الأميـــر

 

ذهبت إلى مكتبة الجامعة لأستعير كتابا في القانون الدولي ، وهناك صادفت ريمون الذي رحب بي قائلا:

-         مرّ وقت طويل دون أن أراك فيه.. ما هي أخبارك وماذا تفعلين؟

-         إنني أتدرب في مكتب والدي .. ومشاكل الناس تلهيني حتى عن نومي.. لو كنت أعرف أن مهنة المحاماة تزرع الإكتئاب في النفس، لما اخترتها مهنة لي..

-         حدثته عن قصة فتى السابعة عشرة الذي تم إعدامه من وقت قريب، وسبب لي ولوالدي إحباطا أليما ، لأننا كنا نتولى الدفاع عنه، لاعتقادنا بأنه بريء من التهمة التي ألصقت به..

هز ريمون رأسه أسفا وقال:

-         في الحياة متناقضات لايستطيع أي منا تفسيرا لها .. المحامي كالطبيب كلاهما مسؤول عن حياة الناس، والفشل في قضية لا يعني فشل المحامي ذاته، لأن الظروف والقوى الخارجة عن إرادة الإنسان تلعب دورها..على الإنسان أن يكون حياديا تجاه من يدافع عنهم أو يعالجهم، ولا يرتبط بهم بعاطفة خاصة، ويحمل نفسه فوق طاقتها بشعوره بالذنب تجاههم لأنه فشل في إنقاذهم

-         لا أعرف إذا كنت أنا أو والدي نستطيع أن نمارس موقفا حياديا تجاه من ندافع عنهم وخصوصا إذا كانت لدينا قناعة بأنهم كانوا ضحايا ظلم متعمد..

-         يتعلم الإنسان من الهزيمة والإنتصار، ويكون أحكم مع الأيام.. ولكن مالنا ولهذا.. لماذا لا تزورين أخاك هشام؟

-         لهذا قصة لا أستطيع البوح بها لأحد.. ابتسم ريمون وقال:

-         أعرف القصة من صاحب المصرف الذي عين أخاك مديرا له لكفاءته ونزاهته..

-         لا يمكن أن تكون جادا فيما تقول!

-         إن هشام لا يختلف عنكم.. هو الذي وشى بنفسه عند صاحب المصرف بعد تعيينه..

-         سيسعد هذا الخبر والدي!

-         لقد طلب أن يعتبر المبلغ دينا عليه يرده بالتقسيط ريثما يصرف أموره العاجلة من مسكن وأثاث، فكان الرجل من النبل بحيث رفض استرداد المبلغ، واعتبره عربونا للصداقة والثقة التي نشأت بينهما.. إن صاحب المصرف هو صديقي الأمير هلال..

أذهلتني هذه الأخبارعن أخي هشام ، وأردف ريمون قائلا:

-         ألا تذهبين لتباركي لهشام بالتوأم الذي أنجبتهما له زوجته ؟

-         طبعا سأذهب..

-         إن بيته قريب من الجامعة وسأدلك عليه إن أحببت، ولكنني لن أدخل فلدي عمل أريد إنجازه..

أخبرني ريمون أن التوأم هما ذكر وأنثى، وأسماهما سمير ولين.. وأن سمير يشبه آل عباد أما لين فلها ملامح أمها وزرقة عينيها، وبشرتها الناصعة البياض..

-         يا الهي كم أنا مشوقة لرؤيتهما..

-         ألا تباركين لي أيضا؟

-         بماذا أبارك لك؟

-         بزواجي..

-         حقا! من هي سعيدة الحظ؟

-         إنها جولييت

-         جولييت نفسها، صديقتنا في الشلة الجامعية؟

-         نعم هي!

-         ألست مقصرا في عدم إخباري بهذا النبأ السعيد لأحضر حفل زواجكما وأبارك لكما؟

-         لم نتزوج في حفل كنسي.. فأنا بروتستنتي وهي أرثوذكسية.. إن أهلها غاضبون من زواجنا المدني.. ولكنك تعرفين رأيي، فأنا لا أغير مذهبي من أجل إرضاء أحد..

منذ ذلك اليوم كنت كلما ذهبت إلى المكتبة لأستعير كتابا أو أعيده أمر ببيت أخي هشام لأداعب الصغيرين وأخشخش لهما في سريريهما إن كانا صاحيين أو أساعد في إرضاعهما من البيبرونة في موعدها لأن أمهما رفضت الإرضاع الطبيعي لهما حتى لا يتأثر به جمال ثدييها..

وفي بيت هشام كنت ألتقي بريمون وجولييت، ونتحاور في كثير من المواضيع كعهدنا حين كنا في الجامعة.. وفي مناسبة التقيت بالأمير صاحب المصرف، وعرفت فيه نفس الرجل الذي نزل بعد أخي من الطائرة وكان يطيل إلي النظر عن كثب يوم ذهبت ووالدي وجهينة لاستقبال هشام وزوجته في المطار.. كان ضيف أخي على الغذاء، واستعانت بي زوجته بتحضير السلطة ومتبل الباذنجان للكبة التي أتى بها أخي جاهزة بكل أنواعها.. أما هي فكانت قد حضرت ديكا روميا وطبقا من البطاطا المقلية، وحفلت المائدة بالمقبلات  المتنوعة والسلطة الروسية المتبلة بالمايونيز..

قابلته عددا من المرات عند أخي، وفي كل مرة كنت أكتشف فيه صفة تزيدني إعجابا به، وانبهارا بتصرفاته الكريمة، ونبل طباعه ودماثة أخلاقه.. ربما كنت متأثرة برأي من حولي به، فريمون يثني عليه وجولييت تعزز برأيها فيه وملاحظاتها، مايبديه نحوي من إعجاب بأنه حب من النظرة الأولى..

لا أدري كيف تسارعت ما بيني وبينه العلاقة.. أحطته بهالة من خيالي ، فهو كان قليل الكلام، جمّ التهذيب، غير مزهوّ كأخي، ولا متبجح كريمون، وكان له سحر خاص يجذبني إليه عاطفيا بطريقته في النظر إلي، وفي إشارات فمه في التعبير عن موافقته على ما يجري من أحاديث عامة أوعدم استجابته لها أو رفضها، ولكنني لم أستطع أن أكتشف في المدى القصير الذي تعرفت به إليه  مدى ثقافته، أو موقفه من الحياة العائلية، أو المدى الذي صقلته فيه الحضارة الأوروبية، أو أستشف أي عيب من عيوبه.. كان كل من حولي يسوقني بشكل عفوي نحوه.. قال لي هشام:

-         دعانا الأمير إلى بلودان، جميعنا نحن وعائلة ريمون.. 

-         لاأستطيع الذهاب .. أنا حتى الآن لم أخبر أبي بزياراتي لك..

-         هل تقفين في صف والدي في تعنّته تجاهي؟

-         لا، لأن ريمون أخبرني بكل شيء..كان يجب أن تذهب إليه وتخبره بما جرى..

-         لا أحب الطريقة التي يعاملنا بها أبي كأننا لا نزال أطفالا صغارا..

كان الأمير يتحدث مع زوجة أخي في طرف الغرفة وهو يدخّن غليونه. نظر إليه هشام وقال:

-         إنه ينتظر جوابا.

-         لن أذهب معكم..

-         لماذا ترفضين الذهاب؟

-         لأنني لا أريد أن أفعل شيئا في السرّ عن أبي.

-         الأمير أسرّ إلى ريمون بأنه يريد أن يخطبك، ولكنه يحب أن يعرف رأيك أولا، والذهاب إلى بلودان يتيح لكليكما الإنفراد بنفسيكما والتحدث معا..

-         يستطيع أن يعرف رأيي هنا، فعندي أسئلة أريد عنها جوابا قبل أن أرتبط بأي كان..

ذهب إليه هشام ودعاه ليشاركنا الحديث، فجاء ولحقت به زوجة أخي وقد بدا عليها الإستياء..

-         ليش إنت نبيلة ما بتريد تشم الهوا، مش أخسن بلودان من بيت؟

-         بعدين، بعدين! وابتسمت موجهة سؤالي إليه:

-         هل عرفت بالمقلب الذي فعله بك أخي هشام في الطائرة ؟

-         أي مقلب؟ قال الأمير دهشا..

-         تعرف ما أعني.. هل توافق أخي على ما فعله بك؟

-         هذا شيء مضى، لقد سوّينا الأمور بيننا..

-         إن والدي يعتبر الأمر ابتزازا لا يليق بالأخلاقية التي تربى عليها هشام ، ولهذا يقاطعه ولا يدخل منزله..فهل حقا أعاد إليك المبلغ وأنت رفضت أن تستردّه؟

-         نعم!

-         لم فعلت ذلك؟

-         زرع الثقة في نفسي بذكائه وكفاءته واستقامته.. من الصعب جدا أن تجدي مدير أعمال لمصرف يتحلّى بكل هذه الصفات معا.

-         قلت لريمون وهشام بأنك تنوي خطبتي وتريد أن تعرف رأيي.

-         هذا صحيح.

-         إنني أفضل أن نتحدث في هذا في جوّ عائلي ونتصارح دون أن يؤثر علينا جو شاعري..

-         خير إن شاء الله

-         هل تستطيع التلاؤم مع وضعي كمحامية تؤمن برسالتها الإجتماعية، أم ترغب أن أترك عملي وأتفرغ لك بعد زواجي؟

-         لا مانع عندي من عملك بعد الزواج بالرغم أنني لست بحاجة إليه لأنني سأقوم بكل الواجبات المترتبة على هذا الزواج..

-         أنا لا أملك ثروة ولا والدي، فلاتصدق ما قاله لك هشام عن ثروتنا الموهومة، ومع ذلك أثق بأنني سأكون ناجحة في حياتي المهنية وهذه ثروتي.. ربما آذاك أن أصرف وقتا طويلا خارج البيت تعتقد أن علي أن أصرفه لراحتك في بيتك ولأولادك فهل تضيق ذرعا بي وتفتش عن غيري؟

-         لا، أنت مجتمع كامل يغنيني عن كل النساء..

-         لا أسمح لكرامتي أن تشاركني فيك امرأة أخرى، فهل أنت واثق من عاطفتك نحوي، فلا تضارني ذات يوم بالرغم أن هذا مما يسمح به الشرع؟

-         لك علي أن ألتزم بكل ماترغبين..

-         مثل هذه الأمور لا تكتب في أي عقد..إنه التزام بيني وبينك، وأنا ليس هناك من قانون يحميني لوأخللت بمطالبي. فأنا أسلم نفسي إلى ضميرك كي ترعاني وتحفظ عهدك معي..

-         أريد أن أعرف رأيك بي ، وماذا تكنين لي..

-         أراك رجلا ناضجا كريم النفس، نبيل الأخلاق، وأنا لست مرتبطة عاطفيا بأي كان، ويخيل إلي أن في في وسعنا أن نبني حياة مستقرة سعيدة آمنة .. ومن ناحيتي كن على ثقة بأنني أصونك وأرعى مصلحتك، وأوفر لك حياة مريحة فأنا لست فتاة معقدة بل صريحة إلى أبعد الحدود، وربيت على الصدق في عواطفي، والحرية في أن أختار بنفسي رجلي، فلا يمكنني أن أهب نفسي إلاّ لمن أشعر نحوه بالحب، ويبادلني هو الحب..ولكنني أحتاج إلى بعض الوقت كي أعرف حقيقة مشاعري..

-         ماذا تريدين مني أن أفعل كي أكسب رضى والدك عني؟

-         تذهب أنت وهشام إلى أبي، وتزيل من نفسه ما علق بها من غضب من تصرفات هشام، ثم تحدثه برغبتك في خطبتي، فأستطيع أن أراك عند أخي دون حرج، تزورنا ونزورك في جو عائلي يتعرف فيه أحدنا على الآخر، فأنا ابنته الوحيدة والمدللة، والتي يثق بها الثقة الكاملة ويعطيها الحرية لتختار من تجده كفؤا لها.. ولا أظنه يرفض ذلك الوضع السابق للزواج.

-         خير يكون أن شاء الله.. أنا من أسرة تحترم التقاليد.. وأريد أن أناسب بيتا شريفا عرف بمبادئه وأخلاقه..

-         سيسره أن يسمع منك ذلك القول..

-         هذه هي العائلة التي أطمح أن أختار منها زوجتي، ولن أفعل إلا ما يرضي والدك، ويجعلني جديرا بك في اعتباره.

وحين غادرنا، عصر يدي بين يديه بطريقة أحسست معها بأنني أثيرة لديه ، وأثير إعجابه..

لم يطل عهد خطوبتنا فبعد شهر كنت مقتنعة به وهو مقتنع بي، وقرّ رأينا على عقد القران.

أقام الأمير حفلا في فندق سان جورج، دعا إليه أهلي المتواجدين في بيروت وصيدا، وأصدقاء له في بيروت لبنانيين وأجانب، وصديقاتي في الجامعة، وأهله المقربين في السعودية، واستأجر صالة الفندق، وغرفا للمدعوين الوافدين إلى بيروت.. كان معظم النساء المدعوات سافرات، ماعدا بعض قريباتي المتقدمات في السنّ فكن يغطين رؤوسهن بحجاب شرعي.. وجاء بفرقة موسيقية تعزف الأغاني العربية والرقص الشرقي، وبمطرب مشهور أحيا الحفل، وبراقصات محترفات ليبهجن الحضور، فماكان يرغب أن يبرز نساء عائلتنا وصديقاتي محاسنهن أمام الرجال..ولكن زوجة أخي هشام لم تطع الأوامر وقامت ترقص مع ريمون، وتبعها إلى الحلقة أخي هشام فرقص مع جولييت، ثم اتسعت الحلقة بصديقاتي في الجامعة ليرقصن مع شباب عائلتي والشباب السعوديين، ثم انضمت إلى الحلقة فتيات عائلتنا في رقصة شعبية..عقد القران في صالة أخرى ضمت رجال العائلتين وأصدقاءهما، واستدعينا أنا وهلال للقيام بمراسم الزواج وكان والدي وأخواي هشام وعبد الرحمن حاضرين كتب الكتاب الذي تم حسب الأصول المعروفة عند المسلمين. ولقد بقي الرجال في هذه الصالة حيث صفت الموائد وجلس الرجال للطعام والسمر وشرب النراجيل.

عدت إلى الصالة الكبرى حيث بقيت النساء وأخذن بالزغاريد، كانت النسوة السعوديات قد خلعن ملاءاتهن فبرزت شعورهن المصففة وثياب السهرة على أحدث طراز، وبدأن بالزغاريد، ولم تكن بنات العائلة ونساؤها اللواتي جئن إلى الحفل أقل منهن أناقة فكل منهن اشترت من أفخم المحلات التجاري ثوب سهرة يليق بالمناسبة، ولم تكن غائبة عن الحفل إلاّ ثريا زوجة أخي عبد الرحمن لأنها كانت في شهرها التاسع ولم ترغب أن يشاهدها الأهل في حالها تلك..

تبارت الصبايا في الرقص الإنفرادي والزغاريد، ثم رقصن في دبكة جماعية اشتركت فيها السعوديات وتعرفن بعضهن على بعض، وانتقلن بين الموائد يرقصن ويهزجن بالأناشيد..

-         ليرقص العريس والعروس ! صاحت إحداهن

ونزلنا وأخذنا نرقص بينهن وهن يصفقن مع الموسيقى..

كل من شارك في الحفل من أهلي وأهله وأصدقائه وأصدقاء أهلي قدم لي هدية عن طريق نساء العائلة اللواتي هنأنني بعد عقد القران، وكانت جهينة قربي تتلقى لفائف الهدايا التي وضع عليها أسماء من أهدوها ، وتضعها في صندوق قربها وبعضها كانت ظروفا بها دولارات وكان عدد من الكاميرات تلتقط لنا الصور بين غابة الأزهار التي أحاطت بنا مع أفراد عائلتي وعائلته وصديقاتي اللواتي دعوتهن للحفل..

لم أكن راغبة في جو البذخ الذي أحاطني، ولا بالأضواء التي سلطت علي، ولا بالصحف التي طنطنت بالعرس ونشرت فيها صورنا، وأحسست منذ الوهلة الأولى أنها ستكون عقبة في نجاحي كمحامية ، وستفقدني صداقاتي والحميمية التي يحس بها أقاربي نحوي.. أدركت فجأة أنني أصبحت ذات ثروة ليست في حسباني من مجرد الهدايا التي اغدقت علي، ثروة لا أعرف كيف أنتفع بها وليس من طبيعتي التباهي بها، والإستعلاء على غيري من النساء وإثارة حسدهن بها..

من الذي سيلجأ إلي ويطلب معونتي إلا فئات إجتماعية بطرة، مشاكلها لا تسترعي إهتمامي ؟ ووالدي أيضا فقد كثيرا من شعبيته، فجو لبنان العام لم يكن في صالح الناصريين والوحدويين، وأصبح أكثر فأكثر يميل إلى العزلة، ويتصرف مثل الصيدلي ويمضي وقته في الجامع.. ولقد نشأت بينهما صداقة ، وأصبح جارنا رفيقه في الإجتماعات الدينية ، ووضع ثروته من الدولارات في مصرف زوجي..

لقد فعلت أنا نفس الشيء إذ أودعت مجوهراتي ودولاراتي في المصرف بإسمي، فلا أتزين بالمناسبات إلا بما كنت أملكه من مجوهرات أمي.. ولا أسحب من الدولارات إلاّ لضرورة ملحة، أو لمساعدة أحد يلتجئ إلي..

*   *   *