داليــا

انطوت جهينة على نفسها وما عادت تحدثني حديثاً حراً طليقاً.. كانت مضطربة مشغولة البال وأنا بدوري لم أظهر شيئاً من حب الإستطلاع خوف أن تشعر بالمهانة.. كان عذابها يعذبني كأنني مسؤولة عن خيبة أملها في كريم وكنت أتحاشى الحديث عنه أمامها، وهذا التحرج جعل العلاقة بيننا يشوبها العكر فلا يمكن لصداقتنا ان تعود الى مجراها الطبيعي، فكل كلام معها كان محفوفاً بالخطر، بخطر أن تتركنا وتذهب.. ولم تتركني صورة تلك المرأة التي فتنت كريم وسحرت لبه.. كانت جميلة جمالاً آسراً وخصوصاً عينيها البنفسجيتين الواسعتين.. لا أدري ان كانت على شيء من الثقافة أو الذكاء، ولكن كان من الواضح انها تشد كريم بتلك الغريزة البدائية بين الذكر والأنثى وجمالها يشفع لها اخطاءها فيراها الانسان بعين كريم انثى مكتملة ناضجة.. كان لونها البرونزي الساطع يشع في المكان فلا ترى العين سوى هالة ذهبية تحيط بذلك الوجه الجميل الذي يتحدث عن كريم دون شكوى أو خوف ان يكون هجرها فكأنما كانت واثقة انها تأسره بما لا يستطيع منه فكاكاً ولو ذهب الى أقصىالمعمورة..

سألها والدي ان كان ما جرى بينهما كان دون رضاها فأجابت:

-         بل بالعكس، كنت مملوءة بالرغبة فيه مثلما كان مملوءا بالرغبة فيّ..

حتى والدي أخذ بجمالها وعفويتها وعدم تحرجها اذ سألها ان كانت ترغب في اسقاط الجنين فقالت بصدق:

-         لا أسقط طفلاً وهبني الله اياه من كريم..

-         وكيف تواجهين أهلك ووضعك الاجتماعي؟

-         تركت أهلي في القرية منذ مطلع صباي، لا يهمهم أمري ولا يهمني أمرهم.. ورفيقاتي في المستشفى يعرفن ما كان بيني وبين كريم، وخشيتي هي من رئيس المستشفى فربما طردني من العمل، ومن شماتة من كن يحسدنني على علاقتي بكريم..

سألها والدي: - ماذا ترغبين أن أفعل لك؟ بأية طريقة يمكنني أن اساعدك؟ كيف تكون الوسيلة لانصافك؟

-         ترسلني اليه فيتدبر أمره معي، أو أبقى معكم حتى أضع طفلي ان كان ذهابي متعذراً في الوقت الحاضر..

قال والدي بعد ذهابها "انها حورية.. اختارها كريم ومن واجبه أن لا يتخلى عنها.. ستكون أماً لطفله، وعلى الأقل تحميه في الغربة فلا يتزوج أجنبية.."

كان والدي قد قرر ارسالها الى كريم حتى قبل أن تغادر المكتب..

لم أستطع اخفاء الأمر عن جهينة وجعلها تتمادى في وهم كاذب.. ومنذ ذلك اليوم انقلب مرحها كآبة وصمتاً.. كانت تنظر الي نظرات شاردة كأنما تقول "ما عاد لي مكان بينكم" وكانت تبقى قاتمة في ليالي البهجة والسمر وقد أصابتها نوبة الحزن والكآبة، أو تقول كلاماً لا يربطه رابط، أو تردد من كتاب فتزجيرالد المقرر رباعيات الخيام وتحفظها عن ظهر قلب..

كان يشق عليها أن تعترف لي بالجرح الذي تركه كريم في قلبها ولكنها لم تكن تستطيع أن تخفيه عني في نومها اذ كان يصدر عنها صوت كالأنين، ولما أشرف الشهر على نهايته كانت عصبيتها قد هدأت قليلاً وحل محلها نظرات تائهة شبه حانقة.

كنت أحترم صمتها الحانق وحساسيتها المرهفة وأنقم على كريم انه يستغل ما وهبه الله من وسامة وذكاء ليوقد القلوب حوله ثم يتركها تتلظى.. ولولا ثقتي بمتانة أخلاقها لكان من الممكن أن يساورني الشك ان ما بينهما قد تجاوز حدود العلاقة الروحية، ولكن بعد ان تكشف لي عن طبيعة ذات أهواء جامحة غير مسؤولة بت أخشى ذلك.. أتراه كسر الحواجز بينهما؟ وعذبني هذا الشعور ولكنني استبعدته.. كان كريم مشبع الحاجات الجنسية في الفترة التي تواجد فيها مع جهينة ولم يكن يقضي لياليه في البيت بل بالمستشفى وتساءلت "هل كان عليه أن لا يحتفل بها منذ البداية ويعاملها كأن ليس لها وجود؟" ولكن لم الاستمرار في تشجيعها حتى لو كان الأمر لا يتجاوز النظرات والأمل؟ ولماذا أخذ يراسلها ويتلهف على مراسلتها له وهو في الغربة حتى كنا ونحن أهله لا نعرف أخباره الا منها؟.. أتراها نزعةآل عباد الشاعرية الكامنة فيه أو حب من نوع جديد يجربه على الورق؟.. أغلب الظن انه ما قدر أبداً الأثر العميق الذي تركه في جهينة، أو خيل اليه أن الأمر هو مجرد وهج عاطفي ينعش النفس الى حين ثم ينسى مع البعد.. كان يبحث عن الحلم وكان من الواضح أن الممرضة التي أحبها لم تكن لتستطيع أن تلهب خياله عن بعد وما كان يرغب في حب من طرف واحد.. ربما كانت رسائلها ركيكة وعقليتها تافهة وتأثيرها فيه ليس له بعد روحي كتأثير جهينة فيه..

لا أعرف بماذا كانت جهينة تفكر بعد الصدمة وكيف تخلصت من أزمتها النفسية؛ ويوم سافرت الممرضة عند كريم وذهبت وأبي لوداعها في المطار بعد أن أمنها ببطاقة السفر والمال وعنوان كريم ورسالة مطولة يذكره فيها بواجباته ومسؤوليته تجاه الفتاة، لم اصارح جهينة وهي بدورها لم تصارحني بما جد في حياتها، أما داليا فانها لم تسافر قط عند كريم وانقطعت عنا أخبارها.

كانت جهينة متهيئة النفس لتقع في شباك غانم، ذلك الرجل المسعور الأهواء، الشره المتلاف الذي يعرف ألف حيلة وحيلة لاجتذاب المال وتبذيره لا يردعه مانع أخلاقي أو ضمير، والذي جر عليها وعلى اسرتها وجماعتها أفدح المصائب دون أن تطاله العدالة، بل كان هو العدالة التي تحكم في الخفاء في لبنان.. ذلك الرجل مدبر المكائد كان يشبه الأنزيم الذي يمنع التفاعلات الصحية أن تقوم بعملها في تعزيز غريزة الشفاء في جسم لبنان المبتلى بكل أنواع الشرور. وكانت يده تطال كل شيء: حياة الناس وأملاكهم وأعراضهم.. كل ذلك تحت شعار "حماية لبنان من الشيوعيين والفلسطينيين".

كيف يمكن لانسان ما أن تكون له تلك القوى الشريرة، وأي اله يعبد، ومن أطلق يده للعبث في مصائر الناس؟

*  *  *