إسرائيل والمياه العربية

عفيف البزري

1984

 

معركة المياه بين سوريا وإسرائيل

 

  رأينا أن سوريا وقفت دوما في وجه الأطماع الصهيونية لسرقة المياه العربية في وادي الأردن، وأحبطت المشروع الأميركي لجونستون.  وفي شهر آذار 1960 قام بن غوريون برحلة إلى أميركا، ليستأذن أميركا ويستنجد بها كي تساعده في إتمام مشاريعه لتحويل نهر الأردن إلى النقب.  فقابل هناك الرئيس الأميركي إيزنهاور، والرئيس الألماني الغربي أدنور، وهرتر وزير الخارجية الأميركية، وهمرشولد الأمين العام للأمم المتحدة، وعند عودته إلى تل أبيب صرّح بأن إيزنهاور نصحه بأخذ المياه من طبريا دون أن يمانع في تحويل النهر من الأرض المجرّدة.  وهذا يعني أن الأميركان نصحوه بتأجيل العمل في الأرض المجردة، إلى أن تحين الفرصة لإزالتها نهائيا، والانقضاض على ما خلفها، حتى جبل الحرمون "أب المياه" مع سفوحه التي تشكل هضبة الجولان القائمة على بحر من المياه الجوفية، والمغطاة بمروج من العيون التي تتفجر بالمياه العذبة.  ذلك أن أميركا كانت تعدّ حينذاك سلسلة من التحولات في كل أقطار الإهليلج الخصيب، مع وادي النيل، للوصول إلى عهد السادات، عهد الجاهلية التي لم تر أمتنا مثيلا له في انفلات الغرائز الحيوانية طوال عمر نشوئها وارتقائها، وهي أمة الكرم والحضارات.  نقول للوصول إلى عهد استقرارها (استقرار أميركا) في المشرق العربي لكي تجعل منه إقطاعا لها، تضع فيه يدها مباشرة على منطقة سيناء ـ النقب، مع مرافق جنوب الأردن عمليا، لتقيم هناك القاعدة العسكرية الضخمة التي لم يُشاهد له مثيل في التاريخ. ويُضاف إلى هذه القاعدة بطبيعة الحال، إسرائيل وكل ما لأميركا من أعوان ظاهرين ومستترين.  أما إعمار النقب فلن يتأخّر برأي الأميركان ما دام هنالك (بعيدا عن مرمى النيران السورية) حجم كبير من الإنشاءات الهندسية في مشروع تحويل نهر الأردن إلى تلك المنطقة.  فزود بن غوريون بالأموال الألمانية الغربية لتنفيذ تلك الأعمال، التي من بينها إنشاء محطة الضخ على طبريا، أما تلك الأموال الألمانية فقد دُفعت تحت ستار التعويض عن ضحايا النازية من اليهود، الذين بالغت الصهيونية لأغراض دعايتها أيما مبالغة في تقدير عددهم، في الوقت الذي شاركت وحرّضت النازيين على قتل اليهود لدفع الباقين منهم على قيد الحياة إلى الهجرة إلى فلسطين، وكان وسيطها إيخمان، الذي فعلت إسرائيل المستحيل للقبض عليه وقتله لإسكاته إلى الأبد.

 

  ولكن الصهاينة بعد أن حصلوا على الأموال اللازمة لمشروع ضخ مياه بحيرة طبريا من الطابغة إلى خزّان عيلبون، عاودوا الكرّة للحصول على الإذن من أميركا كي يتمموا عمليات التحويل عن الحولة.  فنجد مثلا كندي يكتب كتابا إلى الرئيس عبد الناصر يذكر فيه العبارات التالية: "نحن على استعداد للمساهمة في إيجاد حل منصف ومعقول للمشكلة الناجمة عن المشروع الخاص بتنمية موارد نهر الأردن، كما أننا على استعداد للمساعدة في إحراز تقدم بشأن أي ناحية من نواحي هذه المشكلة المعقدة.."*[1] واستمر الصراع على الحدود السورية حول إتمام أعمال التحويل من الحولة.  ففي العاشر من شهر تشرين الأول 1963 نشرت جريدة اللوموند الفرنسية خبرا لمراسلها في تل أبيب يقول فيه: "تستند إسرائيل في مشاريعها للري على فرض الأمر الواقع، الذي لم يستطع أحد من جيرانها أن يغير منه شيئا (بكل أسف, من عندنا)... وقال مسئولون إسرائيليون بصدد الاتفاق العراقي السوري، الذي تعتبره إسرائيل تهديدا لمشروعها في الري: إنه لا توجد أية مبادرة عربية تستطيع منع إسرائيل من أن تصل بتنميتها الاقتصادية إلى غايتها نظرا لأهمية تحقيقها البالغة".  ويتابع مراسل اللوموند خبره، قائلا: ".. لكن يجب أن لا ننسى أن أعمال الري الرامية إلى استخدام مياه النهر لا تحدد فقط ضمن وادي الأردن".  والمقصود هنا طبعا هو تحويل النهر إلى النقب.  ويبرق المراسل المذكور خبرا آخر إلى جريدته في الثلاثين من تشرين الأول، فيقول: "... أعلمت إسرائيل الدول الكبرى بالطرق الدبلوماسية، أن كل تدخل عربي ضد المشروع الإسرائيلي على نهر الأردن سوف يُعتبر كعدوان، وأن حكومة إسرائيل في هذه الحالة ستحتفظ بحقها في التصرف على ضوء ما يحدث.  ونُشر هذا الإعلام يوم الاثنين في صحافة تل أبيب التي تعتمد على مصادر حسنة الاطلاع... ومع ذلك فإن كل عربي يفكّر ويقول: سوف لن نترك أحدا يمس مياه نهر الأردن*[2]". انتهى قول مراسل اللوموند. ولكن العربي بكل أسف بسبب ظروفه القاهرة لم يستطع، وهو من اشتهر بالوفاء، أن يفي بهذا الوعد.  وتنادى الرؤساء العرب إلى الاجتماع في القاهرة في مطلع عام 1964 لبحث مسألة تحويل المياه العربية إلى الأراضي خارج فلسطين المحتلّة.  وكان الذي تقرر بهذا الاجتماع:

1-     تحويل نهر بانياس إلى الأراضي السورية.

2-     تحويل نهر الحاصباني في الأراضي اللبنانية.

3-  اقتسام مياه نهر اليرموك بين سورية والأردن، وتوليد الطاقة الكهربائية على هذا النهر.  وابتدأت الأعمال برئاسة المهندس السوري صبحي كحّالة. ونقلت المعدات إلى ساحات العمل.  وأطلقت إسرائيل تهديداتها، فقال ليفي أشكول: "ليس للبنان شأن في مشاريع تحويل المياه وإلا فإن هذا الموضوع سيكلفه استقلاله.." وفي 26/3/1965 هدد موشي دايان باستعمال القوى العسكرية لمنع العرب من تحويل مجاري مياههم وفي 14/7/1965 هدد اسحق رابين لبنان وحمّله مسؤولية ما سيقع في حالة استمراره في عمليات التحويل.  وما وقف الأمر عند إطلاق عبارات التهديد.  فقد أخذت إسرائيل تشن الهجمات تلو الهجمات على ورشات العمل، وعلى الآليات بمدفعيتها وطيرانها وبكل الوسائل الأخرى.

-       في 17و18/2/1964 قامت إسرائيل بهجوم على الحدود السورية.

-       في 7/3/1964 جرى حشد جيوش إسرائيلية على الحدود السورية وأعقبه عدوان عليها.

-       في 13/5/1964 وقع هجوم على مراكز تحويل المياه في سورية.

-   وقعت أربع عشرة هجمة إسرائيلية على الحدود السورية خلال شهر واحد بين 7/10 و12/11/1964

-       في 13/11/1964 ألقت الطائرات الصهيونية قنابل النابالم على ورشات العمل في مراكز التحويل.

-   في 6و15و17و18و22/5/1965 هاجمت القوات الإسرائيلية مناطق التحويل في سورية والأردن.

 

  وقد تجمّدت عمليات التحويل الآنفة الذكر، نتيجة للموقف السلبي للعرب، واقتصارهم على رفع الشكاوى إلى الأمم المتحدة، واستسلام إرادتهم، على الأخص، وضعفها أمام "عمليات التنويم المغناطيسي" التي كانت تمارسها عليهم الولايات المتحدة الأميركية، التي كانت تعد العدة لليوم الفاجع وتهيئ في البنتاغون تفاصيل عدوان الخامس من حزيران عام 1967.  يقول إيغال ألون أحد منظّري المرتزقة الصهاينة:" إن لهضبة الجولان ولمنحدر جبل الشيخ أهمية حيوية، لا من أجل الدفاع عن مستوطنات وادي الحولة ضد الرمايات السورية فحسب، وإنما أيضا لحاجات إسرائيل الاستراتيجية الشاملة في الإشراف على الجولان.  فهذا الأمر يتعلق بالدفاع عن الموارد الأساسية لمياهنا، وبالدفاع عن الجليل الأعلى والأسفل، وبالدفاع عن انهر الأردن الأعلى والأوسط (وادي الحولة، وبحيرة كنريت [ طبريا بالعبريةٍ] والوديان المحيطة بها، ووادي بيسان)*[3]".

 

  وبعد فكم نبّهنا مع غيرنا إلى الأهميّة الحاسمة للمياه لقيام إسرائيل، ورددنا القول طويلا بأن مطامع العدو في الجولان وجبل الشيخ والجنوب اللبناني قائمة وواضحة بأقوالهم ومطالبهم منذ أن بدأت وفودهم تصل إلى فلسطين في أواخر القرن التاسع عشر. ولكن تلك النداءات كانت تذهب بكل أسف كصرخة في واد، وتُحاط بالصمت واللامبالاة المجرمين، وبالإصغاء الخائن "للنصائح الكاذبة" للأميركيين.

 

انتهى



[1]  الأهرام 21أيلول 1962.

 

[2]  نقلته الآنسة غواشون في بحثها الآنف الذكر ص 172.

[3]  إسرائيل. الكفاح والأمل. ترجمة مكتب دراسات فتح ص 124.