نزلة برد

 

استيقظ عبد الرحمن على رنين الهاتف في منتصف الليل..

-         لاتبشر التلفونات في منتصف الليل بالخير –قال وهو ينتفض من فراشه-

كانت أم عبد القادر على الخط الآخر تبكي:

-         جدك ياعبد الرحمن ، ليس لنا غيرك في هذا المصاب...

-         ماذا جرى له!؟

-         منذ أسبوع كان على خير ما يرام.. أصابته نزلة برد فقلت له "أحضر لك طبيبا " قال "لاحاجة لي بطبيب، فقط اعطني شراب البرتقال وليكن فاترا".. أفقت منذ قليل على صوت كالشخير، إنه يلهث ويتنفس بصعوبة..

-         سآتي حالا ومعي الطبيب!  قال الطبيب بعد أن فحصه.

-         معه تليّف في رئتيه، كم عمره؟

-         ثمان وتسعون عاما.. ولكنه لم يشك مرضا قط.

بكت أم عبد القادر:

-   هل حالته خطيرة؟

-   التليف قديم لا دواء له، ولا يستطيع التنفس إلا بجهاز أكسجين..

سرعان ما أحضر له الطبيب في الحركة جهاز أوكسجين من مشفى المنظمة، فانتعش قليلا وقال:

-         أرجعوني إلى بيتي، لا أريد أن أموت خارج بيتي.. لو كنت أشرب عصير البرتقال طازجا لما أصابني هذا الرشح اللعين.

ووعده عبد الرحمن في العودة قائلا:

-         العمليات توقفت على الحدود.. ستعود حالما أرتب الأمور، فهناك أسير أسرائيلي في القبو علينا نقله إلى مكان آخر، وننظف البيت ونعيده إلى ما كان عليه..

-         أوكسجين!

-         أعادت جهينة الجهاز، ولما انتعش ناول عبد الرحمن مفتاحا:

-         في هذه الخزانة علبة ناولني إياها.

اختار مظروفا مختوما ناوله لعبد الرحمن.

-         هنا وصيتي والأوراق المتعلقة بالأرض.. أأتمنك عليها حتى لا تضيع الحقوق بعد موتي.

-         ستعيش يا جدي وتتجاوز المائة بإذن الله.

-         أشعر بدنو أجلي، إقتربي مني يا جهينة واقرئي لي القرآن. أوكسجين!

أغمض عينيه وهو يستمع متنبها إلى حفيدته تقرأ القرآن

كان يضع ريشة طاووس في صفحة معينة من سورة النساء وهي تقرأها له، وتهدّج صوتها بالبكاء.

سمعت جهينة آذان الفجر فتوقفت لتمسح دموعها التي غشيت بصرها فلا تتبين لها الآيات بوضوح، وبدا لها أن جدها فقد تنبهه وأغفى، فأمسكت يده ووجدتها باردة كالثلج!

-         جدي، ياجدي الحبيب !

وأكبت على يده تبكي وتبللها بالدموع..

-         إغفر لي ياجدي! إغفر لي!

كان عبد الرحمن في الصالة مع أم عبد القادر وياسر يتوقعون قرب هذه اللحظة حين تنطفئ في الجد جذوة الحياة.. فلما سمع عويل جهينة أخذ يعزي أم عبد القادر

-         أحمدي الله أنه مات دون ألم، وكان خفيف الظل على الأرض لم يثقل على احد، فهو رجل لا يحتمل العجز والمرض، مات كما يموت آل عباد بعد أن شبع من الدنيا وعرف حلوها ومرها وعمل للآخرة كثيرا.. أسكنه الله فسيح جنانه .

كتب برقية لعبد القادر طالبا منه الحضور مع حسن إلى صيدا في الحال، ونصا للنعوة، وطلب من ياسر أن يطبعها.. وتلفن إلى عمته أم ابراهيم، فجاءت وإبراهيم في الحال، وجلست إلى الهاتف ومعها قائمة طويلة من أسماء الأقرباء والأصدقاء، وخرج إبراهيم ليقوم بالمعاملات الرسمية للدفن، وذهب عبد الرحمن إلى القيادة الفلسطينية في صيدا يطلب منهم أن ينقلوا الأسير إلى مكان آخر ويبعثوا من طرفهم من يقوم بتنظيف البيت لأن مراسم الدفن ستتم فيه.

خرجت صيدا كلها لوداع الجد إكراما لأياديه في تثقيف جيل بأكمله في الجنوب، وأكراما لعبد الرحمن: مرشحا صيدا المتنافسان للنيابة الناصري والبرجوازي، فئات القيادات الفلسطينية الموالية لفتح والموالية لفتح الثوري ، ومن لم يستطع القدوم أرسل طاقات الزهور.. الفئات الطائفية المختلفة: مطران صيدا، ومفتي السنة ومفتي الشيعة ونائب الدروز. وقدم إبنا أم عبد القادر من الكويت ترافقهما زوجة عبد القادر الكويتية وزوجة حسن سوسن. وقدمت بنت أم إبراهيم الكبرى رشا وزوجها تاجر السجاد من بيروت وابنها ذو العشرة من العمر. فقط نبيلة لم تستطع الحضور بسبب مرض والدها بالتهاب كلوي أصابه، وناب عنها زوجها الأميرهلال صاحب المصرف السعودي.. كانت الجنازة مظاهرة لتضامن الجنوب في لبنان والوفاق الوطني وردّا على القوى التي تحبذ تقسيم لبنان..

*   *   *