وسيــم وجهــاد

 

عادت داليا بعد شهر من سفرها إلى نيويورك وزارتنا قائلة بأنها بحثت عن كريم على العنوان الذي أعطيناها إياه فلم تجده، وأنها عادت بعد أن يئست من العثور عليه، وأنفقت ما زوّدها به والدي من مال على معيشتها خلال تلك الفترة في الفندق، وعلى بطاقة السفر في عودتها. وأنها تنزل اليوم عند صديقة من المشفى الذي كانت تعمل، وهي الوحيدة التي تعرف قصتها مع كريم..

صدّقها والدي، وقام على الفور بواجبه نحوها.. لقد تلفن عدة مرات يريد الإطمئنان عليها بأنها وصلت بالسلامة، ولكن تلفون كريم لم يكن يرد..يرن ولا يرد فيظن أنه غائب في مكان ما ولما تكرر الأمر بدأ بالقلق عليها، وندم أنه بعث بها إلى كريم، وحين عادت ارتاح لعودتها، وزارها عند صديقتها التي تؤويها، واتفق معها أن يدفع لها أجرة الغرفة عن ستة أشهر ريثما تضع طفلها، ويسجله في بيروت، ويبحث عن كريم الذي تأكد لديه أنه غير مسكنه وتليفونه ولا أحد يعرف عنه شيئا..

أخذ يزورها في كل أسبوع ويؤمن حاجاتها ويعطيها مصروفا شهريا لتدبير شؤونها، وشراء ما يلزمها للطفل الذي ستلده. ولما اقترب ميعاد وضعها استعى الدكتور ملحم صديقه القديم لينزل عندنا ضيفا ويقوم بتوليدها، فما كان والدي يريد أن يدري بأمرها أحد حتى يجد لمشكلتها حلاّ..

ولما حان ميعادها وبدات عندها التشنجات لم يكن قربها سوى والدي والطبيب وصديقتها. أخبرني والدي أنه طفل وسيم شبيه بها حتى في تلك السن الصغيرة، وسجله والدي في دائرة النفوس باسم وسيم ابن كريم عباد وداليا ديب، واحتفظ بالوثيقة في درج مكتبه..

أصبح والدي ملتزما بها في غياب كريم ، فهو يزورها كل يوم ويعرف الأحوال التي تمرّ بها .. لقد تشقق ثدياها ، وأصبح الإرضاع الطبيعي يؤلمها فنصحه دكتور ملحم باستخدام الحليب المجفف، وفرحت هي بذلك الحل لأنه يحررها..

عادت جهينة بعد زيارة لوالدها في المخيم وقالت لي:

-         نبيلة، سأنتقل إلى المخيم.. لقد وجدت غرفة عند عائلة صديقة لنا منذ زمن بعيد، وسأكون حينذاك قريبة من المجلة، وأتصل بالناس وأعرف الأحداث، وأكتب وأترجم المقالات.. لقد غادرها عبدالرحمن إلى الفرع الجديد الذي فتح لنا في صيدا، وسنتبادل المعلومات بشأن الأحوال التي يمر بها شعبنا، ففي الجو نذر تنبئ بمخطط معاد يستهدف وجودنا في لبنان..

-         لا تغيبي طويلا عنا.. هنا بيتك، تعودين  في كل وقت إذا لم ترتاحي في إقامتك الجديدة..

-         لا يشغل بالك علي إن أطلت غيابي، فأنت تعلمين بالسرية التي نحيط بها نشاطنا!

غادرتنا لتحتل مكانها زوجة عبد الرحمن التي كانت على وشك الوضع. نقلناها بعد أن تلفن إلينا عبد الرحمن بأنه لا يستطيع الحضور إلى بيروت، وهو مشغول البال على ثريا التي حان موعد ولادتها وهو لم يجد بعد سكنا ملائما لينقلها إليه..
دخلت فريدة مدبرة المنزل غرفتي وأخبرتني أن ثريا تتوجع، فنقلتها في الحال إلى المشفى وبقيت قربها طوال الليل، وعند الفجر تلفنت إلى عبد الرحمن أبشره بولادة صبي له وسألته ماذا نسميه فقال "جهاد"

سر والدي للنبأ ولكنه قال بلهجة أسية:

-         حفيدان يولدان لي في غياب أبويهما!

وضعت ثريا جهاد بعد شهر من ولا دة وسيم.. كان يزن أربعة كغ.. وبنيته قوية وله شعرأسود غزير..سر والدي به وحمله بين ذراعيه وهو يقول:

-  هذا شبيه بأبيه.. مثله كان عبد الرحمن حين ولد.. وقرأ له سورة الفاتحة، وتمتم له بالأدعية ليحفظه الله من كل مكروه، ويقرعيون والديه وآل عباد به..

ذهب والدي كعادته لزيارة داليا الأسبوعية فرأى وسيم في فراشه وصديقة أمه تعطيه البيبرونة فلا يشرب منها إلا القليل.. سألها ما به فقالت:

-         إنه مصاب بإسهال وأعطيه ماء الأرز ولكنه لا يرغب فيه..

-         أين أمه؟

-         ذهبت إلى قريتها، إنها لاتستطيع أن تذهب إلى أهلها ومعها طفل هجرها أبوه..

-         ومتى تعود؟

-         إنها لن تعود.. لقد أوصتني أن أسلمك الطفل حين تأتي لزيارتنا فهو من آل عباد وأنتم أحق بتربيته..

-         هكذا تتخلى عن ابنها!

-         إنها شابة وتريد أن تتزوج، ولا تريد أن تنتظر كريم إلى الأبد..

حمل والدي الطفل وجاء به إلينا، لم يأخذ حتى حقيبة ثيابه حين لحقت به الممرضة لتعطيه إياها.. ما كان غاضبا من داليا كما كان غاضبا من كريم الذي انقطعت أخباره فجأة عنا فلا يدري أحد ماذا يفعل في بلاد الغربة وكيف يعيش..

-         معها حق.. إبني هوالملوم ، لا أحد سواه الملوم.. أي عقوق وانعدام مسؤولية يتصف بها هذا الأناني الذي لا يفكر إلا بشهواته ومتعه الحرام !

-         كانت فريدة في زيارة لأهلها في المخيم ، فلما عادت وجدت على ثديي ثريا طفلين يرضعان وهي سعيدة بهما.. قالت لفريدة: أترين؟ لقد عوضني الله عن طفلي الذي مات، توءما هما وسيم وجهاد..
جاء عبد الرحمن بعد أسبوع من ولادة ثريا واصطحبها معه قائلا بأنه وجدبيتا مناسبا في عين الحلوة وأصر وثريا على أن يصطحبا ابن كريم حتى أتفرغ للعناية بوالدي وعملي..

*   *   *