وفــاة والــدي

 

شغلني العراك الذي دار في بيروت عن مشاكلي، وتركز اهتمامي بوالدي الذي كانت صحته تسوء يوماً بعد يوم، ولا أجد الوسيلة لأصل به الى المشفى لغسل كليتيه دون تعريضه وتعريض نفسي للخطر بعد انقسام بيروت الى شرقية وغربية يفصل بينهما قوات الردع التي أصبح تواجدها شرعياً حين جدد "رئيس بعبدا" اقامتها، فأقامت بذلك سلطتها الخاصة فلا تسمح لأحد بالمرور دون ابراز الهوية، وتراكمت علي ديون لجارنا الصيدلي الذي كان يطالبني بها كلما مررت بالصيدلية.

همس والدي: - أريد أن أرى عبد الرحمن وحفيدي! أصبحنا أغراباً في وطننا وعاصمتنا، والقول الفصل للبندقية والمدفع..

تلفنت لعبد الرحمن، فجاء على عجل ومعه زوجته والصبيان.. انتعش والدي لبضعة أيام، ولعب مع الصبيين الداما.. كان سعيداً بهما وهو يقول لي:

-         ها أنذا ألعب مع حفيدي اللذين يتقنان اللغة العربية!

وأحسست أن في فمه كلاماً آخر لم يقله.. "لماذا أحزن على عدم رؤيتي حفيدي سمير ولين اللذين لا يتقنانها؟ " .. كان حزيناً لتصرف هشام معه منذ كتب وصيته.. فهاهي أسرته الوحيدة، التي يهتم بها، حوله.. ولم يطلب مني أن أدعو هشام ليراه في ساعاته الأخيرة!

بقي بضعة أيام منتعشاً حتى أنني كذبت نفسي في احتمال خطورة حالته، ولكن لم يلبث أن أصيب بعجز كلوي تام ودخل في غيبوبة ثم فارق الحياة.

كانت جنازته صامتة، وأوراق النعوة تمزق من على الجدران، ولم يدر بموته أحد الاّ الذين تلفنا لهم.. كنت مشوشة، وأحس باليتم لأول مرة في حياتي، تائهة، رأسي يدور، أبكي في صمت حتى لا يحس بحزني صغار العائلة وأمسح دمعي في منأى عن العيون.. جاء هشام وزوجته وأحضر ولديه في ثياب حداد أنيقة ولكن لم يجر أي حديث بين أحفاد جلال عباد بسبب عدم فهم ولديه اللغة العربية. لقد حشدتهم فريدة في غرفة نورا ولم تسمح لهم بالخروج.. ثم جاء زوجي، فسلمت عليه لأنقذ المظاهر أمام الأهل.. كان قد أوصى على وليمة العشاء من مطعم فاخر، وجاءت بنت عمتي أم ابراهيم الكبرى وزوجها تاجر السجاد وابنها وما كان عددنا يتجاوز وليمة عادية من خمسة عشر شخصاً.

قلت لعبد الرحمن بعد أن انفض الجمع: - ابقوا عندنا حتى انقضاء الأربعين يوماً على الوفاة، فالناس سيعلمون بوفاته وسيأتي الأصدقاء للتعزية.

-         لن نتركك وحدك في هذه الظروف.

ناولته مظروفاً كان قد أعطانيه هشام.

-         هذا المبلغ من هشام لنفقات الدفن وبناء القبر، وهناك الصيدلي جارنا وصديقك نحن مديونون له بأثمان الأدوية طوال العام فحاسبه.

-           أنا أحضرت مبلغاً استلفته من المنظمة، ولقد حاسبت الصيدلي أول وصولي.. أخرج لي قائمة بالأدوية عليها السعر القديم والجديد فحاسبني على الجديد لا بالسعر الذي اشتريته به! هذا الرجل ليس صديقي..

لم تمتد يد عبد الرحمن لأخذ المبلغ مني، فهو كعادته يريد أن يتحمل المسؤولية وحده. قلت له:

-         ابق المبلغ معك.. أنا معي ما يكفيني، لدي دولارات، ولكنني لم أحاسب الصيدلي قبل مجيئك في انشغالي.

-           ألا تحتاجين لشئ؟ فأنا مضطر للعودة..

-           فقط أحتاج اليك بأمر هام.. أن تذهب الى قرية حدودية قرب بعلبك وتتقصى لي عما يفعله زوجي في تلك القرية، وما هي المشاريع التي يقيمها ومن يشارك فيها.. وتعرف لي كل شيء عن غانم هجرس.

-           بماذا يهمك هذا الرجل؟

-           أنا أقوم بملاحقة قضية تتعلق به، كانت قد أسندت الى والدي، ولقد طلب مني أن أعطيها اهتماماً خاصاً.

-           أنا أعرف أشياء خطيرة عن هذا الرجل من الفلسطينيين في صيدا، ومن الأوراق التي تركها جدك لأنه اشترى منه أراض في الجنوب، وقطع منها شجر البرتقال وزرعها حشيشاً..

-           يا الهي انها نفس القضية التي أستلمها، وضع اليد على بساتين تفاح هي ملك عائلة هاجر أفرادها، فلما جاء أحدهم لاستردادها منه وجدت جثته في كوخ وقد أطلق عليه النار..

وجدت أن من الأفضل أن يطلع عبد الرحمن على ملف جهينة فذهبت الى المكتب وأحضرته له.. وسهر تلك الليلة يقرأ الملف.. وعند الصباح سألني: كيف وصلت مذكرات جهينة الى والدي؟ فقلت: لا أدري فأنا لم أحرجه بمثل هذا السؤال.. وأخبرني بدوره عن كل ما يعرف عن غانم وعصابته وكيف كاد أن يجر ابراهيم ابن عمتنا الى عمليات خطف الطائرات.

*   *   *