سفر ريمون

 

ذهبت لأزور جولييت فوجدتها تهيئ حقائبها لسفر طويل.. كانت أختها كلارا تساعدها في نرتيب الحقائب وكلتاهما تبكيان.

-  جولييت ماذا جرى؟

-  سنسافر إلى ايران.

جلست وإياها على طرف السرير.. مسحت دمعها وقالت:

-  منذ أسبوع رن جرس الباب فذهبت كلارا وفتحته. كان القادم شابا أشقر فارع الطول يسأل عن ريمون..

أسرعت حين نادتني كلارا لأتعرف على الزائر وماذا يريد من ريمون , وإذا بي أمام جورج ، إبنه الوحيد الذي كان يراسله من جامعة هارفارد ويرسل إليه بصوره.

رحبت به أجمل ترحيب ، ولكن الشاب بدا جافيا، قال:

-  سألت عنه في السفارة فدلوني على منزله، فهل يطول غيابه؟

-  في العادة لا.. ولكن لم لم تخبرنا عن موعد قدومك لنستقبلك في المطار؟

-  أردتها مفاجأة له!

-  سيسر كثيرا بقدومك.. قيل لنا أنك نجحت بتفوق في الجامعة ، وأسعده الأمر كثيرا، فأنت تعلم لايسعد الآباء شيء مثل تفوق الأبناء.

ما لبث ريمون أن جاء.. سمعت توقف سيارته عند الباب وقلقلة المفتاح، فعرفت أنه هو..

-         انظر من عندنا!

-         جورج! أية مفاجأة لنا!

وفتح ذراعيه لضمه، فوقف بتثاقل ودون لهفة، فانتابني شعور بالقلق لتصرفه.. قال الشاب:

-         هل لي أن انفرد بك لأحادثك؟

-         قل ما تريد قوله أمام زوجتي فأنا أثق بكتمانها.

دخلت أمي تدعونا للغداء..

قال ريمون: -  لنؤجل الحديث فيما بعد إذ حان وقت الغداء!

الساعة الرابعة وقد هيأت أمي ألواناً من الأطعمة الشرقية، كعادتها، التي أصبح ريمون يفضلها لغذائه.

شد ريمون ذراع جورج، وأجلسه قبالته الى يميني وجلست أمي الى يمينه وكلارا قرب جورج..

قال ريمون – أنصحك أن تبدأ بشوربا العدس والخضار المطحونة فهي مشهية وتتبعها بقرص من الكبة المقلية

-         لا، لا، انها مأكولات تربك معدتي فأصاب بالإسهال

قلت له – هذه صلصة مايونيز بالقريدس وهذه سمكة حرة دعني أساعدك بالاختيار.

-         لا، الأطعمة الحرة تؤذيني.

لم يأكل الا القاليل مما أعد ذلك اليوم: السلطة والبطاطا المقلية والشرحات، بينما كان ريمون يلتهم من كل شيء بشهية..

تحاشيت بعد الغداء أن أدخل الغرفة مع ريمون لأترك المجال له في الحديث مع ابنه، وذهبت مع أمي لتنام ساعة القيلولة بعد تعبها في النهار وكلارا دخلت المطبخ لتحضر القهوة والخادمة لما بقي من عمل بعد الوجبات.

وقفت بحيث لا يراني ريمون أو ابنه لأسمع كل كلمة تقال.. ليس من عادتي استراق السمع أبداً ولكنني شعرت بالقلق أن الحديث يتعلق بي من تصرف جورج الجافي نحوي.

بعد تبادل لحديث عام عن الطقس والرحلة بدأ الشاب بالحديث الذي جاء من أجله:

-         يقولون عنك في الخارجية أنك تحولت من كسينجري الى واينبرغري

قاطعت جولييت – أعرف سياسة كيسنجر فما هي سياسة واينبرغر؟

-         لا أدري ولم أسأل ريمون عنها حتى لا يعرف بأنني كنت أنصت للحديث.

-         لا يهم أكملي، لا بد أنها النقيض.

-         وفي العلاقة الزوجية من موحد الى متعدد الزوجات.

قالها بسخرية أغاظت ريمون فرد عليه: - وماذا يقولون عني أيضاً؟

-         وفي الأيدلوجية من رأسمالي الى شيوعي، وأن بيتك يغص بالشيوعيين.. وأنك تنسى ما عانيناه في فيتنام!

-         يبدو أن تلفوني هنا مراقب حتى تنقل عني أحاديثي الخاصة وتشوه في البيت الأبيض.. أليس عندهم كذلك أشرطة مسجلة بصوتي في السي آي إي؟

-         ربما. يقولون أيضاً أن المرحلة المقبلة في لبنان تحتاج الى عنصر الشباب المتحمسين، لا الكهول المترددين، وأن عليك أن تتنحى وتذهب الى ايران.. لقد عين سفير جديد لهذا البلد واختاروني لأكون الملحق الثقافي بديلاً عنك، وجئنا معاً في نفس الطائرة، ووصلنا باكراً عند الفجر ونزلنا في فندق سان جورج للراحة قبل مباشرة مهماتنا غداً.

لم يحدثني ريمون بالتفصيل عما تحدثا به حين انفرد بي.. قال لي انهم مصرون في الخارجية على نقل عملي الى السفارة في ايران وعلي أن أفرغ من المنزل حاجاتي الخاصة لأسلمه للقادم الجديد..

تصوري يا نبيلة! تراكم عندي حاجات كثيرة لا أعرف أين أذهب بها وأنا مهمومة كيف ترجع أمي وأختي الى بيروت الغربية والمعارك لا زالت دائرة فيها بعد خروج الفلسطينيين؟ القوى اللبنانية هي التي تدافع اليوم عن بيروت وحرب الشوارع قائمة فيها وقد اختلط الحابل بالنابل.. نزل سكانها للمعركة حتى الشيوعيين..

أخذت كلارا بالبكاء وقد ذكرت حبيبها في الفرقة الموسيقية

-         سأذهب الى بيروت الغربية، حياتي ليست أفضل من حياة من بقي هناك..

أخذت جولييت تعنفها – مجنونة أنت! ماذا تفعلين هناك.. أتريدين أن تكوني ضحية؟

قلت لها – ترك لي زوجي مفتاح البيت الذي يسكنه.. انه ملكي كما تعلمين.. أختك وأمك عزيزتان علي فليسكنا فيه ريثما تهدأ الأحوال في بيروت الغربية.. وانقلي اليه كل ما ترغبين ابقاءه في لبنان فلعل اقامتكما لا تطول في ايران..

لم تصدق جولييت أذنيها..

-         آه يا نبيلة كم أنت طيبة.. ولكن ماذا يفعل زوجك حين يعود من السفر؟

أخبرتها أنه في لبنان، وهو مسافر الى الجنوب لأعمال خاصة به وحين يعود سيتوجه الي ليخبرني بما جرى.

-  ولكن لو أنه توجه إلى بيته ليستريح؟

-  لا تقلقي! في جميع الأحوال لتخبره كلارا أنهما قريبتا ريمون وأنني أنا التي أعطيتهما المفتاح، فيذهب إلى اقرب فندق وينام فيه.

  اقترب موعد انصراف ابنتي من المدرسة، وسأودعكما الآن!

أخرجت سلسلة مفاتيحي من حقيبتي وأخرجت منها المفتاح الذي أسلمني إياه ريمون وقلت:

-  كان على حق حين نصحني أن أحتفظ بما تركه لي زوجي.. يحتاج الإنسان إلى البيت والسيارة، أما الشيك فلقد مزقته أمامه لأنني مصرة على الإنفصال، ولا أريد منه إلا حريتي.

قالت جولييت وهي تودعني باكية:

-  لن أنس ما تفعلينه من أجلي..

-  سنبقى أختين مهما بعدت الشقة ما بيننا، سأراسلك أو أهتف لك وأطمئن عليك..

-  أنا من عليها الإطمئنان عليك وعلى أهلي في لبنان.. إن ما يجري من نقل لريمون في هذه الأوقات الحاسمة ليس في صالح اللبنانيين..

-  أعلم هذا، إن نقده لسياسة بلده وصراحته هي التي تجر عليه المتاعب.. إحترامي له ولموقفه، ووداعا وليوفقكم الله، ويبعد عن لبنان مآسي جديدة..

*   *   *