صراخ الأرض

 

زارتني جهينة وفي صحبتها إمرأة هندية قالت بأنها صحفية بارزة في بلادها ولها شعبية بسبب قرابتها من جواهر لال نهرو وتبنيها آراءه :

-   لقد طلبت مني الأونروا باعتباري أتقن اللغة الإنجليزية أن أصطحبها في جولة على مخيمات اللاجئين، فإن شئت أن تصطحبينا، فأنا وأنت نستطيع أن نعطيها صورة صحيحة عن أحوال اللاجئين.. قلت لها:

-  لا أستطيع يا جهينة فأنت تعلمين ما جرى لابنتي وابن عبد الرحمن من اختطاف.

-  كلا لم يخبرني أحد بهذا.

-  كان الفاعل هو غانم الخسيس، هما في المدرسة الآن، وعلي أن أحضرهما بنفسي عند انتهاء الدوام.

صمتت جهينة ولم تحر جوابا.

-  أتعلمين أنه متزوج بداليا التي تركها كريم وهي تحمل منه طفلا؟

-  كيف لي أن أعرف؟

-  إن وسيم هو ابنها الذي ربته ثريا مع ابنها جهاد وكنا نقول عنهما بأنهما توأم.

-  لا أكاد أصدق!

اعتذرت بالإنجليزية للسيدة الجليلة عن مرافقتها مع جهينة ودعوتهما للإفطار معي قبل أن ينطلقا في رحلتهما للمخيمات .

كانت الأونروا قد وضعت تحت تصرفهما سيارة تقودها جهينة، وفي طريق عودتهما مرت بي جهينة بعد أن أوصلت الزائرة إلى الفندق الذي تنزل فيه في بيروت الغربية. كانت مثارة لتعرف مني أخبار غانم وداليا ، وأنا لأعرف منها أخبار رحلتها مع الصحفية.. دخل جهاد ونورا غرفة الإستقبال وعرفاها على الفور. هتفا معا " تانت جهينة، تانت جهينة!"

عانقتهما يحب وحنان:

-  لم أر جهاد منذ عامين، أما نورا فمنذ خرج الفلسطينيون من بيروت.. لقد كبرا، ما أسرع ما يكبر الصغار!

تعشينا معا، فقلت لها:

لن أتركك تذهبين إلى صيدا في الليل وحدك، تلفني إلى أهلك حتى لا ينشغل بالهم عليك..

قال جهاد: نعم عند الصباح، إذهب معك إلى صيدا .. اشتقت لأمي!

نظرت كلتانا للأخرى نظرة ذات معنى فأسرعت جهينة إلى القول:

-  أنا لست ذاهبة إلى صيدا، إنني أعمل في الأونروا هنا في بيروت، ولا أذهب إلى صيدا إلا إذا طلبوا مني ذلك.

أنقذت موقفي، قلت لها إذ بقينا وحدنا بعد أن نام الصغيران:

-  لا تصدقين كم أشعر بالحرج حين يلح علي جهاد برغبته في الذهاب  لى أمه. أنا لا أعرف أن أفبرك كذبة ولو بيضاء، ولا أعرف إلى متى أخفي عنه خبر أمه.. في صغري حين أخبروني عن وفاة أمي قالوا لي أنها ذهبت إلى السماء، ولم أغفر لها أنها تخلت عن ابنتها الحبيبة لتذهب إلى السماء، وشدّتني أحلام السماء بشوق موجع إليها كي أراها وأعاتبها. ولكنني فهمت فيما بعد أن السماء لا يصلها الإنسان إلا بعد الموت، والموت غير مستحب، فلماذا إذن يبكون؟

قالت جهينة وهي تنظر إلى المدى البعيد:

-  نحن بحاجة إلى عون السماء، وإلا لم يستطع شعبنا الصغير الأعزل أن يصمد في المحن كما صمد، لو أنك رأيت ما رأيت في المخيمات من مآس تقشعر لها الأبدان حين زرت مع الصحفية كل مخيمات لبنان وأكواخ الصفيح، من بيروت إلى صيدا! قالت لي الصحفية:

-  أتريدين رأيي الخاص؟ ربما كانت وجهة نظري تزعجك.. قابلت كثيرين ممن أزعجهم مثل قولي.. يجب أن يستقر اللاجئون! حياتهم لو بقوا على مثل حالهم من التشرد لا تحتمل .. يجب أن تصرف الأموال التي تزودهم بها الدول العربية والمعونات التي تمنحهم إياها إلى مشاريع لإسكانهم وكسب عيشهم.. ذهلت وقلت لها:

-  هذا الحل ضياع لقضيتهم  وضياع للحق. إن قضية اللاجئين لا تحل إلا بعودتهم إلى وطنهم.. إنهم هنا وفي كل مكان أغراب إلا في وطنهم.

-  إسرائيل واقع ليس من السهل تجاوزه.

نفذ صبري فقلت بانفعال:

-  إنني لاجئة.. أنا واحدة من هؤلاء الذين شردوا عن أوطانهم.. عانيت الشقاء مثلهم وكاد الفناء يهلكني كما أهلك الكثيرين منهم، وبحقي كلاجئة أن أقول أن الأمر ليس قضية طعام وشراب وكسب عيش.. إنه أعمق من هذا.. قضيتنا محك الضمير الإنساني والعدل الإنساني في هذا العالم.. نحن أصحاب الأرض مشردون نرى بعيوننا أراضينا تحول إلى مستعمرات، وقوم غرباء يسكنونها.. هذا واقع ، أعلم أنه واقع.. فإذا جعلت الأمم التي تؤمن بالسلام والحق والعدالة هذا الواقع حقا مكتسبا للسارقين، فسلام على كل المبادئ الجميلة التي نؤمن بها ، وسلام على كل جهد نبذله، وكل دم نهرقه ، وتضحيات نقدمها في هذا السبيل..

بدا على السيدة الإنزعاج وقالت:

-  لست أعني هذا.. المقاومة يجب أن تستمر ، ولكن اللاجئين أيضا يجب أن يعيشوا ويستقروا.. يجب أن تهيأ لهم ظروف العيش الكريم في الأوطان التي لجأوا إليها..

قلت لها:

-  وطننا هناك، ومن المحال أن يكون لنا سلام مع غاصبي وطننا، ومع ذلك لنا دور في لبنان.. إن مقاومتنا تمنعه من تحويل مياه الجنوب إلى فلسطين!

بقينا معا ساهرتين حتى الفجر تكشف كل منا أغوارها للأخرى.. إن جهينة هي أختي الروحية قبل أن تكون صديقتي وقريبتي.. ما عاد بيننا أسرار تخفيها إحدانا عن الأخرى، أنا قرأت مذكراتها التي كتبتها في وحدتها، وما كانت تريد أن يطلع عليها أحد.. قالت:

-  كنت أخشى أن يطلع عليها والدي، فاكتشفت أنه أول من قرأها وعرف قصتي مع غانم، وهو بدوره أرسلها إلى والدك ومعها تقرير الفلسطينيين عنه، ومن الطبيعي بعد أن استلمت مكتب والدك ، أخذت قضاياه على عاتقك.. كنت خجلى أتوارى منك وأعرف أنك تعرفين نقاط ضعفي ، وما أدت من كوارث على آل عباد!

-  كلنا تلك المرأة التي تؤخذ بظواهر الأشياء.. الصدق هو طبيعتنا في العائلة ولا نستطيع تصور عالم النفاق والخديعة والسادية حولنا حتى تمسّنا النار ونكتوي بها، وتحرق أحلامنا وآمالنا، هذا العالم العجيب الذي يرفض أمثالنا، ويقول لي عنه عبد الرحمن أنه ترك الوصايا العشرة ليمارس النواهي العشرة.

-  ما هي أخبار عبد الرحمن، أعرف أنه سافر إلى باريس ليكون قرب وسيم.

-  وصلتني منه رسالة مؤرخة بزمن سابق، فالبريد الخارجي لا يصل دوما إلى أصحابه كما تعلمين.

أحضرت الرسالة لتقرأها وكانت في غرفة نومي، في درج قرب سريري. بدا عليها التأثر لوضع وسيم فحزن الأطفال يدمي القلب.. قالت لتخفف عني إذ شاهدت دمعة تترقرق في عيني:

-  شاهدت في المخيمات حين زرتها مع الصحفية أطفالا شوهتهم الحرب وليس بمقدور ذويهم أن يرسلوهم للخارج للعلاج.. فعل ذلك الفلسطينيون إكراما لعبد الرحمن، كلنا كنا نظن أن وسيم هو ابنه التوأم..

تساءلت "اترى يحز في نفس جهينة أن وسيم ليس إبن عبد الرحمن، بل هو إبن كريم الذي تخلى عنها، وداليا التي سوّدت عيشها منذ ظهرت على مسرح حياتها؟ "

أكملت قراءة الرسالة وقالت:

-  لم يبتعد عبد الرحمن؟ أيواسي جراحه بفقد ثريا بالتخلي عن قضيتها؟ ماذا يفيده القانون الدولي، وماذا ينتفع منه في بلده؟ قانون الغاب.. الأشقياء في هذا العالم هم فوق القانون ! يكفيه أنه يضع النقاط على الحروف وينبه أمته إلى الخطر الذي يحيط بها. إنه أديب وأديب كبير ومحلل سياسي بارع، ومواهبه أفضل من أية شهادة يحصل بها على الدكتوراه في القانون الدولي!

-  لا أعرف الغاية من اختياره هذه الوجهة في حياته، ولكنني أعرف شخصيته، ربما كان يريد النضال من موقع القوي، فحملة الألقاب سرعان ما يجدون مكانهم في قمة المجتمع بينما الأدباء قد يموتون ومجتمعاتهم تتجاهلهم.

وابتسمت جهينة ابتسامتها الأسية التي شاهدتها على شفتيها يوم عرفت بقصة داليا وكريم.

*   *   *