أسمـــاء

 

حين عادت أسماء إلى قريتها الحدودية بعد غياب عشرة أعوام وجدتها مدينة صغيرة حديثة الطراز، لم يبق فيها أثر للأكواخ اللبنية، ولا أكياس الخيش التي تغطى بها النوافذ من البرد، ولا سراويل الرجال المهترئة ، ولا أثواب النساء الطويلة الفضفاضة المتسخة من أعمال الحقول.. ولا يرى فيها البغال والحمير تتمخطر في الأزقة وتجر العربات اليدوية ، أو الباعة يصرخون على منتجاتهم، وما عادت النسوة تشقى في غسل الثياب عند النبع وتجففها على عصاة مدفونة في التربة، أو على حبل مشدود على غصني شجرتي تفاح متباعدتين. ولم يبقين كعهدهن يضربن أولادهن لو شرق أحدهم بيضة طازجة من منتوج الدجاج في حظائرهن المعد للبيع في المدينة، ويدعون عليهم بخراب البيت والحمى والمسخ والموت.. ولم تعد أسماء تشم رائحة خبز التنور تفوح من كل سكن ، ولا تذوق الزبدة الطرية الطازجة بعد خفق الحليب في القدور، ولا رائحة النسوة التي تفوح منهن دوما رائحة منتجات الحليب كانت وولدها يسيران في شوارع المدينة وأمامها جماعات من الصبايا ببناطيل الجينز والكنزات الصوفية التي تبرز جمال أثدائهن وهن يتمايلن ضاحكات وتفوح منهن رائحة العطور..والشباب خلفهن كشباب المدينة يرتدون زيهم ويتأنقون كأناقتهم ويسمعون الصبايا عبارات الحب والهيام. وكم مرت بها سيارة توقفت، ونزلت منها امرأة في مثل سنها تقود طفلين أو ثلاثة وأربعة إلى المدرسة ، تعرفها بنفسها أنها زميلتها في الصف منذ الصغر، تركتها نحيلة فسمنت وسمراء من وهج الشمس فابيضت وصفا لونها وتورد، أوصبغ بالمكياج فحلا وجمل الوجه واكتحلت العينان، والكل يسألنها عن حالها وماذا تفعل بعد عودتها وما مشاريعها للمستقبل، فجميع من عرفها سرعان ما تناقل أخبارها وسعى لزيارتها أو دعوتها والإستفسار منها لماذا بقيت حتى سن الثامنة والعشرين بدون زواج..

في نهار خريفي خرجت لتجوالها كعادتها مع والدها فصادفت داليا وغانم يخرجان من الفيلا الفخمة قبالة عيادة والدها، يريدان ركوب سيارة المرسيدس الخمرية التي تقف عند الباب فلما رأت أسماء تركت زوجها وقطعت الشارع للسلام عليها، فلحق بها غانم للسلام على والدها وشكره لمجيئه للتعزية .. ورمق الطبيبة الشابة بنظرة خفية ملأت قلبها بالمخاوف وداليا تعرفها على زوجها.. لقد طلبت من أسماء أن تعودها في البيت ، لأنها تشكو من آلام تنتابها من حين لآخر في منطقة الرحم، فوعدتها بزيارة لها في اليوم التالي.. قالغانم:

-  قريتنا تفتقر إلى مشفى حديث للولادة ، فنحن والحمد لله لا تنتابنا الأمراض العادية التي تصيب سكان بيروت لنقاء الجو، ونساء قريتنا يلدن على أيدي قابلات متخرجات من مدرسة التمريض، والأمور تسير سيرا حسنا ما دامت الولادة طبيعية، أما إذا تعسرت الولادة واحتاجت المرأة إلى عملية أو نقل دم، فليس لدينا الوسائل لإنقاذها وتموت قبل أن تصل إلى بيروت. لقد علمت عن اختصاصك من داليا وزميلاتك اللواتي صادفتهن في يوم التعزية، فحمدت الله أن بعث لنا طبيبة إختصاصية متخرجة من أميركا، ويسعدني أن أبني مشفى مزودا بالأجهزة الحديثة على شرف أول طبيبة نسائية متخرجة من أميركا هي بنت قريتنا.

-  عفوا، ولكنني لا أنوي البقاء في القرية طويلا، فلقد قدّمت طلبا للإلتحاق بمشفى الجامعة الأميركية، وطلبا آخر للمشفى الألماني فلعلي أحظى بالقبول في أحد هذين المشفيين وأزداد خبرة هناك عندما تواجهني حالات إستثنائية.

-  على كل حال سأباشر في بناء المستشفى، وقد تغيرين رأيك فيما بعد.

في كل يوم كان الطبيب وابنته يذهبان في نزهة لسبر معالم المدينة .. تجهم وجه الطبيب حبن مرت سيارة غانم وداليا هازئة بأصحاب المبادئ الذين لا يملكون إلا سيارة اهترأت حشاياها، ويذهبون في نزهاتهم سيرا على الأقدام.

-  إطلعوا معنا نوصلكم إلى حيث ترغبون..

-  لا, شكرا نحب المشي للرياضة ولننعم بالشمس الخريفية في هذا اليوم!

قال الطبيب لابنته:

-  أنظري من يركب هذه السيارات الفارهة ، ومن يريد أن يبني مشفى في القرية نكون نحن الأجراء عنده، بينما ليس في مقدورنا أن ندهن العيادة من جديد ونجدد أثاثها المتواضع! على أي أرض سيبنى المشفى ؟ على أرض إبن الإقطاعي الذي وجد مقتولا في كوخه لأنه طالب غانم أن يرد له أرضه التي اقتلع منها أشجار التفاح وزرعها حشيشا لأنه أكثر ربحا له.. أجفلت أسماء:

-  هل قتل إبن فريد بك؟ أي واحد الأكبر أم الأصغر؟

-  الأصغر..
-   لقد تعرفت عليه في حفلة التخرج في بوسطن..جلس قربي وأخبرني بأنه ينوي السفر إلى لبنان، فاختصاصه الزراعة وهو يود العودة إلى بلده ليطور فيها زراعة التفاح.

-  المسكين، كان يطالب بحقه الشرعي بموجب الأوراق والسجلات لديه! تذكرين والده الذي كان من أعز أصدقائي، وتذكرين أنه بفضله بنيت في القرية المدرسة الإعدادية للصبيان والبنات، وبعدها كان الصبية الطموحون يلتحقون بالجيش أوبدارالمعلمين في بيروت، والبنات الطموحات بمدرسة التمريض أو دار المعلمات، وهؤلاء كانوا قلة بسبب سوء المواصلات، والذهاب إلى بيروت كان على الحمير أو سيرا على الأقدام، وكنت أنا الوحيد الذي يملك سيارة أتنقل بها، وبعد أن اخترت هذا المكان سكنا لي من أجل أمك رحمها الله التي كانت بسبب مرضها بحاجة إلى جو نقي لتعيش فيه..

تنهدت أسماء وواصل الطبيب حديثه:

-  ماذا فعل فريد بك لأهل القرية؟ سعى لبناتها أن تكون إقامتهن داخلية في بيروت، يأتين في الأسبوع مرة بسيارة أجرة تقلهن على حسابه، أما الشباب فكانوا يتدبرون أمورهم كيفما كان الحال.. لقد أتيحت لك فرصة الدراسة في مدرسة التمريض وكان له فضل علي بإرسالك إلى الخارج كما كان له الفضل على أخيك من قبل..

-  أعرف الكثير عنه..ولا أنسى فضله أبدا!

-  له فضل كبير على أهل القرية, وكنت وأياه نتحدث دوما بتطويرها، فأنا كما تعلمين أنتسب إلى حزب إشتراكي يؤمن بالعدالة الإجتماعية لفقراء الناس، وكنت قبل تخرجي كطبيب، أول أستاذ لصفوة شبابهم الذين دخلوا الجيش أو أصبحوا معلمين، أو عمالا في بيروت، أو بقوا في الأرض يزرعون.

تنكروا لي بعد أن عملوا بالتهريب ، واغتنوا وزرعوا في أراضيهم الحشيش، ووضعوا اليد على أراضي الغير، وتشكلت من بينهم مافيا حقيقية تصل شبكتها إلى ميامي وحتى البيت الأبيض.ويصمت عنها الساسة الفاسدون والمرتشون في كل مكان في العالم، وتدور حولها الفتن والحروب والإقتصاد والعمران وتقرير مصير الإنسان.

*   *   *