داليا في باريس

 

حين سافر الأمير إلى القرية الحدودية والتقى غانم قال له:

-   ذهبت إلى صيدا وتحققت من الأمر.. كلهم هناك يعرفون بقصة ولدي عبد الرحمن التوأم جهاد الذي كان خارج المنزل الذي قصف وأرسل إلى زوجتي، ووسيم الذي وجد تحت الأنقاض وقد تهشمت ساقه فنقل على الفور إلى باريس للعلاج على حساب المنظمة.. فهل تحب أن تخبر زوجتك أنت بالأمر، أم أخبرها أنا وأتحلل من وعدي بإرجاع إبنها؟

-   هي مريضة والطبيبة عندها، راح أدخل وخبرها.

دخل غانم فوجدها في سريرها تبكي قالت:

-   لا حاجة بك لتخبرني .. سمعت كل شي.. بدي سافر باريس هلق.. بدي روح شوف إبني..

نهضت من فراشها وارتدت روب دي شامبر وخرجت لترى الأمير..

-   بدي عنوان المستشفى هلّق.. بدي سافر باريس!

-   مستشفى الأطفال، وهذا هو العنوان..

أخرج عنوان المستشفى من محفظته وأعطاها إياها والتفت إلى غانم قائلا:

-   سأزورك عند المساء لنتحدث بشؤون المصرف، وماذا جرى بغيابي..

إنصرف الأمير فودعه حتى السيارة وعاد،. كانت داليا جالسة على مقعد تبكي فنهرها:

-   ماراح تروحي لأي مكان بقصف رقبتك.. أنا عارف نواياك مليح.. حن قلبك لابنك بعد تسع سنين تاركتيه لغيرك تربيه.. ماشيتك وخطفت لك إبن سليم من بيت عباد الشيطان، بدك تجيبي لي ولد معاق أنفق على علاجه، وإنت تشتغلي ممرضة إله؟ ولاّ فاض عندك الشوق لبيت عباد، رايحة تغري الأخ التاني بعد ما تركك الأول؟

-   خاف الله، بدك ياني أبقى دون خلفة بكبرتي؟

-   شو ناقصك؟ غارقة بالعز والنغنغة!

غمغمت بصوتها الناحب وهي تشهق بالبكاء:

-   ناقصني ولد !

هب في وجهها:

-   يا كلبة، بتعيريني ما عطيتك ولد! بدك تروحي باريس يعطيك إبن عباد ولد؟ تستغلي وحدته بعد ما ماتت زوجته! أنا عارف نواياك يا ساقطة! بدك تغيظيني، بتعرفي قديش بكرههم بيت عباد، سلالة الأكابر..لم تستطع أسماء أن تسمع أكثر، انسلت من الغرفة، وخرجت إلى الطريق..

بالرغم من كل تهديدات غانم، سافرت داليا إلى باريس، وكان أول ما فعلته بعد أن نزلت من الطائرة هو التوجه إلى مشفى الأطفال.. سألت في الإستعلامات عن طفل مصاب في ساقه يدعى وسيم عباد.. كان في سريره مستغرقا في نومه فوقفت تتأمله.. جميل كما كانت تتوقع.. من أحق بحضانته سواها؟ هي أمه الحقيقية، ولكن كيف يكون ردود فعله لو صارحته بأنها أمه، هو لم يرها أبدا ولا يصدق روايتها، سيفعل كما فعل جهاد ويقول لها بأن ثريا هي أمه!

جلست إلى طرف السرير تمسد شعره البني المذهب.. "كم يشبهني! إن شعره يشبه شعري قبل أن أصبغه باللون الأشقر."

فتح الصبي عينيه الواسعتين فأكبت عليه تقبله..

سألها باستغراب:

-   من أنت؟

-   أنا صديقة أمك من زمان قبل ما تولد.

أنا ماشفتك أبدا بتزورينا.

-   لأني كنت في بيروت، بعرف عمتك نبيلة وأخوك جهاد كمان، زرتها وشفت جهاد عندها، بيروح المدرسة مع نورا.. عمتك خبرتني عنك، عرفت إني جاية باريس ، طلبت مني زورك ، وأطّمن عنك..

-   وماما ما شفتيها؟

-   لا والله.. بس قالوا لي مجروحة..

-   كانت ماما عم تعلمني الحساب لما الطيارة مرت فوق بيتنا.. سمعت صوت متل الرعد وبعدين ما حسيت بشي..

-  ليش عم تبكي؟ حبيبي ريح حالك، شوبتريد مني أجيب لك؟ أنا متل أمك..

-   مشتاق لأمي ، عرفت اني بلا ساق؟

-   ما حدا خبرها.. يالله اشفى أوام وباخدك معي .. منرجع سوا لبيروت..

-   لا خالة ، بدهم يركبوا لي ساق، ما بدي امي تشوفني هيك..

جمّدت داليا على ابنها عينين شاردتين.. إنها لن تجد عنده ردا لطيفا محببا لو استمالته إليها لتنسيه أمه التي ربته.. واستشعرت قلقا مبهما يسحق فؤادها .. ما هذا الرد الذي لا يتلاءم وسنه! إن حبه للمرأة التي ربته حتى في حال عرف بموتها، سيبقى عائقا لنمو حبه لها، لن يحبها كما كان يحب الأخرى حتى لو أشعلت اصابعها شموعا له، سيكون موقفه مثل موقف جهاد، عزلة نفسية وجفاء ولن يغفر لها أنها تخلت عنه تسعة أعوام دون أن تراه مهما قدمت من أعذار..

دخلت الممرضة وطلبت منها الخروج ريثما يتم تضميد ساق الصغير..

*   *   *