الحرب الطويلة

 

عدت إلى البيت بعد أن أوصلت نورا وجهاد إلى المدرسة فإذا في غرفة الإستقبال زوجي ينتظرني. قلت له:

-  حمدا على سلامتك، هل كانت رحلتك موفقة؟

-  علمتني الكثير مما كنت أجهله.. حين غادرت بيروت بعد إعلان وقف إطلاق النار، كانت الدبابات والمدرعات الإسرائيلية تنتشر إلى الشمال الغربي من المدينة، والمدافع الثقيلة اتخذت لها مواقع حصينة وهي موجهة إلى بيروت الغربية.. لم يعترضني أحد.. إن ركوبي سيارة حديثة دليل أنني لست من المقاتلين فلسطينيين أو لبنانيين ، بل إنني أوقفت سيارتي ومزحت باللغة الإنجليزية مع بعض الجنود، وأخذت لهم صورا من الكاميرا الحديثة التي أحملها. كان هناك جنود يأخذون قسطا من النوم والراحة، وآخرون يقومون بتنظيف الدبابات والمدرعات .. مررت بآلية محملة بجنود مظليين، قال لي أحدهم أنهم ذاهبون إلى القرية المجاورة الصغيرة لجمع المعلومات عن رجال منظمات لا زالوا يختبئون في القرية ينقضون على دوريات ومواقع الجيش ويدمرون ثم يختفون.. وما كادت الآلية تختفي، حتى بدأت المدفعية تلقي حممها عل العاصمة الغربية. أسرعت بسيارتي إلى الدامور والقصف مستمر كأنما الغاية هي تدمير المدينة لا فرق بين فلسطينيين أو لبنانيين. يقول لك الجنود حين يسألون "أليس هناك اتفاق لوقف إطلاق النار؟ لماذا القصف مستمر؟ "

-  إنه حبر على ورق ، لا نعمل به..

-  هم الذين يطلقون النار فنرد..

-  لا تصدق! نحن الذين نخرقه، يأتي إلينا شارون ويقول "لماذا كل الذخائر لا تستخدم بعد؟ أليس لديكم فائض بالعتاد والذخيرة !" ويقول آخر:

-  نحن نحتل لبنان في النهار والفلسطينيون يحتلونه في الليل، ينقضون علينا إذا ما جن الليل وندفع من الضحايا ثمنا باهظا، جنودا وضباطا حتى بعد أن دمّرنا المنظمة وطردناهم من بيروت.

أصل إلى جونية، أشاهد على الشاطئ جنودا يسبحون ، وغيرهم يتشمسون، وآخرون مع بنات جونية يقهقهون..

أوقفت سيارتي وأخذت لهم صورا دون أن يبالي بي أحد. وبدأت مشاهد الطريق إلى الجنوب قرى ومدن مهجورة ، كلها خرائب ودمار..

كنت صامتة أستمع، وفجأة سألني "ألديك جهاز فيديو؟ قلت "نعم" قال "من الأفضل أن تري من قابلت في صيدا فآلة التصوير التي معي تجهز الفيلم بشكل تام وواضح كل الوضوح بالألوان الطبيعية. فإذا ما وصلت بجهاز الفيديو ظهرت الصور مكبرة عل التلفزيون".

-  في الفندق حيث نزلت عرفني كل من فيه وهرعوا إلى استقبالي وتقديم خدمة مميزة لي، صورت بعضهم وجاء مدير الفندق وتصور معي بعد أن دللت إحدهم على الطريقة السهلة لأخذ الصورة. ذهبت إلى المصرف المركزي لأحول دولارات إلى العملة اللبنانية لأنفقها في صيدا فدهشت للوتيرة السريعة التي يرتفع بها سعر الدولار وتهبط مقابلها اللبنانية.. زرت منزل عمتك أم إبراهيم وهذه صورتها، والمائدة التي حفلت بأشهى الطعام من صنع يديها، وهاتان ابنتاها التوأم الجميلتان وأنا وعمتك ، أخذ لنا الصورة إبراهيم ، وأخبرني عن متجره بأنه ناجح من البضاعة التي تهرب إليه من إسرائيل، وأنه تعلم العبرية خلال الشهور الماضية من احتلال الجنوب لترويج سلعه، فزبائنه كثروا من الجنود الذين يذهبون في إجازة إلى بلدهم ويعودون ببضائع يبيعونها له بعملة لبنانية, فيبيعها بدوره إلى جنود آخرين ذاهبين في إجازة، ويريدون أن يشتروا هدايا لخطيباتهم وزوجاتهم من لبنان، ويدفعون ثمنها بالدولار.

أمضيت اليوم الأول مع إبراهيم وأخذت صورا له في السوبر ماركت

ولمجموعة من الجنود يتعاملون معه. وعند المساء قصت علي أم ابراهيم ما فعله الفلسطينيون بابنها الوحيد وكيف أرادوا إغواءه لخطف الطائرات..

قلت لزوجي:

-  أعرف القصة، لقد روتها لي مائة مرة، ومن يسمعها يتحامل على الفلسطينيين فوق ما هو متحامل.. هل زرت في رحلتك مخيمات الفلسطينيين وعين الحلوة؟

-  نعم أخبروني أن أبا عبد القادر موجود في البلد، فزرته وهو بدوره اصطحبني إلى المخيمات وإلى عين الحلوة ، وسترين فيما يلي صورة البلدة والهدم الذي أصابها من الطائرات المروحية المغيرة، وسترين صورتي أمام منزل عبد الرحمن المهدم ومعي أبو عبد القادر.. هو كان وراء إرسال عبد الرحمن ومعه وسيم إلى باريس، والأخطر من هذا ما علمته من أبي عبد القادر عن غانم وشرائه أراضي آل عباد، وقطعه لأشجار البرتقال وزرعه المنطقة بالحشيش، وأن الجيش الإسرائلي انطلق من هذه الأرض الخالية من كمائن الفلسطينيين إلى بيروت..

هل أخبرك أن غانم استولى على هذه الأراضي بوكالة أعطتها له ابنته التي تزوج بها زواجا مدنيا؟

-  لا لم يخبرني.

-  أوهمها بأنه صديق الفلسطينيين، وأنه قادر على أن يعطيها الجنسية اللبنانية. لعلك تذكرها، إنها جهينة ابنة خالتي التي كانت قريبة مني في يوم زواجنا..وجدها لأمها هو جدي الذي كان يملك أراضي آل عباد..عرفت غانم على حقيقته وحشا كاسرا كما عرفه الفلسطينيون وانفصلت عنه ولكنه يأبى طلاقها.. إن اسمه معروف حتى في السفارة الأميركية، ولك أن تسأل ريمون عنه فهو مسافر إلى إيران حيث نقلت وظيفته. مرّ به اليوم إن أمكنك ولا تدعه يسافر قبل أن يخبرك عما فعله به حتى أن اسمه أصبح مشهورا في البيت الأبيض..

-  سأفعل، ولكن ألا تشاهدين باقي الصور؟

-  طبعا، ولكن قبل أن أنس، وتفاجأ بدورك، فأنا أعطيت مفتاح بيتك الذي وهبتني إياه إلى أهل زوجة ريمون، أمها وأختها لتلجآ إليه ريثما تهدأ الأحوال في بيروت الغربية..

-  سأريك صورا لحادث وقع أمام عيني في طريق العودة لن يمحى من ذاكرتي طوال العمر..

مررت بمخيم قريب لا أعرف اسمه، وكانت أمامي دبابة تسير على مهل، وفجأة ظهر غلام يختبئ في حقل قريب يحمل قاذف آر بي جي سدد مدفعه فأخطأ الهدف وطارده الملازم بدبابته وأطلق عليه قذيفة جعلت جسده أشلاء تتطاير في الهواء . انحرفت بسيارتي وشاهدت الملازم ينزل من الدبابة ومعه ثلاثة جنود.. توقفت والتقطت بضع صور للمكان وتابعت سيري وإذا بي أسمع انفجارا مريعا، توقفت ونزلت، لم أعد أرى الملازم والجنود والدبابة لا تتحرك من مكانها .. عدت أدراجي بالسيارة فإذا بي أجد جمعا من سكان المخيم يسطون على محتويات الدبابة من سلاح ومعلبات، وحتى مقاعد يقتلعونها ويقذفون بالكتب التي يتسلى بها الجنود فتختلط بدم القتلى على قارعة الطريق.

لم أستطع أن ألتقط صورا كثيرة لهذا المشهد.. تابعت سيري مسرعا وأنا أقول "لاحول ولا قوة إلا بالله! ليجيرنا الله مما هو أعظم!".

*   *   *