في مقر المجلة

 

جلس عبد الرحمن في حديقة بيت جده يقرأ المجلة الأسبوعية السرية التي وصلته للتو، وعرف على الفور في الصفحة الأدبية شعر ثريا من روحها وتعبيرها.. إن آخرين وأخريات أصبحوا يكتبون فيها فالنكبة قد فجرت ينابيع ثرة من المواهب في الشعر والقصة والكاريكاتور. ورأى رسما كاريكاتوريا لفنان ناشئ سيكون لاسمه دوي في مقبل الزمن وسيخلف الفنان الذي اغتالته يد آثمة ، وسيزور النادي الذي دعي باسمه وأصبح ملتقى للأدباء والفنانين ورجال السياسة .. كم اشتاق لرفاقه في بيروت! ضحك طويلا من الصورة . سيذهب باكرا إلى العاصمة في الغد ويزور مقر المجلة ، ثم يذهب إلى زيارة قبر والده ونبيلة ، وفي طريق العودة سيعرج على البيت الذي نزل فيه جده وخالته أم عبد القادر ويرى كيف حالهم في وضعهم الجديد.. وسيزور أيضا عمته أم ابراهيم، فهي دائما عندها حقيبة ملأى بالأخبار . فإذا ما جن الليل أوى إلى بيته حيث حبيبته ثريا في انتظاره..

هنأ الرسام على رسمه وقال له "أنت موهوب فاحرص على نفسك ، فالموهوبون مستهدفون كالمقاتلين"

في مقر المجلة كان رفاقه يحللون الأحداث الأخيرة.. سفر السادات إلى إسرائيل، قصف الجنوب والهجوم الإسرائيلي لتصفية قواعد الفدائيين، والهجرة الكثيفة نحو بيروت .. اتفاقيات كامب ديفيد والثورة الإيرانية حيث أنزل العلم الإسرائيلي من السفارة في طهران ورفع العلم الفلسطيني.

-         إنهم يضعون السكين على رقابنا!

-           إن إسرائيل بعد أن ضمنت خروج مصر من المعركة لا تريد صلحا لا مع سوريا ولا مع لبنان لأنها لن تسلم الجولان فلها مآرب فيه.

-           مصر السادات طعنت المقاومة طعنة قاتلة ، لا حول ولا قوة إلا بالله!

-           وسوريا بعد تل الزعتر شقت الصف الفلسطيني.. والنتيجة رتل فلسطيني يباد بأيد فلسطينية! والسعودية توافق وحكام العرب يوافقون.

-           أميركا لا يهمها الفلسطينيون – يعلق أحدهم- لها أنصارها حتى في جميع تشكيلاتنا. دمرت الثورة من داخلها قبل أن يطعنها أحد من الخارج..

قال عبد الرحمن:

-           يا إخوتي لو لم يكن في هذه المنطقة فلسطيني واحد لقامت إسرائيل بهجومها، إن معركتها اليوم هي معركة مياه، والفلسطيني حجة يبرر عدوانها على لبنان.

ساد صمت وقال أحد الذين ينافسون عرفات على زعامة المنظمة.

-         على كل حال لا يجوز أن ترتبط الثورة برجل واحد، يملك أموال الثورة، ويضعها باسمه في المصارف السويسرية، فأذا مات أضاعت الثورة ثروتها وقضيتها إلى الأبد..

ابتسم عبد الرحمن بأسى:

الناقات البيض! ماذا حدث لكم ؟ هكذا كان يتكلم معاوية.. واحدكم لا يفكر بالتحرير قدر ما يفكر بالناقات البيض في حوزة الآخر!

توقف الجميع عن الحديث إذ كان المذياع ينقل نداء من مشفى عن حاجته الماسة إلى دم من فئة 0 لإنقاذ جريح في حالة خطرة.

هب عبد الرحمن واقفا وقال "أنا دمي من فئة زيرو فلعل الجريح أحد رفاقنا!"

ترك الجمع مهرولا إلى سيارته ، ثم إلى المشفى فسحب الطبيب منه الدم وأعطاه للممرض.. ولما عرض عليه مالا ابتسم وقال "إنني أنقذ رجلا وهب حياته وبذل دمه فكيف أتقاضى عن دمي الذي أتبرع به مالا ؟ فقط أتمنى له طول العمر، ولا يذهب دمي هدرا ولا جهودكم سدى".

-         إن الجريح ليس رجلا بل امرأة تعرضت لحادث وأسقطت جنينها والمرأة كما عرفنا من هويتها تدعى ليزا عباد.

صعق عبد الرحمن للخبر، أتكون المرأة ابنة عمه؟ ولكنه استبعد الأمر، فليزا مع والدها في الصين.

-         مااسم والدها ؟

-           العقيد أنور عباد..ولقد تلفنا إلى أهلها ولكن ليس من مجيب، وتلفنا إلى كثيرين ممن يحملون نفس كنيتها فلم نحظ بجواب، وعلمنا صدفة أن والدها سافر إلى فرنسا سفيرا للبنان..

-           إنها ابنة عمي! سأصعد لأراها.

-           في غرفة العمليات، فقد يحتاجون أليك لمزيد من الدم.

خرج عبد الرحمن صاعدا إلى الطابق الثاني، فهو يعرف المكان جيدا، فلطالما زار رفاقا له جرحوا في المعارك..

ما هذه الصدفة الغريبة؟ يعود عمه من الصين ولا يدري، ويسافر الى فرنسا وهو لا يدري، وتصاب ابنة عمه بحادث بينما يستبد به الشوق الى أهله ورفاقه في بيروت ليكون لها المنقذ في الوقت المناسب.. أهناك حاسة سادسة عند الانسان تلهمه كما يقولون؟

كان يهرول صاعداً الدرج نحو الغرفة واذا به أمام اخته نبيلة..

-         عبد الرحمن! كيف علمت بالحادث، وجئت بهذه السرعة؟

-           كنت في دار المجلة، ولكنني لم أعلم الا منذ لحظة أنها ابنة عمي ليزا.. أخبرني الطبيب الذي سحب من دمي لاسعافها.. ظننت حين سمعت النداء في الإذاعة أنه لإنقاذ جريح لعله يكون أحد رفاقنا ! انني حتى الآن لا أعرف طبيعة الحادث.

-           كارثة أصابت بيت عمك!. سيارة مفخخة انفجرت عند الباب وأصابت الفرندة حيث تجلس امرأة عمك وليزا.. قتلت امرأة عمك على الفور ونقلت ليزا الى هذا المشفى.. أجريت لها عملية قيصرية لإنقاذ جنينها فهي حامل في شهرها السابع، ولكنه وجد ميتاً، والأطباء في خشية من خطر التسمم الذي قد يودي بها.

-           لا حول ولا قوة الا بالله!

-           لا يجب أن تعلم ليزا بأمر أمها.. أنا أنتظر خروجها من غرفة العمليات الى العناية المشددة كي أنبه الطبيب والممرضات الى ذلك، أما أنا وأنت فنقول لها حين تصحو أن السفارة نقلت أمها بطائرة خاصة الى باريس، أما هي فكانت حالتها تستدعي الاسعاف السريع.

نقلت ليزا الى غرفة في العناية المشددة وكنت وعبد الرحمن نتناوب السهر عليها، وصحت تماماً في اليوم الثالث حين جاء عبد الرحمن لزيارتها..

ضم يديها بصمت  - الحمد لله على سلامتك!

-         آه عبد الرحمن! أعرف أن الله يعاقبني لما سببته لك من ألم وعذاب.

-           تماثلي للشفاء.. كوني سعيدة.. حياتك وسعادتك أغلى ما عندي..

-           كنت أتصرف بحمق وغباء لأثير اهتمامك، وأحسب أن الرجال سواء تحلو في عيونهم الفتاة التي يرغب بها سواهم.. كنت أنتظر منك كلمة لأعود اليك فلم تتكلم.. لماذا لم تتكلم؟ لماذا لبست قناع العجرفة والجفاء وكنت تبتعد، وأنا تكثر أخطائي

-           لا تفكري بي كثيراً.. رومانسية المراهقة تزول.. والرجل الذي اخترته أنسب لك مني.. المهم أن تكوني سعيدة، والأهم أن تتعافي.

-           لن أنسى أنك أنقذتني من الموت.. لقد نزفت كثيراً اثر الحادث وأجهضت طفلي.

-           كنت أفعل ذلك لجارة غريبة لو صدف أن زمرة دمي تلائمها وكانت في خطر.

-           هكذا أنت، تحب دائماً أن تتظاهر بغير ما تضمر.

-           ليس من المفيد أن ينكأ الانسان جراح الماضي التي شفيت.

-           ها أنت تعترف أنه كانت هناك جراح قد تكون شفيت عندك ولكنها أخذت تنزف عندي..

وأجهشت بالبكاء

-         أرجوك لا تنفعلي.. أرجوك ليزا.. الانفعال يضر بك

-           أنت لا تعترف، ولا تريد أن تعزيني وأنا في حالي هذه من العجز وتأنيب الضمير.. هذا تصرف حانق يأبى أن يغفر..

-           اقسم لك أنني لست حانقاً، ولا ألومك بشيء حتى أغفر لك.. آخذ الحياة كما هي في الواقع.. بإمكان كل انسان أن يطور ميوله ويحوّلها الى مشاعر رقيقة أخوية، حتى تصل به القناعة الى استهجان فكرة الزواج بمن كان يحب، لأن السعادة في الزواج ليست بقدر تأجج عاطفة الزوجين بل بقدر انسجام شخصيتين تجاه مشاكل الحياة المعقدة.. وجدت أنا الآخر بعد تفكير جدي أن أنسب زوجة لي هي التي تكون راضية معي في السراء والضراء، شريكة لي في أهدافي، لا تلك التي علي استرضاءها على الدوام، فكلانا تنكر لعاطفة المراهقة التي كانت بيننا في الوقت المناسب، وأغضبنا الأهل الذين كانوا يحلمون بالجمع بيننا.. والآن تجمع بيننا علاقة أخوية خالصة لا شائبة فيها تعزز علاقة القرابة بيننا.. انها تبقى حية في أعماقي طوال الحياة.

وتنهدت ليزا وقالت – انني أكتفي منك بالمشاعر الرقيقة الأخوية.. أن تترك لي ركناً صغيراً في قلبك، لومضة حنان، أن أعلم أن هناك في الدنيا قلباًُ يتلهف لسماع أخباري، فأشعر كأن العناية الإلهية معي.

*   *   *