صليبيتا الماضي والحاضر:

إن الطريق الذي يتردد ذكره في هذه الدراسة والذي برزت أهميته منذ فجر التاريخ عندما تعارفت الأقوام وأقامت الأسواق التجارية وتبادلت المنافع والخدمات فيها، هذا الطريق الذي تعددت أسماؤه عبر الزمان ولكنه بقي واحداً يصل شرق العالم بغربه فكان مثلاً طريق حيرام ـ سليمان ـ بلقيس، فصار طريق التوابل والحرير ثم طريق الهند فالسويس فمنطقة الاحتياطي العالمي للنفط محرك الحضارة. إلخ… كان وريد الغنى والثروات الأسطورية لمنطقة الحضارات الأولى

وهو ما يزال أبداً محطّ أنظار الطامعين. فلم تهدأ أبداً شهوات العبوديين الأغراب منذ أن ذاقوا طعم لبنه وعسله أو سمعوا بأوصافه فطلبوا السيطرة عليه وعملوا على حرمان أهله والأقوام المحيطة به من وظيفتهم الطبيعية في توزيع منافعه على البشر. ونلاحظ أن أطول وأشرس صراع بين أهل هذا الطريق وبين الأغراب الطامعين في امتلاكه كان في حقبتين تاريخيتين متشابهتين: الحروب الصليبية التي قامت في مرحلة انتقال جملة المجتمعات الإنسانية من الطور الإسلامي إلى الطور الرأسمالي، وحملة الرأسماليين الاحتكاريين الأنجلوسكسون لبناء القاعدة الصهيونية في فلسطين منذ بدء مرحلة انتقال الجملة الإنسانية من الطور الرأسمالي إلى الطور الاشتراكي العالمي. وقد انهارت محاولة الصليبيين وسحقت كما ستنهار وتسحق محاولة الصهيونية المعاصرة.

هنا لابدّ من الاستطراد والتنبيه إلى الأمر الآتي: إن الصليب رمز لخلاص الإنسان من العبودية وليس ستاراً لتبرير العدوان والقهر وإبادة الأجناس كما فعل روّاد الرأسمالية وفعل قبلهم الذين سمّوا أنفسهم كذباً صليبيين.

إن المسيحية ثورة كبرى لتقويض النظام العبودي وقد استشهد المبشّر بها يوحنا المعمدان كما صعد على الصليب وذاق عذابه الرهيب رسولها وقائدها الأول السيد المسيح،

ثم تتالى شهداؤها بالألوف عبر القرون على طريق الجهاد من أجل خلاص الإنسان وتحريره من النظام العبودي. فلا يصحّ إذن أن نقرن هؤلاء الأبطال حاملي الصليب بصدق بأولئك الأجلاف القتلة الذين أرسلتهم البابوية للاستيلاء على الطريق الآنف الذكر ونهب ثروات منطقته بعد تشريد وقتل أصحابه. فالصليب الذي حملوه كان في الواقع صليب ضحاياهم الذين كانوا يدافعون عن حقهم وأرضهم ووظيفتهم الطبيعية في الجملة الإنسانية. لقد كانوا صهاينة، كصهاينة اليوم الأميركان واليهود، طامعين في اغتصاب أرض اللبن والعسل حول جبل صهيون وما كانوا متعبدين إلا رياء حول قبر المسيح على هذا الجبل المقدس.

وكان السبب الأساسي في فشل أولئك الصليبيين وهزيمتهم يستقر في أنهم ظلوا أبداً ذلك الجسم الغريب المحاصر الذي لم تهضمه المنطقة فظل معزولاً مرذولاً إلى أن سقط وسحق. إن ذلك الطريق التجاري العالمي العريق الذي كان يمر بفلسطين وبما حولها (بمصر والعراق) انقطع في فلسطين طوال العهود الصليبية بينما استمر في مصر والعراق وفي الأجزاء السورية الخارجة عن السلطات الصليبية المحاصرة كما قلنا بالمسلمين. فالصليبيون أتوا لاغتصاب المنافع التجارية للطريق المذكور، فانقطعت هذه المنافع في كل مكان وجدوا فيه في المنطقة، ولم يحصلوا إلا على قبض الريح. ونحن نرى أن هذا الأمر يقوم بذاته حالياً.

فالقاعدة الأميركية التي هي "إسرائيل" ما تزال منذ قيامها وستبقى أبداً محصورة مرذولة غير مقبولة في المنطقة فلا تحظى بالتالي بالمؤهل الأساسي للحياة والبقاء فيها إلى أن يأتي اليوم الذي تسقط وتسحق فيه كما سقطت قبلها تلك الصهيونية التي سمّوها كذباً الصليبية: إنها اليوم وستبقى مجرد قاعدة عدوانية باهظة التكاليف على المستعمرين الرأسماليين. وندرك جيداً في النتيجة أن كل محاولات المستعمرين وأعوانهم في منطقتنا وفي العالم لفك الحصار عن هذا الجسم الغريب وتوفير الظروف الملائمة لترعرعه سرطانياً على حساب وجود الشعب الفلسطيني وسلامة العرب المجاورين ستبوء بالفشل الذريع وعلامات ذلك نراها في ردّ الشعب المصري على صفقة الخيانة في كامب ديفيد.

إن ثورات التوحيد، التي نادت بشعارات التعارف والتعاون الإنساني وجاهدت من أجل نظام عالمي يحقّق هذه الشعارات على أساس من العدل والمساواة بين الناس، قامت على طريقنا الأسطوري وفي منطقته كثمرات لتجارب ولحضارات عريقة بنتها ورعتها أقوام هذه المنطقة وغذّاها ذلك الطريق وأتت آخر تلك الثورات الكبرى، أتى الإسلام ليقيم داره التي شكّلت العقد الوسيط بين مشرق الأرض ومغربها ووحّدت مناطق المدنيات الإنسانية، مناطق الأبيض المتوسط والهند والصين، في جملة مجتمعات إنسانية واحدة. وكأن هذه الدار شجرة فارعة يستظّل العالم بظلّها وقد أتت من تلك الغرسة الأولى التي هي منطقة ثورات التوحيد التي تتوسط الدنيا أيضاً بطرقها العالمية للتجارة في البرّ والبحر: لقد صاغ الإسلام داره العالمية على شاكلة منطقته الأصلية، بنى داره ليلتقي فيها البشر لتبادل المنافع بالعدل والمساواة فأتى هذا البناء كحصيلة تاريخ طويل من المدنيات والتجارب الإنسانية التي طوّرت مجتمعات قد تصيبها عوادي الدهر أحياناً إلا أنها تبقى مجتمعات قوية جداً لا تشبه أبداً تلك المجتمعات التي تمكّن منها روّاد الرأسمالية في أميركا وأستراليا وأفريقيا وأبادوها ليقيموا في مرابعها مجتمعاتهم الهمجية التي طالما أذاقت الإنسانية مرّ العذاب فالأوروبيون الذين دفعت بهم البابوية تحت قناع الصليبية كانوا في تلك الأوقات يسيرون في طريق التحوّل نحو الطور الرأسمالي العالمي الذي قام بقيادتهم فيما بعد ولكنهم ما كانوا حينذاك قد بلغوه بل كانوا في غاية البعد عن تحقيق امتداد دائم لهم على طريق الثروات الآنف الذكر ليقوم بإفناء أقوام هذا الطريق ويغتصب وظيفتها ودورها في الجملة الإنسانية هناك.

ومن جهة ثانية كان دخول ذلك الجسم الغريب في قلب دار الإسلام حافزاً لأقوام هذه الدار كي يعودوا وينتظموا بجوهر الإسلام ويهبّوا للجهاد في سبيل قمع تلك الردّة العالمية إلى الاستعلاء والقهر والوثنية، في سبيل قمع تلك المحاولة التي هدفت الاستعجال ببناء العبودية العالمية الجديدة. فعلى الرغم من الكوارث التي نزلت بتلك الدار من جرّاء هجمات صهاينة البابوية طوال قرنين من الزمان (1096م ـ 1291م) والهجمات العاصفة المدمّرة للتتر والتمزّق والفساد الداخلي، على الرغم من كل هذا تمكن الإسلام بأقوامه من الصمود فلم تنل منه تلك الكوارث وبرزت فيه وجوه مشرقة تذكّر بالقادة الأوائل للثورة الإسلامية العظمى أصحاب الرسول من أمثال نور الدين الزنكي وصلاح الدين الأيوبي وقطز وبيبرس ثم القادة العثمانيون الأوائل. واستمرت الحضارة الإسلامية في الصعود والازدهار فبرز في دار الإسلام كل أولئك المفكرين العمالقة الذين أسّسوا النهضة العلمية الحديثة نذكر منهم، على سبيل المثال لاستحالة الحصر وعدم جدواه، الأعلام التالية: الفيلسوف أبا حامد الغزالي، والجغرافي الشريف الإدريسي، والفيلسوف الفلكي نصير الدين الطوسي، والفيلسوف ابن رشد، والطبيب ابن النفيس، والمؤرخين ابن خلدون وياقوت الحموي، والرياضي الفلكي الكاشي إلخ…

وبرزت هذه الطبقات من مفكري الإسلام وعلمائه في حواضر للمدنية تمتد من سمرقند شمالاً ودلهي جنوباً إلى غرناطة وفاس غرباً مروراً ببغداد ودمشق والقاهرة وتونس وغيرها من المنائر العديدة التي طالما أشعّت على العالم بنورها الوضّاء.

إن المؤرخين للحروب الصليبية، ومنهم مسلمون وعرب، يذكرون كل الأسباب الدافعة إلى تلك الحروب ويهملون سبب أسبابها؛ يهملون الطمع في أقطار اللبن والعسل. لقد كانت هنالك دوماً إمبراطوريات إقليمية لا تبتعد حدودها إلى أبعد من منطقتها على الكرة الأرضية، ولكن الإمبراطوريات العالمية التي تمتد أراضيها

 

 

Text Box: .. إن الصليب رمز لخلاص الإنسان من العبودية وليس ستاراً لتبرير العدوان والقهر وإبادة الأجناس كما يفعل عتاة الرأسمالية المعاصرون وفعل قبلهم الذين سمّوا أنفسهم كذباً صليبيين..
Text Box: الصفحة الرئيسية | الفهرس ║ الصفحة السابقة | الفصل الأول | الصفحة التالية
Text Box: 7