رجاء من السراب

يسرى الأيوبي


قصة نبيلة عباد

لست أدري من أين أبدأ قصتي. إنها متغلغلة في طفولتي البعيدة، في الأحداث التي كانت تدور بي وتطبع شخصيتي، في الأحاسيس المبهمة التي كانت تترك بصماتها على حياتي وتصرفاتي المقبلة.

لست أدري لم أشعر في أعماقي بحيرة من الحزن. كيف بدأت تتجمع قطرة فقطرة وتترسب وتجعل مني تلك المرأة المستوحدة التي هجر الفرح قلبها وهربت البسمة من شفتيها. أعلم أن المستقبل أصبح مسدودا أمامي، أعيشه فقط في ابنتي ومن أجلها ولست أريد لها أن تواجه ما واجهته ولا أن تقع في الشباك التي وقعت فيها.

أتراني قادرة على أن أتيح لها السعادة التي حرمتها؟ أتراني قادرة على أن أجعلها تستمتع بحريتها منطلقة كما هيأتها الطبيعة، سيدة نفسها ومستقبلها ومصيرها؟ أتراني قادرة على أن أعلمها الحب والعطاء مع من يستحق حبها وعطاءها أنا التي كانت حياتي تسير رغما عني وعرفت القسر الذي يفرضه الأب والأخ والزوج والأوصياء وكل مجتمع الرجال في تلك العائلة البارزة التي كنت أنتمي إليها والتي لم تكن أكثر من صورة حائلة مقتطعة من القرون الوسطى تناسى الزمن أن يمزقها ويذروها للرياح؟ أتراني أستطيع أن أدفع بها إلى النجاح من وسط الفوضى والخراب الإجتماعي والخلقي أنا التي لم تعرف في حياتها إلا الفشل وإلا خيبة الآمال؟

هل يملك المحروم أن يعطي والجائع أن يشبع غيره والجاهل أن يقود سواه إلى المعرفة؟ قد أكون تلك المحرومة والجائعة والجاهلة ولكنني أملك الحاسة العاقلة التي أعرف بها زيف الواقع الذي عشته، وأملك العناد لتغييره بالنسبة لابنتي، وأملك الحب الكبير الذي أحمي لها به المستقبل.

أتراني أتجاوز بهذه الثقة حدود الواقع؟ إن الملايين يظنون بأنهم يملكون الحاسة العاقلة، ومع ذلك فالعالم يجري حولهم ويقتحم حياتهم على غير ما يشتهون. أنا لست أقوى منهم بل لعلي ضعيفة بالغة الضعف بمقاييس القوة في هذا الزمن،ومع ذلك أحس بين ضلوعي بروح عملاق يريد أن يفجر ذلك القمقم الذي حبسته فيه الطلاسم، ثم ينوح كطفل صغير نجا بأعجوبة من بيت تهدم فوق رؤوس أفراد عائلته.

 إن سر قوتي هو ذلك الحب الطاغي الذي يملأني من أجل ابنتي، وإصراري على أن أجنبها واقعي العاجز . سأجعلها تطير ولو زرعت لها الأجنحة من أعصاب عيني، ولن أسمح لإرادة أخرى غير إرادتها الواعية الخيرة أن تعبث بمصيرها.

 إن انتماءها هو لجذورها العميقة، لتراب وطنها، للبنان، لجنوبه¸ للأرض التي يدنسها العدو بحجة أمنه، للبيت الذي ولدت فيه وسكنته أجيال من أسرتنا. ذلك البيت الكبير على شاطئ البحر الذي حوله جدي الى مدرسة تتلمذ فيها كثير من أبناء الجنوب، ثم أبناء اللاجئين الفلسطينيين الذين هاجروا عام 48  وأولائك الذين لحقوا بهم عام 70 والذي تهدم قسم منه في الغارات. ولقد شهد معارك، منها مابين اللبنانيين والإسرائيليين، ومنها ما بين الغزاة والفلسطينيين، ومنهاما كان بين الطوائف اللبنانية، ومنها ما كان بين الفرق الفلسطينية، ثم أصبح واقعا تحت الإحتلال لاأراه إلا في أحلامي، وأمس حلمت بأنه جدد¸ وأن الطلاب كثروا فيه، طلابا لا يتحدثون اللغة العربية، وأن دوري فيه أن أكون مشرفة، وأن أوامر صدرت إلي أن أقبض على عصابة لصوص تسرق الكتب والدفاتر والأقلام من المدرسة، وأنني ألقيت القبض على هذه العصابة فإذا بهم أطفال يريدون كتبا ودفاتر وأقلاما ليتعلموا¸ فقلت لهم: لدي مجموعة كبيرة من قصص الأطفال لابنتي أضعها في المستودع، وأنني أحضرتها ووزعتها عليهم وكنت أهتف بهم: "أتقنوا لغتكم العربية، أتقنوا لغتكم العربية وستصبحون رجالا أكفاء، صدقوني بأن كل ما أصابنا من بلاء هو لأننا لانتقن اللغة العربية!" وأنني التفت لأجد مديرة المدرسة تراقبني مكفهرة، ولتوبخني على تساهلي الذي يشجع المخربين على السرقات.. ثارغضبي وأردت أن ألقنها درسا فصحوت على تسارع قلبي الموجع.. أتراني أرزح تحت وطأة كابوس؟ واستعدت تفاصيل الحلم وسمعت وأنا بين اليقظة والنوم عويل الطفل الذي ينتحب في أعماقي.. أتراها مخاوفي؟ أتراني أرود عالم الغد وأرى مصير أطفالنا وبينهم أبناء ابنتي وأبناء إخوتي وأبناء بلدي الصغير والكبير؟

كم عذبني الغد وصورة الغد الكئيب.. كانت الأمور قبل واضحة في ذهني.. كنت أقول أن العمل هو الذي ينقذها من الشباك التي تعثرت بها حياتي، وأن الحرية التي تطلبها لن تنالها إلا بالعمل المتفوق، وأنها لن تكون كفؤا لهذا إلا بالجهد الدؤوب وبأخذ النفس دون هوادة. إن ثورتها ستغير العالم وتجعله أكثر إنسانية وتعقلا..

كنت أريد لها أن تثبت ذاتها ولا تجعل من الزواج مهنة ومن بيت الزوجية هدفا، فما لم تتغير الأسس التي تبنى عليها العائلة لن يكون وضعها أكثر من تابع مهان ولن تكون أكثر من عضو أشل في جنس هو دون الآخر وأقل شأنا ، جنس غير فني وغير مأجور، مهمته الإنجاب، ولا يملك حق صيانة من ينجب.. كنت أفتح عينيها فلا تخدع بتلك الهالة القدسية التي أحاط بها الرجال ممارسة نظام هوالظلم عينه والإكراه عينه، نظام يجعل المرأة مهما كانت مؤهلاتها مساوية لأية امرأة أخرى، يقمن جميعا بدور أبدي، أن ينجبن الأبناء لحروبه التي لا تنتهي ويخدمن الرجل المتأله بكل إخلاص..

تغير العالم ولكن لا يزال فيه رجال كثر يقنعوننا بأن المرأة لم تخلق إلا لهذا الدور، وأن كرامتها وسعادتها مرهونتان في أن تقوم به،ولا تشغل نفسها بأمر آخر هو من اختصاص الرجال. رجال داروا العالم ويرتدون أحدث الأزياء وقد يغطون الرأس العتيق بقبعة..

إن أحدهم وهو والد ابنتي يريد أن يفرض عليها اليوم ما أراد أن يفرضه علي ورفضته.. يريدها أن تتزوج التقاليد البالية أو يحرمها ثروته.. بل أكثر من ذلك يهددني باختطافها وتزويجها حين تكبر في أسرته إن لم أسلمها إليه طوعا، ويؤلب علي الشرائع والقوانين، وأنا المحامية الناجحة لا أستطيع حمايتها من براثنه، وأعرف أنه يستطيع الانتصارعلي بما له من مال ونفوذ، وأن أية محكمة ستحكم له لا لي أو لها.. لن تكون لها  حرية التفكير في ذلك الجو المغلق الذي يريد أن يسجنها فيه، وستصبح فضائلها آثاما وكبرياؤها تمردا وصدقها وقاحة وعلمها تفاهة ودقة فهمها ضلالا وطموحها نشوزا وثورتها على الظلم خيانة..

ترى هل أستطيع إنقاذها، أم أجعل منها ذلك الوقود ليحترق وهو يحرق الأشواك ممهدا لغيره الطريق؟ كل شيء أهون من أن تقتنصها الشباك التي اقتنصتني.. فلن يتغير ما في العالم من ظلم ما لم تدفع المرأة نصيبها من الجهد وإنكار الذات وحتى التضحية لتمزق شباكها وتنقذ نفسها وتنقذ معها الرجل الذي اعتاد في عصرنا أن يكون سيد البيت مسودا خارجه، وخنع لكل أصناف الطغاة لأنه استحب ظلمه للضعفاء ، وتجعل منه رجلا رافضا للظلم منه أوعليه..

أشعر بخافقي يقرع صدري وجلا على ابنتي. إنني أخشى أن تكون الأشواك أقوى منها، وأن أرهف حساسيتها للأشواك دون جدوى، أجعلها تسبق الزمن وتلتفت لترى نفسها وحيدة في عالم يسير ببطء السلحفاة، أو تعاشر إنسانا بليد الإحساس وهي مرهفة لحبة الفول تحت عشرين فراشا..

فقدت أمي وأنا في السن التي يكون فيها الطفل أكثر ما يكون تعلقا بأمه ولا أزال أذكر ذلك الانتظار الطويل المضني أملا أن تعود إلي من السماء حاملة هدية رائعة ، وتعيد قلبي الضائع إلى مكانه. وكم عاتبتها ودموعي تبلل وسادتي على قسوتها وإهمالها لي. . أتراها أنجبت نسيتني وأنجبت في السماء أبناء أخر ولم أعد حبيبتها الغالية؟ وقررت إذ طالت غيبتها أن أذهب إليها وأعرف ما الذي يقصيها عني. كم كانت السماء قريبة مني حينذاك! كانت بأعاجيبها حقيقة لدي، ولم أكن أشك أنني لو تسلقت إلى السطح ومددت يدي لأمسك بها يد أمي وانتشلتني نحوها، وأغدقت علي من نعيم عالمها ما لا يخطر لأحد مثله على بال. ولما أتيح لي يوما أن أحقق غايتي أصبت بخيبة أمل عظيمة وكسرت ساقي في اضطرابي ولهفتي للنزول حين سمعت صوت أبي. وعشقت صوت المؤذن الرخيم الذي كان ينقلني به إلى السماء. كان قلبي يخفق بين جنبي كطائر يدف كلما سمعته ودموعي تجري على وجنتي مدرارا. ولما سلم يوما على والدي وأنا أسير معه أخذت أرتعد من الفرح، كأنما كان بواب السماء بالنسبة إلي، ولم أكن أدري أنه ليس إلا موظفا صغيرا عند والدي ينقده أجره.. كنت أحيطه بهالة تمجيد، فلا بد أنه يعرف في أعلى المئذنة طريقا سريا يصل إلى السماء فألتقي بأمي. وتمنيت بيني وبين نفسي أن يقع المؤذن في غرامي ، أنا الطفلة التي لاتتجاوز الثامنة من عمرها ويخطبني من أبي، ويحملني وهو يغني لي صاعدا بي مئذنته إلى أعلى البرج. وشدهت حين قاربت أحلامي أن تتحقق ذات يوم إذ سألني والدي إن كنت أحب صعود المئذنة، فلم أصدق أذني وذهلت لفرحي. فتلك الرغبة كانت من العنف والاستحالة بحيث لا يمكن تحقيقها إلا بمعجزة وبكثير من السلوك الطيب الذي يرضي الكبار فيجعل باب السماء مفتوحا للصغار. وأصبت مرة أخرى بخيبة أمل شديدة وعرفت يومذاك أن هناك انقطاعا ما بين الأرض والسماء ليس من جسر يصل بينهما إلا في الخيال والأحلام . وشاهدت بدل أحلامي المسحورة الأراضي الشاسعة التي يملكها والدي وقد انتصب فيها منزلنا الحجري على،البحر فسيحا على النسق القديم وقد جدده والدي حديثا بتغيير خشبية الأبواب والنوافذ وطلائه.. كان يبدو فخما بالمقارنة مع بيوت صغيرة تجاوره يخفف من بؤس منظرها ما يحيط بها من أشجار الحمضيات. أحسست أن لي مكانة خاصة لا تطالها غيري، وهذا سر الطريقة التي يعاملني بها الجميع وكأنني أميرة صغيرة. ولم أدر أن هذا الوضع هو اللعنة المتربصة بنا والتي كان علي أن أدفع ثمنها غاليا فيما بعد لكأنما الحياة تنتقم من الظلم الذي يوقعه رجال عائلتنا، بنساء العائلة..

لم أر في عائلتنا امرأة سعيدة، فإما عانس، أو تحمل في قلبها حبا مقهورا، أو زوجة مغلوبا على أمرها لكثرة ما تنجب وتربي من أطفال، والذكور في عائلتنا لهم الغلبة، ولهم الأفضلية في زواج بنات العائلة..

وشعرت منذ طفولتي المبكرة بالقيود التي بدأت تطوقني حين كانت تقام  مناسبات أعياد أو انتخاب والدي نائباً عن السنة في المنطقة، وتنتصب الزينات على البوابة والطريق الموصل إليها من سعف النخيل والآس والورق الملون والكهارب، وتدق طبول الفرقة الموسيقية ويقوم المطبخ الكبير على قدم وساق في تهيئة قدور اللحم والأرز وسدور الكنافة لتقدم للضيوف على الموائد المنتصبة في أرض الدار الواسعة في الطابق السفلي، ويهرع صبية الحي وبناته ليحتشدوا على درج منزلنا الموصل إلى الطابق الثاني وعيونهم المتطفلة تريد أن تخترق فجوة الباب المنشق عني وقد وقفت بثوب أبيض من الأورجنزا مكشكشا وبشعري الفاحم المعقود بعناية بشرائط بيضاء عريضة ، كانت"الدادا " تشدني من يدي وتغلق الباب. لم يكن والدي ليسمح أن أختلط بالغمار لكأنما أنا من طينة أخرى تنتهك قدسيتها بمعاشرة الصغار. وكان قلبي يخفق بعنف رغبة في مخالطتهم ومحادثتهم والإنطلاق واللعب معهم، على الأقل لأستمتع بممارسة سيادتي عليهم. ولما قال لي صبي في مثل سني " أنا أحبك وأريد أن أتزوجك حين أكبر قلت له "حسنا وأنا أحبك ولكن يجب أن تصبح مثل والدي.."

لم يتزو ج والدي إثر وفاة والدتي، واكتفى بماله من أسرة ثُلاثة صبية متقاربي الأعمار وبنت هي الصغرى التي كنتها، فدللني وأحبني وأغدق علي بقدر ما يستطيع وقته الشحيح بيننا حنانا ورعاية. كان مضطرا للبقاء في بيروت معظم الوقت فوقع عبء تربيتنا على جدي لأمي وجدتي. وجدي وهو عم أبي أيضا كان صديقي الذي تعلمت منه كل شيء وعرفت منه أحوال العالم والناس، وقصص التاريخ الماضي والمعاصر، وسمعت منه قصص كليلة ودمنة ونوادر جحا وألف ليلة وليلة والموشحات الأندلسية. وكان هو صاحب فكرة تحويل بيته إلى مدرسة كي يعلمنا، وكان جدي يتقن لغاتا عدة : التركية والألمانية والفرنسية. ولم يكن ينقصنا حين أردنا الانتساب إلى مدرسة خاصة ثانوية تؤهلنا لدخول الجامعة إلا أن نتقن اللغة الإنكليزية.ولقد تمكنا، في وقت وجيز بعد انتقالنا إلى بيروت للدراسة، أن نمتلك هذه اللغة التي انتشرت انتشارا واسعا بعد الحرب العالمية الثانية وحلت محل الفرنسية في كثير من المدارس.

درسنا جميعنا في الجامعة الأميركية، وحين انتسبت إلى الجامعة لأدرس القانون كوالدي كان أخي الأكبر هشام قد تخرج وسافر إلى جامعة هارفرد لدراسة الاقتصاد والتخصص فيه بينما أخي الثاني كريم كان في السنة الرابعة يدرس الطب، أما أخي الثالث عبد الرحمن فلم يكد يدرس سنة في الجامعة حتى انسحب منها، ومارس الصحافة ثم تزوج قبل أخويه، وكان في صراع دائم مع أبي، في اختياره مهنته، وفي زواجه المبكر، وفي انتخابه زوجته من وسط قد يجلب المتاعب له على حد قول أبي.

*   *   *