في قاعة الامتحان

كنت في قاعة الامتحان في شهر حزيران أتقدم لفحص السنة الثالثة في الجامعة. الجو قائظ رطب وحبات العرق تتفصد من بصيلات شعري وجبيني لشدة انفعالي، ويدي لا تتوقف على الورق للتفكير والتأمل، وإذا بمراقب يقف قربي ويطيل الوقوف، ويجول جولة قصيرة ثم يعود للوقوف قربي وقراءة ما أكتب. كان شابا فارع الطول نحيلا غائر الوجنتين لم أره من قبل. ولما أسلمت أوراقي وخرجت من القاعة إلى الساحة في طريقي إلى المكتبة لأستعير كتابا خيل إلي ان هناك من يتبعني مهرولا ويناديني بإسمي فالتفت وإذا به ذلك المراقب، وظننت أنني خالفت تعليمات ما لم أنتبه إليها فتوقفت متسائلة.. كانت الطريقة التي لفظ بها إسمي نبيلة عباد دليلا على أنه ليس عربي اللسان لأنه لم يكن يتقن مخرج العين. قال مرة أخرى:

-                   آنسة نبيلة عباد..

-                     نعم..

-                     أقدم نفسي، ريمون أوجين ريتشاردسون .

-                     لي الشرف، هل أنت أستاذ في الجامعة؟

-                     تقريبا..

-                     فرنسي؟

-                     أميركي الجنسية.

-                     لم يسبق لي أن رأيتك.

-                     إنني لا أدرس بالأساس هنا، ولكنني ألقي محاضرات أحيانا في التاريخ.

-                     إذن فأنت أستاذ  تاريخ.

-                     بل أنا أصنع التاريخ!

لست أدري ما الذي أجرى على لسانه هذا الجواب.. أهو تبجح أصيل فيه لا يستطيع أن يداريه، أم ليثير اهتمامي ويتبسط بالحديث معي؟ ابتسمت وقلت:

-                     إن من يصنع التاريخ هي الشعوب، أم أنت رجل غير ديموقراطي؟

-                     أولا تؤمنين بدور الأفراد في الشعوب؟

-                     أنا ديموقراطية في أعماقي.

-                     عبد الناصر مثلا ألا تعجبين به؟

-       كنت متحمسة له كما كان جميع السنة في لبنان من أجل الوحدة العربية، ولكنني لم أنتسب ألى الناصرية كما فعل أبي وإخوتي، غير أن هزيمة حزيران خيبت أملي فيه..

يبدو أن الأفراد لا يكبرون كثيرا إلاّ بالممارسات التي تجعل الشعب صغيرا عند المحن..

-       إنني أعرف عبد الناصر شخصيا كما أعرف جميع حكام العرب.. دوره انتهى في تقديري والمنطقة مقبلة على طور جديد. إنني أكتب تاريخ الشرق الأوسط المعاصر، وأجري مقابلات ودراسات، وهذا العمل يكلفني جهدا كبيرا، فالأمور ليست منطقية في هذا الجزء من العالم.

ابتسمت وقلت أرد على تبجحه السابق الذي ما زال يحزّ في نفسي:

-       أنت إذن تكتب دراسة في التاريخ، ولاتصنع التاريخ. وكتابة التاريخ بالغة الصعوبة. إنها ليست حيادية أبدا وخصوصا لأجنبي. فمن زاوية من تراك ترى الأمور؟

-       أحاول أن أكون منصفا قدر جهدي، أقابل جميع الأطراف وأنقل وجهات نظرهم .. إنني أعجب بنموذج عبد الناصر . إنه رجل فذ وإن كانت الظروف عاكسته.. أنت ابنة النائب الناصري جلال عباد، أليس كذلك؟ استوقفني إسمك وأنا أدور بين الصفوف..

-                     أنا ابنة جلال عباد النائب سابقا..

-       قرأت اسمك في هويتك، ولكنني لم أكن واثقا، فلربما كان هناك جلال آ خر في أسرتك غيرجلال المعروف، والذي يشرفني أن ألتقي به وأعرف وجهة نظره..

-                   أتحب أن أجمعك بوالدي؟

-                     ليس في القريب العاجل.. فلدي جولة ومهام أخرى فحين أعود نرتب الأمر سويا..

التقيت به أكثر من مرة بعدها في المكتبة وكنت أكتشف فيه شيئا جديدا.. أخبرني عن أسرته التي تعود في أصولها إلى أسرة عربية حكمت إسبانيا وأنها هاجرت إلى فرنسا، وكان منها كبار القادة، ثم انتقلت في القرن التاسع عشر إلى أميركا.. كان يذكر لي تفاصيل تاريخية ما كنت لأستطيع استيعابها تماما أو لأبالي بها، وقال أن سرّ اهتمامه بي أنني من أسرة عباد التي حكمت الأندلس، وأنه حين ينظر إلي يرى خلفي تاريخا عريقا مثيرا، بل يخطر له أحيانا أننا قد نكون رافدين لجدّ بعيد واحد..

وذات يوم أحضر نسخة من صحيفة محلية لم أكن أقرأها وفيها مقال مذيل باسم عبد الرحمن عباد، هتفت "هذا أخي " قال "قد يكون هناك عبد الرحمن آخر في أسرتك "

قلت " ربما، فأسرتنا كبيرة منتشرة في أنحاء الوطن العربي، في لبنان ومصر وفلسطين والعراق وحتى في المغرب.."

قرأت المقال ، وكان الكاتب يتحدث فيه عن هبوطه اليومي من جبل في سيارته وهو يقودها بحذر في الطريق اللولبي، ومصادفته الدائمة لشاب قوي البنيان يسير منذ الفجر من قريته، ويقطع الطريق أربع ساعات مشيا على الأقدام في غدوه ومثلها في رواحه ليصل إلى بيروت ويتعلم في إحدى مدارسها الثانوية لعدم وجود مدرسة في قريته . وأنه تحدث مع الشاب الذي تبين له أنه من الطائفة المارونية، وأنه من الفقر بحيث لا يتمكن من شراء دراجة، وأن وضع الشاب حزّ في نفسه فتبرّع له بثمن درّاجة، وأن صداقة نشأت بينهما، وطلب منه الشاب نصيحة في المهنة الي يمتهنها بعد حصوله على الشهادة الثانوية فقال له على الفور " عليك بالجيش! "

كنت أقرأ المقال وهو أشبه بتقرير حال بلغة ركيكة وأخطاء نحوية كثيرة، فقلت دون تردد

" هذا ليس لأخي، بل لعله ليس لأحد من آل عباد، فنحن جميعنا نفخر بإتقاننا اللغة العربية، نسمعها فصيحة منذ طفولتنا الغضة."

بدا عليه الإنزعاج وقال:

-                   أهذا رأيك؟

-                     طبعا، وإنني أعجب كيف تنشر صحيفة تحترم نفسها مثل هذه الكتابة الغثة.

سألني ما هي الأخطاء التي أثارت استهجاني، فأخذت قلما من حقيبتي وبدأت أشطب، وحين انتهيت كان نصف المقال غير صالح للنشر..سألني:

-  والموضوع ما رأيك فيه؟ قلت:

-  لا بأس، ولكن لم تخصيص الطائفة المارونية بأنها الفئة التي يقع عليها الحيف الاجتماعي؟ الكل يعلم أنهم كمجموعة يستأثرون بالوظائف الحساسة في الدولة وبالتجارة والإقتصاد وبمجمل ثروة البلاد، ألم ير الكاتب في الطوائف الأخرى ما يثير استنكاره؟ الشيعة عندنا في الجنوب يلحسون التراب، والفلسطينيون في المخيمات يعيشون عيش الكفاف وكذلك الدروز والسنة في القرى. لبنان بلد فقير غير منتج، لا تصنيع ولا زراعة ، ليس لأن الشعب كسول ولكن لأنه لا يملك الرساميل للقيام بأي مشروع..لبنان بلد ترانزيت وتجارة ، والتجار وحدهم الموسرون فيه.. فالقصة هنا ليست طائفية بل هي إجتماعية بالدرجة الأولى..

كان وجهه منفعلا، وعيناه البنيتان تزدادان قلقا كأنما هو مسؤول عن سوء الأحوال..

-  أتحتفظين بسرّ لو أخبرتك إياه؟

-  بلى، إن شئت ذلك.

-  ليس سرا خطيرا، إنني أتدرّب على الكتابة باللغة العربية وهذا المقال هو لي.. اخترت الإسم صدفة لاهتمامي الشديد بتاريخ الأندلس، ولم أكن أدري أنه إسم لإنسان معروف، صدقيني، سأختار بعد اليوم إسما آخر ، فأنا  يهمني أن أتقن اللغة العربية، ولا أجد حافزا لأفعل ذلك إلا أن أكتب للصحف العربية، فهل تصنعين معي معروفا وتنتقدين أخطائي وتنبهيني إليها ؟ قلت:

-  بكل سرور.

كان بالغ اللطف والتواضع فلم أستطع أن أرفض طلبه، وكان يولي رأيي أهمية كبيرة في كل مايكتب، وكثيرا ما كنت بدوري أحدثه عن أفراد أسرتي، وكان جدي على الأخص يثير اهتمامه، وألح كثيرا على زيارته فلم أشأ أن أعده قبل أن أستأذن جدي في ذلك .

وذات يوم جاء بكاميرا سينمائية وقال لي بأنه يود أن يلتقط فيلما تبرز فيه الطالبة الجامعية اللبنانية ويرسله إلى المجلة التي يراسلها ويكتب فيها موضوعاته  التي وعدني أن يأتيني بنسخة عنها، وهي بدورها تعرضه في التلفزيون الأميركي وأرادني أن أكون بطلة الفيلم لأنني أمثل حسب رأيه الفتاة اللبنانية المثقفة. ولم أجد مانعا في ذلك يحفزني إليه أن أكون دعاية لبلدي وصورة وضيئة للفتاة الجديدة فيه، فحسب قوله أنه نفسه فوجئ حين وطئ بيروت لأول مرة ورأى الفتيات المسلمات دون حجاب، بل وجدها كأية عاصمة أوروبية لا تختلف في أي شيء عنها، وهو يريد أن ينقل هذه الصورة عن لبنان إلى مواطنيه. ولما انتهى الفيلم لم يرغب بتحميضه في لبنان بل أرسله إلى أميركا، ولم اشاهده أنا ورفيقاتي حتى بعد مرور سنين وفي أحد أدراج زوجي!

قالت لي رفيقتي جولييت : -  إن ريمون يهتم بك كثيرا، لقد وقع في غرامك !

صحت بها مؤنبة :-  يالك من حمقاء! إنهم أناس مجاملون متحضرون ، ليست لديهم عقد شبابنا، وهل نسيت أنني فتاة مسلمة؟

-                   هل يعني هذا أنك ترفضين الزواج به لو عرضه عليك؟ ضحكت وقلت:

-       هل أنت مجنونة؟ أنا من أسرة محافظة جدا، عشائرية التقاليد، أتتصورين أنني أقتلع نفسي من جذوري لأتزوجه، أوهو يدخل في الإسلام ليتزوّجني؟ في عائلتي قتل عمي عمتي وهي تصلي لأنها رغبت أن تتزوج من غير طبقتها، فكيف من غير دينها؟

-                     إنه رجل له مكانته في قومه!..

-       إنه رجل مهذب يشهد الله، ويحلو لي الحديث معه، يعرف عاداتنا وتقاليدنا ويحترمها.. عند تصوير الفيلم وضع أحد زملائنا يده على كتفي فوبّخه، أتذكرين؟ لأنني حدّثته أن مشكلة كادت تنشأ من صورة رفاقية كنا تصورناها في رحلتنا الشتاء الماضي إلى الثلوج، إذ وقعت بيد رجل متعصب من عائلتنا وجاء بها إلى والدي وقال " أنظر إلى إبنتك! " فتأملها والدي وقال بهدوء "إنني لم أبعث بابنتي إلى الجامعة لأعاملها معاملة الحريم.." إن والدي متحرر نسبيا فقد فجعته المأساة التي حدثت في أسرتنا ولكن ليس إلى الدرجة التي يسمح لي فيها بالسباحة مثلا، وأنا من جهتي أحترم ظروفه وأوضاعه ولا أحب أن يكون له شكوى مني، ومع ذلك أخشى أن لا يحتمل الضغوط عليه من أقربائه فيتورّط في وعد بتزويجي لأحدهم.. فإن ردود فعله تجاه زواج أخي عبد الرحمن الذي تصرّف دون إرادته تخيفني..

*   *   *