وصية والدي

 

كانت حالة والدي تسوء يوما بعد يوم، فأراد أن لا يترك الأمور بعده معلقة، فكتب وصيته وخص عبد الرحمن بملكية الشقة التي نسكنها وخصني بمكتبه بعد وفاته، ولما أخبر هشام بنيته ثار غضبه، وبان ذلك في صمته وملامحه.. قال والدي مبررا ما فعل:

-         يابني إنني علمتك في أحسن جامعات أميركا، وتحمل شهادة تؤهلك لمنصب كبير في الدولة أو في العمل الحر، وأخوك كريم طبيب، أرسلته ليختص ولا أعرف أخباره، وفي أسوأ الأحوال يستطيع العمل بشهادته ويدبر أموره، ونبيلة متزوجة من رجل ميسور، ولكنني أحسب حساب الزمن وأريدها أن تعيش حرة بكرامتها، لاسلطان لأحد عليها إلا ضميرها. وعبد الرحمن هو أضعف فرد فيكم ، الصحافة لا تعيل الإنسان إن كان صاحبها مستقيما، وهو يعيش بدون مؤهل علمي ولا رأس مال.. كفاه ما هو فيه من بلاء وتشرد، إنه أحوج الجميع لبيت يؤويه.. وليس ما أتركه إرثا يستحق أن يتبدد ويقسم بينكم..

منذ ذلك اليوم قاطع هشام والده فلا يزوره..واشتد المرض على والدي، وكان ولوعه بحفيديه قد بلغ أشده ، واستفاق من نومه، وقال لي:

-         كأنني سمعت صوت سمير ولين!

وصمت مشيرة بعيني بالنفي، فاكتسى وجهه بمسحة الحزن..

ذهبت إلى بيت هشام وعاتبته لأنه لا يزور أباه في مرضه.. أجاب وهو يشمخ بأنفه:

-         لن أزوره حتى يغير وصيته ويكون لنا جميعا حصة في ميراثه كما ينص الشرع..

-           لا تجعل قلبك يقسو، فلو حدث لوالدنا مكروه فلن تنجو يا هشام من تأنيب الضمير..

وقالت زوجته بالإنجليزية:

-         ما هذه العادات الغريبة عند الشرقيين؟ يصبح عمر الرجل في الثامنة والثلاثين ويبقى متعلقا بأهله!

ولم أعلق على كلامها، ووجهت حديثي إلى هشام:

-           ياهشام، إن حال والدك لا توحي بالإطمئنان.. كليتاه مصابتان، وأنا أذهب به كل أسبوع إلى المشفى لغسلهما.. إذهب إليه وخذ ولديك معك.. هومشتاق لهما ويهدس باسمهما في نومه.. لا تجعله يشعر أن انقطاعك عن زيارته كان استياءا منه، فإذا تجاوز الخطر وبقيت له فسحة من العمر أمكننا أن نقنعه بتغيير وصيته.. إن عبد الرحمن سيكون أول من يرفضها فأنا أعرفه.. أما إن حدث لوالدك مكروه وهو منكسر القلب لجفوتك فثق أنك ستجرحنا جميعا ، سنتمزق كأسرة.

-           هل بقيت هناك أسرة حتى تتمزق؟ تمزقنا منذ زمن طويل وانتهى الأمر.. كنا نراعي المظاهر أمام الناس.. إن والدك ليس منصفا، إنه متحيز، ضيق الأفق ، عواطفه مع الفاشلين، كأنما الفشل مزية يستحق الإنسان عليها المكافأة..

-           ليس عبد الرحمن فاشلا.. إن له ذهنا لامعا قلّ مثيله.. لعله يفوقنا جميعا حدة ذكاء، هل قرأت كتابه الأخير الذي جئتك بنسخة منه؟

-           أنا مشغول لقمة رأسي، هل أنا متفرغ لقراءة الترّهات؟

-           أدهشني بعمق تفكيره وبعد نظره وغزارة مطالعاته..

-           ما الفائدة إن لم يستطع أن يحول كل هذا إلى مستوى من الحياة يليق به؟

-           عبد الرحمن من الرجال الذين يؤرقهم حب الوطن ورغبة التطور للأمة العربية ، ومثل هؤلاء الناس قليلو التفكير بما ينفعهم.

قال هشام بلهجة متهكمة:

-         إذا كانوا قانعين بالفقر سعداء به فلماذا نحرمهم هذه السعادة؟

-           هل في اعتقادك أن عبد الرحمن يستمتع بالفقر؟

-           لم لا؟ هناك رجال يستمتعون بتعذيب أنفسهم.. خذي مثلا الهندوس الذين ينامون على فراش من المسامير..

-           لا أعتقد أنه يستمتع به، ولكنه لا يجد الوقت ليقوم بواجب مهنته في البحث عن الحقيقة، ويسعى لرزقه في آن واحد ..

-           وضاقت زوجة هشام بالحديث الذي لم تكن تفهمه جيدا وقالت بعربية ركيكة:

-           ليش إنت نبيلة تتكلم أرابي ؟ فيه أسرار؟ عبد الرحمن، عبد الرحمن! بدك رأيي؟ عبد الرحمن مافي شخصية.. لازم يتطلع فوق ، فوق.. عبد الرحمن يتطلع تحت.. يمكن شيوعي.. بيقول رأسمالية مش كويس.. ما في أخسن من نزام رأسمالي..

-           هل زاركم عبد الرحمن؟

-           لا، الكتاب هيك بيقول.. هشام قراه..

-           كله ؟ أو اتصفحه؟

-         اتسفحته بس !

*   *   *