اتركي وسيم بسلام

 

التقى عبد الرحمن بداليا وهي تنتظر عند الباب خروج الممرضة بعد أن قامت بتغيير الضماد لوسيم.. عرفها على الفور فلقد تلفنت له نبيلة بقدومها إلى باريس لرؤية وسيم.. وعرفته داليا ففي ملامح الرجل الذي قدم ليفتح باب الغرفة سيماء آل عباد التي ترى في وجه أخته نبيلة.. تقدمت منه واجفة القلب وقالت:

-   أنا داليا ، أم وسيم.. إنني أنتظر خروج الممرضة بعد أن تقوم بتغيير الضماد لوسيم.. أنا لا أستطيع رؤياه في حاله تلك..

وخنقتها الدمو ع ولم تستطع أن تكمل..

-   أين تنزلين فأقوم بزيارتك؟ فلي حديث معك قبل أن تفكري بمصارحته بحقيقة أمرك..

-   أنا لم أصارحه بشيء.. إنني أعرف من تجربتي مع جهاد عقم محاولتي استرداد ابن بعد أن تخليت عنه تسع سنوات.. لقد حجزت غرفة على التلفون في فندق قريب من هاهنا..

-  إن انتظرتني على مقعد في حديقة المشفى عدت إليك بعد قليل بعد أن أضع ما أحمل في كومودينة وسيم..

هتف وسيم إذ رأى أباه :

-   بابا، شفت صديقة ماما؟ هي بتعرف عمتي نبيلة ونورا وجهاد.. جهاد بيروح عالمدرسة مع نورا ، وأنا هون بالمستشفى ، بكرة بيسبقني بالحساب..

-  معليش حبيبي ، بكرة انت بتسبقه بالفرنسي ، بدي أجيب لك كتب حلوة كتير أعلمك ياها، انت عارف بدك تبقى هون كم شهر حتى تشفى ويركبوا لك ساق تمشي فيها بدون عكاز .. ما حدا بكرة في المدرسة بيعرف شي.

-   بقدر كمان ألعب فوتبول؟

-   طبعا حبيبي، بس يمكن ما بتقدر تدخل مسابقات.

-   الدكتور قال لي بقدر، ضربتي بتكون أقوى من غيري بقدمي الصناعية..

-  مليح كتير هلق أنا بتركك للممرضة تكمل شغلها.. بدي شوف صديقة أمك وأعرف منها أحوال أهلنا في لبنان.. يالله هات بوسة من خدك..

-  أنا أشكرك لأنك تصرفت بحكمة مع وسيم يمكن يجن لو عرف أمه ثريا ماتت..

-   أنا راح أبقى هون حتى يشفى وآخده معي .. بالتدريج أخليه يعرف إني أمه ..

-  منحكي بهالموضوع في المطعم.. أنا عازمك على مطعم قريب من هون.. شايفة العجقة، الناس هون طالعة فايتة..

-   مليح كتير، راح خليه يحبني ، ويتعلق بيي قبل ما خبره.

-   أنا عرفت انك جاية، وصلتني رسالة من نبيلة..

-   جوزها خبرها، أنا أخدت منه عنوان المستشفى وجيت طاول هون.

-   يمكن أفضل نروح المطعم ، الدنيا مغيمة شوي يمكن تمطر..

-  أحسن نروح الأوتيل، حطيت فيه شنطتي وأخدت مفتاح غرفتي وجيت حالا لشوف وسيم..

- هلق أحسن تتناولي شي في المطعم..

-  أكلت في الطيارة.. بتروح معي نتسوق ؟ بدي أشتري لعب وشوكولاتة لوسيم قبل ما تنزل المطر، وبعدين من روح الأوتيل.. مابدي فوت على وسيم بكره إيدي فاضية..

في صالة الفندق

-  هل جئت وحدك؟

-   نعم وحدي، أنا أخت الرجال.. زوجي كان غاضب بده يمنعني، بس ما عاد يهمني شي.. بدي ابني وبس حتى لو طلقني..

-   أنا عارف إنك أم، وبتبقي أم حتى لو تركت ابنك تسع سنين، يمكن الظروف جبرتك على هيك..

-   أي والله يا عبد الرحمن ! زوجي بيعرف انه لي ابن من كريم ، ما خلاني جيبه ربيه.. خلاني بضيعة أهلي ، ما أنزل بيروت إلا رجلي على رجله ، حتى لا يخطرلي زور بيت عباد، بيكرههم كتير، بيسميهم عباد الشيطان!

ضحك عبد الرحمن وقال:

-   الحق معاه، الكره متبادل بيننا وبينه، قليل شو جانا كرم على ايديه ؟

-   والله بعرف وساكتة .. قليل شو عمل ببنت خالتك جهينة ؟ أخدها لحم ورماها عضم.. بس أنا مو متلها غشيمة .. والله بقلع عيونه لو عمل معي هيك.. إلي إخوة بيقرطوا راس الحية ما بخاف منه شو ما حكى وهددني.. طلعت براسي بالأخير، قلت له "بدي إبني ، بدي تجيبه من تحت الأرض، ما بدي عيش بكبرتي بلا خلفة.

-   طيب ليش ما جبتي له ولد تتسلي إنت وياه به؟

-   ليش قادر يجيب ولد؟ تجوز الدرزية ما جابت له قال كبيرة ما بتجيب ولاد، تجوز التانية أخت أنطون قال مسيحية ما بتحب الجنس، تجوز الثالثة جهينة قال فلسطينية أنا ما بخليها تجيب مني ولد، بس بيعرف ياكل مالها ومال أهلها ويتركها على ذمته لا معلقة ولا مطلقة، وتجوزني بيقدر يقول عني هيك ؟ ما في شي بينطبق علي ..

-  وباقي القصة بعرفها من نبيلة اللي خطف لها بنتها وابني جهاد بيفكر انه إبن كريم .

-   صحيح والله يا عبد الرحمن .. أنا تفاجأت لما جهاد قال اسمه جهاد، وأنا بعرف انه المرحوم والدك سمى ابني وسيم على وزن كريم ، ولأنه من ولادته كان باين عليه انه وسيم. ما عرفت انه جهاد مو ابني إلا لما الأمير زوج نبيلة خبرني القصة كلها، ومن يومها ما بنام الليل بدي شوف وسيم وأكون جنبه ليشفى وآخده معي..

-   داليا، لنأخذ بالإعتبار وجهة نظرك كأم، فهل أخذت بالإعتبار وضع إبنك وردود فعله عندما تخبرينه أنه ليس ابن ثريا وعبد الرحمن ، بل إبن داليا وكريم الذي لا يعلم إلا الله أين هو وماذا فعل بحياته خلال الأعوام التي مرت في بلاد الغربة ، أو ردود فعل المنظمة التي تدفع تكاليف علاجه في باريس حين تعلم أنه ليس إبن ثريا الفلسطينية الشاعرة التي تحرك قصائدها قلوب جماهيرهم والتي أحزن موتها قلوب أطفالهم الذين يرددون أشعارها فخرجوا مع أهلهم لوداعها الوداع الأخير، وما كان في التابوت الذي حمله أفضل الشباب الفلسطيني إلاّ أعضاء متنائرة من جسدها لملموها من تحت الأنقاض.. هذه المرأة هي التي ربت إبنك وأوهمت الجميع أنه ابنها التوأم بل أرضعته من ثدييها حين تخليت عنه لتبحثي عن كريم. تركته قبل أن تتزوجي غانم ألا تذكرين؟

-  بعد ولادتي ما كنت رايدة أتركه عند نبيلة ، قلت لحالي شهر وبرجع آخده ، بلا ما يلبكني بالسفر ، رحت عند غانم بعرفه إبن ضيعتي وبعرف إنه بيساعدني وبسهل لي جواز السفر.. قللي مجنونة انت راكضة ورا ابن عباد لآخر الدنيا، لسة متعشمة فيه، يمكن يرفسك برجله يقلّك لا بعرفك ولا بتعرف على ابنك شو بيعرفني إنه هدا من نسلي ما هو نسل غيري ؟ ما خلاني حتى أرجع وأشوف إبني،  تلفنت لزميلتي قلت لها رايحة عند أهلي عالضيعة بدي شوف مستقبلي، أعط الولد لجده يربيه.. ترجيته أجيبه عنده إذا رايد يتزوجني، ما بده ياه.. أخدني عند أهلي وقال لهم "أنا شفت داليا بتشتغل في مستشفى ، تجوزتها وجبتها هون ما بدي ياها تشتغل ولا تنزل بيروت لحالها ، حاكم أنا ما بوثق بالنسوان. بنات ضيعتنا بينزلوا المدينة بيبيعوا حالهم بجوز جرابات .. حطني عنده بلا عقد زواج ، ما تحمس يعمل عقد إلاّ يوم عرف انه إلي اخت كبيرة متزوجها أمير سعودي وصار إلها ولاد كبار بدهم يزورونا.. اخدني وعقد علي في المحكمة في بيروت وقاللي "إياك تذكري علاقتك الماضية لأي حد أو تذكري إلك إبن من آل عباد.. أنت هيك بتسيئي لسمعتي وسمعتك، صرت عديل الأمير وانت خالة أمرا.. خدي مركزك وتصرفي حسب هدا المركز بتصيري في قمة المجتمع اللبناني ، أنا وعشرين واحد تاني منحكم هدا البلد، مش آل عباد!.. راح زمان كنا نبيع بناتنا جواري للسعودية ، وما بدنا نرجع له أبدا.. فهمت ليش بكره بيت عباد؟ تجي إسرائيل وتحكم هون عندي أحسن ما يحكم هون أمثال بيت عباد." قطع الطريق علي يا عبد الرحمن ما عرفت شو صار بابني وكيف عاش هالمدة الطويلة !

-   إبنك كان بأيد أمينة وراح يكون هيك انشالله حتى يكبر ويتعلم في أحسن الجامعات ، راح يكون في رعاتي حتى يشفى ولا أسلمه إلاّ لأبيه اذا عرفت مكانه، وحتى في هدي الحال لا أسلمه إلاّ بشرط واحد هو حين يكون عازب أو ما كون أسرة تشغله عن العناية بوسيم فيشعر أنه أدنى مرتبة وأقل حبا من أبيه لإخوته الآخرين.. أو تكون زوجته أقل عناية بوسيم من أمه التي خبر لهفتها وحبها ، ثريا..

-   ولكنها ماتت يا عبد الرحمن، رحمها الله، وأنا أمه الحقيقية بريد أرعاه وأكفر عن السنين اللي فاتت..

-   ما بتقدري..عايشة في بؤر ة بيتحكم فيها زوجك ..أنا ما بسمح أبدا لوسيم يتربى تحت وصاية غانم.. أنا تركت إبني من لحمي ودمي لأختي ترعاه، وتبعت إبني المتبنى لأنه بحاجة لرعاية خاصة، وسيم أضعف من جهاد جسدا وروحا ولا يحتمل أبدا فقدان أمه وأبيه وإعاقته مرة واحدة.. دعيه بسلام معي، أنا أستطيع أن أكيف نفسي ومستقبلي حسب حاجته إلي وأحمل مسؤوليتي كاملة.. أما أنت فلا ، لأنك نفسك غير حرة.. مرتبطة بقاتل ومهرب حشيش ، ومعروف عنه بين الفلسطينيين أنه أشرس من نكل بهم في المخيمات .. فهل تكشفين نفسك أنك أم لهذا الطفل الذي يرعونه من أجلي لأنني شاركت في معاركهم ، ونلت قدرا كبيرا من الأذى بسبب موقفي منهم، وتقولين لهم بأنني لست أباه؟ إنهم بعد شفائه والتئام جروحه راح يقوموا بتركيب ساق اصطناعية تتبدل كل سنة حتى يتوقف نموه.بتعرفي تكاليف هدا في مشفى خاص في باريس؟

-   ما بعرف.. بس بقدر أحصل على مال كافي لرعايته في المستقبل..

-   من وين بيجيك المال ؟ من زوجك غانم؟ إسألي نفسك! يمكن ما بتعرفيه مثل ما بيعرفه آل عباد.. رجل اعتاد ياخد وما يعطي حتى نثارات أظافره اللي بينهب فيها الناس.. بيقول لك جبتيلي صبي معاق أنفق عليه ! أبدا ما راح ينفق عليه حتى ليرة لبنانية بقيمتها المتدهورة فكيف بده ينفق عليه بالعملة الصعبة ؟ راح يخليه على عكاز طول العمر وما بيبعته على مدرسسة إلا الإبتدائية في ضيعته، ويعامله بحقد حتى يكسر اعتزازه بنفسه لأنه إبن عباد ، وربما إن شاكسه ، وما كان طوع أمره أن يقتله بطريقة يوهمك فيها أن موته هو حادث قضاء وقدر لا يد له فيه ، وإن أطاعه أن يحوله إلى مدمن حشيش كما يفعل مع الأطفال الذين يعملون عنده في العجائن في بعلبك، أو يصبح مهربا ويتحول إلى قاتل ومدمن مخدرات.. أهذا هو المستقبل الذي تريدينه، والعناية التي تعدينها له؟

أجفلت داليا وأجهشت بالبكاء .. طعنت بكلامه في الصميم، إذ عرفت فيه وجه الحق، فأردف عبد الرحمن بصوته الهادئ بإصراره المعهود..

-   أتركي وسيم بسلام! دعيه ينمو في بيئة متطورة تخلق العبقريات من المؤهلات العادية ، ولا تذهبي به إلى لبنان حيث تدفن فيه العبقريات في مهدها ولا مكان فيه للطفولة والأحلام..

ضغطت داليا بيديها على قلبها وقالت بانكسار:

-   شو بدي قول لزوجي ؟ أرجع مكسوفة يشمت بيي؟

   قولي له بيت عباد ما قبلوا يعطوني ياه .. خليه يشتمنا ويهددنا قدر ما يريد..

لم تجب، فحاول عبد الرحمن أن يسرّي عنها:

-   تظنين أنه لن يفرح كثيرا لأنك عدت بدون إبنك المعاق، ورفعت بذلك عن كاهله العبء الثقيل! أتركي للزمن يحل مشاكلك، ولا بد أن يأتي يوم أراه مناسبا كي أخبر وسيم من هي أمه الحقيقية . أما أنت فإنني سأبعث بأخباره وصوره إلى أختي نبيلة لتنقلها إليك، ولن يعترضك غانم في الذهاب إلى بيروت وحدك، ما دام يعلم أن آل عباد لن يسلموا إليك إبنك ، فهذا القرار يستهلك خوفه وحقده علينا .. ستتحررين من سجنه لك في قريتك، صدّقيني!

أحس عبد الرحمن أنه لمس شغاف قلبها وأقنعها أن ابنها في أيد أمينة حريصة على نموه السليم!

*   *   *