مصير ثريــا

 

فتحت الباب إذ سمعت الرنات الثلاث المتفق عليها مع الشاب الذي يأتيني بقصاصا ت معينة من الصحف الأجنبية لأترجمها إلى العربية، وإذا بالشاب يصطحب معه جهاد الذي أسرع إلي يعانقني بلهفة "عمتي كم اشتقت لكم! أين هي نورا؟ "

خرجت خرجت ابنتي مهرولة للقاء جهاد، وأخذته إلى غرفتها المليئة بالألعاب.. سألت الشاب:

"لم جاء جهاد وحده؟" أحسست بأن مصيبة حلت ببيت أخي الرحمن ، وبقلبي ينبض بانفعال..قال الشاب:

-       كان في إقليم التفاح يلعب مع رفاقه ويجمع الثمار..رآه مجموعة من رفاقنا كانوا هناك لاقتناص المروحيات.. عرفوه وجاؤوا به إلى دار المجلة..

-         لماذا لم تذهبوا به إلى داره؟

-         مرت طائرة مروحية فوق عين الحلوة، وقصفت منزل عبد الرحمن!

-         ماذا جرى لعبد الرحمن ؟ ماذا أصابه؟ ماذا حدث لأسرته؟

-         لم يصب، كان مع الفدائيين خارج الدار، أما من قتل فهي زوجته ثريا، وأصيب إبنه الآخر بكسور، ونقل إلى باريس للمعالجة على حساب المنظمة إكراما لعبد الرحمن. إن جهاد لا يدري بما جرى لوالدته وأخيه، لقد أوصاني عبد الرحمن أن أوصله إلى بيتك، فجئت به في سيارة البريد..

خنقني الحزن الذي كتمته حزنا على مصير ثريا, أن تنطفئ تلك الشعلة الحية بمثل هذه البساطة! قلت للشاب بصوت خرج من صدري كالنعيب :

-       كم تلفنت لها أطلب منها أن تأتي إلى بيروت فهي أكثر أمنا فتجيبني "لا أستطيع أن أترك عبد الرحمن في المعركة وأنجو بنفسي "، وأنا أسكن عين الحلوة ولست في المخيم الذي تستهدفه القنابل..

-         لم يعد من مكان آمن في لبنان، إن ثوارنا الصامدين في معقل عين الحلوة يخوضون أشرف وأعنف معارك المجابهة التي أذهلت قادة العدو وقواته ..حين جئت كانوا قد أوقعوا في قوات العدو أكثر من ثلاثين قتيلا عدا الجرحى, ودمروا له ثلاث دبابات وناقلتين مدرعتين وأربع مروحيات مغيرة.

قلت لجهاد وأنا أرسم بسمة على شفتي:

-       ياشقي! ماذا كنت تفعل في إقليم التفاح؟

-         ياعمتي، دائما أذهب ورفاقي إلى هناك، مكان يشبه الجنة. الجوز فيه حجمه كالتفاح، وليس أشهى من لبه تغطيه قشرة رقيقة، والتفاح الذهبي مذاقه كالعسل .. خال من الناس، وحين أذهب ورفاقي إلى هناك لنقطف الثمار تلحق بنا الميليشيات اللبنانية وتجردنا مما معنا.. لماذا تفعل ذلك ؟ أليس أفضل أن نأكل الثمار أو نصنع منها المربى بدل أن تسقط إلى الأرض وتتعفن؟

مسكينة ياثريا! لو عاد إليك جهاد ليفرحك بما التقط من ثمار ذلك اليوم التعس لوجد جسدك أشلاء بين أكوام الحجارة التي سقطت فوقك!

-       ولهذا أرسلك والدك إلي كي لا تتعرض للأخطار!

-         ولماذا لم يرسل أخي وسيم معي؟

-         لإنه أعقل منك، ولا يشرد مثلك في إقليم التفاح.. هنا في بيروت لا يوجد إقليم تفاح وبساتين برتقال.. سأضعك مع ابنتي في مدرستها تتعلم القراءة والكتابة.

-         إنني أعرف القراءة والكتابة والإملاء والحساب، فأمي كانت تعلمني.

-         وهل كانت تعلم أخاك أيضا؟

-         طبعا!

-         من هو أكثر اجتهادا؟

-         هو يسبقني في الإملاء، وأنا أسبقه في الحساب.

-         سنرى غدا من سيكون أكثر اجتهادا أنت أم نورا ..

-         أتريدين أن تضعيني في صف نورا؟ أنا أكبر منها سنا..

-         هناك يجرون لك فحصا ويرون مؤهلاتك وفي أي صف تكون.. تهيأ للغد وستساعدك فريدة في الإستحمام..

-         أنا استحم وحدي..

-         حسنا ! أنا سأذهب إلى السوق لأشتري لك طقما للمدرسة.. فمنذ الغد تذهب مع نورا وتعود معها ، وأنا التي أنقلكما في سيارتي!

انتظرت حتى أوى الصغيران إلى فراشيهما لأعطي العنان لحزني، ولكن الدموع التي حبستها طويلا خانتني.. أذكر ثريا وهي تحدثني عن عبد الرحمن وعيناها تلتمعان:

-         إنه رجل رائع! أتمنى لو أن الظروف كانت مناسبة لأنجب منه دستة من الأطفال تكرر صفاته..ذكرت قلبها الكبير الذي كان يسع الأطفال جميعا ولو لم يكونوا منها وكيف ربت ابن كريم في الوقت الذي تخلت أمه عنه.. أشفقت على عبد الرحمن كيف يحتمل فراقها.. الأموات لا يشعرون ويبقى الأحياء من بعدهم يتعذبون..

الموت! هذه التجربة الإنسانية التي يجهلها صاحبها وتبقى حية في ذاكرة من يلوذون به تلسعه بالذكريات الموجعة، بينما ميلادنا تذكره لنا أمهاتنا بالبهجة منذ كنا أجنة في أرحامهن، وطفولتنا المبكرة تذكرنا بها صورنا، وكل من يلوذ بنا بأحاسيس من الحنين.. فكرت أيضا بوقع فقدان ثريا على جهاد ووسيم، وذكرت الآلام التي كنت أعانيها في طفولتي بعد فقدي لأمي، يكبر الطفل قبل أوانه ويجرح قلبه إلى الأبد، لا يندمل الجرح طوال الحياة، وخصوصا إذا ماتت الأم في عز شبابها وعطائها بيد أثيمة ألقت عليها الموت من مروحية أوسيارة تنفجر..

ذكرت أن خمسا من أحفاد آل عباد سيكبرون وفي قلوبهم تلك الغصة التي لا تندمل مضافا إليها الغضب الكامن ممن كانوا سبب بلائهم، ووجدت نفسي أبكي بدمع هتون وتغرق دموعي وسادتي.

بقي أملي الوحيد أن يسلم عبد الرحمن ليكون عونا لي في تخفيف الصدمة عن الطفلين فلا يعيشان في يتم كامل..

تأتيني النشرة في مواعيدها، وأعرف من مقالات عبد الرحمن أنه لا يزال حيا يرزق وهو في كل مكان يكافح العدو ويتتبع خطاه إلى مشارف بيروت..وأسأل الشاب الذي يأتيني بها عن آخر الأخبار:

-       العدو يكاد يصل إلى مشارف بيروت.. أسأل في قلق:

-         هل ستدور المعارك في بيروت؟

-         هدف العدو تدمير المنظمة، ولهذا ستحاصر بيروت الغربية، ولكن ياسرعرفات مصمم أن يموت مع رجاله فيها ولا يستسلم.

-         هل أستطيع الإتصال بكم؟

-         سينقطع الإتصال على ما أظن خلال الحصار بين بيروت الغربية وبيروت الشرقية، فإن كان اليوم يفصل بينهما الميليشيات المارونية وجيش لبنان النظامي فسيضاف إلى هذا الإنفصال خط ثالث وهو الجيش الإسرائيلي..

-         وأنتم ما هو وضعكم؟

-         نحن نسيطر اليوم على المطار والمنطقة المحيطة به سيطرة كاملة، أما في بيروت نفسها فستكون المعركة صعبة، فهي لا تدور بين قوات نظامية تمتلك معدات وأساليب متشابهة، وإنما تدور بين قوتين مختلفتين تكوينا وأسلوبا ومضمونا ، فداخل بيروت تقاتل قوات الشعب الفلسطيني واللبناني المشتركة ، وفي خارجها يقاتل عدو نظامي بمدافعه الثقيلة وطائراته دون أن يحمل المبرر الأخلاقي لعدوانيته، وقواته ستواجه حالة إجتماعية وسياسية وعسكرية يستحيل ترويضها وإخضاعها دون إفناء مئات الألوف منا ومنهم، وخصوصا إذا دخلوا بيروت بدباباتهم ..

-         كيف أستطيع أن أعرف أخباركم ؟

-         ستأتيك النشرة في مواعيدها، وسنبقى على اتصال بك بوسائلنا، ولا تفتحي بابك لأي كان، فآل عباد مستهدفون، وليكن بيننا كلمة سر "جهينة" !

-         جهينة! أهي جهينة النابلسي ابنة خالتي؟

-         نعم إنها تعمل معنا منذ وقت طويل، وهي التي ستبعث إليك بالقصاصات من الصحف الأجنبية لتساعديها في ترجمتها!

يوم قائظ من أيام حزيران، أسمع في الأخبار عن اتساع المعركة.. وكالة أجنبية تقول أن عدد الجرحى في مستشفى واحد هو سبعمائة معظمهم جراحه خطرة. أشاهد من نافذتي مرور الطائرات المروحية لتلقي قنابلها على بيروت الغربية أقرأ في صحف وطنية تنديدا بالأنظمة العربية التي أظهرت عجزها الكامل عن مواجهة العدو الأميركي الصهيوني، وأن بعضها كان ضالعاً في مخطط ضرب المنظمة في بيروت .أهرع إلى منزل جولييت فأجدها حزينة ، فقد سافر ريمون إلى أميركا منذ بدء الحرب وتركها وحيدة، وهي في ذعر على أهلها الذين يسكنون بيروت الغربية.. أمر بالمصرف الذي أوكل زوجي إدارته إلى غانم، فأجد المئات على بابه يطالبون بأموالهم المودعة فيعطيهم غانم أوراقا سقطت قيمتها مائة ضعف، بينما غطاؤها الذهبي أصبح في نيويورك يساهم مع غيره من الأموال العربية في إنقاذ عشرات المصارف الصهيونية من العجز والإفلاس. أقرأ في الصحف الأجنبية التي أطلع عليها في بيت جولييت عن مناقشات تدور في إسرائيل منذ الحرب ، وعن يأس الجنود من النصر حتى الإحساس بالعار . فخلال الشتات كان اليهودي هو الضحية، ولم يحدث له أن كان هو المعتدي وهو الذي كان يقصف المدن ويدمرها، ويقتل النساء اللواتي يجتمعن على العيون لملء جرارهن، ويفعل ما فعله النازيون به.. وأقرأ عن عرائض يكتبها الجنود إلى ذويهم يطالبون فيها بوقف الحرب في لبنان، وإعادتهم إلى أراضيهم، وعن أمهات يقفن صفوفا يسألن عن أبنائهن فيما إذا كانوا بين القتلى أو الجرحى لأنهن يخشين أن تكون وكالاتهن تكذب وتضائل الخسارات في صفوفهم، وعن جنود يعودون في إجازة بعد عشرة أيام من القتال وقد أصابهم الذهول، فهم لم يجربوا قتال الشوارع ولا أن يواجهوا عدوا يحاربهم ببندقية كلاشينكوف.. حتى الأطفال الفلسطينيين الذين قضت المعارك على ذويهم يؤلفون عصابات تحمل السلاح وتقاتل الإسرائيليين من أجل الماء والطعام المعلب الذي يحملونه معهم ، فلا تدمر دبابة حتى ينهبوا كل ما فيها من مؤونة .. يصيح جندي عائد في إجازة  "لماذا اهرق دمي ودم الفلسطيني، أمن أجل أن تستولي الميليشيات المارونية على السلطة؟"  وتكتب أم قتل ابنها على يد طفل فلسطيني وقد سحقها الحزن واليأس "إذا كنا نريد أن نحتفظ بإنسانيتنا ونشكل مجتمعا قائما على العدل ، علينا أن نتأكد بأن سلاحنا نظيف فلا نشهره إلا دفاعا عن أنفسنا.. لا نريد أن يقتل أبناؤنا من أجل حكام خرق تستحوذ عليهم الوساوس، وعسكريين مغامرين ومغرورين ومتعجرفين.."

*  *  *