أخي هشام

 

دخلت إلى المكتبة فشاهدت ريمون يقلب مجموعة من الرسائل باحثا عن رسالة له.. نظر إلي وابتسم: "أظن أنني قرأت اسمك على أحد الظروف".

كانت الرسالة من أخي هشام ، رسالة مقتضبة يخبرني فيها عن عودته إلى بيروت بعد حصوله على الدكتوراه في الإقتصاد، وأنه تزوّج بفتاة أميركية ، وبذلك سيحصل تلقائيا على جنسية زوجته، ولكنه يفضل العودة إلى بيروت ليجرّب حظه في العمل فيها، فإذا لم يوفق إلى وظيفة محترمة عاد من حيث أتى وبقي هناك حيث فرص العمل أوفر والرواتب أجزى..

سألني ريمون الذي كان يتفرس في وجهي بإمعان وأنا أقرأ الرسالة : "إنشالله الأخبار كويسة؟".. كان يحب التحدّث بالعربية لإتقانها، ويحب سماعها مني فقلت له مازحة:  "أصبحنا أقرباء". قال دهشا: "كيف؟ " أجبت: " تزوج أخي أميركية ". ضحك ريمون وقال:

-         أميركا تجتذب الشباب الطموحين من كل أنحاء العالم. إنها تجعل العالم وحدة مترابطة المصالح، وبهذا تتسع السوق التجارية، والمصالح التجارية تحل المشاكل السياسية .. إنه يستطيع بهذا الزواج الحصول على الجنسية الأميركية ، وهذا بحد ذاته ربح كبير..

تساءلت باحتجاج:

-         ربح لمن؟

-         ربح له لأنه يكون في صفوف الأقوياء ، وربح للعالم الحر..

-         ولبنان! أليس من حقه أن يربح أبناءه المثقفين في تطويره؟ ووالدي ! أليس من حقه أن يرى أبناءه قربه يدعمونه؟ نحن عائلة حالمة، متصلة الحوار ، وحلمنا إعمار الجنوب، وأن نكون يدا واحدة، ولهذا أستغرب تلك اللهجة البراغماتية التي يتكلّم بها "إذا لم أجد في بيروت وظيفة مناسبة فسأعود من حيث أتيت وأتجنس بالجنسية الأميركية".

لاحت على شفتي ريمون ظل ابتسامة غامضة، تلك الإبتسامة التي اعتاد أن يعبر بها عن مزيج من الإعجاب والإزدراء للحلم الذي يطرده الواقع.. كان يهتم بالإشياء التي تترك أثرا عمليا، لا بغاية العيش، أو روعة الأهداف..سألته ذات مرة عن هدفه في الحياة فأجاب بأن يؤثر في الناس تأثيرا عميقا بغض النظر فيما إذا كان هذا التأثير نافعا أو ضارا.. أحس فجأة بإحساس حميم نحو أخي، ووصفه بالواقعية واتساع الأفق والمرونة كما وصف يوما عبد الناصر بأنه رجل فذ، وبعد موته قال عنه بأنه جاهل ضيق الأفق، ولم يكن على مستوى القيادة في مصر..

لم يتح لي أن أسأله حينذاك ماذا يعني باتساع الأفق وضيق الأفق ، والمرونة وعدم المرونة، والواقعية والحلم، بل قال متباهيا كعادته:

-         إن لي صديقا صاحب مصرف ، متخرجا من جامعة هارفرد، وهو لا يجد مديرا كفؤا، وإذا ما جاء أخوك سأعرفه عليه، وأنا واثق أنه سينال رضاه حتى دون أن يراه.

ماذا أقول؟ هل الصدف كانت تلعب لعبتها، أم كان يخطط لها؟ وإني لأعجب كيف نجح أخي في الإمتحان الذي خضع له وهو لا يدري، وهو يظن نفسه سيد اللعبة وفارسها..

كان لأخي هشام مزاج مرح خفيف، يكره الكدّ والكدح، ويحب الإستمتاع بكل مباهج الحياة على اختلاف ألوانها، وكان نزاعا للمقالب غير المؤذية، وللمغامرات، عاجزا عن الإنفعالات الرفيعة التي يضج بها صدر أخي عبد الرحمن.. وما كنت أدري أن السنين الأربعة التي غاب فيها عنا قد طوّرت مفاهيمه وسلوكه بطريقة لا يستسيغها آل عباد، ولا تنسجم مع مثلهم العليا، كما تلقنتها من جدي وأبي..

كانت الطائرة التي جاء على متنها لا تزال فوق الأطلسي حين طلب من الراكب في المقعد الموازي له أن يعيره الصحيفة العربية التي كان يقرأها، وما لبث أن ترك زوجته التي أغفت قربه، وانتقل إلى جوار الراكب الذي استعار منه الصحيفة، والذي كان يجلس بمفرده، فرحب به وفتح له صدره بكرم ورحابة، قال له:

-         ظننتك أجنبيا فأنت تتكلم الإنجليزية بطلاقة .

قال متباهيا:

-         زوجتي أميريكية وأنا خريج جامعة نيويورك في الإقتصاد.

لم يلبث أن تطور الحديث بينهما إلى الحديث عن الأعمال ، وفهم أخي أن الرجل وهو سعودي ثري يقوم بأعمال تجارية في بيروت، وأنه دخل مناقصة لشراء سيارات ببضعة ملايين من الدولارات، وأنه يأمل أن ترسو الصفقة عليه فليس من أحد قادر على منافسته في لبنان..

هبّ أخي وقد حبكت معه النكتة ، وأخذ يستفسر بقلق متزايد عن أدق تفاصيل المناقصة.. وبخبرته الإقتصادية وطبيعته النزّاعة إلى المقالب، وخلطه الجد بالهزل أوحى للرجل أنه داخل في المناقصة، وأنه دفع التأمينات اللازمة، وأن فرصته بالفوز أكبر لأنه لبناني وليس سعوديا!..

سأل الرجل بانبهار:

-  أيمكن أن تكون على هذا المستوى من الثراء ، فتدخل مثل هذه المناقصة؟

أجابه متباهيا:

-         ماذا تظن؟ إن عائلتنا تملك الجنوب، معظم أراضيه.. ووالدي نائب في البرلمان، وعمي زعيم سياسي وقائد عسكري..

-         حسنا، كم تطلب لانسحابك من المناقصة؟

لست أدري كيف صدق الرجل كل الأكاذيب التي حاكها أخي عن المناقصة، وعن ثرائنا الموهوم، وعن نيابة أبي التي لم تتحقق، فالرجل كما عرفته فيما بعد ليس ساذجا ولا مغفلا، ولا تنقصه الثقافة الأكاديمية..

لم يتركه أخي حتى وقّع على شيك بنصف مليون دولار ثمنا لانسحابه من المناقصة الوهمية، وتركها للثري السعودي، وجرى كل هذا وزوجته لا تزال تغط في نومها، فأودع الشيك جيبه، وانتقل إلى جوارها..

ذهبت لاستقباله في المطار أنا ووالدي، فأخي عبد الرحمن كان لا يزال مقاطعا لنا منذ زواجه حتى أننا لا نعرف أين يسكن وكيف يعيش، وكانت معنا ابنة خالتي جهينة التي لم تجد من اللياقة أن تمتنع عن استقبال هشام وزوجته رغم ترددها في البداية..

كان أبي مغيظا من زواج هشام بأجنبية، وكان ردّ فعله شبيها بردّ فعلي حين قرأ الرسالة، قال:

-         نرسلهم ليتعلموا ويكونوا قوة لنا فيسحرهم الغرب وبنات الغرب ويسرقهم منا. ومع ذلك لم يظهر على السطح إلاّ الإستقبال الحار الفياض، وإن كانت تنقصه اللهفة الصادقة..

لمحت بشكل خاطف شابا نزل من الطائرة ، شابا فارع الطول ملتحيا، حاسر الرأس، أنيق المظهر يرتدي طقما أبيض كان يمعن إلي النظر، ولكنني كنت مشغولة بأخي وزوجته التي اختارها، وكنت أترجم لوالدي ما تقول وأقوم بواجب المجاملة.. وحين حاولنا الإنصراف خيل إلي أن الشاب لا زال واقفا مكانه يحدق بي بمزيج من الفضول والإعجاب..

كان أخي مبتهجا جذلا يضحك لأتفه الأسباب، وماعرفت سرّ ضحكه ومرحه حتى وصلنا إلى المنزل. ولما أخبرنا بالقصة التي جرت على متن الطائرة، ظنناه يمزح. ولكنه حين  أخرج الشيك وأرانا إياه وجمت أنا ووجم أبي، وقال له على الفور:

إذهب في الغد وأرجع الشيك إلى صاحبه! هذا نصب واحتيال لا يليق بآل عباد!..

كان في حال من الغضب المكبوت، وأخذت زوجة أخي تسألني فيم غضب أبي وهل هو بسبب زواج هشام منها، فكنت أهمس لها بأن الأمر لا يتعلق بها بل بأمر آخر.

ولكن أخي هشام لم يجد أبدا في تجريد مغفل يبدد أمواله من هذا المبلغ أي ضير، أخذ يحاجج أبي ويحدثنا عن الفساد والرشوة التي ينغمس فيها هؤلاء الناس.  يملكون الثروات الهائلة ثم يبددونها في القمار والفجور في أندية الليل الغربية دون حساب. وأردف:

-         ماذا لو حصلت على مثل هذا المبلغ التافه، وبدأت حياتي وأنا مرتاح؟ إذا بدأنا في حساب النفس وميزنا بين مال حلال ومال حرام، لم نجد ما نسدّ به جوعنا!

غضب أبي وثار مزاجه النكد، وقال له بأنه أصبح غريبا لا تربطه به رابطة الدم، وأن من الأفضل له أن يقيم في أحد الفنادق ولا يدوس بيته..

قام هشام وحمل حقيبته، وطلب من زوجته مرافقته ليجد فندقا يأويه!

تذكرت أنه فعل ذلك بعبد الرحمن يوما، ولكن ما أبعد ما أغضبه من عبد الرحمن عما أغضبه من هشام! كان ينعى على عبد الرحمن تقصيره في حق نفسه ودراسته، واختياره طريق المتاعب.. كان الحلم كبيرا عند عبد الرحمن يتجاوز مدى والدي، ومقاومته شديدة، وحساسيته عالية، ففارقنا وحيدا لأننا لا نفهمه واعتبره والدي متمردا.. أما هشام فإنه فقد الحلم تماما وشكل فلسفة في الحياة مغايرة في الحياة لمبادئنا تدور حول ذاته، ورغبته في إرضاء زوجته التي حبذت تصرفاته واعتبرتها مهارة وذكاء.

ما كنت لأستطيع مقاطعة أخي هشام طويلا فأخسر كل إخوتي..رغبت في دراسة سلوكه اليومي، وحين استقرّ في بيت مفروش زرته، ووجدت أن الإنتهاز والأنانية وحتى اللصوصية أصبحت طراز حياته يمزجها بدعابته، فيسكت بها وخز ضميره..

-         هكذا الحياة ! – كان يبرر نفسه- ماذا بوسعي أن أفعل تجاه عصر لا يصل فيه إلى النجاح إلا من يسير مع التيار لا من يقاومه..

-         لم أنم في تلك الليلة وأنا أقارن بين إخوتي، بيت واحد أنجبهم ، وأم واحدة أرضعتهم ثدييها، تحدّثت مع جهينة حتى مطلع الفجر وبي رغبة أن أخفف عنها خيبتها في كريم

قلت لها:

-         تظن الأخت أنها تعرف أخاها جيدا، ولكنها لا تعرف منه إلا جانبه الأسري، أما علاقته مع المجتمع والنساء، وفلسفته في الحياة، ومبادئه والتزامه بها فهي تبقى خافية عليها إن لم يكن هناك حوار، وأنا لم ينشا بيني وبين أحد من إخوتي حوار إلا مع عبد الرحمن.. لقد كنا صديقين، إنني أفتقده كثيرا هذه الأيام، ولكن والدي خائب الرجاء بهم جميعا..                                                             

*   *   *