السفير

 

أسرع العقيد عباد إلى منزل أخيه جلال لينبئه برغبة وزير الدفاع بنقله إلى الخارجية، وإرساله سفيرا إلى الصين.. لم تكن زوجته وابنته الوحيدة ليزا معه كما في الماضي حين كان هناك شبه اتفاق ضمني بين الأخوين على أن تكون ليزا لعبد الرحمن. كان الشابان في مطلع الصبا على ودّ حميم بدأ منذ الصغر، وفجأة تنكّر أحدهما للآخر، ثم كان ما كان من رغبة عبد الرحمن في هجر دراسته في الجامعة، ثم ارتباطه بلاجئة فلسطينية، فحدث فتور واضح بين الأخوين، وأصبحت زيارة عمي لنا لضرورة تمس ّ التنظيم الذي ينتمي كلاهما إليه.

استقبل والدي أخاه بحفاوة كبيرة مصغيا بانتباه إلى وجهة نظره، قال أنور:

-         أريد أن أستقيل، لا أشعربالارتياح، يبدو لي الأمر إبعادا  مقصودا عن مركز حسّاس لغاية قد لا تكون في صالح لبنان..

-         ربما كنت على حق، فمنذ موت عبد الناصر بدأت مرحلة جديدة في المنطقة ليست في صالحنا كوحدويين إشتراكيين.. إن أميركا لا تقاوم فقط فكرة الوحدة العربية، ولكنها ترمي أيضا إلى مزيد من تقسيم الدول العربية .. يقال أن هناك خطة لتقسيم لبنان تجري بإشراف كيسنجر، دولة مارونية في الغرب من زغرتا إلى جونية، ومن جبل لبنان في الشمال الشرقي إلى زحلة في الجنوب، وإسرائيل تعطى الجنوب حتى الليطاني، وتضم سورية البقاع وعكار وطرابلس بدل الجولان الذي لن تتخلى عنه إسرائيل لأنه مصدر مياهها..والغرض واضح: توسيع حدود إسرائيل لتضم مياه الجنوب اللبناني لإرواء النقب، وللسيطرة على الزهراني طريق النفط السعودي إلى البحر. ومن ثمّ إقامة دول طائفية هزيلة تسند إسرائيل الطائفية بدورها.. إن رجالا أثق برجاحة عقولهم يرون هذا ويتنبؤون بأيام صعبة ستمر بها البلاد التي تعاني من الطائفية، والوحدة القومية فيها أ قل أهمية من الإنتماء العشائري والطائفي..

تساءل عمي بقلق:

-         لماذا وضعت في هذا الموقف الحرج؟  من كان وراء تعيينني وإ قالتي؟ إنني دائما أميل للمواقف المعتدلة بين جميع ا لطوائف، ومن طبعي احترام معتقد الآخر.

-         نحن دائما أرحب صدرا من التكتلات الأخرى وأكثر ديموقراطية واعتدالا لأننا نمثل الكثرة في المنطقة، ولكن الكثرة تبقى دائما هلامية لا تستطيع صهرها وتوحيدها في هدف واحد مهما بدا شاملا عقلانيا..

ذكرت وأنا أصغي إلى والدي وعمي حديثا جرى بيني وبين ريمون قلت له فيه: "نحن السنة في لبنان انتمينا إلى الناصرية لأنها الشكل الوحيد التقدمي الذي يجمع شملنا في وحدة عربية ، في بلد يقيد كل مواطن فيه دينه ومذهبه على بطاقة هويته، وجميع الوظائف فيه تخضع لكوتا طائفية ، والوظائف الرئيسية يحتكرها المسيحيون كما كان الأمر في زمن الإنتداب الفرنسي. قال لي أحد زملائي مازحا أو شامتا بي:

-         المرحلة السنية انتهت في الشرق الأوسط!"

ما كان يمزح، كان على قناعة بما يقول، الطوائف كلها من مارونية وكاثوليكية وأرثوذكسية وأرمنية وشيعية ودرزية تريد أن تنهي المرحلة السنية، بالرغم أن السنة هم العمود الفقري للديموقراطية والاستقلال. فكل فئة أخرى لا يمكنها الوصول إلى السلطة إلاّ عن طريق الديكتاتورية العسكرية، والاستعانة بالأجنبي.

كان عمي يتساءل:

-         أتحسب أن شمعون هو وراء إبعادي عن المكتب الثاني ؟

-         ربما هو أو التنظيم الكتائبي، فهو أكثر ارتباطا بمخططات إسرائيل.. وهذا التنظيم تجد أفراده في المراكز الحساسة في البلاد، في الدوائر العسكرية والسياسية والأمنية والإقتصادية، الوجوه التي نعرفها تتغير، الكل يتكتل بتعصب حول طائفته، وجميعهم يتفاهمون ضدنا لأننا نحمي الفلسطينيين. ولهذا لا أستغرب أن يجد الكثيرون بأنك لست رجلا مناسبا في هذه المرحلة التي تتآمر فيها جهات عدّة لتصفية القضية الفلسطينية.

-        أتظن بأن هناك مشروع تسوية مع إسرائيل؟

-        ربما، دلائل كثيرة تعزز هذه الشكوك.. كيسنجر لا يهدأ في مكان: من السعودية إلى مصر إلى سوريا إلى الأردن إلى إسرائيل إلى لبنان، يطرح شعار "التجارة تحلّ العقد السياسية ". رجاله يقابلون رجال السياسة وزعماء المنظمات الفلسطينية، ورؤساء الميليشيات بحجة إطفاء اللهيب الذي يكاد ينشب في الشرق الأوسط..

للإنسان أن يتساءل " لماذا يختار كيسنجر كمبعوث أميركي وهو يهودي؟

أقنع والدي عمي بأن من الأفضل له قبول السفارة التي عرضت عليه لأن القوى التي لها تأثير في الجيش لن تتركه يعود إلى وظيفته الأولى:

-         أميركا لا تريد أن تواجه العرب مجتمعين موحدين بأي شكل من الأشكال، لا سياسيا ولا عسكريا ولا إقتصاديا. إن تجربة عبد الناصر بالرغم من فشلها كانت مريرة بالنسبة إليها، إذ لم تكن قادرة على أن تسيطر على اللعبة تماما لصالحها.. فحسابات الشعوب غير حساباتها. إنها تتساهل فقط مع القوميات الإنعزالية، مع مشيخات بترولية، دويلات أقليات طائفية، ديكتاتوريات عسكرية مرتبطة بها ، أما توجهاتنا نحن فترعبها.. ولهذا ترى أن تنظيمنا فقد حيويته، فأمس كنت في الإجتماع وكانت الصفوف خالية، لماذا برأيك؟ الإعانات توقفت من مصر، وليس من تنظيم يمكنه أن يصبح قوة فعالة دون تمويل سخي وكثرة من المنتفعين. بل بت أخشى أن أرشح نفسي للنيابة في الجنوب وأفشل، فكيف لي أن أحقق مشاريعي لإعمار الجنوب دون ممول أعتمد عليه؟ إن ثروتنا تتقلص، نبيع أراضينا ونتحوّل إلى برجوازية عقارية، ولكن الإيرادات من العقار لم تعد كافية. فأجورها تتدنى يوما بعد يوم بسبب قوانين السكن والتضخم، العملة في هبوط مستمر!

ابتسم عمي وقال:

-         أراك تستخدم عبارات الشيوعيين..

-         ماذا أفعل؟ هكذا يصنفوننا، إقطاع وبرجوازية عقارية، حتى في صيدا لا أجد اليوم أنصارا لي.. إن قوى جديدة الآن تتقدم الصفوف، وأخشى ما أخشاه أن نصبح فريسة لكل القوى الطامعة بنا.. إسرائيل لا تخفي طمعها في الجنوب ومياهه، وعملياتها لجر مياه الليطاني قائمة على قدم وساق، وسوريا تحت شعار "لبنان هو المكمل الطبيعي لسوريا" تريد أن تلعب الورقة الفلسطينية والشيعية لصالحها، والموارنة مابين مرتبط بالبابوية وفرنسا، وملتحق بأميركا وجهاز مخابراتها، ناهيك عمن علاقتهم مباشرة مع إسرائيل.. لبنان معدّ للتمزّق والإنقسام على نفسه حتى الحرب الأهلية ونحن عاجزون عن فعل إي شيء. الموارنة شكّلوا تنظيماتهم، والشيعة صبوا في حركة المحرومين، ونحن لم يعد لنا إلا أن نشكل جبهة لبنانية مع الفلسطينيين ...

*   *   *