لبنان منقسم على نفسه

 

كان لا بد من نصر يعيد العرب إلى توازنهم النفسي، هذا ما كنت أشعر به وما أراه من تعلق الناس عندنا في لبنان، وعلى الأخص السنة بالفلسطينيين كطليعة مقاتلة تحمل البندقية، ولا تتخلّى عنها، وتؤمن بالكفاح المسلّح من أجل قضية فلسطين.

تدفق الفلسطينيون إلى جنوب لبنان، ويقول كثير من الناس أن هذه هي بداية المأساة ، ولكنني وبعد مرور تلك السنين بتّ على يقين أن لبنان، وحتى لو لم يكن فيها فلسطيني واحد، كان سيدمّر كما دمّر، وستجد إسرائيل سبيل العبث في مقدّراته والعدوان عليه.

يقول الناس أن المسيحيين أصبحوا يخشون على نسبتهم الطائفية فيه، ويخشون على حكمهم وامتيازاتهم، وأنهم كانوا أول من دقّ طبول الحرب الأهلية وأنذر بالخطر ، وأخذ يحذر من تواجد الفلسطينيين فيه. جيل كامل تربّى على الكراهية. كثيرا ما سمعتهم يردّدون الموّال، دولة في قلب دولة، عرفات ملك لبنان. البندقية السنيّة التي يجب على الكنائس أن تمتلئ بالأسلحة لمقاومتها، كيف كانت ترغي وتزبد، تلك الكراهية حتى وهي في إطار الكلام. قصص يتناقلها الناس عن ميزانية هائلة تملكها المنظمة تأتيها من الدول العربية، وعن ثوار يقدّمون لضيوفهم الشاي في صوان من ذهب، وعن أعراس لبناتهم تقام في أفخم الفنادق، وهدايا من أمراء ورعايا، تشنشل العروس بالمجوهرات، وعن قصور يسكنونها، ومزارع في إفريقيا يستثمرونها، ومشاريع يقومون بها  لصالح الأشخاص الذين كتبت بأسمائهم ولا يردّون ريعها للمال العام للمنظمة، ومقابل هذا لا يقومون إلاّ باستفزازات هزيلة للعدو ، يعقبها حملات تدمّر القرى وتقتل النلس جزافا، رجالا ونساء وأطفالا، لبنانيين وفلسطينيين، ومن كل الطوائف..

كانت قرى الجنوب وغالبيتها من الشيعة هي التي تستهدفها الغارات ، وتجعلها تدفع ثمن تواجد الفلسطينيين في لبنان دمارا لقراها، وقتلا لأبنائها، وتدفعها لهجر الجنوب إلى ضواحي بيروت حيث تقوم بأحقر الأعمال وأقلها شأنا، وتعيش كالفلسطينيين في أكواخ الصفيح تزاحم إحداها الأخرى.. شهدت صرا ع العيش في بيتنا بين زينب، الفتاة المتولية التي كانت تقصدنا مرتين في الأسبوع لخدمات المنزل وبين فتاة فلسطينية جائتني بها جهينة من المخيم للمساعدة فأكرمتها اضافة الى اجرتها ببعض الثياب القديمة لإخوتها..لست أدري كيف قامت المشادة بينهما، كانتا تقومان بتنظيف زجاج النوافذ، وكانت احداهما تستدرج الأخرى للحديث عن أحوالها، وفجأة نشبت بينهما معركة وعلا صراخهما.. كانت زينب في سخط وثورة "ماذا ينقصكم؟ تأخذون المعونة من غوث اللاجئين، مالاً وأغطية ومعلبات من كل الأنواع، تأتيكم المساعدات والمؤن من كل الدنيا، تشترون الأسلحة وتتبخترون بها، أما نحن فاننا نقتل بسببكم ولا نجد في تشردنا من يغيثنا، ولا نحصل على الرغيف لنسد جوع أطفالنا..

صحت بزينب: - ما ضرورة هذا الكلام الجارح يا زينب؟ لماذا تتركين للحقد سبيلاً الى قلبك؟ كلتاكما ضحية وبدل أن يقرب بينكما الظلم الذي يقع على كل منكما تتربص كل واحدة منكما بالأخرى للإيقاع بها..

بكت رويدة الفتاة الفلسطينية وقالت: - أنا لست "قدّها" اي نداً لها، فلا تجمعي بيني وبينها في العمل..

وثارت زينب مرة أخرى: - طبعاً تأملين أن تتخلى عني وتقربك انت

قلت اطمئنهما: - لم آت برويدة لأستغني عن خدماتك يازينب بل لتساعدك فأعمالنا كثيرة هذه الأيام ونحن مقبلون على الشتاء

قالت زينب محتجة: - انك تحابينها وتعطينها أحذية وثياباً..

سألتها بدهشة: - هل طلبت مني وامتنعت؟

قالت زينب بكبرياء: - هل المفروض أن أطلب منك؟ أليس لي أنا الأخرى اخوة حفاة عراة؟

أحسست بقلبي يقطر ألما، وطيبت خاطر زينب، إلا انني كنت أشعر والأسى يغمرني أن أوضاعاً متفجرة تنشأ في لبنان، لم يعد بالامكان استمرار الحياة على ماكانت عليه، وما لم يوجد حل للعطالة المتفشية فيه، لأكواخ الصفيح التي تحيط بعاصمته الجميلة، لجموع اللاجئين الذين يحتشدون أكداساً في المخيمات، ولأولئك المهاجرين من الجنوب الذين تحولوا من منتجين في أرضهم الى باعة صغار على الأرصفة، يفرشون بضاعتهم ورأسمالهم لايزيد عن بضع عشرات من الليرات اللبنانية ووراءهم عيال عليهم أن يطعموهم ويكسوهم، ولأولئك الذين احترفوا التسول يأساً من العمل، أو لأولئك العمال المياومين الذين يجلسون في مفارق الطرقات ينتظرون من يدعوهم لعمل مؤقت، وأولئك الذين يحملون سلالاً أكبر من حجومهم على ظهورهم ويسندون ثقلها بعصابة تلف حول جبهاتهم وهم في السن التي يذهب فيها سواهم الى المدارس ويتعلمون، ولأولئك الصغار الذين يجلسون وراء صناديق البويا يلمعون الأحذية لقاء ما يسد رمقهم، فان النار ستشب في لبنان تحرق أخضرها ويابسها..

ضحك رفاقي في الجامعة وأنا أقول لهم "بمثل هؤلاء الناس لا تستطيع لبنان أن تحتفظ باستقلالها.." وقال لي أحدهم وهو ماروني "اذهبوا وصالحوا اسرائيل، لاقبل لنا بمقاومتها، ولا طاقة لنا على حربها.. ان لبنان يكفي لهزيمته خمسون صبية تضعها اسرائيل على حدوده.."

كانت لبنان مصابة بحالة من فقدان المناعة، لايبقيها متماسكة الا البندقية في يد الفلسطيني، تلك البندقية التي كانت اسرائيل تخشاها فهي تريد على حدودها بلداً مفتوحاً آمناً مستباحاً حين تريد دون أن يعترضها معترض أو تخسر ضحايا، ولهذا كره الفلسطينيين كل من أراد صراحة أو ضمناً التحالف مع العدو..

هكذا كنت أشعر في خضم الأحداث ان اتفاقاً ضمنياً يتشكل محولا الصراع الاجتماعي الى نزاعات طائفية، والصراع على السلطة الى صراع مع الفلسطينيين..

كنت اراقب بجزع تشكل حركة المحرومين والميليشيات الطائفية وغياب الأمن في جنوب لبنان مما يعرقل أي مشروع يقوم هناك.. لقد تواجد على الأرض اللبنانية ما يقرب من ثلاثة أرباع المليون فلسطيني في حوزتهم الأسلحة والمال وكان بالامكان جعل لبنان قلعة حصينة بهم، لو أن شعب لبنان أحب لبنان أكثر من أنانياته الطائفية ومصالحها الضيقة، ولكن مالي ولاستباق الأحداث بهذه التأملات؟

*   *   *