لن أطلق

 

فوجئت وأنا في مكتبي بدخول زوجي، كنت أطالع ملف جهينة وغانم والمذكرات التي كتبتها عنه. كان في غرفتي محامية متخرجة تتدرب عندي. قال: - هل تسمحين أن أكلمك على انفراد؟ أشرت الى المحامية المتمرنة أن تنصرف، قال وهو مطأطئ الرأس:

-         انني مسافر الى نيويورك، وأردت أن أراك وابنتي قبل سفري.

لبثت صامتة فأردف: - انني لن أطلق.. في أسرتي الرجال لا يطلقون، يتزوجون مثنى وثلاث ورباع، ولكنهم لا يطلقون.

-         أنا محامية وأعرف الشرع تماماً.. حين تزوجتك ظننت أن العالم المتطور الذي درست فيه قد طورك وأنك أردت فتاة مثقفة من آل عباد تكون شريكتك وسندك طوال العمر، لا تشرك بها أحداً.

عاتبني! نعى علي أنني رفضت أن أنجب له صبياً يرث اسمه وثروته، وأنني لم أحبه، وأنني تزوجته لنفوذه وماله، وأنكر علي أنني كنت أقرب اليه الفلسطينيين الذين يريدون سرقته، ولامني أنني تركته وحيداً حين مرض والدي، وأنه لم يسئ الي بشيء، وأنه أحبني كما لم يحب أحداً في حياته، وأن الوحدة التي عانى منها هي التي دفعته الى أحضان غيري..

أصغيت اليه دون أن أقاطعه لما كان يشكوه مني:

-         حين كنت أرغب في الانجاب لك كنت مشغولاً عني، تفتنك كل النساء اللواتي يحطن بك، زوجة أخي الأمريكية وموظفات المصرف والخادمات في بيتنا واحدة بعد الأخرى حتى اخترت في النهاية احداهن..

-           كيف عرفت؟

-           اليست هي الفتاة التي زرعها غانم في بيتك، وبقيت عندنا بضعة شهور ثم تركتنا بحجة الزواج؟ كنت أنت من أزمع الزواج بها بعيداً عن المنزل. مررت عدداً من المرات ببيتنا وكنت أرى برادك مليئاً بالمآكل.. انها ليست مآكل توصي بها من مطعم، وأنا أعرف تماماً من يعدها لك من الطريقة التي تكبكب بها وتلف بها ورق العنب. لم يكن مضى عامان على زواجنا حين بدأت تخونني. أما كان من حقي حينذاك أن أعرف أين أقف منك؟ أسلمت كل شيء الى ضميرك، جسدي ومستقبلي ومصير ابنتي، ولكنك خيبت آمالي.. تقول لي أنني كنت أقرب الفلسطينيين الذين يريدون سرقتك.. من هم؟ أبناء خالتي الذين هم أصغر سناً مني وأعاملهم كإخوة لي؟ تقول تزوجتك لمالك ونفوذك.. لا بالله! أنا فتاة سيدة نفسي، ولا أتزوج أبداً من أجل مال ونفوذ، وخلفي تاريخ عائلة مناضلة عريقة أفرادها أسياد في الجنوب. تربينا على حب لبنان السنين الطوال. حين كنت بحاجة الى ثروتك لأدعم مشاريع الري في الجنوب أبيتها علي، وحين كنت بحاجة لقلب يصونك ويحميك من غدر نفسك تكبرت واستعليت، وقربت اليك كل المفسدين والمرتشين. لا تظن أن الثروة دائماً نعمة، فكثيراً ما تكون نقمة على الانسان ومن يلوذ به وخصوصاً ان كان ضعيفاً.

-           أنا ضعيف!

-           ماذا تسمي اذن جميع تصرفاتك؟ تستعبدك الشهوات، تتهالك على الملذات كأنك تموت غداً، تقرب اليك غانم أكبر مهرب حشيش في البلاد الذي يملك خمساً وأربعين شاحنة للتهريب، ويغريك بمشاركته لشراء أراض هي وقف على أصحابها الشرعيين يقطع منها الشجر المثمر ويزرع فيها الحشيش، التفاح في الشمال والبرتقال في الجنوب فتذعن لإرادته.. هذه هي المشاريع التي تدعمها! تأخذ من أموال الناس الذين يودعونها في مصرفك وتنفق على مشاريعه الخسيسة الداعرة، ثم تتزوج أخته لتنجب لك الصبي الذي يرث ثروتك.. أليست هذه شخصيتك ونقاط ضعفك، وكنت أكتشفها واحدة بعد الأخرى فتباعد ما بيني وبينك؟

ماذا يجمع بيني وبينك اليوم؟ حفرت هوة لايمكن عبورها.. ان ضعفك أفقدني نصف أملاك أسرتي، فهي إما بيد اسرائيل أو بيد غانم.. انظر الى هذا الملف في يدي ما عنوانه؟ جهينة وغانم.. أنت تدعم هذا السافل وأنا ألاحقه من أجل كل الجرائم التي ارتكبها في حق أناس أحببتهم بكل جوارحي، أناس لو كانت بيدهم مقاليد الأمور وكانوا يملكون ثروتك لصنعوا من لبنان جنة بدل الخراب الذي صنعت. أنت تملك ثروة لا تعرف كيف تتصرف بها وأنا أملك حلم آل عباد في أن يكون لبنان حراً مستقلاً.. ان طريقينا مختلفان، ومن الأفضل لنا أن ننفصل. لقد توفي والدي في أوج عطائه وأسلمني القضايا التي كان يتابعها، ومنها هذا  الملف الذي يقص سيرة غانم وكيف جمع ثروته.. اسأل عنه ريمون وماذا يعرف عنه. ان له ملفاً مخزياً في سفارته، وأنا لا أتنكر للأمانة التي وضعها والدي في عنقي.. لا أريد أن أخسر سمعتي المهنية بالارتباط بثروة ملوثة، تقتل شعبنا في الجنوب وتهدد أمننا وتستولي على أراضينا ومياهنا.

-         أتحمليني تبعة ما يجري للفلسطينيين؟

-           أحملك! نعم أحملك، ليس من الضروري أن تكون مسؤوليتك مباشرة، ولكن عندما يبيع انسان نفسه للشيطان لا يدري أين يقوده ولقد استفاد الشيطان من ثروتك اللعينة كثيراً لأنك قربت القتلة والعملاء والمأجورين، ووقفت تتفرج على ما تقترفه أيديهم الآثمة دون أن تتحرك.

-         كفاك اتهاماً لي.. لننس الماضي.. أنا لا أتخلى عنك ولا عن ابنتي، جئت لأقول لك رافقيني الى نيويورك، وهناك تمارسين مهنتك ان أحببت.. لقد قررت أن لا أعود الى بلدي.. انني قادر على أن أفتح بيتين هناك.

*   *   *