من في بيتي؟

 

كان والدي في حالة نفسية جيدة وقد تحسنت صحته فرأيتها فرصة مناسبة قبل أن يعود زوجي من السفر أن أذهب إلى القرية وأستفسر أكثر عن غانم من الطبيب الذي يعاملني كأنني ابنته، ولا يضن علي بأية معلومات.. قال لي:

-         كما أخبرتك سابقا، كانت الأراضي التي استولى عليها غانم أراض وقفية يملكها مهاجر لبناني إلى الأرجنتين في الأربعينات ، ووقعت ضمن الحدود السورية حين سويت الحدود ووقع عليها قوانين الإصلاح الزراعي السوري، وكانت الأراضي مزروعة بشجرالتفاح حين اشتراها غانم من الفلاح الذي يدير شؤونها، واقتلع التفاح لزراعة الحشيش.. وفي بعلبك يملك غانم وشركاؤه معملا لعصر الحشيش، ويشغل أطفالا فقراء يعملون في العجائن ويدمنون.. وتسير أعماله في التهريب على مايرام، وأحد شركائه مسؤول كبير في الضابطة الجمركية..

لمع في ذهني حينذاك المقلب الذي تعرض له ريمون عند الحدود في طريقه إلى دمشق.. لم أشك حينذاك أن غانم هو الذي وشى بمحتويات الحقيبة التي حمله إياها بعد أن جرّده من أوراق إثبات شخصيته ليكون بين براثنه ويلوث سمعته في سفارة بلاده!

سألت الطبيب:

-       ما الذي جعلك تدخل الحزب مع مثل هؤلاء الناس؟

-         حين دخلت الحزب كان نظيفا، ولكثرة ما كنت أجد ظلما يقع على أهل القرى قلت لنفسي "الإشتراكية تحل المشاكل" ماذا يريد أمثالي من المثقفين التقدميين إلا أن ينال فقير البلد والعامل والفلاح شيئا من الإنصاف، ولكنني لم أقل يجب أن يصبح فقير البلد مليارديراً من زراعة الحشيش وتسويقه وأعمال التهريب!

-         هل يوجد هنا ناد رياضي؟

-         المشروع لم يكتمل، يبدو أنه بحاجة إلى أموال كثيرة ..

-         هل صاحب المشروع هو غانم؟

-         باعتقادي نعم .. هذا الرجل من كثرة ما مارس الرياضة تربت له عضلات حول دماغه.. إنه اليوم يلحس... وتوقف منتبها أنه يحادث إمرأة، إنه يتقرب من الأمراء السعوديين ويبتزهم ويوفر لهم حمامات السونا ونساء جميلات تجري لهم المساجات وويسكي مخلوطاً بالكوكايين ليستعبدهم لشهواتهم ويجردهم من أموالهم.. لقد تطورت وسائله بالإبتزاز من زوجته الأولى الدرزية التي كانت أمية بالكاد تفك الحرف، فيجعلها توقع على مستندات وهمية "أنا فلانة بنت فلان بعت أرضي الواقعة في قرية كذا بمبلغ كذا" ويجعلها توقع وتضع بصماتها على الأوراق، حتى نزع منها كل ما تملك ثم رماها بحجة أنها عاقر..

مسكينة يا جهينة ! كنت طوال طريق العودة مشغولة الفكر بها حتى كدت أصاب بحادث.. مرت غنمة أمام سيارتي المسرعة فتوقفت فجأة وكدت أرتطم بشاحنة خلفي مسرعة هي الأخرى لولا أن انحرفت عن الطريق.. مثل هذا الرجل سينتزع من آل عباد كل أملاكهم في الجنوب، وفجأة وجدت نفسي أنتقل بسرعة البرق من موضوع إلى آخر، وبرقت في ذهني ومضة من ربط الحوادث: داليا وكريم، داليا وغانم الذي عادت إليه بعد ولادتها لوسيم، غانم وجهينة، أملاك جدي الذي تتسرب إلى حوزته شيئا فشيئا، والدي والحادث الذي أصابه في زيارته للجنوب أثناء ترشيح نفسه للنيابة عن صيدا، كلها ربما ترتبط ارتباطا وثيقا ببعضها وبغانم.. إنه يستهدف آل عباد، ودوره لم ينته بعد في ملاحقتهم.. وها هو زوجي يعينه كمديرأمني لمصرفه!..

كنت في الآونة الأخيرة لا أذهب إلا مرة في الأسبوع بسبب سوء صحة والدي فلما سافر زوجي لم أذهب إليه منذ شهر..أخذت ابنتي من الحضانة في طريق عودتي وعرجت على المنزل لأعرف ما يحتاج إليه، فلقد طال غيابي عنه.. لم يكن في البيت أحد .. كان نظيفا لامعا، والبراد ممتلئ بالأطعمة والحلويات لكأنما كان في المنزل بالأمس وليمة.. أترى عاد زوجي ولم يخبرني بعودته؟

عدت إلى البيت لأجد والدي يصغي إلى الأخبار في قلق .. طلب مني أن أتلفن لعبد الرحمن أسأله ماذا يحدث عندهم.. فالجنوب يقصف بالقنابل، ومئات ألوف الفلسطينيين واللبنانيين يتركون مدنهم وقراهم ويهاجرون إلى الشمال..

-   ما هذا الذي يحدث عندكم ياعبد الرحمن ؟

-   الناس مذعورون يهاجرون ولا يستطيع أحد ايقاف شعب مذعور.

-   وأنت وأسرتك؟

-   أنا مسؤول.. ولن أغادرمنزلي فالخطر لو هوجمنا واحد في كل مكان..

تلفنت إلى منزلي وأذا بصوت أنثوي على الخط.. ظننت نفسي أخطأت الرقم فأعدت الإتصال، وإذا بالصوت نفسه يسألني عن هويتي، قلت "أليس هذا منزل المحامية نبيلة عباد؟ " "لا, الرقم خطأ" وأغلق التلفون..

عولت أن أذهب إلى منزلي فلا يمكن أن أخطئ الرقم مرتين، ولكنني لم أشأ أن أصارح والدي بشكوكي إلا بعد أن أتبين الأمر..

زارني زوجي في اليوم التالي، فلم أبدي لهفة للقائه، ولكن نورا ارتمت بين أحضانه تقبله بشوق أفسد علي خطتي في مصارحته بما أعلم..همس إلي قائلا:

-   ألم يحن الوقت لتعودي إلى البيت؟

-  والدي في صحة سيئة وهو بحاجة إلي للعناية به..

-   ندخله المستشفى!

-  لا يمكنني أن أتركه لعناية الأغراب..

-   سأتركك على حريتك.. ولكن ما هذه البرقية التي أرسلها إلي ريمون يحذرني فيها من غانم؟

-   أنا التي طلبت منه أن يفعل ذلك ..

-   أرجوك لا تتدخلي في شؤون عملي، إنني أثق كل الثقة بغانم فهو يرعى مصالحي أفضل من كل من عرفت..

-   أنا أعرف أناساً وثيقي المعرفة بماضيه!

-  من ؟ أقرباءك الفلسطينيين!

قالها بلهجة أثارت غضبي فقلت:

-  أنت حر في الوثوق بمن تريد، ولكن لو ورّطك هذا الرجل في جرائمه فثق أنني لن أربط إسمي باسمك أبداً، فهي تمس سمعتي أيضا باعتباري زوجتك..

*   *   *