رجل المخابــرات

 

حدّثني عبد الرحمن عن رجل المخابرات الذي وشى به وأدخله السجن كبداية لمضايقة الصحافة الحرّة في لبنان.

-         كان زميلي في اليسوعية، في نفس صفي، وكنا نتنافس على الدرجة الأولى.. لا شك في ذكائه، ولكنه إنسان منحرف التفكير، شخصية سيكوباتية.. كان يسرّ إلي قائلا "لا أستطيع أن أرى من هو أغنى، أو أحذق، أو أوسم، أو أكثر تفوقا مني في أي شيء دون أن أحسّ بنار مسعورة في صدري".. عرف مقالاتي من أسلوبها المتميز، يعرفني جيدا ويعرف تفوقي عليه باللغة العربية، ويراقبني جيدا منذ قدمنا إلى بيروت..إنها عشرة عمر.. دعوته مرة إلى عيد ميلادي وندمت.. نظر إلى المائدة الحافلة بصنوف الطعام، وضحك ضحكة غريبة "أتأكلون كل هذه الأطباق في بيوتكم؟"

-         ليس كل يوم ، في المناسبات يكون الإنسان أكرم..

-         أغبطكم على هذا النعيم الذي تتقلّبون فيه، فأنتم تستأهلون..

قالها متنهدا وبلهجة تتصف بالسخرية والحقد، وضحك شامتا، نفس الضحكة حين يضعني في المآزق كأنما يقول لي "انتهى دوركم وجاء دورنا".. له روح ساديّة، كيف لم ألاحظها قبل ذلك؟ كيف يتعاشر أناس يختلفون في بيئتهم وأهدافهم ومشاربهم ويتصادقون؟ إنها روح المنافسة، وأنا كنت أريد خصما جديرا أن أتفوّق عليه.. وتنقلب الأيام وإذا به من يتحكّم بي، ولمّا لم يجد ما يطعنني به ، وجد تصعيد العداوة في اغتيال معنى الحياة الذي كرّست له عمري.. يريد أن يمرّغ راية الصدق التي أرفع لواءها.. وذريعته حبي لفلسطينية وولائي لقضيتها.. كثيرا ما تتحول الغيرة الشخصية من إنسان إلى ردود فعل على النطاق السياسي، ليخدم المستبدين والفاسدين تحت مختلف الشعارات..والآن وقد عرف مكان إقامتي والصحيفة التي أنشر فيها مقالاتي، فإن علي الإنتقال من هذا المكان وتغيير نمط حياتي..

عرضت عليه العودة إلى البيت والسكنى معنا فقال:

-         لا ينفع! بيتنا تحت الأضواء، إنه مدروس تماما..يعرفون عنك كل شيء.. ماذا تأكلين وماذا تشربين، حتى زبالتك هي تحت المراقبة لعل فيها قصاصات أوراق تدينك، يأخذونها ويدامجونها ليعرفوا موقفك من الأحداث التي تجري في لبنان..

هالتني تلك الصورة التي رسمها لي عبد الرحمن.. ربما كنت أنا أيضا أشارك في تلك المؤامرة لتدمير بيتنا بالتفوه بكلام لا يجب أن يصل إلى بعض الأسماع.. وبعد أسبوع كنت في زيارة لعبد الرحمن ، وحدّثني أن هناك محاولة من السلطات لاستيعابه.. كانت زوجته تهيئ العشاء ، قال لي:

-         زارني رجل المخابرات الذي حدّثتك عنه.. نظر دهشا إلى أحوال بيتي وهو الذي كان يحسدني على الحياة الأرستوقراطية التي كنت أعيشها سابقا في بيت والدي، وبعد أن أبدى استغرابه من اختياري طريق الشوك وأنا أملك كل أسباب القوّة من إمكانات ثقافية وإبداعية ومعرفة باللغات، قال لي:

-         أنا ووزير الداخلية خوش بوش.. استدعاني أمس وسألني عنك، هو يعلم أننا أصدقاء، وأنك كنت  زميل دراسة في السابق، فقلت له عنك بأنك من أشرف الرجال وأكثرهم صلابة وقدرة على الإقناع.. قال لي "أين أنتم؟ " لاحظي أنه بدأ يجمل إسمينا معا " غيركم يركضون وراء المنافع، يحصلون على الأموال والبيوت والسيارات، ولا يصنعون شيئا للبنان.. أنتم من طينة أخرى، لماذا لا تشكلون حزبا يكون كعصا موسى تنقلب إلى أفعى تلتهم أفاعي النفاق والدجل الأخرى؟ " اعتذرت بقلّة مواردنا فقال "لا تبالي، في الدول الديموقراطية تعطي الحكومة مالا للأحزاب، وإلاّ كيف يستطيعون إخراج صحيفة واستئجار مكتب ، والقيام بتكاليف إنشاء حزب؟ " قلت له "من اشتراكات الأعضاء." ضحك من سذاجتي وقال "الإشتراكات لا تفعل شيئا" . يا عبد الرحمن ، لوكنت رأيت استقبال الوزير لي، جلس معي ثلاث ساعات.. الحكومة تقدّرنا، مزنوقة وتستنجد بنا.. قال "لماذا تجعلون جدارا جليديا بيننا وبينكم؟ إنشطوا ! أنتم الطبقة المثقفة في البلد، لماذا لا تنشطون؟ قلت "سيدي نخاف ننشط تدقوا بنا، وتقولوا حزب غير مرخص" قال "نعطيكم رخصة، فقط نعرف أهدافكم. هذه مسؤولية وطنية ويجب أن يكون لكم كلمة مسموعة، لا تتأخروا ولا تنتظروا حتى الإذن" قلت له " نحن من حقنا العمل السياسي كمواطنين في بلد ديموقراطي، أعرف ذلك، ونحن دائما ناشطون، ولكن الكلام لا يفيد شيئا إن لم يكن لنا سند من الحكومة.. لانقدر أن نعمل تنظيما فتتهموننا بأننا شيوعيون أو معارضة" قال لي "نحن بلد ديموقراطي.. لا بأس بكم حتى لو كنتم شيوعيين أو معارضة، ولكن لتكن في حدود المعقول"..

ضحكت وقلت:

-         يعني معارضة مستوعبة!

-         ليس هذا فقط، ومأجورة ومملوءة برجال المخابرات الذين سيحتلون المقاعد البرلمانية باسمي النزيه!..

ضحكت كثيرا أنا وعبد الرحمن للأساليب الغبية التي يتبعونها ، ولكن عبد الرحمن استدرك قائلا:

-         إنه ليس غباء.. إنه خطة ليكون الإعلام في لبنان سوقا كغيره.. الحرية الإعلامية في لبنان تضايقهم، تكشف أغوارهم وهم يريدون تحضير هذا الشعب لاستقبال عبوديته المعاصرة وهو غافل..

*   *   *