Text Box: على الثورة العربية أن تجد العقيدة والطريق:
إن الشعوب الإسلامية وشعوب عالم المستعمرات وأشباه المستعمرات مع كل الجماعات المستضعفة في العالم لم تقصّر في أيام الاستعمار القديم أبداً في البذل والتضحية في كفاحها المستمر من أجل الخلاص من القهر الرأسمالي الاحتكاري، وكانت أيضاً إلى جانب هذا الأمر بقايا النظام الرأسمالي الاحتكاري العالمي بعد ثورة أكتوبر متفسخة ومتعارضة فيما بين بعضها بعضاً.
ولكن الإنسانية كانت مع ذلك بحاجة إلى توحيد كفاحها في نظام جهاد عالمي مرن يقوم على عقيدة متطورة تستهوي أكثريتها المتضررة وتعزل أقليتها الظالمة مع أعوان هذه الأقلية وجلاديها وانتهازييها كي تتمكن من اقتلاع البقايا الآنفة الذكر للنظام الرأسمالي، الأمر الذي لم يحدث بكل أسف. فكان أن أقدم الاحتكاريون الأميركان في أعقاب الحرب العالمية الثانية على أخذ المبادرة وتمكنوا من إنعاش الرأسمالية المحتضرة بتوحيدها في إمبراطورية استعمارية عالمية متعددة الرؤوس بزعامتهم كما سنرى فيما يلي من البحث. 
إن كثيراً من الحركات الوطنية في العالم، وعلى الأخص الحركة الوطنية العربية، افتقرت إلى الرؤية الصحيحة الواضحة في مسيرة التطور للجملة الإنسانية، فنجدها تبحث عن الحلول لمشاكل البلاد في إصلاح وترقيع النظام الرأسمالي الذي هو السبب الأول والأخير لهذه المشاكل: كان المناضلون في المستعمرات وأشباه المستعمرات مثلاً يكافحون لنيل "الاستقلال" في إطار النظام الرأسمالي العالمي وما كانت تتضح لدى أولئك المناضلين العلاقة العضوية بين الاستعمار والرأسمالية. ما كان واضحاً لديهم أن الاستعمار والرأسمالية وجهان لنظام واحد وبالتالي فإن سعيهم لنيل الاستقلال في الإطار الرأسمالي لا يؤدي في أفضل الحالات إلا إلى شكل جديد من التبعية والاستعمار. وما كانت تنقصنا التجارب في هذا الأمر وثورة الشريف حسين بن علي كانت واحدة منها وقد انتهت إلى ما انتهت إليه حيث برزت الأخلاقية الأساسية للرأسمالية وأطماعها في غدر الاستعمار الإنجليزي. ثم إننا نجد أن بعض الفئات الوطنية العربية اتجهت في كفاحها إلى الاستعانة بالنازيين والفاشيين على المستعمرين القدماء الإنجليز والفرنسيين. ووصل الأمر في بعض الظروف إلى المفاضلة بين الاستعمارين: الإنجليزي والفرنسي، في بعض الأوساط العربية. فكانت النتيجة أن الكفاح العربي، وهو كفاح أساسي في الجملة الإنسانية، كفاح لابدّ منه لصعود هذه الجملة إلى طورها الأعلى، أجهض بدفعه في الاتجاهات العقيمة الآنفة الذكر وقامت فينا جاهليتنا المعاصرة. 
قلنا في هذه الدراسة وفي غيرها من البحوث التي نشرناها إن ثورات التوحيد هدفت قبل أي أمر آخر إلى تحرير الإنسان من كل عبودية واستعلاء ثم إلى تنظيم المجتمع بعلاقات الأخوّة والتعاون والتكامل والتكافل بين الناس وتعميم وتطوير هذه العلاقات لتنظيم مجتمعات الجملة الإنسانية بها. 
وأشرنا كذلك إلى أن تلك الثورات كانت وليدة تجارب وحضارات تسلسلت عبر العديد من القرون، وقد تركت آثارها الدامغة في الملايين من أتباع عقائدها طوال مسيرة التاريخ، فهي إذن تعبّر في جوهرها عن ذلك الطموح الشديد للإنسان لبلوغ النظام الأمثل، ولو طُمِس هذا الجوهر بمختلف أشكال الانحراف والضلال من قبل الانتهازيين والجامدين والجهّال الذين يشكّلون بمجموعهم بين أتباع كل دين الطبقة القائدة لنظام عبودي مناسب ليس فيه من تقاليد الثورة التي أقامت الدين إلا طقوس أفرغها أولئك الجامدون من كل محتوى إنساني وعزلوها عن الحياة الدافعة في سبل التقدم والازدهار: جعلوها مجرد زينة فارغة لذلك النظام الوثني العبودي المتجمد في إطار مصالحهم ومنافعهم. ثم إن الأحوال المادية والروحية للمجتمعات تتغير من طور إلى طور للجملة الإنسانية فتتغير لذلك مع هذه الأحوال أشكال الوثنية والعبودية المرتبطة بها وتتنوع معها أيضاً أشكال العوائق والحواجز التي تعترض تقدم الإنسان نحو الخلاص والتحرّر. فكل ثورة من ثورات التوحيد هدفت إذن إلى إزالة الأشكال المعاصرة لها من العبودية والاستعلاء مع الحواجز التي تقف دون تعاون الأفراد والمجتمعات الإنسانية للانطلاق في سبل تقدّم الحياة ورقيها.
ومن البديهي أن لا يكون جوهرها إلا دعوة لإزالة كل عبودية واستعلاء يحدث بعدها وإلا عودة لهدم كل حاجز يقوم في كل عصر دون تقدم الإنسان نحو الأطوار التي تحقق أخوّته وسعادته ورقيّه المادي والروحي، ففي عصور ثورات التوحيد ما كان امتلاك وسائل الإنتاج مع إتقان استخدامها الحرفي صعب المنال على كل فرد في المجتمع فقام نظام العبودية والاستعلاء بمختلف درجاته على تعطيل تكافؤ الفرص وتعطيل تساوي الأطراف في التعامل والتعاقد باسترقاق الفرد وتحويله إلى آلة منتجة تخدم مصالح القلّة الأسياد أصحاب الرقيق فكان الهدف الأول لكل ثورة توحيد هدم نظام الرقّ والاستعلاء لإعادة عمل قانون تكافؤ الفرص في نظام أخوّة إنسانية متعاونة متكاملة متكافلة في كل مجتمع وبين المجتمعات في الجملة الإنسانية. إلا أنه بنتيجة التقدم المادي وارتقاء الوسائل وتعقّد قوى الإنتاج في المجتمع قام نظام العبودية والاستعلاء عندئذ، Text Box: الصفحة الرئيسية | الفهرس ║ الصفحة السابقة | أعلى الصفحة | الصفحة التالية
Text Box: 11