنقل مياه الري، بالمرور بنفق تحت النهر يقع في منطقة جسر دامية، إلى أريحا لري الصفة الغربية وذلك بعد إقامة السد على اليرموك.

 

  إن تربة الأغوار ممتازة، ويمكنها أن تعطي ثلاثة مواسم في السنة في حال توفر الري لها.  وقد أجّرت شركة "هارزا الهندسية" الأميركية فحوصا للتربة بغاية تقدير المياه اللازمة لري وحدة المساحة لها.  كما نظمت مخططات لأعمال الري بمقياس واحد من خمسة آلاف.  وهنالك مشروع متمم لمشروع القناة وهو مشروع الأودية الجانبية لإقامة السدود لتخزين مياه السيول*.  وفي نهاية الأمر جرى اتفاق بين سوريا والأردن لإقامة سد على المقرن السورية، عند التقاء الرقاد باليرموك، لتوليد الكهرباء والري.  والمشروع هنا يقوم على دراسة بونجر المار ذكره. وكانت النقطة الرابعة قد تبنته في عام 1953، ثم انهار مع المشروع العام لهذا الخبير لفسح المجال لمشروع جونستون.  وأخيرا عاد إلى الحياة ونُفّذ.



[1]  ورد خبر هذا في رسالة البيون روس من عمان إلى صحيفة التايمز بتاريخ الأول من أيار عام 1949. وقد أخذت الآنسة غواشون عددا من فقرات هذا المقال في بحثها المشار إليه أكثر من مرة في بحثنا.

[2]  انظر أخبار هذه الهيئة في بريتانيكا إصدار عام 1965 تحت عنوان "تنيسي".

 

[3]  غواشون ص 145.

[4]  غواشون ص145