الأسيــر

 

كان عبد الرحمن سعيداً في الأسبوع التالي، فلقد أسقطت مجموعته طائرتين مروحيتين للعدو، وكان بين القتلى الإسرائيلين على الحدود ضابط جريح أسعف على الفور ونقل إلى منزل آل عباد الجد فأنزل في غرفة خاصة به وحجز كرهينة.. ولما حاول عبد الرحمن استجوابه اكتشف أنه لا يعرف الإنجليزية ولا الفرنسية, بل العبرية والألمانية، وما كان بين من يعرف على علم بهاتين اللغتين فأحضر قاموسا باللغة الألمانية للتحقيق معه.

عومل الأسير معاملة كريمة، ولقي إكراما وأعطي حتى السجائر وأكل من المؤونة التي تركتها خالتي من المكدوس والزيتون الأخضر والأسود والجبن المغلي بالمسكة والمحلب ومن المربيات بأنواعها وشراب البرتقال الذي تحتفظ به في زجاجات محكمة الإغلاق.

حين كانت الدار تستخدم كمدرسة كان جد عبد الرحمن يكرس تلك الغرفة الفسيحة في القبو التي كانت تحوي المقاعد المهشمة والمدافئ المخلوعة والمسجلات والراديوهات العاطلة عن العمل والآلات الكاتبة التي تجاوزها الزمن لمعاقبة الصبية الأشقياء، وكانت الفئران تتنزه فيها ليلاً وتختبئ نهاراً، والصراصير تبني مستعمراتها في الأخشاب القديمة، فلما جاءت أم عبد القادر كان أول ما فعلته افراغ تلك الغرفة من محتوياتها ولم تمض ساعة من الزمن حتى جاء المخيمون ونقلوا الأكوام التي تراكمت عند الباب لاستعمالهم الخاص فالأخشاب تحرق في الليالي الباردة للتدفئة والأدوات الاخرى تصلح أو تستخدم كقطع تبديل عند المصلحين. وفعلت أم عبد القادر مثل هذا الفعل في باقي الغرف وتخلصت من الثياب القديمة والأحذية المهترئة والكنبات التي حال لونها وخفس اسفنجها وتضعضع هيكلها، والأسرة الحديدية المزقزقة التي تكور رفاصها، وجاءت بدهان ونجار من المخيم قاما بالإصلاحات اللازمة من دهن للغرف، واصلاح للأثاث الخشبي القديم الملبس بالصدف، ولغرفة نوم والدها التي عادت بعد الصقل كأنها جديدة، ونفضت السجاد وغسلت صوف الفرش وأوصت النجار على ثلاث غرف للنوم جديدة لها ولبنتيها جهينة وسوسن، ولولديها حسن وياسر.

أحس الجد بدفء البيت والأسرة وانتظمت حياته، وسرى الربيع في شتائه، وأحب أحفاده وأحبوه بالرغم من السنين الطويلة التي باعدت بينه وبين ابنته.

كانت أم عبد القادر على عكس زوجها تشعر بحدس الأنثى في أن ما ضاع منهم لن يسترد بين ليلة وضحاها، فكانت تتمسك بجذورها في لبنان، وتريد أن تسترد جنسيتها لها ولأسرتها.. ولهذا وقفت في صف ابنتها جهينة حين حدثتها عن ارتباطها بغانم، ورغبته في بقاء الأمر سراً لأن وظيفته حساسة وهو الى جانب الفلسطينيين، ولكنه لا يريد أن يعرف أحد أن زوجته فلسطينية، لأنه محاط بجو ماروني معاد لشعبها.. قالت جهينة لوالدتها متحمسة:

-       أمي، قال لي "أترين تلك الخزانة؟ كلها ملفات عن زعماء فلسطينيين ومتعاونين معهم أمثال آل عباد، فكيف اذا عرفوا أن أمك من آل عباد؟" ..

*   *   *