عبد الرحمــن

 

عرفت أخبار عبد الرحمن بعد فترة قصيرة من جهينة. كانت تستقصي من والدها عن وسيلة يمكنها بها أن تساعد نفسها بعمل ما ريثما تتخرّج، فقال لها:

-         هناك مجلة لبنانية تموّلها المنظمة. رئيس تحريرها لا يعلن إسمه ولا أعرف هويته، لكن زوجته فلسطينية من جماعتنا، تكتب أشعارا مؤثرة عن فلسطين. ولعلك تساهمين ببعض الترجمة، أو أي شيء آخر، فلقد كنت دائما ميالة للأدب .

لم يهدأ بال جهينة حتى عرفت مقرّ المجلة التي لم تكن بعيدة عن المخيم، وقابلت رئيس تحريرها. كان وجهه مألوفا لديها وساءلت نفسها أين رأته. قدّمت نفسها إليه قائلة:

-         جهينة نابلسي.. كانت أسرتي في عمّان وهاجرت بعد أيلول الأسود إلى لبنان.

قدمت إليه كتاب التوصية من المنظمة فقرأه وقال:

-         حسنا، ما هي مؤهلاتك للعمل لدينا؟

-         أحسن اللغة الإنجليزية، ولدي موهبة أدبية إن أحسنت استثمارها.

-         سأعطيك بعض مقالات بالإنجليزية لتترجميها إلى العربية، فمتى تنجزينها؟

-         قالت وهي تتصفح الأوراق:

-         أحتاج إلى شهر.

-         أليس كثيرا ؟

-         إن كانت السرعة ضرورية أنجزها في أسبوعين، ولكن..

-         ولكن ماذا ؟

-         لا، لاشيء، فقط أن لايكون علي ضغط يعيق دراستي.

ابتسم وقال:

-         ماذا تدرسين؟

-         اللغة الإنجليزية في الجامعة العربية. وأنا في سنتي الثالثة.

-         ماذا تنوين أن تفعلي بعد الدراسة؟ ترجمانة محلفة أومدرّسة هنا أو في الخليج.. لم أقرر بعد.

-         إن شئت أن تعملي مدرسة عندنا في المخيم فإنني أساعدك، ويكون عملك في المجلة عملا إضافيا لأنه ليس مربحا كما تعلمين.

-         أنا لا أبحث عن الربح، بل أرغب بخدمة بلدي.

-         خذي راحتك، وسلّمي ما ينجز معك أولا بأول.. هل تسكنين في المخيم؟

-         بل في بيت أقرباء لي.

-         نحن ندفع للكلمة نصف ليرة لبنانية أتوافقين؟

-         موافقة.

كانت جهينة على وشك المغادرة دون أن تعرف هوية رئيس التحرير ؟ ولكنه رن الجرس وطلب بعض أعداد من المجلة.

دخل الغرفة رجل وهو يحمل نسخا من العدد الأخير، فقال له:

-         أريد أعدادا متنوعة منذ بداية العام.

-         حاضر أستاذ عباد..

قالت جهينة:

-         خطر لبالي " أيكون عبد الرحمن؟ ترى هل رأيت هذا الوجه في ملامحك، وبدا لي الشبه قويا. قلت:

-         أستاذ عبد الرحمن أليس كذلك؟

ابتسم وقال:

-         نعم ، كيف عرفت إسمي؟

-         رأيت صورتك في بيت خالتي

-         صورتي!

-         نعم في البيت الذي تركتها فيه.

-         عجبا! أنا لا أحب أن أتصور، ولا أذكر أنني أعطيت صورتي إلى أحد.

-         آه عبد الرحمن! رأيتك في وجه نبيلة..ورأيت صورتك وأنت حليق في حقيبتها..

تنهّد عبد الرحمن وقال:

-         أحن لرؤيتها، ولكن عملي يفترض السرية، وأنا لا أرغب أن يدري بوجودي هنا أحد.

-         حتى نبيلة ؟

-         نبيلة تستثنى..

وأردف وهو يتأملني:

-         نحن أهل ولا يعرف أحدنا الآخر حين يلقاه، إذن أنت جهينة ابنة خالتي التي أخذت علقة ساخنة بسببها من والدي، أذكرها حتى اليوم. ألا تذكرين؟

-         لا أذكر.

-         كنت فتى في العاشرة وأنت في السابعة عندما زرتمونا في صيدا منذ خمسة عشر عاما..استبقاك والداك عندنا لتلعبي مع نبيلة بينما ذهبا إلى بيت جدي..

-         أذكر شيئا من هذا القبيل.

قلت لي:  هل تأخذني إلى البحر؟ ولم أستطع أن أرفض لك طلبا ، وانضمت إلينا نبيلة وسرنا على غير هدى.هل تذكرين بساتين البرتقال التي مررنا بها والكلاب التي طاردتنا وكيف أنني نسيت جاكيتي معلقا على السياج عندما لحق بنا ناطور الحديقة، لأننا كنا نقطف الأزهار؟ وكيف وقفنا عند ساقية فيها       ضفادع كثيرة تنق وكيف أنك قلت لي"إنها تتكلم إنها تقول لا إله إلاّ الله".. لأول مرّة في حياتي كنت أسمع بأن الضفادع تتكلّم وأنها تقول لا إله إلاّ الله.. كنت مسحورا بذلك الإكتشاف وأنا أداعب الضفادع بقدسية وأقرّب إحداها من أذني لأسمع ماتقول.. ومرّ بنا الوقت ولم نصل البحر إلاّ متأخرين.. كنت مصرّا على أن أجعلك تشاهدين البحر..

لم ينتبه عبد الرحمن إلى الفتى الذي أحضر عددا من المجلات وانصرف، بل استمرّ في استعادة ذكرياته..الشمس توشك على الغياب ونحن لا نشعر بجوع ولا عطش، ورأيت عند الشاطئ مركبا للصيادين. أردت أن أتباهى أمامك فقلت "هيا نقوم بنزهة في المركب!" قفزت إليه وأمسكت بيدك فقفزت ثم تبعتنا نبيلة. الشمس تغيب وتلون السماء بحمرة قانية، وطريق مذهب يصل ما بين الشمس والمركب.. كنت أجذف والمركب يتحرك بنا ويوغل.. وفجأة سمعنا صوت الصياد صاحب المركب ينادي "إرجعوا أيها الأولاد الملاعين!" ولكنني لم أعد أعرف كيف أرجع.. وكنت أراوح في مكاني وأدور وأنا أبتعد عن الشاطئ، وأحسست بعيني تزوغان وبقواي تهن والصياد يصيح "إرجعوا وإلاّ ستغرقون" ونبيلة تبكي وتقول "كفاك لعبا يا عبد الرحمن" ودموعها على خدّيها تصبح قطرات مذهبة.. لم أكن ألعب، ولست أدري ما حدث، كنت أدور برغمي.. وفجأة مددت يدك لتمسكي بسمكة، وأنا تحركت حركة لا إرادية مبتعدا عنها ، وأنت تمطين جسدك كي تصلي إليها، وفجأة وقعت..هلعت وتركت المجذافين يسقطان من يدي ورميت بنفسي في البحر وأنا لا أحسن السباحة.. ولم نلبث أن وقعنا ثلاثتنا في البحر، ولولا أن الصياد أسرع لنجدتنا في الوقت المناسب لكنا ثلاثتنا طعاما للأسماك..

عدنا إلى البيت والماء يسيل منا، واستقبلتنا عمتي مهتاجة "يصيبكم، ينيبكم، تتعلقوا من قرانيبكم، تفرمكم سيارة على هالعملة، وين كنتو؟" قال لها البستاني "إحمدي الله أننا لم نأت بهم جثثا هامدة..علقوا في دوّار، ولولا فضل الله وعنايته الإلهية أنني خرجت وإبني صدفة من كوخي لأشاهدهم لكانوا غرقى، ولكنني خسرت مركبي الذي تفكك..

شكرته عمتي، ولانت لهجتها الصاخبة معنا فأدخلتنا البيت بعد أن طلبت من الصياد أن يأتي في اليوم التالي فيعوضه والدي عن مركبه..

خلعنا ثيابنا البليلة، وارتدينا المنامات وغفونا.. وعند الصباح شاهدت أمي كومة الثياب البليلة في قرنة المطبخ ولما استفسرت عن السبب وعلمت بما حدث أجهشت بالبكاء، وبقيت تبكي طوال النهار وتردد "العناية الإلهية! شكرا لك يارب!" وضمتنا إلى صدرها كأنما نحيا من جديد..غير أن أبي لم يغفر لي، بل ضربني بخرطوم الماء فترك آثارا على جسدي، إذ اعتبرني مسؤولا عما حدث، وجلست أمي قربي تبكي وتضع الكمادات الباردة على موضع الألم في جسدي وتردد "العناية الإلهية! الله ينظر بعين الرضى إلينا، إلى هذا البيت المؤمن."

قالت له جهينة:
-  إنك تذكر التفاصيل بذاكرة مدهشة.

-         أحسب أن الذاكرة هي كل ما أملكه في الحياة.. أنا لا أنسى بسهولة!.. كيف حال نبيلة؟ لعلها الوحيدة التي يهمّها أمري ويهمّني أمرها في أسرتي!

-         إنها أنهت دراستها الجامعية، وهي تتدرب الآن في مكتب والدك.. يبدو لي أنكما صديقان قبل أن تكونا أخوين..

-         هذا صحيح..

-         كثيرا ما تحدثني عنك.. إنها حزينة للقطيعة بينك وبين والدك..

-         أنا لا أحقد على والدي، ولكنني أبتغي التحرر من أسره، خيبت أمله وحق علي أن أتوارى عن عينيه.. مرة واحدة كرهته، بل كرهت نفسي بسببه، ولكن ما لنا ولهذا؟ إنني لا أنوي أن أنفض إليك بكل أسرار نفسي في جلسة واحدة..

-         بل إفعل يا عبد الرحمن.. الإنسان في هذا العصر بحاجة إلى الصداقة أكثر مما هو بحاجة إلى الحب ونادرا ما يجتمعان..

-         أحمد الله أنهما اجتمعا في زوجتي.. إنني أعتبر نفسي رجلا محظوظا بالرغم من كلّ ما مرّ بي.. يجب أن تتعرّفي إليها يا جهينة، وأنا واثق أنكما ستنسجمان.. عاشت محن شعبها، وآخر محنة مرت بها أنها فقدت طفلها..

*   *   *